أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الرابع















المزيد.....



نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الرابع


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 4688 - 2015 / 1 / 11 - 02:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


## الجزء الرابع: (العلمانية "الربوبية" الكهنوتية السلطوية):

العلمانية كما سبق أن ذكرنا لزيادة التأكيد هي: (إقصاء الدين تماما من الحياة، من: "السياسة، الحكم، التشريع، المعاملات، الأخلاق" والإبقاء عليه فحسب كمحض مشاعر وعقائد سجينة داخل القلوب والرؤوس ولا تمارس طقوسه وشعائره إلا داخل جدران دور العبادة ولا يتخطاها إلى الخارج)، كما عرفها واتفق على تعريفها كل الكتاب والمفكرين الغربيين والعرب دون أدنى خلاف بينهم على مضمون ومحتوى هذا التعريف، وإن كان هناك عديد من التعريفات قد جاءت بصياغات مختلفة إلا أن جميعها تصب في نفس المدلول. والعلمانية بهذا المفهوم لها صور متعددة، قد تظهر في صورتها الحقيقية الصريحة الواضحة، وقد تظهر في صور أخرى، فقد تظهر لنا وهي ترتدي قناع الدين، نعم قد تظهر العلمانية وهي تردي قناع الدين. ولكن السؤال هو: هل كون العلمانية تقوم على إقصاء الدين تماما من واقع الحياة يعني أن العلمانية تاريخيا لم تظهر في قناع ديني لتمرير استعباد الناس، وتنصيب معتنقيها من أنفسهم "أربابا" للناس من دون الله لتمرير فاشيتهم وعنصريتهم وطغيانهم وفسادهم وإفسادهم في الأرض؟؟، الجواب: بكل تأكيد كان كثير من العلمانيين منذ بدء الخليقة من يستخدم قناع الدين ستارا لتمرير علمانيته واستعباده للناس وتنصيب نفسه "رباً" لهم من دون الله، لدعم سلطانه المنازع لسلطان الله على الناس وتمرير شهواته ونزواته وأهوائه.

ولا يزال كثير من العلمانيين "الربوبيين" _أي: الذين ينصبون من أنفسهم أربابا من دون الله_ يستخدمون أقنعة الدين في زماننا هذا لبسط سلطانهم وعنصريتهم وفاشيتهم وأهوائهم على الناس، فنجد منهم مثلا من يسمون بفقهاء السلطة والسلطان، أو مفتيي السلطة والسلطان، أو رجال دين السلطة والسلطان، الرسميين الحكوميين، في دولنا العربية والإسلامية، وهم الذين يألهون الحكام ويجعلون منهم "أربابا" للشعوب من دون الله، وهم الذين يبررون للسلطان أو الحاكم جرائمه وفجوره وخطاياه وموبقاته بقناع ديني، ويستميتون في انتزاع السلطان التشريعي والحكمي والقضائي من يد الله وجعله في يد الطغاة والمستبدين، هذه العلمانية "الربوبية" الكهنوتية السلطوية هي التي تجعل الناس يتخذون حكامهم وسلاطينهم وكهنتهم "أربابا" من دون الله، هذه العلمانية "الربوبية" في الحقيقة لا علاقة لها على الإطلاق برسالات الله ولا بكتبه ولا بأحكامه ولا تشريعاته التي أوحى بها إلى الأنبياء والمرسلين.

ومن أشهر الذين اختلقوا هذه العلمانية "الربوبية" في التاريخ البشري "شاول الطرسوسي" أو من سمي فيما بعد "بولس الرسول"، فهذا الرجل يعد من أشهر الذين اختلقوا هذا اللون من العلمانية في التاريخ. والقرءان الكريم قد ذكر لنا هذا اللون من "العلمانية الربوبية" في موضعين:

الموضع الأول في قوله تعالى:
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ). (80_ آل عمران).

الموضع الثاني في قوله تعالى:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). (31_ التوبة).

وقد أزال النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام القناع عن ماهية وملامح هذه العلمانية لعدي بن حاتم الطائي، وكان رجلا نصرانيا قد اعتنق الإسلام، فعن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب, فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك. قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة" فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله). قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم. فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه, ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى قال: فتلك عبادتهم).
(أورده البخاري في الكبير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه).

وبالتأكيد لم يكن النصارى بتلك السذاجة التي تجعلهم يطيعون "الأحبار والرهبان" ويتبعونهم في التحليل والتحريم من دون الله، ولم يكن عن جهل وعدم وعي منهم بالكتاب ونصوصه وما فيه من أحكام، ولم يكن عن جهل وعدم وعي منهم بـ "الناموس"، أي: الشريعة الإلهية التي تحوي منظومة محددة بيِّنة واضحة من القيم والأخلاق والأوامر والنواهي والأحكام والعقوبات والحلال والحرام والشعائر والنسك، لم يكن هذا ولا ذاك على الإطلاق، بل جميع النصارى كانوا على علم تام بالشريعة المفصلة التي انزلها الله على موسى والتي جاء "المسيح بن مريم" بإجراء بعض التعديلات الطفيفة عليها، بأن يحل لهم بعض الذي حرم على بني إسرائيل، وليكملها لهم، لكنه لم يلغها ولم يسقطها بالكلية. إذاً فما الذي حدث جعل النصارى يتخذون أحبارهم ورهبانهم "أربابا" من دون الله؟؟، الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل وإيضاح على النحو التالي:

بداية أقول: إن "العلمانية اللادينية الإلحادية الغربية المعاصرة" كفكر وفلسفة ونظريات ومفاهيم هي ابتكار غربي أصيل، لأن العلمانية الإلحادية المعاصرة في الغرب لم تظهر في مواجهة دين "المسيح بن مريم" عليه السلام، ولا في مواجهة شريعة دينية حقيقية موحى بها من الله، ولا في مواجهة "دولة دينية"، ولا في مواجهة "رجال دين"، كما يروج العلمانيون العرب السذج، إنما العلمانية الغربية اللادينية الإلحادية المعاصرة ظهرت في مواجهة علمانية "ربوبية" جعلت من الحكام والسلاطين ورجال الكنسية "أربابا" للشعوب من دون الله. فمن هنا ومن هنا فقط ظهرت العلمانية اللادينية الإلحادية الغربية المعاصرة للهروب من جحيم الكنيسة في العصور الوسطى. ولولا العقيدة النصرانية في نسختها "البولسية" _نسبة لـ "بولس الرسول_ ولولا الفلاسفة والكتاب الغربيين لما عرف الملحدون العرب ولا العلمانيون العرب عن نظريات وفلسفات الإلحاد أو العلمانية الغربية المعاصرة شيئا على الإطلاق، ولو عاش أحدهم في الدنيا ألف سنة.

فالعلمانية اللادينية الإلحادية المعاصرة لها صانعوها وفلاسفتها وعلماؤها الغربيون الذين هم وحدهم من يمتلك براءة اختراعها، وبالتالي لم ولن يستطيع أحد من العلمانيين اللادينيين العرب إضافة شيء جديد على ما كتبه علماء وفلاسفة الغرب العلمانيين والملحدين، إنما الجديد الذي حاولوا ويحاولون فعله هو إسقاط الفلسفة الغربية العلمانية اللادينية الإلحادية على الدين الإسلامي، رغم أن الفلسفة العلمانية الإلحادية الغربية جاءت كردة فعل طبيعية على الديانة النصرانية في نسختها "البولسية"، وردا على الممارسات الكنسية الإجرامية قبل عصر النهضة ، ومن ثم فهم يحاولون ترجمة هذه الفلسفة إلى الواقع العربي الإسلامي ضاربين عرض الحائط بالفوارق بين دين ودين، وعقيدة وعقيدة، وواقع وواقع، ومن ثم قاموا بتشويه الغرب وتشويه الإلحاد كفكر وتشويه العلمانية كفكر مضاد للنصرانية "البولسية" من حيث لم يعلموا، لأن الناس في العالم العربي وخاصة الذين لم يتعاملوا مع الغربيين الأصليين، ينظرون إلى صورة العلماني الغربي من خلال النسخ العلمانية العربية المترجمة المشوهة المسخ، فظنوا أن الشخصية الغربية العلمانية مشوهة كذلك، مع العلم أن الشخصية الغربية وخصوصا المثقفة الواعية منها هي شخصية محترمة بامتياز حتى ولو كانت شخصية علمانية لادينية إلحادية مضادة للنصرانية "البولسية".

ومهما كان الإسقاط ومهما كانت الترجمة دقيقة إلا أن نسختهم العربية الشرقية المترجمة هي نسخة مشوهة مسخ، لا هي علمانية إلحادية غربية أصيلة، ولا هي عربية شرقية أصيلة، وليس كذلك فقط بل حتى انتقاداتهم للفكر الإسلامي هي في الأصل انتقادات غربية أصيلة وضعها المستشرقون الغربيون منذ عشرات السنين، وما على المرء إن أراد التأكد من ذلك سوى مطالعة كتب المستشرقين الغربيين التي تنتقد التراث الإسلامي، فسيفاجأ وكأن ما يكتبه هؤلاء من انتقادات عبارة عن نقل حرفي قد تم منتجته حسب ما يقتضيه عنوان الموضوع الذي يكتب فيه. وبالتالي فأين تميزهم؟؟ وأين إبداعهم؟ وأين فلسفتهم؟ وأين نظرياتهم؟ وأين ذاتيتهم الفكرية في هذا المجال أو في غيره؟. لا شيء جديد على الإطلاق، سوى الانتقاء والتسول وعدم الأمانة العلمية والسرقة من الفكر الغربي. فالإصلاح الحقيقي لأفكار الأمم والشعوب يبدأ بالفكر الذاتي النابع من ذات الثقافة ومن التعاليم المورثة، ومن دون ذلك فلن يتم إصلاح شيء حتى ولو أصبح العرب بِيض البشرة شٌقْر الشعر زُرْق العيون.

فما هي قصة العلمانية والإلحاد في الغرب الأوروبي النصراني "البولسي"؟:

يعتقد أغلب المثقفين والمفكرين العلمانيين العرب أن ازدهار المجتمعات الغربية اقتصاديا وحضاريا وتقنيا، وكذلك نجاح الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات الغربية كأنظمة سياسية جاء نتيجة "العلمانية" والعلمانية فحسب، كنتيجة لإقصاء "الديانة المسيحية" تماما عن واقع الحياة وعزلها داخل جدران الكنائس وإبعادها تماما عن السلطة السياسية والقانونية والتشريعية. وفي الحقيقة هذا الاعتقاد هو اعتقاد خاطئ بالكلية ومجانب للصواب تماما، بل هو عين التدليس والتضليل إذا قبلنا مثل هذا الاعتقاد وابتلعناه هكذا دون بحث أو تمحيص أو تدقيق، بل قبول مثل هذا الاعتقاد ينم عن عدم وعي بماهية "الديانة المسيحية" في نسختها "البولسية"، ولا ماهية "الدولة الدينية" ولا ماهية "رجال الدين" اللذين يندد بهما العلمانيون المصريون والعرب الذين لا يفقهون، بل وعدم وعي بطبيعة وخلفية الممارسات الوحشية التي كان يمارسها رجال "الكنيسة الكاثوليكية" على الشعوب الغربية، وكذلك عدم وعي بمصدر ومرجعية هذه الممارسات.

إن القول بأن الغرب الأوروبي قد ثار على "الدولة الدينية" وعلى حكم "رجال الدين" في أوروبا لهو عين الظلم لرسالة "المسيح بن مريم" عليه السلام وعين الظلم لمفهوم "رجال الدين"، إن الديانة النصرانية "البولسية" في شكلها الحالي ليست كرسالة "موسى" عليه السلام، وليست كرسالة "محمد" عليه الصلاة والسلام، فالديانة النصرانية "البولسية" ليس فيها شريعة مفصلة عامة شاملة كاملة متكاملة تنظم وتسير شئون حياة الناس، كما هي شرائع وأحكام التوراة وكما هي شرائع وأحكام القرآن الكريم، ومما هو معلوم للقاصي والداني أن "المسيح بن مريم" عليه السلام لم يأت بشريعة جديدة، لأنه لم يأت لينقض شريعة "موسى" عليه السلام الموجودة في التوراة بل إن "المسيح" عليه السلام أكد ذلك بقوله: (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ "الشريعة والقانون" أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ) (متى/ 5 - 17). ما يعني أن المسيح عليه السلام جاء مقرا وداعيا ومقيما لشريعة "موسى" عليه السلام ومكملا لها، وليحل بعض ما حرمه الله على بني إسرائيل، وإجراء بعض التغييرات الطفيفة على شريعة وأحكام التوراة كما نص القرآن على ذلك: (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ). (50- آل عمران). إلا أنه بعد وفاة "المسيح بن مريم" تم تجاوز الشريعة التوراتية وتم وقف العمل بأحكامها تماما على يد "بولس الرسول" كيف؟ ولماذا؟ هذا ما سنعرضه في السطور التالية:

من هو "بولس الرسول"؟ وماذا فعل برسالة نبي الله "عيسى بن مريم"؟:

باختصار ودون تعمق _فليس هنا موضع بسط الكلام في هذا الموضوع_ أقول: "بولس الرسول" أو "القديس بولس" هو ذلك المواطن الروماني "شاول الطرسوسي"، اليهودي صانع الخيام الذي ولد بين السنة الخامسة والعاشرة للميلاد، وكان مهتماً بدراسة الشريعة اليهودية حيث انتقل إلى أورشليم ليتتلمذ على يد "غامالائيل" الفريسي، أحد أشهر المعلمين اليهود في ذلك الزمن. ويبدو أنه لم يلتقِ خلال تلك الفترة بـ "يسوع الناصري"، وبعد أن أصبح "شاول" نفسه فريسياً متحمساً ذا ميول متطرفة عمل على محاربة المسيحية الناشئة على أنها فرقة يهودية ضالة تهدد الديانة اليهودية الرسمية، ونرى أول ظهور له في "سفر أعمال الرسل" في "الإصحاح السابع" حيث كان يراقب الشماس "استفانوس" وهو يرجم حتى الموت بينما كان يحرس هو ثياب الراجمين وهو راضٍ بما يقومون به.

وعقب إعدام "إستفانوس" شن اليهود حملة اضطهاد بحق "كنيسة أورشليم" متسببين في تشتت المسيحيين في كل مكان، فقام "بولس" بعد أن نال موافقة الكهنة بتتبع المسيحيين الذين كانوا يسمون "أناس الطريق" حتى مدينة دمشق ليسوقهم موثقين إلى أورشليم، وفي طريقه إلى دمشق وبحسب رواية العهد الجديد حصلت رؤيا لـ "شاول الطرسوسي" كانت سبباً في تغير حياته، حيث أعلن الله له عن "ابنه" بحسب ما قاله هو في رسالته إلى "الغلاطيين"، وبشكل أكثر تحديداً فقد قال "بولس" بأنه رأى "الرب يسوع" وفي "سفر أعمال الرسل" يتحدث "الإصحاح التاسع" عن تلك الرؤيا فيصفها على النحو الآتي "وفي ذهابهِ حدث أنهُ اقترب إِلى دمشق ففجأة أبرق حوله نورٌ من السماء"، بعد ذلك حصل حوار بينه وبين "المسيح" اقتنع شاول على إثره بأن "يسوع الناصري" هو "المسيح الموعود".

بعد تلك الرؤيا اقتيد "شاول" وهو مصاب بالعمى إلى مدينة "دمشق" حيث اعتمد على يد "حنانيا" ورُدَّ إليه بصره بحسب رواية الكتاب المقدس، وعرف "شاول الطرسوسي" باسم "بولس الرسول" بعد اعتناقه المسيحية، ثم زعم وادعى انه "رسول المسيح" فقام بإلقاء رسالة "المسيح بن مريم" الحقيقية في الهواء وصنع بديلا لها ديناً جديداً ألغى فيه العمل بالناموس والشريعة، التي لم يأت المسيح لينقضها بل ليكملها، واعتبر "بولس" أن العمل بالشريعة لعنة، ومن هنا كان "بولس" هو الرسول الديني الوحيد في تاريخ البشرية الذي يبعثه الله _على حد زعمه_ دون شريعة، أي: دون منظومة تشريعية قانونية تحوي عقوبات وأوامر ونواهي وحلال وحرام وشعائر ونسك، فلو تأملنا جميع أديان البشرية، سواء المسماة بالسماوية وحتى تلك الأديان التي تسمى بالأديان الوضعية "الهندوسية، الذرادشتية، البوذية، الكونفوشيوسية، الماوية، السيخية" وغيرها من الأديان فلن نجد ديناً واحداً على وجه الأرض ليست له شريعة قانونية تحوي عقوبات وأوامر ونواهي وحلال وحرام وشعائر ونسك سوى الديانة "النصرانية" في نسختها "البولسية" أي: التي أنشأها "بولس"، فالدين أي دين هو عبارة عن عقد جماعي بين أتباع ذلك الدين على اتباع شريعة دينية محددة، والشريعة أو الناموس عبارة عن منظومة من القوانين والعقوبات والأوامر والنواهي والحلال والحرام والنسك والشعائر، يتعاهد أتباع ذلك الدين على الالتزام بها وتطبيقها والاحتكام إليها وأن تسودهم وتسوسهم وتفصل في منازعاتهم وخصوماتهم التي تنشب فيما بينهم.

إن الشريعة الدينية هي لبنة أساسية وركيزة أولية من ركائز أي دين من الأديان، وعليه فأي تجمع بشري يجتمع على دين بعينه، ذلك الدين ليست له شريعة دينية تحوي منظومة من القوانين والعقوبات والأوامر والنواهي والحلال والحرام والنسك والشعائر متفق عليها بين جميع أفراد ذلك التجمع، عندها لا يمكننا أن نصف هذا التجمع بالتجمع الديني، ولا هذه الأمة بالأمة الدينية، ولا هذه الدولة بالدولة الدينية، ولا هذه الحكومة بالحكومة الدينية، ولا حكامهم وشيوخهم وكهنتهم برجال الدين، بل إن نسبتهم إلى الدين هو لون من العبث والهراء، إذ بفقدان الشريعة الدينية داخل ذلك التجمع البشري يفقد معها حتما اسم ومسمى الدين، وبالتالي فمن المجحف ومن التضليل ومن الخداع وصف دولة "الكنيسة الكاثوليكية" في أوروبا في العصور الوسطى بالدولة الدينية، بل إن وصف رجالها وكهنتها برجال الدين هو من قبيل الخداع والتضليل، ودلالة على سطحية وسذاجة وعدم وعي قائله، لأن النصرانية في نسختها "البولسية" ليست دين له شريعة وناموس ومنظومة قانونية تشريعية كبقية أديان الأرض، إنما هو شيء آخر يمكنك أن تطلق عليه ما تشاء من أسماء إلا أن تطلق عليه اسم دين.

وهذا سيجعلنا نعود إلى مرة أخرى إلى "بولس الرسول" ومقولاته في رسائله التي تأسست عليها النصرانية "البولسية" التي لا تمت بصلة لرسالة "المسيح بن مريم" عليه السلام، لا من قريب ولا من بعيد، ولا بأي وجه من الوجوه، حيث إن "بولس الرسول" أو "شاول الطرسوسي" قام بانقلاب شامل على رسالة "المسيح بن مريم"، وقام بإلقائها في البحر وذرها في الهواء، ووضع بدلا منها رسائله هو وأفكاره هو ومقولاته هو، ليس فقط في عقيدة التجسد والبنوة والتثليث الإفكية المختلقة، بل إن بولس وجهة ضربة قاضية للشريعة والناموس الذي جاء المسيح ليكمله لا لينقضه، وأوقف العمل بهما تماما وأسقطهما تماما من قاموس دينه الجديد، وليس كذلك فحسب، بل إن بولس جعل من إسقاط الشريعة أحد أهم ركائز وأعمدة الإيمان بدينه الجديد المختلق، واستعاض بدلا منها الإيمان بالإله المصلوب وأن الإيمان بالإله المصلوب كاف وحده في النجاة من اللعنة التي يسببها ترك العمل بالشريعة والناموس.

والآن أقدم للقارئ ما قاله "بولس" من مبررات ومزاعم لإبطال العمل بالشريعة على النحو التالي:

قال "بولس" في رسالته الثانية إلى "غلاطية":
(إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.* فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ، نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً، أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!* فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا.* لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للهِ.* مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي.* لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ!).
(غلاطية 2 – 16: 21).

وقال في رسالته الثانية إلى "أفسس":
(مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ). (أفسس2- عدد: 16).

وقال في رسالته الثالثة إلى رومية:
(بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَلاَّ. بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ.* إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ). (رومية: 3 – 27: 28).

بل إن "بولس" كي يبرر إسقاط العمل بالشريعة والناموس جعل من ربه "يسوع" لعنة وجعله ملعونا، فقال في رسالته الثالثة إلى "غلاطية":
(إِنَّ الْمَسِيحَ حَرَّرَنَا بِالْفِدَاءِ مِنْ لَعْنَةِ الشَّرِيعَةِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً عِوَضاً عَنَّا، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ). (غلاطية 3- عدد: 13)

هل كل هذه المزاعم والتبريرات التي ساقها "بولس" في رسائله للتنصل من الشريعة لها أي أساس في أسفار "العهد القديم" أو في أناجيل "العهد الجديد" التي يؤمن بها "بولس" ويؤمن بها أتباعه من النصارى؟، أما أن هذا اختلاق وإفك تولى كبره "بولس" وتبعه النصارى على هذا الإفك؟. الجواب: من يطالع نصوص "العهد القديم" ونصوص "العهد الجديد" الأناجيل الأربعة، يجدها تؤكد بشكل حاسم وقاطع على وجوب التزام الناس بالناموس والشريعة، لأن الناس إن لم يقيموا شريعة الله وناموسه فسيكون البديل هو الأهواء والشهوات والضلال المبين، وهذا ما ورد في العهد القديم في هذا الشأن:

جاء في سفر "التثنية":
(وَأَوْصَى مُوسَى وَشُيُوخُ إِسْرَائِيلَ الشَّعْبَ قَائِلاً: احْفَظُوا جَمِيعَ الْوَصَايَا الَّتِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهَا الْيَوْمَ). (التثنية 27: 1).

وجاء في سفر "التثنية":
(مَلْعُونٌ مَنْ لاَ يُقِيمُ كَلِمَاتِ هذَا النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهَا). (تثنية: 27، عدد 26).

وجاء في سفر "إرميا":
(اسْمَعُوا كَلاَمَ هذَا الْعَهْدِ، وَكَلِّمُوا رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ.* فَتَقُولُ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ كَلاَمَ هذَا الْعَهْدِ،* الَّذِي أَمَرْتُ بِهِ آبَاءَكُمْ يَوْمَ أَخْرَجَتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، مِنْ كُورِ الْحَدِيدِ قَائِلاً: اسْمَعُوا صَوْتِي وَاعْمَلُوا بِهِ حَسَبَ كُلِّ مَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَتَكُونُوا لِي شَعْباً، وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلهاً). (إرميا: 11- 2: 3).

أما ما جاء في أناجيل العهد الجديد على لسان "المسيح بن مريم" نفسه، فنراه وهو يؤكد أنه ما جاء لينقض العمل بالناموس والشريعة بل جاء ليكمل لا لينقض، بل ويؤكد على أن الناموس والعمل به لا يمكن أن يزول حتى ولو زالت السماء والأرض، فلا يزول حرف واحد من الناموس والشريعة، وكأن "المسيح ابن مريم" كان يتنبأ بما سيفعله "بولس" من بعده وإبطاله العمل بالناموس والشريعة، لهذا حذر أتباعه من هذا الفعل الشيطاني، فقال في إنجيل متى:

(لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ* فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ* فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ). (متى/ 5 – 17: 20).

بل إن "المسيح بن مريم" تنبأ في نبوءة صارخة صادمة بما سيحدث بعده على يد "بولس" ومن تبعه من أفاكين مضلين، حيث تنبأ "المسيح بن مريم" بأنه سيأتي من بعده من يتبأ باسمه ويخرج الشياطين باسمه ويصنع قوات كبيرة باسمه، بل إنه تنبأ بأن هؤلاء الضالين سيدعونه "رباً"، وتوعد أمثال هؤلاء بأنهم لن يدخلوا ملكوت السموات، وأن من يدخل ملكوت السموات فحسب هو الذي يفعل إرادة الله، أي يقيم شريعة الله وناموسه، فقال في إنجيل متى:

)لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.* كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟* فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!* فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ.* فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ.* وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُل جَاهِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ.* فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا). (متى: 7 – 21: 27).

إن ما فعله "بولس" من إلغاء للشريعة _التي تحوي منظومة الأخلاق والقيم والقوانين والتشريعات والعقوبات والأوامر والنواهي والحلال والحرام والنسك والشعائر_ كان له آثاره المدمرة على نفوس وأفكار وممارسات النصارى عبر تاريخهم، وخاصة نصار الغرب الأوروبي، إذ كيف يمكن أن نتصور مجتمعا من البشر ليست له أية ضوابط أو قوانين أو منظومة أخلاقية قيمية دينية إلهية إلزامية تضبط وعي أفراده ومعتقداتهم وأفكارهم؟؟، لهذا تحولت نفوس التابعين لديانة "بولس" الخاوية والخالية من "الشريعة" إلى وحوش مفترسة وذئاب ضارية، وقد تجسد هذا في الصراع الدامي بين الطوائف النصرانية في قرونها الأولى، وكذلك في الحروب الصليبية التي امتدت لما يقرب من ألف عام، وما حدث فيها من مجازر ومذابح يندى لها الجبين وتقشعر لها الجلود، ولم تتوقف تلك الوحشية في الشخصية النصرانية الغربية عند الحروب الصليبية بل امتدت إلى حروب أهلية طاحنة في أغلب أوروبا بين المذاهب النصرانية المختلفة في صدر عصر النهضة، راح ضحاياها الملايين من النصارى الأوروبيين، ثم امتدت إلى احتلال الجيوش الغربية لجميع بلدان العالم، ونهب ثرواتها وسرقة خيراتها، وقتل الملايين من شعوبها، وما إبادة شعب بأكمله "الهنود الحمر" على يد النصارى الغربيين إلا مثلا بارزا على وحشيتهم التي تتغلغل داخل نفوسهم، ثم امتدت الوحشية إلى الحروب العالمية "الأولى والثانية" التي راح ضحاياهما عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمفقودين، هذا فضلا عن الدمار والخراب الذي أوشك أن يعم كوكب الأرض بأكمله، بل لقد مهدت الديانة "البولسية" الطريق أمام خروج النظريات الفلسفية والنفسية العدمية الإجرامية التي تجلت وتجسدت في فلسفة "نيتشه"، وتم ترجمتها في واقع عملي على يد "هتلر وستالين وموسيليني وماو" وكثير من السفاحين المجرمين الذين تعج بهم المجتمعات الغربية حتى هذه اللحظة، كل هذا كان نتيجة لتلك الديانة الخالية والخاوية من أي شريعة أو أحكام أو إلزامات خلقية وقيمية إلهية لضبط نفوس الناس وضبط ممارساتهم وسلوكياتهم. ومازالت تلك الوحشية وشريعة الغاب والبقاء للأقوى موجودة في جيوش وحكومات الغرب وسياسييه حتى هذه اللحظة.

ولم تقتصر ديانة "بولس" وتعاليمه عند هذا الإجرام وهذه الوحشية التي زرعتها في نفوس الشعوب الغربية، بل إن تعاليم "بولس" قد أسلمت الشعوب الغربية بأكملها من أعناقها في العصور الوسطى إلى الحكام الطغاة ورجال الكنيسة المجرمين الفاسدين فأذاقوها الويلات على مدار ألف عام من الظلام والإظلام والظلم والاستبداد والإقطاع والفقر والجهل والعدم. وانظر ما أمر به "بولس" أتباعه في رسالته إلى أهل "رومية" ليجعل من الشعوب النصرانية عبيدا للسلاطين ويجعل من السلاطين "أرباباً" للشعوب يفعلون بها ما يحلو لهم:

يقول "بولس" في رسالته إلى أهل "رومية":
(لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ،* حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً.* فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ،* لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ.* لِذلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ.* فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضًا، إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذلِكَ بِعَيْنِهِ.* فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ). (رومية: 13 – 1: 7).

ولا يخفى علينا كيف يتفنن كهنة الأديان العابثين وأهل التحريف في العبث بنصوص الرسالات الإلهية وتحريفها عن مواضعها وإفراغها من مضمونها كي يستمدون منها شرعية لاغتصاب وانتزاع سلطان الله على الناس وجعله في أيدي السلاطين والحكام الطغاة الفاسدين المستبدين، وكهنة النصارى ليسوا بدعا من هذه الجريمة النكراء، فرأيناهم كيف تفننوا في تحريف كلام "المسيح بن مريم" عمدا ومع سبق الإصرار والترصد كي ينتزعوا سلطان الله على الناس وينصبوا من أنفسهم "أربابا" من دون الله على الناس، وأقدم للقارئ بضعة نصوص من الإنجيل اتخذ منها كهنة النصارى المجرمين مشروعية دينية لتنصيب أنفسهم على الناس "أربابا" من دون الله:
النص الأول:
(وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا.* وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ).
(متى: 16- 18: 19).

في هذا النص يعتقد النصارى أن "المسيح" أعطى لـ "بطرس" "مفاتيح ملكوت السماوات"، أي: أعطاه سلطان الله على الناس ليدخل من شاء من المؤمنين ملكوت السموات ويمنع من شاء من غير المؤمنين من الدخول في ملكوت السموات، هكذا حرف النصارى الكلم عن مواضعه، لإعطاء الكهنة والقديسين سلطانا إلهيا على الناس فيحكم لمن شاء بالإيمان ويحكم لمن يشاء بالكفر أو الطرد من ملكوت الله، ولو تأملنا النص قليلا لما وجدنا النص يقول هذا الهراء وهذا الإفك والافتراء الذي افتراه كهنة النصارى على المسيح وعلى الله، فحقيقة ومضمون النص تقول بغير هذا تماما، فمضمون النص يقول: إن "المسيح بن مريم" قد استأمن بطرس على كلام الله أو رسالة الله التي عبر عنها "المسيح" بقوله: (مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ)، فبالتأكيد كلام الله ورسالته هي بالفعل "مفتاح ملكوت السموات"، فمن يحفظ كلام الله ويسمع كلام الله ويطيعه ويعمل بما فيه فقد أعطي "مفتاح ملكوت السماوات"، وليس كما حرف كهنة النصارى الكلم عن مواضعه بأن قالوا أن "المسيح" أعطى "بطرس" سلطاناً إلهياً على الناس.

وأما قوله: (فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ). هذا الكلام لا يعني كما فهم كهنة النصارى بأن "المسيح" قد منح "بطرس" سلطاناً إلهياً لإدخال الناس في الإيمان وإخراجهم منه، كلا، بل "المسيح" قد حمَّلّ بطرس الأمانة وذكَّره بأن أي عقد أو عهد تربطه أو تحله بينك وبين أحد من الناس فاعلم يا "بطرس" أن ما تحله وما تربطه سيسجل عليك في السماء عند الله وسيحاسبك الله عليه وأن الله شاهد على هذا، ويؤكد هذا المفهوم نص مشابه تماما لهذا النص يتحدث عن الحل والربط في نفس إنجيل "متى" الذي ورد فيه النص السابق، وهذا هو النص:

النص الثاني:
(اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ.* وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ،* لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ). (متى: 18 – 18: 20).

ففي هذا النص نجد أن الخطاب موجه للجميع ولكل الناس من أتباع المسيح وليس للرسل والتلاميذ ولا الكهنة فحسب، وهو يحمل نفس مضمون ومفهوم النص السابق، وهو أن ما تحلونه وما تربطونه من عقود وعهود واتفاقات بينكم وبين بعضكم بعضا سيسجل عليكم في السماء عند الله وسيحاسبكم الله عليه وأن الله شاهد على هذا، بدليل أنه تحدث في الآية التالية مباشرة عن لو أن اثنين منكم اتفقا في أي شيء يطلبانه فإن الله ييسر لهما هذا الطلب طالما انهما اتفقا باسم الله وعهد الله وتوكيل الله وشهادة الله فإن الله يكون معهم وينجز لهما عهودهما واتفاقهما، وهذا ما ورد في النص: (وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ،* لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ).

أما "النص الثالث" الذي حرفه كهنة النصارى لانتزاع سلطان الله وجعله في أيديهم لتنصيب أنفسهم "أربابا" للناس من دون الله فهو:
النص الثالث:
(فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا: سَلاَمٌ لَكُمْ كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا.* وَلَمَّا قَالَ هذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ.* مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ). (يوحنا: 20 – 12: 23).

ومن هذا النص تحديدا ابتدع كهنة النصارى فرية وجريمة منازعة الله في خاصية غفران الذنوب وقبول التوبة عن عباده، فاقترفوا جريمة "الاعتراف" ومهزلة "صكوك الغفران"، ولو تأملنا قول "المسيح بن مريم" في هذا النص فلن نجد فيه ما حرفه كهنة النصارى وضللوا به الناس واستعبدوهم من دون الله، فمفهوم ومضمون النص كما يبدو لا يخرج عن كونه دعوة وحض للتلاميذ على أن يغفروا خطايا من يسيئون إليهم، لأنهم لو غفروا لمن يسيئون إليهم ويؤذونهم فقد يتوب الله عليهم ويهديهم للإيمان فتكون مغفرة التلاميذ وتجاوزهم عن إساءات الخاطئين سببا في مغفرة ذنوب الخاطئين، وكذلك من لم تغفروا له خطاياه فربما يزداد في كسب الخطايا ويضل عن طريق الإيمان وتظل خطاياه معلقه في عنقه ويدينه الله بها، وهذا النص تحديدا: (مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ)، يشبه تماما في مضمونه ومدلوله قول الله تعالى في القرءان الكريم للمؤمنين: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (22_ النور). وقوله: (وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). (34_ فصلت). وقوله: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ). (22_ الرعد). وقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ). (96_ المؤمنون).

ومن الجدير بالذكر هنا أن من أكبر الجرائم والخطايا التي يرتكبها كهنة وأتباع جميع الأديان هي جريمة وخطيئة اغتصاب أخص خصائص الإله وأهم سلطان له على الناس ألا وهو: الحكم بـ "الكفر والإيمان" على الناس، فالحكم بالكفر والإيمان على أناس بأعينهم وذواتهم حتى لو قالوا الكفر وفعلوا الكفر لهو من أخص خصائص الإله الحق التي لا ينازعه فيها أحد من خلقه حتى ولو كان ذلك الأحد "الأنبياء والرسل". ومن يجترئ على منازعة الله في هذه الخاصية أو هذا السلطان فقد نصب من نفسه "رباً" للناس من دون الله، وهنا قد يسأل سائل ويقول: ولكن نصوص الأديان بها العديد من النصوص التي وصفت أفعال وسلوكيات ومعتقدات أناس بعينهم وذواتهم بالكفر أو بالإيمان فألا يحق لنا وصف أمثال هؤلاء الناس بالكفر أو بالإيمان؟، الجواب: بكل تأكيد لا، وأقول: هذا سؤال هام وجدير بالاعتبار، ولكن تفصيل الجواب على هذا السؤال يحتاج منا بحثا مستقلا ومطولا لمناقشة هذه القضية الخطيرة، ولا يتسع المجال هنا لبسط مثل هذه القضية الهامة، ومع وعد مني بأن أفرد لها بحثاً مستقلا سأنشره في حينه إن شاء الله.

فالنصرانية في نسختها "البولسية" منزوعة الشريعة والناموس قد تلقفها أول من تلقفها من الحكام الامبراطور "قسطنطين"، وكان اعتناق "قسطنطين" نقطة تحول للمسيحية "البولسية" المبكرة. وأخذ "قسطنطين" دور الحامي للعقيدة المسيحية. فقد كان يدعم الكنيسة بالأموال، وبنى عدداً كبيراً من الكاتدرائيات، ومنح رجال الدين بعض الامتيازات (كالإعفاء من ضرائب معينة)، وولى النصارى رتباَ رفيعة في الدولة، وأرجع الممتلكات التي صادرها "دقلديانوس" خلال "الاضطهاد العظيم"، كما وهب الكنيسة أراضي وثروات أخرى. وبنى "قسطنطين" بين عامي 324م و 330 عاصمة إمبراطوريتة الجديدة في بيزنطة على مضيق البوسفور، والتي سميت القسطنطينية من أجله. واستخدمت فنون العمارة النصرانية علناً وحوت المدينة العديد من الكنائس داخل أسوارها خلاف ما كانت عليه روما "القديمة" كما لم تتضمن هذه المدينة سلفاً أي معابد لديانات أخرى. وقيام قسطنطين بإلزام من لم يعتنق المسيحية دفع مبلغ من المال للعيش في المدينة الجديدة.

ويروي المؤرخون المسيحيون أنه بدا لقسطنطين ضرورة تعليم رعاياه كيفية التخلي عن طقوسهم وتعويدهم كيف يحتقرون تلك المعابد وما فيها من صور، مما أدى إلى إغلاق المعابد بسبب افتقارها إلى الدعم، كما أن الثروات انصبت في الخزينة الإمبراطورية؛ ولم يكن قسطنطين بحاجة لاستخدام القوة لتنفيذ ذلك. ويضيف المؤرخ "ثيوفانيس" أن المعابد "كانت تباد"، إلا أن المؤرخين المعاصرين رأو أن هذا "عار عن الصحة" وفازت المسيحية بنصيب الأسد في التفضيل الإمبراطوري عدة مرات بالفتوى؛ وفتحت آفاقاً جديدة للمسيحيين، بما في ذلك الحق في التنافس مع غيرهم من الرومان في الترشح التقليدي لمناصب حكومية عالية، وقبول أكبر في المجتمع المدني عامة. احترم قسطنطين الثقافة والتهذيب، وتألفت محكمته من الرجال الأكبر سنا، ذوي احترام وشرف. وحرم رجال من الأسر الرومانية الرائدة ممن رفضوا اعتناق المسيحية من مناصب في السلطة والتي كانت تتطلب تعييناً، وحتى نهاية حياته كانت ثلثي حكومته العليا من غير المسيحيين. وأصدر في عام 313م "مرسوم ميلانو"، الذي يسمح للمسيحيين بممارسة شعائرهم الدينية داخل الإمبراطورية الرومانية.

والذي يعنينا في هذا الأمر هنا أن رسالة المسيح عليه السلام أصبحت بعد وفاته على يد "بولس" ديانة منزوعة الشريعة التنظيمية لشئون حياة الناس، ومنزوعة الأحكام المفصلة الشاملة، ومنزوعة القيم والأخلاق الإلزامية، ومنزوعة الحلال والحرام، وأمست مغايرة تماما لماهية الدين، حيث لم تكن ديانة "بولس" بها شرائع وأحكام كـ"التوراة" ولا أحكام وشرائع كـ"القرآن الكريم والسنة"، وظلت المسيحية "البولسية" هكذا حتى يومنا هذا، ورغم أن "الكتاب المقدس" الموجود بين يدي النصارى الآن يجمع بين دفتيه "توراة" موسى عليه السلام و"إنجيل" المسيح عليه السلام، إلا أن أتباع "بولس" على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم لا يطبقون شرائع وأحكام التوراة الموجودة بين أيديهم في شئون حياتهم، بل ويرون أنهم غير مطالبين دينيا بتطبيق أحكامها ولا الالتزام بشرائعها، كما سبق وأن فصلنا هذا وبسطناه.

وهذا يكشف لنا عن خطأ علمي وفكري فادح وقع فيه كثير من العلمانيين العرب السذج وكذلك الإسلاميين العرب الذين استدرجهم العلمانيون دون وعي، ويكشف لنا كذلك عن حقيقة هامة غابت عن كثيرين ألا وهي إن الديانة النصرانية في نسختها "البولسية" جعل منها "بولس" رسالة لا تصلح للتصدي للحكم ولا لتسيير شئون الناس، ولا لتولي السلطة عليهم، ولا للعمل السياسي، ولا للفصل في الخصومات، وذلك لخلوها من التشريعات والأحكام التفصيلية الشاملة التي تنظم شئون الناس وتوجه حركتهم في الحياة، وهنا قد يتساءل البعض ويقول: إذا كان ذلك كذلك فكيف كانت الكنيسة في القرون الوسطى تحكم المجتمعات الأوروبية؟ وكيف كانت تقيم "دولة دينية" أو نظام سياسي على أساس ديني كما يزعم الزاعمون؟؟.

للجواب على هذا السؤال الهام أقول: إن الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا لم تكن قط تحكم المجتمعات الأوروبية حكما دينيا حقيقيا، بل من الإجحاف وتزوير الحقائق والالتفاف على التاريخ وصف سلطة الكنيسة في العصور الوسطى بأنها كانت سلطة دينية، بل هي في واقع الأمر لم تكن سلطة دينية على الإطلاق، لأنها لو كانت سلطة دينية حقيقية لكانت التزمت بتطبيق الأحكام الدينية والتشريعات الدينية التي وردت في التوراة والإنجيل، إنما كانت السلطة الحقيقية هي سلطة كهنة علمانيين كنسيين لادينيين قاموا بنزع السلطان على الناس من يد الله وجعله في أيديهم، وتحولت سلطة رجال الكنيسة إلى سلطة "ربوبية" مزعومة تستعبد الناس وتدعي الاتصال المباشر بين الله وبين رجال الكنيسة كما كانوا يدعون ذلك ويزعمون، ويؤكد هذا ما ذكره البابا "نقولا الأول" في العصور الوسطى بقوله: (إن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين) انتهى. (المصدر: قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14، ص352).

ومن هنا يتضح لنا أن الأمر برمته لم يكن له أية علاقة بدين ولا بناموس ولا أحكام دينية أو تشريعات دينية حقيقية على الإطلاق، وأقصد هنا أنه لم يكن هناك نص ديني مكتوب كالتوراة أو القرآن والسنة به نصوص مفصلة واضحة محددة لحكم الناس وتسيير شئون حياتهم والفصل في منازعاتهم، بل كان البابا وفق تعاليم (الكنيسة الكاثوليكية) المستمدة من تعاليم "بولس" يستمد سلطته على المسيحيين حكاما ومحكومين من الله مباشرة على حد زعمهم، أي: هو نائب الرب أو وكيل الرب على الناس، من دون وجود نص ديني مكتوب ومتفق عليه أوحى الله به إلى البابا ومن خلاله دعا البابا الناس إليه وصدقوه وآمنوا به ابتداء أنه من عند الله ومن ثم وجب عليهم الانصياع لسلطته، بل كانت أحكامه وسلطته مستمدة من الله مباشرة من دون وجود نص ديني محدد، له أول وله آخر، يقبله الناس أو يرفضوه، يؤمنوا به أو لا يؤمنوا، أو حتى يختلفوا على فهمه وتطبيقه، ولم يكن يومها للناس من آلية تمكنهم من التحقق من مصداقية البابا في حقيقة استمداد سلطانه من الله أم لا، بل ليت السلطة المستمدة من الله تتوقف على بابا واحد بعينه، بل كانت سلطة خاصة بكل شخص يشغل منصب البابوبة. مما يعني أن كل بابا جديد يقوم بإصدار أحكامه التي يستمدها _على حد زعمهم_ من الله مباشرة وبطريقة فورية ومن دون أخذ رأي الناس فيها مسبقا هل يؤمنوا بها أم لا، هل يقبلوها أم لا.

ونتيجة لفراغ النصرانية "البولسية" من الأحكام والتشريعات عاثت الكنيسة الغربية في الأرض فسادا وأهلكت الحرث والنسل، واستبدت بالشعوب الغربية وأذاقتها الويلات تحت شعار أن البابا يستمد سلطانه على الناس من الله، مما حدا بالشعوب الغربية إلى أن يثوروا على الكنيسة وعلى رجالها، وقاموا بإخراجهم من ساحة السلطة والحكم والسياسة وقاموا باحتجازهم خلف جدران الكنائس إلى الأبد، ومن هنا يمكن القول إن انقلاب الشعوب الغربية أو ثورتهم على الكنيسة لم يكن انقلابا أو ثورة على دين، أو رسالة دينية، أو أحكام دينية، أو تشريعات دينية حقيقية موجودة في الإنجيل، بل لم يكن ثمة تشريعات دينية أو أحكام دينية حقيقية مفصلة واضحة محددة يتلوها الناس في الإنجيل ويعلمون تفصيلاتها ومصادرها ويؤمنون بها أنها من عند الله، إنما كان هناك سلطة كهنة كنسيين نصبوا من أنفسهم "أرباباً" من دون الله يتحكمون في رقاب ومصائر الشعوب بدعوى أنهم يستمدون سلطانهم على الناس من الله، من دون وجود نصوص تشريعية إنجيلية أو أحكام إنجيلية واضحة محددة ومتفق عليها من الجميع.
¬
ومن هنا لم يكن أمام الشعوب الغربية من بد في ظل فراغ النصرانية "البولسية" من الأحكام والتشريعات التفصيلية التي تسيِّر شئون الحياة كما في اليهودية والإسلام، بعد الثورة على الكنيسة ورجالها الفاسدين الضالين، إلا استدعاء فكرة الديمقراطية من تراثهم اليوناني القديم، ومن خلالها أقاموا أنظمة حكم ديمقراطية استطاعوا من خلالها وضع التشريعات والأحكام المناسبة لهم، ففكرة الديمقراطية استدعاها الغرب لفراغ النصرانية "البولسية" من الأحكام والتشريعات التي يمكن من خلالها إقامة نظام كامل شامل يسوس الناس ويفصل في منازعاتهم، لذلك وجدت فكرة الديمقراطية الملعب السياسي والتشريعي الغربي أمامها فارغا فنجحت في أن تصبح نظاما سياسيا لا منافس له في الغرب حتى الآن، ليس لأفضلية الديمقراطية وروعتها بل لسد الفراغ التشريعي والحكمي في النصرانية "البولسية". وعليه فباباوات الكنيسة الغربية في العصور الوسطى في أوروبا لم يكونوا رجال دين كما يروج بعض الذين لا يعلمون، لأن رجال أي دين هم أولئك الأحبار أو الرهبان أو الفقهاء أو العلماء أو الشيوخ أو أو أو ....إلخ، هم الذين يقومون بفهم وشرح وتفسير النصوص الدينية الموحى بها من الله والتي يقر بها الناس أنها وحي من الله ويؤمنون بها، ومن ثم عرضها على الناس من دون أي سلطان سياسي أو ديني أو سلطوي إلزامي عليهم، وقد يتفقوا معهم في فهمها وتطبيقها وقد يختلفوا، مثل ما هو حادث منذ اليوم الأول لبعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وحتى يوم الناس هذا، فالتاريخ الإسلامي حافل بمئات المذاهب والآراء والفقهاء والمفسرين الذي يقتصر دورهم على تعلم النصوص الدينية وشرحها وإبلاغها للناس من دون أي سلطة سياسية أو دينية أو قانونية ملزمة على الإطلاق، والالتزام بأي من هذه الشروح والتفاسير والآراء والمذاهب راجع بشكل أساسي للفرد المسلم نفسه واختياره دون أي إلزام سياسي أو ديني أو سلطوي عليه من أحد، فنحن نرى الدول العربية والإسلامية لكل منها مذهب بعينه وتفاسير بعينها وفقه بعينه تستقي منه قوانين الأحوال الشخصية التي تطبقها على الناس، وفي كثير من الأحيان تتغير مصادر هذا الفقه إلى فقه ومذاهب أخرى حسب ما تقتضيه الحاجة والظروف.

وبما أن النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام قد تنبأ لهذه الأمة بأنه سيخرج منها من يتبع سنن "اليهود والنصارى" كما جاء عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خَرِب لدخلتموه. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟: قال: فمن؟).
(رواه البخاري ومسلم)

لهذا نرى اليوم أنه قد خرج بالفعل من هذه الأمة من العلمانيين اللادينيين المسمون بـ"القرءانيين" هم وأشباههم من العلمانيين الملحدين الآخرين ومعهم كهنة الحكام الطغاة المستبدين الذين يعملون بكل جد واجتهاد على سلخ شريعة الله وناموسه من رسالة الإسلام ومن هدي النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ونصبوا من أنفسهم على الناس "أربابا" من دون الله، وأصبحنا نراهم بالفعل يسيرون خطوة بخطوة وقذة بقذة على خطى "بولس الرسول" فنراهم يعمدون _ومع سبق الإصرار والترصد_ أن يفعلوا بالإسلام وبرسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام نفس ما فعله "بولس الرسول" برسالة "المسيح بن مريم" وتفريغها من مضمونها وشرائعها وأحكامها وتفصيلاتها وحلالها وحرامها وقيمها وأخلاقها وشعائرها ونسكها، فالصلاة عندهم ليست هي الصلاة، والصيام ليس الصيام، ورمضان ليس رمضان، والحج ليس الحج، والله ليس الله، ومحمد ليس محمد، والكعبة ليست الكعبة، والبيت الحرام ليس البيت الحرام، والعقوبات ليست العقوبات وعقوبة السارق ليست قطع يده، والوضوء ليس الوضوء، والإسلام ليس الإسلام، والسنة ليست السنة، والقرءان ليس القرءان، حتى يتحول الإسلام على أيد هؤلاء "البولسيين الجدد" إلى دين أجوف مائع داعر عاهر ضال لا يدل على شيء ولا يهدي إلى حق، ويتحول الناس عن شريعة الإسلام وناموسه كي يدينوا بذلك الدين الشيطاني الهلامي الأجوف دين "البولسيين الجدد"ويتبعون أهواء "القرءانيين" واللادينيين والعلمانيين العدميين وشهواتهم.

(للحديث بقية في الجزء الخامس)



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الثالث
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الثاني
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الأول
- (مسيحيون أم نصارى)؟ حوار رمضاني مع الأستاذ (أسعد أسعد)
- نبضة قلب في حياة ميتة
- لماذا توقفت عن كتابة مقالي اليومي في (روزاليوسف)؟
- (الإلحاد) هو الابن الشرعي للعقائد المسيحية
- (ليندي انغلاند) (أنجلينا جولي): يد تبطش والأخرى تداوي وتطبطب
- الفرق بين الإنسان الواقعي والإنسان الافتراضي
- الفرق بين -حقائق الأشياء- و-زخرف الكلمات- و-عوالمنا الخاصة-:
- آخر الهوامش: هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 ي ...
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (26)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (25)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (24)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (23)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (22)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (21)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (20)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (19)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (18)


المزيد.....




- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...
- اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو ...
- الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
- صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
- بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021 ...
- كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الرابع