محمد البكوري
الحوار المتمدن-العدد: 4690 - 2015 / 1 / 13 - 03:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ان استخدام بعض الاوصاف النعتية على مفهوم "الديمقراطية" من قبيل: " الاكلينيكية", "المتثائبة", "المترنحة", ليس مرده ابراز نوع من البدخ "الاتيمولوجي", أو خلق مواءمة ربط في اطار متماهي بين الابداع السياسي والابداع الادبي, أو الرثاء على بعض الأطلال "المفاهيمية", المنغرسة في "الذوات" البشرية المتعددة, من قبيل مفهوم "الديمقراطية", وانما فرضتها القراءات والملابسات المرتبطة بالملاحظات المرصودة على مستوى عمق وجوهر هذا المفهوم "المتنوع الاستقطابات"- بالمعنى الأيديولوجي- سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة, خاصة فيما يتعلق بالبعد العربي ( ماقبل أو أثناء أو بعد الربيع العربي), ليشمل المنظور الملاحظتي مجمل دول العالم الثالث, بما فيها تلك السائرة في طريق الديمقراطية ( التي تعرف ظاهرة الانتقال الديمقراطي, باعتبارها ظاهرة الانتقالات الكبرى في شتى التجليات, السياسية, الاقتصادية, الاجتماعية والديمغرافية ...) بل وحتى بعض الدول العريقة ديمقراطيا ( المتميزة بالتخمة الديمقراطية ) أو على الأقل تلك التي مستها موجة الديمقراطية," منذ زمن ليس باليسير. ان الديمقراطية بذلك, تتبلور كصيرورة متعددة المسارات, للأسف الشديد أصبح مسار "النضوب الكبير" هو المهيمن عليها, لدرجة معها أضحت الديمقراطية, تعرف على المستوى العالمي "اندحارا فظيعا"", يهدد في العمق بقاءها على وجه البسيطة كابرز "الابتكارات" التي عرفتها البشرية عبر مختلف العصور و الحضارات. ويمكن ارجاع "لابوكاليبسية الديمقراطية l’Apocallypse de la démocratie" الى عدة اسباب, يمكن ذكر بعضها على سبيل المثال :
السبب الأول : التحكم ما فوق دولي في تواجداية ومستويات الديمقراطية (الشرق الأوسط الكبير, الأزمة الأوكرانية, الحرب ضد الارهاب ...), لدرجة معها تصبح الديمقراطية مجرد لعبة’ متحكم فيها عن بعد, خاصة في الدول الثالثية, التي مازالت تترنح بشكل جلي, فيما يخص أخذها بالاليات الديمقراطية (نموذج الانتخابات, التي غالبا, مالا يتم الاعتراف بشرعيتها كالية ديمقراطية متطورة, للوصول الى دواليب الحكم وضمان تداولية السلطة) .
السبب الثاني : خلو الدساتير- في متنها وروحها – أو على الأقل غموضها – باعتبارها القوالب الكبرى لتجسيد الديمقراطية – من تحديدات فيما يخص نوع الديمقراطية القادرة على حل اشكاليات : الحكم , التدبير, الحكامة... ( ديمقراطية تمثيلية غير مباشرة, أو ديمقراطية تشاركية مباشرة ).
السبب الثالث : التعامل مع الديمقراطية, كمفهوم وخطاب, واغفال النظر اليها كتطبيق وممارسة, أي جعلها شعارا رنانا, يرفع في المحافل وليس عملا فعليا ينزل في الميادين . فمسألة الديمقراطية هنا, تصبح مسألة شكلية, تحدد فقط البقاء "المفاهيمي" للدولة, وتهدد وجودها الجوهري القادر على جعلها اطارا لا محيد عنه لاستيعاب الاختلاف والتعدد, وتحويلها بالتالي الى مجرد كائن خرافي, يمتص" غضب الجماهير", عبر التحليق بهم في سماء الأحلام " الديمقراطية" وجعلهم يؤمنون الايمان الراسخ بامكانية الاصلاح, وتحفيزه على أن يكون الخطوة الأولى نحو بناء المجتمع الديمقراطي, المبني على أسس ديمقراطية حقيقية, وبالتالي اصطدامهم في نهاية المطاف " الحقيقي" بوهمية الاصلاح المرغوب فيه ,ومن ثم بسرابية الديمقراطية في شموليتها .
السبب الرابع : جعل الديمقراطية ( خصوصا من طرف المؤسسات المالية الدولية) شرطا وليس خيارا, ديمقراطية منقط عليها ومؤدى عنها, لا تنبثق اطلاقا من صميم المجتمعات وتنبعث فقط من رغبة الدول : في خطابها التبريري المتعلق بمسألة صرف المال العمومي وايجاد الصيغ الملائمة لابراز حيويتها في محاربة كل اشكال الفساد وغرس قيم الشفافية ... وهو ما نجم عنه العديد من الماسي والكوارث الديمقراطية, بسبب عدم الاقتناع الطوعي بخطوة الخروج بنموذج مثال لمعيرة ايجابية, على مستوى الممارسة المالية الفضلى, وجعلها فقط ممارسات تبريرية أمام المؤسسات المالية الدولية الكبرى, التي تلجأ في منحها للقروض الى اليات تصنيفية, مشكوك في جدواها ومصداقيتها, والتي تصبح بشكل ضمني اليات ردعية ميؤوس في اهميتها وغائيتها ( وكأننا أمام حالة الاستاذ والتلميذ . حيث يصبح التلميذ النجيب هو الذي يؤدي واجبه الدراسي ليس من أجل الكسب المعرفي والمهاراتي, وانما خوفا من العقاب الذي قد يلحقه به الاستاذ, اذ يتولد لدى الدول الخاضعة لنمط التصنيف الردعي نوعا سيكولوجيا من " فوبيا الترهيب" الناجم عن التلويح باستخدام الية التقويم الهيكلي, وما يرتبط بذلك من تدخل واضح في سيادة هذه الدول وفرص اتخادها للقرار فيصبح بذلك الخوف هو المتحكم وليس الرقي بمجتمعات هذه الدول. &التمظهرات المتعددة للترنح الديمقراطي: نقصد بالترنح الديمقراطي, في اطار تحليل البراديغمات, تلك الرغبة المتوالية لدى أية دولة من الدول, في تحقيق بعض أسباب " الرخاء الديمقراطي " في اطار التعامل مع مفهوم الديمقراطية كامتياز وغياب النظرة اليه كحق- والتكريس " الخفيف" / " المحتشم " لبعض أوجه الدمقرطة.. وفي المقابل- وفي اطار ابراز الأبعاد الترنحية للديمقراطية – هناك صدمات عابرة وفجائية ... ترصد على مستوى الممارسة, تعري عن تجليات حقيقية لقصور مزمن, يمس مجمل تمظهرات الحياة الديمقراطية, حقوقيا ,سياسيا,اقتصاديا, اجتماعيا ومؤسساتيا.
حقوقيا: تتسم المنظومة الحقوقية, على مستوى الديمقراطية المترنحة, بانتعاش واضح للانتكاسات المستمرة, والتي تقلل بلا شك من القيمة الاعتبارية والمعيارية لهاته المنتظومة, لتعكس مدى بشاعة الوجه المتذبذب للدولة , وتجعلها تتبوأ مراتب الصدارة على مستوى النقد المتواصل من طرف المنظمات والهيات المهتمة بالشأن الحقوقي وطنيا ودوليا ( منظمة العفو الدولية نموذجا ) . ومن أبرز تجسيدات هذا الترنح الحقوقي : التبعثر الملاحظ في التعامل مع مسألة تأسيس الجمعيات , التقليص من هامش حرية الرأي والتعبير, التحكم المفرط في مسارات حرية الصحافة والنشر والابداع, التكثيف من التضييقات على التجمعات والحركات الاجتماعية السلمية, التبخيس من القيم المضافة للعمل الحزبي والنقابي, بعثرة أوراق المنظمات الحقوقية... وعموما تجسيد كل أوجه الدولة التسلطية, المتحكمة في نفوس الأفراد والجماعات. ان الدولة الديمقراطية المترنحة, هي الدولة التي لا تعرف ماذا تريد حقوقيا, وأحيانا هي الدولة التي تريد فقط أن تلمع صورتها الحقوقية ( أمام المنتظم الدولي خصوصا ), وبالتالي فهي دولة "الانتكاسات الحقوقية " المستمرة, والتي تجعل من فضاءاتها الاجتماعية, عبارة عن حقول الغام, قابلة للانفجار في أي زمن سياسي غير متحكم في أرجاءه وأبعاده .
سياسيا: الديمقراطية المترنحة , هي ديمقراطية التباهي بمنجزات مترنحة ومنها " توفير الارضية السلمية للممارسة السياسية العادية, والموطدة للمناخ الملائم لتداولية السلطة عبر تكريس النموذج الايجابي لالية الانتخابات الدورية " والمفرزة وفق أنماط من الشفافية والمساواة, لأغلبية حاكمة, ناجمة عن مصداقية صناديق الاقتراع ", ويتبلور السلوك " المترنح " لهذه الديمقراطية وعكس الادعاء الانجازي " السالف الذكر, في القيام- وبرؤية فوقية- بمقاسات نموذجية وفق اواليات الضبط والتحكم على مستوى التقطيع الانتخابي, وكذا الهيات والمؤسسات المنبثقة عنها, والعمل على صياغة هذا الاطار, دون اللجوء الى ميكانيزمات التشاور والتوافق بين كل الفرقاء, وبالتالي التحكم وبقوة في احدى الشروط الضرورية للرفع من التمكين السياسي الايجابي.
اقتصاديا : الترنح الديمقراطي كمظهر من مظاهر الوضعية الديمقراطية " الهشة ", يتبلور اقتصاديا في المناداة المتواصلة على مستوى الخطاب بضمان قواعد المنافسة والشفافية والانصاف في العلاقات الاقتصادية وتوفير المناخ الملائم لللأعمال وتحفيز الاستثمار وانعاش المخططات الاقتصادية. وعلى النقيض من كل ذلك, تبرز الممارسة الفعلية, استمرارية أنظمة – في اطار ممأسس- الريع والاحتكار والتركيز الاقتصادي وتدفق الامتيازات غير المشروعة وغياب أوجه المنافسة الحرة والمشروعة, مما يجعل الترنح الديمقراطي على الصعيد الاقتصادي, من أخطر الترنحات, القادرة على المس بمصداقية الدولة وبلورة غياب الثقة في مؤسساتها, وبالتالي التقليل من الفرص الممكنة للنهوض بمسارات " اقلاع اقتصادي " حقيقي.
اجتماعيا : يعرف الترنح الديمقراطي , اجتماعيا, برفع الشعارات الكبرى الرنانة : العدالة الاجتماعية, القضاء على كل أشكال الاقصاء والهشاشة والفقر, وتوفير فرص المساواة والاندماج الاجتماعيين, النهوض بمستوى عيش الشريحة العريضة من المجتمع , السلم الاجتماعي , التوازنات الاجتماعية ... في حين يتأكد عبر الفعل الممارساتي , توالي السياسات العمومية الفاشلة, والمفتقرة للرؤية الاستراتيجية والاستشرافية, والحاملة في طياتها كل مظاهر القضاء على الطبقة الوسطى , تفاقم الفوارق , انتشار معضلة البطالة , نموذج تعمير فوضوي وسكن غير لائق , اختلالات في المنظومة الصحية , قصور في الشأن التعليمي والتربوي ... فالترنح الديمقراطي المرصود على الصعيد الاجتماعي هو ترنح يمس في الصميم " القدرة الاجتماعية " للمواطن ويجعله نتاج المؤشرات الاقتصادية السلبية أو المخططات الاقتصادية الفاشلة .
مؤسساتيا : الانتقال من " الدولنة القوية " الى " المأسسة الهشة ", الدولة التي في يدها كل شئ الى المؤسسة التي تفتقد كل شئ, الدولة المتحكمة فعليا الى المؤسسة المتحكمة شكليا, وهوما يتضح من خلال جملة من السمات المرتبطة بهذه المؤسسات : التضخم المؤسساتي, اغراق هذه المؤسسات بكثرة المتدخلين, عدم وضوح الرؤية التدخلية المرتبطة بها, عدم تحديد المسؤولية الناجمة عنها, ومن ثم غياب مبدأ المساءلة والمحاسبة كمبدأ حكاماتي يمكن أن يخفف من عقم هيمنة الصفة الاستشارية وشبه غياب للصفة التقريرية لهذه المؤسسات. ان كل ماسبق يضعف من القيمة المعيارية للمؤسسات و يجعل منها مؤسسات هشة بلا روح غير قادرة على اتخاد القرار المعول عليه لاثبات نجاعتها ومردوديتها الانتاجية, فيما يخص المجتمع ككل ويجعها مؤسسات تبعية ,تخضع قرارتها ان كان لها قرار أورأي لمنطق تحكمي للدولة مازال يفرض تواجده ,وهو المنطق الذي يسود كل الارجاء وسائر الفضاءات: الادارة ,المجتمع, الاقتصاد...انه منطق الترنح في تفويض القرار لمؤسسات عاجزة يمكن تسميتها ب"المؤسسات القابعة على الكرسي المتحرك" تتحكم في دواليبها الدولة ,تأسيسا وهيكلة وتنظيما واختصاصا. عموما تشير الديمقراطية المترنحة الى اسوا نموذج من نماذج الحكم في شتى المجالات: سياسيا,اقتصاديا, اجتماعيا ...و بالتالي الى اسوا نمط من انماط الحكامة .
#محمد_البكوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟