إسلام بحيري
الحوار المتمدن-العدد: 4674 - 2014 / 12 / 27 - 08:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
رابط المقال:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=436378
-1-
يستهل الكاتب مقاله بقوله : "كان أول ظهور للميتافيزيقا عندما تصوّر الإنسان الأول أنّ الظواهر الطبيعية (من رعد وأمطار وعواصف وبراكين الخ) قوى خارقة للطبيعة ، وتمتلك القدرة على إيذاء البشر، أو منحهم بركتها. وبعد آلاف السنين أخذتْ الميتافيزيقا بُـعدًا آخر تمثل فى الاعتقاد بأنّ الكون لابد أنْ يكون له (خالق) وأخذ اسمًا عامًا أو شاملا بمعنى (الرب أو الإله)" اهـ
انقسم العلماء بشأن مسألة "نشأة الدين" إلى فرقنين :
قسم منهم يرى أن الدين بدأ بالخرافة والوثنية، ثم أخذ يترقى ويتطور حتى وصل إلى درجة الكمال بالتوحيد، حتى أن أحدهم يقول بأن عقيدة "الإله الأحد" عقيدة حديثة لم تعرفها البشرية إلا في الجنس السامي.. وهذه النظرية نادى بها أنصار مذهب "التطور التقدمي أو التصاعدي" الذي ساد أوروبا في القرن التاسع عشر في أكثر من فرع من فروع العلم، وحاول تطبيقه على "تاريخ الأديان" عدد من العلماء منهم سبنسر ودوركايم.
الفريق الآخر ينقض هذه النظرية بالأدلة العلمية ويثبت العكس: أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم عقيدة عرفها البشر، بدليل أنه لم ينفك عنها أمة من الأمم قديماً وحديثاً.. فتكون الوثنيات أمراض طارئة وأعراض زائلة ضمن هذه العقيدة الخالدة، وهي نظرية "فطرية التوحيد وأصالته" التي انتصر لها جمع من علماء الأجناس وعلماء الإنسان وعلماء النفس، من أشهرهم "لانج" الذي أثبت وجود عقيدة "الإله الأعلى" عند قبائل أسترالياوإفريقيا وأمريكا، ومنهم "شريدر" الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة، و"بروكلمان" الذي وجدها عند الساميين قبل الإسلام و"لرواه" و "كاترفاج" عند أقزام أواسط إفريقيا، و "شميدت" لدى أقزام وسكان أستراليا.. وانتهى بحث شميدت إلى أن فكرة "الإله الأعظم" موجودة عند جميع الشعوب التي تعد من أقدم الأجناس البشرية.
وفي رأيي أن هؤلاء على حق وهؤلاء على حق، مع ما يبدو بينهما من تنافر... فمذهب التطور يحكي فترة غياب الرسل، و"مذهب التوحيد" يثبت بعثة الرسل الكرام منذ فجر البشرية.
-2-
ثم شرع الكاتب في استعراض أسماء الآلهة عند الشعوب القديمة. وتوسّع في هذا حتى أنه تعرض لذكر اختلاف لغة المسلمين العرب عن لهجات المسلمين الأعاجم من ترك وإيرانيين. المقال في مجمله عبارة عن بحث في جزئية معينة من تاريخ الأديان وهي جزئية اختلاف أسماء الآلهة لدى الشعوب.. ويبني الكاتب على هذه المقدمة نتيجة هي: أن الله من اختراع البشر، لأن اسمه كان هناك س وهنالك ص وهنا ع الخ..
ولا أدري كيف توصّل إلى هذه النتيجة التعسفية، كأنه يطالب الشعوب القديمة بأن تتحد في لغاتها أو حتى فكرها الديني والثقافي كأنهم يعيشون عصر العولمة!
هل شرط وجود الإله عند الكاتب (وهو موجود حتماً) أن يطلق عليه كل شعوب الأرض اسماً موحَّداً مثلاً ؟!! وهل اختلاف الأسماء الدالة عليه، ينم عن عدم وجوده ؟!
نحن هنا أمام فرضين:
1- فرض أن كل تلك الشعوب كانت تطلب نفس الإله الواحد الأعلى (وهذا هو ما ذهب إليه الشيخ محي الدين بن عربي من الصوفية) هنا لا توجد مشكلة كبيرة.
2- فرض اختراع أسماء لآلهة غير "موجودة من دون الله" إله الحب، إله الحرب إله السلام إله المطر.. الخ، وهذه مجرد أسماء لا حقيقة لها ولا وجود خارجي، وقد ندد القرآن بهذه التسميات كثيراً فقال (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
والعقل يقول بأنه لا ضرورة لها عقلاً مع وجود الخالق المبدع.. وقد كان عرب الجاهلية يعترفون بأن الله هو وحده الخالق من بين أوثانهم (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) وما الآلهة الصغار فلم ينسب أحد إليها الخلق ولا التدبير..
-3-
يقول الكاتب : "وبعد هذا العرض الموجز، يطرح العقل الحر السؤال الذى يتجنـّبه كل المؤمنين بالميتافيزيقا : ما مغزى ذاك التعدد؟
الإجابة واضحة من خلال العرض السابق ، حيث أنّ الشعوب (والأدق مؤلفى أساطير الخلق) هم الذين اختاروا أسماء الآلهة ، ومن هنا ارتبط اسم كل إله بلغة شعبه. وهو ما يؤكد الحقيقة التى ذكرها أكثر علماء الأنثروبولوجيا ، وهى أنّ البشر هم الذيم خلقوا الآلهة وليس العكس. وفى دليل آخر أشاروا إلى أنه إذا كانت بعض الشعوب تعيش بدون آلهة ، فإنّ (الآلهة) لا توجد بدون شعوب تؤمن بها. ورغم تلك الحقيقة اللغوية والأنثروبولوجية ، فإنّ العديد من البشر لازالوا يؤمنون بميتافيزيقا (إله واحد للكون) خصوصًا أتباع الديانة العبرية (اليهودية/ المسيحية/ الإسلام)" اهـ
هنا الكاتب ألغى عقله - للأسف الشديد - ووقع في مغالطة البرهنة على وجود الله من خلال العلم (الأنثروبولوجيا هنا).. وهذا خطأ فادح، لأن التجريب مجاله ضيق جداًَ وهو الحواس... لكن العقل يدرك ما هو أوسع من مجال بحث الأنثروبولوجيا.. يدرك ضرورة وجود خالق عليم حكبيم، ولكن العقل لا يمكنه أن يدرك صفات هذا الخالق ومن هو إلا في أضيق الحدود، ولذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب.
يقول السيّد محمد ماضي أبو العزائم (ت 1937 م) :
لما كان الإنسان حيوانا دينيا، كان يعبد ما ينفعه من المادة أو ما حكم عليه بالوهم مما شعر بتأثيره فقد عبد الأنهار، وعبد الأحجار، وعبد البقر، ولما اتسعت دائرة الوهم عبد الصور، حتى قوى العقل فعبد الأفلاك، ثم عبد الملائكة، ثم عبد الإنسان ولو أن العقل له السلطان على الغيب المصون لما ضل الإنسان هذا الضلال وجال العقل جولته فيما حوله فقهر المادة واستخدمها حتى كان السلطان الأكبر عليها وعلم خواصها، وفوائدها، وتحليلها، وتركيبها فعلم أنه فوقها قدرا وأنها دونه منزلة ولكن ﴿-;- قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾-;- هذا هو العقل الإنسانى لم يصل إلا إلى علم خواص المادة بما أودعه الله فيه كما انتفع كل نوع من الحيوانات بما أودعه الله فيه بقدر رتبته فالإنسان بقدر ضروراته انتفع . هذا أفق العقل وليس له أن ينفذ من أقطار السموات والأرض ليطلع على الغيب المصون إلا بسلطان، لذلك أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين ﴿-;- لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾-;-.
ويقول: معلوم أن الأمم الغابرة عاشت قرونا طويلة في مهاوى الجهالة وتيه الضلالة، لم يبعث الله منهم رسولا، ولم يقم منهم عالما مفكرا، ومكثوا في تلك الجهالة العمياء حتى عبدوا الأصنام، وكانت عبادة الأصنام خيرًا مما كان عليه قومهم، ثم ارتقت الأفكار فاتخذوا النجوم آلهة, ثم ارتقت الأفكار فاتخذوا الشمس إلها حتى رأوا أن الملك الحاكم عليهم هو الإله ولذلك ترى أن في تاريخ الفراعنة ما يدل على أن الآلهة حكموا مصر ثماني عشر ألف سنة وأن الإله أوزوريس " أبو الآلهة " علمهم الزراعة، وأجرى لهم النيل وأن الإله " أوزيس " علمتهم غراسة الكرم، وأن الإله " آمون راع " " ابن الإله " بين سبل العدل بينهم حتى اتخذوا الملوك آلهة بعد . ومن هذا الزمن ظهر التثليت في بني الإنسان، وقد وجد في آثار الهند الثالوث المقدس رمز إلى التثليت وهو ثلاثة رؤوس على جسم واحد . مكث الإنسان يتخبط لأنه ديني فلا يظهر بين الإنسان رجل يفكر باحثا وتلوح له ظلمة هي أقل مما هم فيه من الظلمات إلا قلدوه .
و ليس تاريخ الأمم الغابرة ببعيد . كل هذه البلايا أساسها اعتناق دين باطل فمحا الله تلك الظلمات والضلالات عمن اقتدوا بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكان كل نبي إذا مات انتسخت شريعته وضعف أتباعه عن تأييد سنته وانتشار دينه، حتى بعث الله خاتم النبيين بالحق بشيرا، ونذيرا . وسراجا منيرا .
و أراد الله تعالى أن يبقى نوره عليا ودينه جليا، ولكن لا يزال على الأرض أمم أشرقت عليهم تلك الأنوار فعميت عنها عيون عقولهم التي هي أقل من عيون البهائم، ونشأ بينهم رجال مفكرون يبغضون ما جاء به رسول الله ﴿-;- -;- وآله﴾-;- من الحق تقليدا لآبائهم، لأنه لا تقبله عقولهم فمالوا بحسب الظلمة الطبيعية فيهم، والعصبية التي اكتسبوها بمعاشرتهم لآبائهم وهموا أن يرجعوا بالإنسان إلى ما كان عليه من الظلمات قبل البيان فقرؤا كتب اليونان، والفراعنة، والفينيقين، والفرس، والهنود، والصينيين وتلك الأمم لم يبعث الله فيهم رسولاً ولا منهم وكانوا يتخبطون خبط العشواء في البحث عن الحق الذي هو مقصد الإنسان، ومن أين لتلك العقول أن تصل إلى الحق من غير الحق جل جلاله ؟! إن الله تعالى أغنانا بالقرآن الجليل، الذي سجدت له عقول فطاحل البلغاء، وانقادت لنوره أهل العقول السليمة واستبانت لنا به حقيقة الإنسان وحكمة إيجاده وإمداده . بلغ بهم الجهل بحقيقتهم، والعمى عن نور مبدعهم وخالقهم، إلى أن جعلوا أصل الإنسان قردا، وإنا لنكره أن نرى إنسانا يعتقد هذه العقيدة حزنا على تلك الصور الإنسانية كيف تنحط إلى الدرك الأسفل من النار وهي مؤهلة أن تكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر ؟!.
-4-
ثم يختم مقاله بقوله: "وكان الروائى الإنجليزى (وليام جولدنج) الفائز بجائزة نوبل للأدب عام 1983من بين الذين انحازوا للأساطير المصرية فكتب ((كنتُ أعتقد فى رع وإيزيس وأوزير أكثر من الثالوث الأقدس)) كتب ذلك لأنه اقتنع بأنّ التعددية فى الديانة المصرية (قبل كارثة أخناتون الذى دعا لإله واحد " آتون") أفضل من التوحيد ، إذْ أنّ الأولى تعترف بالآخر المختلف ، بينما الثانية لا تكتفى برفض المختلف وإنما تـُطلق عليه (كافر) أو (وثنى) إلى آخر تلك المصطلحات غير العلمية". اهـ
مرة أخرى.. تحميل الدين خطايا أتباعه، وتكليفه بدفع فاتورة التخلف الثقافي، مع أنه أحد عناصر الثقافة وليس كلها! حتى لو كان أبرزها، لكنه ليس هو المسئول عن التخلف الفكري والثقافي!
و"التكفير لا يعود إلى الدين وإنما إلى التديّن المغلوط"..
والتكفير نوع من أنواع وألوان الإقصاء والعصبية، وليس هو مساوٍ لها.. فهناك التخوين، والتحزب، والرمي بالعمالة والرشوة الخ.. صراع مصالح!
فالإقصاء والتخلف الفكري والعصبية قد قد تكون للجنس كالنازية والفاشية، وقد تكون العصبية للمذاهب الوضعية الأرضية التي ليست بدين كشيوعية لينين وستالين، وقد ترتب عليها (إقصاء = تكفير) ثم تبعها قتل وبحور من الدماء، ولم نسمع عنها من أفواه السادة الأشاوس أي كلمة أو حرف ! وقد تكون العصبية للون أو أرض أو وطن أو عقيدة دينية أو أيديولوجية معينة، ولم يقل أحد أن الدين له علاقة بكل هذا..! بل أكاد أشعر أن متمثقفينا يكادون يحمّلون الدين أوزار الحروب السياسية كافة وخصوصاً الحرب العالمية الأولى والثانية والثالثة أيضاً إن شاء الله تعالى التي ستفجر الجرح العتيق وتخرج الضغائن القديمة بين المعسكرين الشيوعي الشرقي الذي سقط ونظيره الرأسمالي الغربي الذي سوف يسقط حتماً خلال سنوات معدودة بحسب تنبؤات الخبراء الإستراتيجيين الغربيين أنفسهم إلا إذا حدثت معجزة!وطبعاً هم لا يؤمنون بالمعجزات، ولذلك فسوف يسير النظام كما يؤمنون.
لقد جاء الإسلام في القرن السادس الهجري وقضى على كل هذه العصبيات وأقام مجتمعاً مؤسساً على التآخي التراحم والتعاون على البر والتقوى، وحرية الإعتقاد والعدل، والمساواة.. وكانت هذه الحقيقة كأجلى وأوضح ما تكون، مما جعل جوستاف لوبون يقول : (ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب)، ذلك لأن تاريخ المسلمين وإن كان فيه غبار، إلا أن تاريخ غير المسلمين - خصوصاً تاريخ أوروبا - فيه طين وقار وزفت، يجعل تاريخ المسلمين - بالمقارنة به - كأنصع ما يكون البياض. وكانت الفتوحات الإسلامية سبباً لتطهير الأرض من خرافات الوثنية وعبادة مظاهر الطبيعة، وفتح الطريق أمام الإنسان لكي يرفع رأسه من سجوده لها ويشرع في تسخيرها واكتشاف كنوزها والإنتفاع بها كما أراد الله له..
هكذا سارت حركة التاريخ.. وما كان للحضارة الحديثة أن تظهر لولا دعوة التوحيد والعزة والكرامة التي جاء بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلب الفكر الإنساني رأساً على عقب، وظهراً لبطن.. ولولا شعلة الأندلس التي اقتبست مبادي نورها من مكة والمدينة، حيث لا علم ولا حضارة، وإنما نور رباني سطع في تلك البقعة عن قصد، لئلا يقال أنها اقتباس عن حضارة سابقة وفلسفات عريقة.. لولا شعلة الأندلس لما كانت الحضارة الغربية الآن، ولولا هذا النبي الكريم لما كانت شعلة الأندلس.. ولكان العالم الآن غير العالم، والأرض غير الأرض، والحرية والعدل والمساواة لا صوت ولا حس.
#إسلام_بحيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟