|
إصلاح سوريا ولبنان للإصلاح بينهما
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1308 - 2005 / 9 / 5 - 10:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في تذبذب الوضع على المعابر الحدودية بين سوريا ولبنان ما يدل على تعذر، إن لم نقل امتناع، رسو العلاقات بين البلدين على أسس تتباين مع علاقة الهيمنة والاستتباع قدر تباينها مع القطيعة والعداوة. ويبدو الامتناع ذاك وثيق الصلة بتكوين نخبتي السلطة في البلدين: النخبة العسكرية الحزبية في البلد الأكبر، والنخبة الطوائفية في البلد الأصغر. بالخصوص مساعي الأولى نحو المركزية والهيمنة، والتبعثر الشنيع للثانية، الذي يغري من يرغب باللعب بانقساماتها، ويسهل وقوع أطراف منها دائما تحت إغراء إظهار استقلالية مبالغ فيها أو تبعية مفرطة حيال "الأخ الأكبر". وبدوره يتصل تكوين النخبتين باختلاف نظامي الحكم في البلدين، وربما قبله باختلاف التكوين التاريخي لكل منهما. وقد يشهد على ذلك أن علاقتهما لم تخل من حرج وتوتر ايام كان نظاماهما السياسيان متقاربين. وقد يشهد عليه ايضا أن زوال المشكلات بينهما تم فقط حين خضع البلدان لنظام واحد. هل في ذلك ما يشير إلى أن العلاقة السورية اللبنانية غير قابلة للإصلاح ما دام لبنان مستقلا؟ زوال المشكلات كما نذكر كان زوالا لسيادة لبنان. والحال إن سوريا في زمن الهيمنة (1989-2005) لم تقترح ولم تقدم للبنانيين فرصا لتنظيم الحياة والعمل والسياسة تقلل من تعلقهم بسيادة بلدهم. لقد حصل العكس: إناطة مشكلات لبنان جميعا بالهيمنة السورية ورفع مطلب السيادة إلى مرتبة المطلق. المطلق هذا مسؤول عن "نسبنة" الاعتداءت التي تعرض لها عمال سوريون. قداسة السيادة، مثل كل القداسات، تقلل من قيمة الحياة البشرية، وتبيح اعتبار "السوري" عدوا، وقد تجعل الاعتداء عليه بطولة. الآن ثمة بلدان مستقلان. والمسألة هي كيف تبنى أفضل العلاقات بينهما؟ كيف يمكن أن يتزاور أهلوهما كإخوان ويتحاسبوا كأغراب، إن حاكينا لغة حديث نبوي؟ بسرعة، استقرت علاقات البلدين على منوال قديم: سوريا تخشى أن يكون لبنان "مقرا أو ممرا" لقوى معادية لها أو لنظام حكمها، ولبنان يخشى أن تطويه سوريا تحت جناحها وتهيمن عليه وتعبث باستقراره. فإذا لم تكن أي من الدولتين "ثورية" تريد تغيير نظام الدولة الأخرى، وإذا لم تكن أي من الدولتين "قومية" تنكر شرعية وجود الأخرى، فإنه يتواجه هاهنا حقان وليس حق وباطل. السياسيون الحكماء يقفون هنا، ويدعون إلى الحوار والتفاوض والتفاهم ويطورون آليات لمعالجة المشكلات وحلها بالمعروف، أي بالسياسة. مثابرة لبنانيين على التعريض بسوريا اليوم تلعب دورا يماثل دور مثابرة عراقيين على إدانة نظام صدام حسين، أعني وسيلة سياسيين لحيازة اسبقية "وطنية" في المنافسة على السلطة حيال خصوم داخليين، والتغطية على الافتقار إلى سياسات فعالة لحل المشكلات اللبنانية الاجتماعية والاستراتيجية. هذا فوق كون أكثر المثابرين لا يشعرون بالحاجة إلى التمييز التحليلي أو السياسي بين سوريا ونظام حكمها، ما مثل هدية مجانية للنظام. التمييز هذه هو الثمن الضروري لحماية الحق في نقد السياسة السورية ذاتها، ولنزع تعلل السلطات السورية بمواقف هوجاء عمياء للنيل من الحرية الإعلامية في لبنان. بالمقابل، مثابرة الحكم السوري على الإحساس بالمهانة لخروجه القسري من لبنان تعكس افتقارا إلى النضج ينبغي تداركه. فـ"ملكنا المضاع" اكتنفه "تراكم الأخطاء"، ولم يصن بالحكمة والشجاعة. واستعادة زمام المبادرة كان يقتضي إصلاحا عميقا للدولة. الهروب إلى الأمام والبطش بالمعارضة يبدو، حتى اليوم، هو البديل عن خسارة لبنان. ونرجح أن لا تتأخر الأيام في إبداء محدودية وسوء مردود هذا الخيار. أعاق الحوار بين البلدين في الماضي فائض من "الحب الأخوي"، أغنى عن تنظيم المصالح المشتركة وجعل التفاوض نافلا. الأحباب لا يتفاوضون. لكن هذه أخوة لا سياسية، كانت تغطي هيمنة أحد الأخوين على خيارات وقرارات الأخ الآخر. ويعوق الحوار اليوم عدم الثقة والتعادي ومناخ المواجهة الذي يجعل التفاوض مستحيلا. الغرماء أيضا لا يتفاوضون. لكن هذا منطق ضيق الأفق، منطق قبائل لا منطق دول. أيام الهيمنة السورية في لبنان كان العقلانيون السوريون واللبنانيون يأخذون على العلاقة بين بلديهم طبيعتها غير المتكافئة. كانت الهيمنة حائلا دون تطوير العلاقة السورية اللبنانية بعيدا عن قلق ما قبل 1976 وعن هيمنة ما بعد 1989. انطواء تلك الصفحة كان عودة إلى نقطة الصفر عوض أن يكون تقدما للحرية وانتصارا للعدالة. التحدي الذي يواجه الوطنيين العقلانيين هنا وهناك هو الحيلولة دون ان يقود انتهاء علاقة الهيمنة إلى انتهاء العلاقة ذاتها. أوسع تقارب (نكاد نقول وحدة) في المجال الاقتصادي أولا واوسع تنسيق في المجال الاستراتيجي هو التحول الذي قد يحقق القطيعة الإيجابية مع الأشكال السابقة من العلاقة بين البلدين. لبنان الذي يخشى الهيمنة له مصلحة قوية في تقارب اقتصادي مع سوريا، وبالخصوص في سياق تحول الاقتصاد السوري بعيدا عن الدولانية. وسوريا التي تخشى المخاطر الأمنية من لبنان قد تجد في التنسيق على المستوى الاستراتيجي والإقليمي، وبالخصوص في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، ما يلبي مطالبها ويهدئ مخاوفها. تقوية الدولة في لبنان أمر مهم في هذا السياق، وكذلك درجة من لبرلة الدولة في سوريا. ينبغي الا يعود لبنان اقتصادا محاطا بدولة، وسوريا أمنا لديه اقتصاد. ولا يناسب ان ترتد سياسة لبنان إلى إدارة أعمال، وسياسة سوريا لا يصح أن تبقى إحدى مشتقات الحرب. ثمة حاجة إلى إصلاح مفهوم كل من الدولتين عن ذاتها باتجاه عقلاني. لبنان في حاجة إلى تقوية الدولة في وجه كل من الاقتصاد والطوائف والهيمنات الخارجية. يقوم حزب الله بدور إيجابي في الحيثية الأخيرة، لكنه يقوي طائفة قبالة الدولة والطوائف الأخرى. وهذه إحدة معضلات لبنان في المستقبل الوشيك. سوريا في حاجة دائمة إلى دولة قوية. لكن لن يجديها أن تثابر على خوض الحرب السابقة ضد معارضين سياسيين. من كل بد، الخطر يأتي من جهة مختلفة هذه المرة. قوة الدولة مطلوبة اليوم إزاء احتمالات التخلخل الاجتماعي الأهلي، وفي مواجهة مصالح خصوصية متحصنة بالدولة. عقلنة النظام تمر بصورة محتومة بضرب نظام المصالح هذا وبالارتفاع فوق الولاءات والانحيازات الإهلية. إن في سوريا او لبنان، هذا ليس برنامجا ثوريا، لا بالمعنى القومي العربي ولا بالمعنى الديمقراطي. إنه مطلب عقلاني مرتبط بالنجوع وبإمكان بلورة سياسات متسقة. أما الاعتقاد بأنه يمكن تركيب علاقات عقلانية وندية دون اي تغيير في الحساسيات وهياكل السلطة، في سوريا كما في لبنان، فيصدر عن سوء نية أو عن مصالح فاسدة. انتصار العقلانية ممكن. للأسف لا يتشجع المرء كثيرا في التعويل على نخبتي الحكم في البلدين.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سياسة الفرط والبعثرة: إعادة احتلال الميدان العام في سوريا
-
من أين يأتي التغيير؟ جدليات الداخل والخارج في -الشرق الأوسط-
-
السيف والندى: تأملات سياسية
-
في تضاعيف المسألة الإرهابية
-
الإسلاميون ومبدأ الشرعية المتساوية
-
علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟
-
علمانية وإسلامية وديمقراطية في السجال السوري
-
حقائق وزير الحقيقة البعثي
-
الانحلال حلا: تأملات لا عقلانية في الشرط العربي
-
البعثية السورية: من الإرادوية إلى الإداروية
-
استعصاء
-
وحيدا على قيد البقاء المطلق: حزب البعث في أسر السلطة
-
هايل ابو زيد: آخر ضحايا نظام الاستثناء الأمني
-
كلام على هيبة الدولة
-
بين السلطة والإخوان: لا بديل عن التفاوض
-
مخرج عقلاني من وضع مقلق
-
حزب الشعب الديمقراطي السوري وتحدي بناء الذات
-
المـوت الضـروري لـسـميـر قصيـر
-
شعارات حرب في شوارع المدينة!
-
ديمقراطية وتنمية في الشرق الأوسط!
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|