|
إنما الشيطان ملاك
ياسين خضراوي
كاتب وخبير لغوي تونسي
الحوار المتمدن-العدد: 4692 - 2015 / 1 / 15 - 16:37
المحور:
حقوق الانسان
ارتفع صوت صافرة النهاية معلنا بداية رحلة جديدة ، هناك حيث يضمحل الأمل و يندثر في بقايا الذاكرة , حيث تهب رياح اليأس الشاحبة و يسدل الظلام ستاره الأسود على جدران الليل فيتوقف الزمن عاجزا عن إيقاف تلك المرحلة العاتمة. عندها ، تبدأ الأرض بالإتساع و التمدد و يأخذ كلّ من عرفنا و أحببنا في الإنكماش و الإنحسار شيئا فشيئا إلى أن يتلاشوا تماما و يدخلوا مقبرة الذاكرة ليصبحوا بذلك من الماضي البعيد . و كسكير مقامر، يراهن المهاجر على الزمّن و يأمل في شيء جديد يزيل العتمة التي لا تفارق حياته البائسه ، كل ذلك مقابل كل ما يعرف و يحب من أماكن و أشخاص تعلقت بهم الذاكرة يوما ما . تحرك عقرب الساعة لتدق مشيرة إلى ساعة الرحيل ، جمع حاجياته التي لم تكن تكفي لسد حاجته أصلا على مضض و فتح لنفسه طريقا ضيقة بين إخوته النيام ليصل إلى حيث تنام أمه . تجمد الدم في عروقه لبرهة و تأملها بعمق كأنه رسام أو نحات أراد أن يرسم أو ينحت شيئا في ذاكرته ووجدانه كي تبقى مطبوعة أينما ذهب ... احتضنها بقوة حتى كادت تستفيق من نومها و همّ بالخروج مسرعا كي لا يشعر أحد برحيله فهو ليس على استعداد أبدا للحظة الوداع و ما أدراك ما الوداع : تلك اللحظة التي تنهمر فيها الدموع و يتعالى فيها صوت العويل و النحيب الذي يصعب تجاهله و الذي ربما قد يؤدي إلى إلغاء الرحلة أصلا. كان كل ما يأمله أن تبعده المسافة بعيدا ، ربما تكون محاولة يائسة منه لدحض و ابطال نظرية القدر المتوحش التي لطالما لاحقته أينما ذهب ، فالزمن لا يتحول و إن تغيرت الأماكن لكن الصور السرابية التي مانفك الوهم الذي يسكن العقول ، كادت تخدعه . لقد آن الأوان للهروب من واقعه الأليم فهو بعيد كل البعد عن أفراد مجتمعه و كل ما يقربه ، و على الرغم من أن لغتهما واحدة كان من العسير عليه أن يفهم معجمهم و مصطلحاتهم فقد حاول بلا جدوى أن يختلط بهم و يندمج بينهم لكن ، أيمتزج الزيت و الماء ؟ أتختلط النار بالماء ؟ لقد حاول عبثا أن يتناسى وهم الحرية و العدالة و الحقوق المسلوبة و حقه في كونه "إنسانا" ، لكن من يقوى على النسيان و الأشياء محفورة و بنيانها لن يتداعى أبدا ؟ أليس الشيطان في الأصل ملاكا كبقية الملائكة ، ملاكا رفض تقبل الواقع و انشقّ ؟ ألا تكذب الصحراء على العطشى و تريهم واحة من السراب لتبعث في أنفسهم أملا جديدا في الحياة؟ و في النهاية مالذي سيخسره هو أصلا و هو الذي لا يملك إلا الآلام و المآسي ، آلاما و مواجع في عالم اغتيل فيه العدل و أصبح الظلم و الجور سيدا الموقف و المرحلة ، ذلك بعد أن رُمِي بالأخلاق و العدل خلف القضبان الحديدية و تحررت القيم المادية لتغزو عقول البشر و ساد الخوف و الهلع حتى خضع الضعفاء أخيرا و سخروا أنفسهم لخدمة السلطان و كل من ملك القوة و السلطة . إن السلطان يملك فعلا القدر بعينه و يوزّع فتاته على ضعاف النفوس و العقول و كلّ حسب درجة خضوعه و عبوديته . من هذا المنطلق ، وجب على المهاجر التفكير عميقا في أولوياته و إن كانت تلك الشرذمة تهب الحياة و تسلبها كيفما تشاء ، فإنه يفضل قدر الشيطان على قدر أولئك العبيد مع أنه يعلم علم اليقين أن طريق الحرية صعب المنال و مليء بالمطبات و الأفاعي السامة . أخيرا ، وصل إلى أرض غريبة عجيبة لم يرها قبلا و لم تظهر معالمها أبدا حتى في أحلامه ، أرض الناس يتنفسون فيها دون دفع ثمن ، أناس غير مكممي الأفواه و يتحدثون بصوت مسموع ، بل انهم يضحكون و يقهقهون ... عجبا ؟!! لقد لقنونا منذ نعومة أظافرنا أن نخفض أصواتنا و ألا نضحك لأن الضحك قلة أدب و حياء . تابع سيره في شارع طويل فشاهد طفلا يرمي ورقة في حاوية الفظلات و لكن ما شد انتباهه و تسبب في وقوع فكه السفلي من شدة الدهشة ، هو ذلك الشرطي الواقف في الطابور منتظرا دوره ليشتري قهوة ... سار طويلا دون كلل أو ملل مكتشفا ذلك العالم الذي لطالما كن يحلم به ، لم يعي أن الوقت تأخر لإيجاد مكان ينام فيه فرأى أن ينام أسفل أحد الجسور، وهذا ما كان حيث أفترش الأرض وما هي إلا دقائق وبدأت سمفونية الألم بعزف ألحانها فهو ساهر على قرع طبول معدته الخاوية تتناغم مع أصوات مزامير السيارات والمايسترو أوعز للطبيعة بإدخال المؤثرات الخاصة على مسرح العذاب.. بدأ المطر بالنزول بإنسيابية على جسده نصف العاري، ثم دخل صوت الرعد ليتراقص جسده وينتفض فرحا وأضواء البرق المتقطعة أضفت لونا خاصا على أجواء حفل الإستقبال , تذكر أمه وعائلته فسقطت دمعة، تذكر وطنه فسقطت أخرى، فتمنى أن تزول تلك المسافات ولكن صوت الألم ورائحة الذل ومستنقع الظلام وقبضة الجلاد أيقظته ونبهته إلى طبيعته الشيطانية وأنه لن يدخل جنة وطنه إلا عندما تقوم الساعة...
#ياسين_خضراوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مملكة السوط
-
داعش و الوجه الآخر للإسلام
-
العرب و النفاق : مقاربة سوسيولوجية
-
داعشيات
-
سطور في المحظور
المزيد.....
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا روسيا بشأن مكافحة ت
...
-
أثار غضبا في مصر.. أكاديمية تابعة للجامعة العربية تعلق على ر
...
-
السويد تعد مشروعا يشدد القيود على طالبي اللجوء
-
الأمم المتحدة:-إسرائيل-لا تزال ترفض جهود توصيل المساعدات لشم
...
-
المغرب وتونس والجزائر تصوت على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام وليبي
...
-
عراقجي يبحث مع ممثل امين عام الامم المتحدة محمد الحسان اوضاع
...
-
مفوضية اللاجئين: من المتوقع عودة مليون سوري إلى بلادهم في ال
...
-
مندوب ايران بالامم المتحدة: مستقبل سوريا يقرره الشعب السوري
...
-
مندوب ايران بالامم المتحدة: نطالب بانهاء الاحتلال للاراضي ال
...
-
جدل في لبنان حول منشورات تنتقد قناة محلية وتساؤلات عن حرية ا
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|