|
الأيتام الأرمن في مصر (1923-1927)
عطا درغام
الحوار المتمدن-العدد: 4666 - 2014 / 12 / 19 - 09:56
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
سببت الحرب الكمالية في الأناضول وقيليقية وتنازل فرنسا عن الأخيرة لحكومة أنقرة في 20أكتوبر 1921 نزوح موجات أرمنية جديدة لاجئة إلي مصر . بيد ان الحكومة المصرية قد أغلقت أبوابها في وجوههم. ورغم توسلات المجلس الملي الأرمني بالقاهرة إلي الحكومة للنظر في أحوالهم من الناحية الإنسانية ، إلا أنها أبت قبولهم بشدة. ففي ذلك الوقت، كانت مصر تعاني من أزمة سكانية شديدة في خط متواز مع استفحال البطالة . ناهيك أن تدفق المهاجرين بلا قيد ولا شرط قد أوقع بالبلاد أضرارا معنوية ومادية كثيرة. ولذا ، تعالت أصوات الوطنيين الغيورين تناشد الحكومة "بقفل أبوابها في وجوه المهاجرين الذين ثبت أنهم... يعملون علي الإخلال بالأمن والنظام". زد هنا أيضا ، أن مصر لم تعد تابعة للدولة العثمانية حيث كان يدخلها الأرمن آنفا بصفتهم رعايا عثمانيين. ورغم تشديدات الحكومة المصرية علي عدم قبول الأرمن اللاجئين ، إلا أن كثيرا منهم نجحوا في التسلل إلي مصر بفضل مساعدة أقاربهم المستقرين بالبلاد. ليس هذا فحسب ، فقد تلقت مطرانية الأرمن الأرثوذكس بالقاهرة التقارير تلو الأخري في عام 1922 حول تردي أوضاع الأيتام الأرمن اللاجئين إلي سورية ولبنان. ولذا ، قررت دعوة عددا منهم إلي مصر وتسليمهم إلي الأسرات الثرية كي يتبنوهم. بيد أن وجود هؤلاء اللاجئين والأيتام قد اصطدم باتجاه الحكومة المصرية إلي تقنين المهاجرة إلي مصر. لم يكن بمصرآنذاك قوانين نافذة المفعول بخصوص الهجرة إليها. ولهذا، بقيت " مفتحة الأبواب لكل قادم ، دون تخيير أو تفريق بين من يجلب الخير علي البلاد... وبين من ينشر الفساد في أجوائها". ومن ثم ، انساب عليها سيل جارف من المهاجرين الأجانب الذين انسلوا إليها من كل حدب وصوب حتي ملأوا أرجاءها وسدوا سبل العمل وطاقات الرزق في وجوه أبناء البلاد.عندئذ، نادت الصحافة مرارا وتكرارا بضرورة أن يكون لمصر قوانين تنظم حركة الهجرة إليها لا سيما وأنها تقع علي مفرق الطرق ونقطة التقاء بين الشرق والغرب. وربما خففت هذه القوانين من وطأة أضرار نظام الامتياز المعمول به في مصر. هذا ، وقد كثرت شكايات الصحافة والأهلين وازداد إلحاحهم علي الحكومة لوضع قانون يحجم مهاجرة حثالة النازحين الذين يعيشون بالآداب والأخلاق والأموال. ولهذا ، أصدر يحيي إبراهيم باشا رئيس مجلس الوزراء خلال ةوارته(15 مارس1923-27 يناير1924) تعليمات في 5 يولية 1923 تحتم علي كل أجنبي يريد دخول مصر ان يحصل علي تأضيرة جواز سفره من الحكومة المصرية، ولا تمنح هذه التأشيرات للاجانب إلا بعد التحقق من ان حالتهم المالية تسمح لهم بالإقامة في مصر، أو أنهم سيعملون بها شريطة ضمان مالي يقدمه أقاربهم او معارفهم الأجانب المقيمون بمصر. وتجدر الإشارة إلي أن هذه التعليمات آنفة الذكر قد تعدلت إلي قرار نافذ المفعول خلال وزارة سعد زغلول (28 يناير -24 نوفمبر 1924) المعروفة بوزارة الشعب. فقد أصدر محمد توفيق نسيم باشا- وزير الداخلية بالإنابة في هذه الوزارة – قرارا في 7 أغسطس 1924 يحتم علي الأشخاص المقيمين بالقطر المصري من الروسيين والأتراك والأرمن والبلغاريين ممن حضروا ابتداء من أول يناير 1922 ان يقدموا أنفسهم للشرطة في الميعاد والمكان اللذين يحددهما كل محافظ وأن يسجل كل منهم البيانات التالية :اسمه ولقبه وصناعته، ومحل مولده وجنسيته، ومحل توطنه قبل حضوره للقطر المصري، اسم الميناء التي أبحر منها، والميناء التي نزل فيها، ومحل سكنه بالقطر المصري، وطريقة تعيشه ، وأسماء عائلته، وقد حدد القرار مدة لا تزيد عن عشرة أيام لتنفيذ هذا الإجراء. وقد اقتصر هذا القرار علي العناصر سابقة الذكر بسبب ازدياد أعداد مهاجريهم وقتذاك، وهم ممن تفشت فيهم أمراض الشيوعية، وتسممت أفكارهم بمباديء البلشفية، واستحلوا المنكرات ، ولذا ، اقتضت مصلحة الأمن العام معرفة الشرطة بعددهم ومحال سكنهم وطرق نعيشهم. زد هنا أيضا ، أن هؤلاء الأجناس لم يكونوا متمتعين بالامتيازات الأجنبية التي لا تمكن الحكومة من إصدار مثل هذا القرار إلا بعد موافقة الدول صاحبة الامتياز. أثنت الصحافة علي هذا القرار لأنه سوف ينقذ البلاد من عواقب طوفان المهاجرة التي كانت تقضي علي الأدب والأخلاق وعكرت جو الامن طويلا. ورغم انه قرار محصور المدي ولا يجدي فائدة كبيرة ، إلا أنه يعد خطوة في سبيل صد تيار المهاجرين الداهم علي مصر من جميع الجهات. وطالبت الصحافة الحكومة أن تسن قانونا للهجرة يحمي البلاد من أشرار المهاجرين ويخفف تلك المزاحمة الخطرة التي كادت تسد كل سبيل للحياة في وجه أبناء البلاد. وبينما يذهب المهاجرون الأرمن والروس والأتراك والبلغار إلي أقسام البوليس المختلفة لتسجيل بياناتهم طبقا للقرار السابق. طلب توركوم كوشاجيان مطران الأرمن الأرثوذكس من وكيل محافظة مصر محمود بك فهمي النقراشي إعفاء بنات الأرمن اليتيمات من هذا القرار، ويبلغ عددهن "500" يتيمة ، اللائي حضرن من قيليقية إثر حرب الكماليين ووزعن علي المنازل بالعاصمة والثغر للتخديم فيها أو تربيتهن. وقد رأي المجلس الملي الأرمني صعوبة إحضارهن إلي الأقسام لقيد بياناتهن فضلا عن ضيق الوقت المحدد. ولكن ، وكيل المحافظة رفض إعفاءهن. ورغم انتهاء الموعد المحدد لتسجيل البيانات، فقد ظلت أفواج المهاجرين من الأرمن والروس والأتراك تتوافد علي أقسام الشرطة لقيد أسمائهم. وقد بلغ عدد الأرمن ضمن من سجلوا أسماءهم بالإسكندرية "1224" نسمة بنسبة "77%" من إجمالي المهاجرين المقيدين بسجلات محافظتي مصر والإسكندرية وعددهم"2984" نسمة.هذا ، بخلاف الذين تهربوا من قيد بياناتهم، واليتيمات اللائي لم تحسم الحكومة موقفهن. كررت مطرانية الأرمن إلي الحكومة طلب استعفاء اليتيمات الأرمنيات من الوقوع في دائرة قرار المهاجرة. بيد ان الحكومة رفضت استثناءهن استنادا إلي انها لا تقصد من هذا القرار إلا الإحصاء والاستعلام ، طبقا لما يخوله لها القانون الدولي. كما أصدرت وزارة الداخلية في أوائل سبتمبر 1924 بيانا إلي قلم المرور بميناء الإسكندرية ينص علي " منع دخول العاطلين من المهاجرين إلي مصر، ولا يسمح بدخولها إلا لمن يستحق الضيافة من أهل السلوك الحسن ورجال المال والأعمال". وبذا، أضحي وجود اليتيمات الأرمنيات اللائي يمكثن في بيوت الأرمن الأثرياء مشكلة جد شائكة. ولذا ، عاودت المطرانية التماساتها مرة أخري بشأنهن إلي الحكومة. وتجدر الإشارة هنا إلي أن تيارا إنسانيا قد انبثق في طوفان الصحافة المؤيدة بحرارة قرار المهاجرة وعزز التماسات المطرانية.تعلق جريدة " الأفكار" علي موقف المطرانية بقولها :" ونحن إزاء هذا الغرض الإنساني نري حتما علينا أن نضم أصواتنا إلي أصواته. ونرجو حكومتنا التي برهنت في كثير من المواقف علي تقديرها البنات اليتيمات من هذا القرار ، فتضيف إلي خدماتها الإنسانية العديدة خدمات أخري ذات أثر كبير وفائدة عظيمة تعود علي جالية من أعز الجاليات الأجنبية في مصر". وأخيرا ، أمام إلحاحات المطرانية علي الحكومة ومعاضدة بعض الصحف، استثنت الحكومة المصرية اليتيمات الأرمنيات من قرار الهجرة كما سمحت ببقاء سائر اللاجئين الأرمن. ليس هذا فحسب ، بل سمحت للمطرانية بدعوة أيتام آخرين لرعايتهم في مصر. وقد استمرت هذه الدعوة حتي أواخر عام 1927 ، وبلغ عددهم "806" يتيمة و"300" يتيم. وقد أشرفت المطرانية علي عملية تسليم هؤلاء الأيتام إلي العائلات التي تبنتهم بموجب إقرارات وعقود أبرمتها معهم. ولكن إذا كان ثمة قلة من الأيتام قد حالفهم الحظ. فإن الغالبية قد استغلتهم العائلات في الخدمة القاسية . ولهذا ، شيدت المطرانية بناء بحي شبرا في عام 1925 لإيواء الأيتام الذكور وحمايتهم من الاستغلال وإيواء الذين رفض أن يتبناهم أحد.وأيضا ، تأسست اماكن لإيواء اليتيمات في القاهرة والإسكندرية خلال عامي 1928-1929 . وبذا ، تم إيواء بعض الناجين من مذابح العشرينات من الأرمن اللاجئين والأيتام في مصر. وهكذا ، يلاحظ ان حركة اللجوء الأرمني إلي مصر قد تواصلت منذ عام 1896 حتي عام 1927 بسبب انتهاج السلطات العثمانية سياسة إبادة الجنس ضد الأرمن الذين يمثلون العقبة الكأداء امام المشروع الطوراني بدءا من الحميديين ومروا بالاتحاديين ، ووصولا إلي الكماليين. ورغم أن جهود الأرمن اللاجئين في مصر قد تأرجح بين الرفض والقبول، إلا أن مصر في النهاية قد أسهمت بفاعلية في إنقاذ حيوات آلاف الناجين آوتهم بين أحضانها- ولو مؤقتا- لحين زوال الخطر ثم عادوا إلي اوطانهم او هاجروا إلي أماكن أخري. بالإضافة إلي الكثيرين الذين سمحت لهم بالإقامة بين ظهراني شعبها آمنين سالمين. وقد أسهم الأرمن اللاجئون في نمو الجالية الأرمنية المستقرة في مصر.إذ تكونت هذه الجالية من مجموع الأرمن القاطنين واللاجئين إليها الذين لم يبرحوها وانصهروا في نسيج الأرمن المصريين.
#عطا_درغام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأرمن اللاجئون إلي مصر 1896-1906 -7
-
الأرمن اللاجئون إلي مصر 1896-1906 -6
-
الأرمن اللاجئون إلي مصر 1896-1906 -5
-
الأرمن اللاجئون إلي مصر 1896-1906 -4
-
الأرمن اللاجئون إلي مصر 1896-1906 -3
-
الأرمن اللاجئون إلي مصر 1896-1906 -2
-
الأرمن اللاجئون إلي مصر 1896-1906 -1
-
النظم الإدارية للأرمن الكاثوليك والبروتستانت في مصر
-
أمور الزواج والطلاق عند طائفة الأرمن الأرثوذكس في مصر
-
الأحوال الشخصية للأرمن الأرثوذكس في مصر
-
الوضع القانوني للأرمن في مصر-3
-
الوضع القانوني للأرمن في مصر-2
-
الوضع القانوني للأرمن في مصر-1
-
المهن والوظائف التي اشتغل بها الأرمن في مصر-2
-
المهن والوظائف التي اشتغل بها الأرمن في مصر-1
-
النشاط التجاري للأرمن في مصر
-
النشاط الحرفي للأرمن في مصر-2
-
النشاط الحرفي للأرمن في مصر-1
-
النشاط الاقتصادي للأرمن في مصر-6
-
النشاط الاقتصادي للأرمن في مصر-5
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|