|
كزانتزاكيس وصديقه زوربا
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 4677 - 2014 / 12 / 30 - 15:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أعتقد أنّ الكتابة عن رواية (أليكسيس زوربا ومغامرته) للروائى المبدع اليونانى الكبير نيقوس كزانتزاكيس (1883- 1957) لابد وأنْ ترتبط بالمعلومات الواقعية عن علاقة المؤلف بالإنسان (زوربا) حيث أنّ المؤلف استمد شخصية زوربا من شخصية حقيقية. ووصل إعجابه وتأثره به لدرجة أنْ كتب ((لو أننى أردتُ أنْ أذكر الأشخاص الذين تركوا أثرًا فى نفسى ، فلعلنى أذكر ثلاثة أو أربعة : هوميروس ، برجسون ، نيتشه وزوربا)) زوربا عامل مسن عمل كثيرًا فى المناجم ، وكان على مشارف السبعين عندما تعرّف عليه كزانتزاكيس ، وزوربا بالكاد يعرف القراءة والكتابة ، أى هو أقرب إلى الإنسان الأمى ، فما سر إعجاب الروائى به رغم أنّ زوربا قال له ((هناك جحيم يصلاه أرباب القلم والورق)) وقال له ((أنت فأر ورق وكاتب مغمور. وكل معرفتك من القراءة وليست من الحياة)) فهل كان زوربا – دون أنْ يدرى – مثل الفيلسوف نيتشه الذى قال إنّ ((زيادة المعرفة تشل الرغبة فى الفعل))؟ ولذلك كان زوربا يقول ((أنا أمارس العمل كما لو كنتُ سأموت فى كل لحظة)) أو لأنه كان يسأل (وهو الأمى) ما سر الجنون الذى يدفع إنسانـًا لأنْ يُمزق إنسانـًا مثله ، ثم يطلب من الإله أنْ ينزل ويساعده ؟ ولذلك قال كزانتزاكيس عنه ((هذا إنسان لم يلتحق بالمدرسة لكن عقله لا يزال سليمًا لم يختل ، أما نحن المثقفين فإننا طيور السماء الحمقاء)) ومن أقوال زوربا ((هناك خطيئة واحدة لا تـُغتفر، وهى أنْ تترك امرأة وحدها فوق سريرها وهى محتاجة إليك وتريد عناقك)) وأنّ تلك الحكمة سمعها من شيخ تركى (من مقدمة د. محمد حمدى إبراهيم فى ترجمته لرواية زوربا – هيئة قصور الثقافة- عام2014) الرواية : نظرًا لتأثر كزانتزاكيس بشخصبة زوربا ، جاءتْ روايته عنه وقد مزج فيها الإبداع الأدبى بالسيرة الذاتية ، بحيث يصعب الفصل بينهما. ففى معظم روايات كزانتزاكيس وخاصة روايته (الحرية أو الموت) ومذكراته (الطريق إلى جريكو) أدان الاحتلال التركى لوطنه اليونان الذى استمر أربعة قرون، لذلك كتب على لسان زوربا أنه تعرّف على شيخ تركى اسمه رُجيب أفندى علمه العزف على آلة القانون ، ومع ذلك قال ((لو أنّ الله يقبل فى فردوسه الكلاب فأتمنى أنْ يقبل أيضًا فى فردوسه رُجيب أفندى)) وكان تعليق المترجم فى الهامش ((ربما قال زوربا ذلك انطلاقــًا من الكراهية التى يكنها اليونانيون بوجه عام للأتراك لأنهم احتلوا بلادهم أربعة قرون وساموهم العذاب حينما ثاروا طلبًا لحريتهم)) (ص61) وأشار إلى السيدة بوبولينا (وهى شخصية حقيقية) التى تبرّعتْ بكل ثروتها وسفنها للحكومة اليونانية لمساعدتها فى الحرب ضد الأتراك (هامش ص110) كما أنّ كزانتزاكيس لم يستطع أنْ يفصل نفسه كمبدع للرواية وبين ذاته بصفته أحد المثقفين ، فنفل بعض الصفحات من كتاب (محاورة بين بوذا والراعى) تدور الرواية حول استخراج الفحم الحجرى من أحد المناجم ، ودرو زوربا فى الاشراف على العمل والعمال ، وتركيب خط سكة حديد هوائى يمتد من قمة الجبل حتى ساحل البحر لنقل المعدات ، وفشل كل المحاولات التى تمّتْ . والمحور الثانى هو علاقة زوربا بأرملة عجوز وعطفه عليها ومجاراتها فى مشاعرها على أنه أحبها وسيتزوّجها ، واستمر عطفه حتى وفاتها. ولكن من خلال هذيْن المحوريْن البسيطيْن فإنّ المبدع كشف الكثير من المناخ الاجتماعى والثقافى لأهالى الجزيرة . ادّعى الرهبان أنّ منجم الفحم الحجرى يتبع ممتـلكات الكنيسة ، وبالتالى فرضوا مبلغـًا مبالغـًا فيه فقال زوربا للراوى ((اعطنى النقود يا ريس وأنا سوف أوقــّع الأوراق.. فهؤلاء الذين يعيشون هنا ذئاب وحضرتك حـَمَـل وديع وسوف يفترسونك)) وبالفعل فإنّ زوربا الذى تفاوض مع الرهبان استطاع توفير عدة آلاف من الجنيهات . وكما انتهتْ الرواية بموت الأرملة العجوز، انتهتْ بانهيار خط السكة الحديد الهوائى، ورغم ذلك فإنّ الروائى يطلب من زوربا أنْ يُعلمه الرقص . وبعد أنْ رقصا سويًا قاله له زوربا ((الآن وقد تعلمتَ الرقص فقد أصبحتَ تعرف لغتى وأنا لدىّ الكثير الذى أود أنْ أقوله لك . ولكن لغتى لا تسعفنى . لذا سوف أقوله رقصًا)) وعندما كان يحتضر قال لمنْ حوله ((أرجوكم.. لو جاء قسٌ ليجعلنى أعترف وأتناول القربان.. أنْ تطلبوا منه الرحيل غير مأسوف عليه.. وأنْ تحل عليه اللعنة)) وقال أيضًا : لقد اقترفتُ الكثير والكثير من الأفعال فى حياتى.. ولكن هناك الكثير أيضًا الذى كنتُ أود أنْ أقوم به.. واختتم كلامه قائلا ((والناس من أمثالى كان يجب أنْ يعيشوا ألف عام)) كانت هذه كلماته الأخيرة ، وبعدها نهض واقفــًا على الوسادة ، وطوّح بعيدًا بملاءة السرير، وحاول أنْ يرمى نفسه فوقها.. فجرى من كانوا حوله ليمنعوه ، ولكنه أطاح بهم جميعًا ، ثم هبط من فوق السرير وتوجّه إلى النافذة وتشبّث بإطارها.. ثم تطلع من خلف زجاجها إلى الجبال.. ثم رأوه وقد جحظتْ عيناه وأخذ يضحك ، ثم بدأ يصهل مثل الفرس.. لقد داهمه الموت وهو واقف على هذه الصورة.. متشبثــًا بأظافره فى حديد النافذة (ص549) 000 ولأنّ كزانتزاكيس كان يتمتــّع بحس إنسانى رفيع ، لذلك أدان التعصب الدينى فى أكثر من مشهد من مشاهد الرواية، من ذلك ما فعله الأهالى والقساوسة ضد امرأة على عتبة باب الكنيسة وصاحوا فى وجهها وهى ترسم علامة الصليب ((الفاجرة العاهرة)) ولم يكتفوا بذلك وإنما قذفوها بالحجارة ، وتقدم أحد الأشخاص نحوها وأراد أنْ يطعنها بخنجره ، فأسرعتْ المرأة لتدخل الكنيسة ولكن أحد القساوسة منعها من الدخول. حتى سيدات القرية المتعصبات صحنَ فى الشاب ((اقتلها يا فتى اقتلها)) وكانت المرأة تستعطف الجميع قائلة ((بحق اسم المسيح.. بحق اسم المسيح)) ولكن أحد الرهبان أمسك بها ووضع السكين على رقبتها لذبحها وهو يرسم علامة الصليب ، فى تلك اللحظة انقضّ زوربا عليه وقال له : اخفض سكينك أيها القاتل . وصاح فى أهالى القرية ((ألا تخجلون من أنفسكم ؟ قرية بأكملها تريد أنْ تقتل امرأة ؟ إنكم تجلبون الحزى والعار على جزيرة كريت)) أبعد القساوسة زوربا وطلبوا منه عدم التدخل ، لم يخضع زوربا للأمر فأخذ المرأة وحماها ليساعدها على الخروج من هذا الموقف ، ولكن باغتها أحد القساوسة وفصل رأسها عن جسدها . ولذلك وصف زوربا القساوسة قائلا أنهم ((يعيشون حياة لا بأس بها ، ينجبون الأطفال وقد أصابهم الله بالصمم والعمى ، ومع ذلك يجأرون بالصياح والتهليل قائلين : با ربنا)) ويتذكر زوربا ما حكاه له جدوده عن الأتراك المسلمين الذين كانوا يقتلون المسيحيين ليلا . ورغم ذلك وصف القساوسة بأنهم مثل الثيران . وعندما لاحظ تصرفات بعض الرهبان قال ((إنّ الراهب يغتاب زميله ويفترسه. انظر إليهم إنّ كل واحد منهم يفقا عين الآخر)) ورغم موقفه هذا من رجال الدين ، ولأنه شديد الاعتزاز بالانتماء للوطن ، لذلك خاطب الإله قائلا ((يا إلهى أتمنى أنْ تكون جنتى هى جزيرة كريت أو أى جزيرة مماثلة لها)) موقف الكنيسة اليونانية من كزانتزاكيس : تـُرجمتْ أعمال كزانتزاكيس إلى معظم لغات العالم. ومن بين أعماله (الأوديسة) ، (المسيح يصلب من جديد) ، (الإغواء الأخير للمسيح) وكان على وشك الحصول على جائزة نوبل للأدب ، حيث حصل عليها البير كامى عام 1957 بفارق صوت واحد. ورغم تلك الشهرة العالمية ، فإنّ الكنيسة اليونانية لم تـُقدر أعماله ولا موهبته ، واتخذتْ منه موقفــًا عدائيًا فأدانتْ أعماله الروائية. كما حرّمتْ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية روايته (الإغواء الأخير للمسيح) فما أسباب ذلك الموقف من الكنيستيْن اليونالنية والكاثوليكية الرومانية ؟ كتب د. محمد حمدى إبراهيم (أستاذ الدراسات اليونانية واللاتينية بجامعة القاهرة) أنّ كزانتزاكيس ((كانت له طريقة متفردة فى الحياة ، وأسلوب فى التفكير هو نسيج له وحده ، إذْ لم يكن يُـكبـّـل نفسه أبدًا بقيود المذاهب وأغلالها ، ولا بالتزمت الأخلاقى المُصاحب للتدين وما يتبعه من تعصب ممقوت ، لأنه حر الإرادة وطليق الفكر)) وبينما أدانته الكنيسة اليونانية ، فإنّ الدولة اليونانية كان لها موقف مُغاير إذْ كرّمته وأقامتْ له قبرًا فخمًا فى جزيرة كريت ، وفوق القبر لوحة رخامية ، عليها الكلمات التى أوصى بها كزانتزاكيس وهى ((لا آمل فى شىء.. لا أخشى شيئـًا.. ولا أتوقع شيئـًا.. فأنا حر)) وهكذا يتبيّن أنّ الإنسان صاحب العقل الحر، الرافض للثوابت يكون مصيره العداء من الأصولية الدينية فى كل الأديان ؟ ولأنّ كزانتزاكيس سخر من الكهنوت الدينى المسيحى ، صبّتْ الكنيسة اليونانية جام غضبها عليه ، ولكن غضبها ذاك تبخر وابتلعه حب الأحرار، واعترافهم بإنسانية وموهبة كزانتزاكيس ، الذى تـُقرأ أعماله فى كل دول العالم ، بينما الذين أدانوه من الكهنوت ، لا يتذكر أحد أسماءهم . ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آفة الآحادية وأثرها على البشرية
-
التشريعات الوضعية تتحدى الأصولية الإسلامية
-
العلاقة بين الواقع والفولكلور
-
الإخوان المسلمون بين الشباب والشيوخ
-
الفيلسوف والتخلص من آفة الثوابت
-
الفلسفة والبحث عن التحرر
-
خطاب التنوير (2)
-
خطاب التنوير (1)
-
قواعد اللغة والتنقيط فى القرآن
-
الإكراه فى الدين إبداعيًا
-
الخطاب الدينى : هل يقبل التجديد ؟
-
اختلاف المصاحف (7)
-
اختلافات المصاحف (6)
-
اختلاف المصاحف (5)
-
اختلافات المصاحف (4)
-
مصر (الشعب) ومصر (النخبة)
-
الاختلافات بين المصاحف (3)
-
باب اختلاف المصاحف (2)
-
باب اختلاف المصاحف (1)
-
تفسير القرآن وأسباب النزول (9)
المزيد.....
-
حاخام يهودي متشدد: ندعو الله أن تتلقى مصر ضربة قوية قريبا
-
حاخام يهودي متشد: ندعوا الله أن تتلقى مصر ضربة قوية قريبا
-
قوات الاحتلال تهدم منزلاً وغرفة زراعية في سلفيت
-
تثبيت تردد قناة طيور الجنة الجديد على الأقمار الصناعية بجودة
...
-
خلال لقائه المشهداني.. بزشكيان يؤكد على ضرورة تعزيز الوحدة ب
...
-
قائد -قسد- مظلوم عبدي: رؤيتنا لسوريا دولة لامركزية وعلمانية
...
-
من مؤيد إلى ناقد قاس.. كاتب يهودي يكشف كيف غيرت معاناة الفلس
...
-
الرئيس الايراني يدعولتعزيز العلاقات بين الدول الاسلامية وقوة
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|