أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة إسماعيلي - نداء من أعماق البحر يفتح الحياة















المزيد.....

نداء من أعماق البحر يفتح الحياة


حمودة إسماعيلي

الحوار المتمدن-العدد: 4665 - 2014 / 12 / 18 - 15:10
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"عندما قرأت أشعار رامبو سمعت النداء في أعماق البحر"، موضوع نشرته جريدة الغارديان The Guardian بملحق "الكتاب الذي غيّر حياتي" A book that changed me، وهو للشاعر البريطاني جورج سيرتش George Szirtes (الهنغاري المنبت 1948)، حيث يتحدث فيه عن تأثير الشاعر رامبو في حياته، الأمر الذي يبرز أهمية "الكتاب" كمنعرج بحياة البشر، حيث الكاتب لا يكتب فقط، بل إنه يغير الحياة بنفس الوقت. الكاتب يبني الواقع عبر فتح الحياة من قوقعتها التأزمية نحو فضاءات وآفاق للتحرر. وأهم نقطة يقف عندها الموضوع هي فترة المراهقة حيث بداية طريق النضج عند البشر، يتم غالبا رسمها انطلاقا من تأثير كاتب أو كتاب في حياة الشخص يصطدم به خلال هذه الفترة، حيث ينير له الطريق الغامض والمجهول؛ وحتى بالنسبة لمن لم يتأثروا بكتاب نتيجة لامبالاة أو قلة اهتمام بالأدب، فإنهم غالبا يتأثرون بأشخاص الذين بدورهم تأثروا بكتاب أو كاتب ما. إن الكتابة هي ما يُوجد الحياة بشكلها التاريخي الإنساني، حيث الحياة تجلي للكتابة وتمظهر لها، يكتب الكاتب واقعا، أو يهرب من الواقع نحو الكتابة ـ كما في حالة كافكا ـ حيث تمثل الكتابة طريقة للتكيف مع الحياة، من منظور دارويني. ففي الكتابة خلق وحياة، أو بديل يصبح بدوره حياة.

نص الموضوع كما جاء بقلم الشاعر :

Du muß-;-t dein Leben ä-;-ndern "يجب أن تغيّر حياتك"، يقول راينر ماريا ريلكه في مؤلفه جسد أبولو العتيق Archaic Torso of Apollo، لا تحوير، ولا تغيير بسيط في أسلوب الحياة، ولا مزيد من الجهد، إنما حياتك غيّرها. كل الكتب الجيدة تغيّر حياتك بشكل محترم، إن بتوسيع معارفك والتي بدورها تملك القدرة على تغيير تصوراتك. بعضها يقودك نحو تغيير شامل للاتجاه (الفكري). أعرف شخصا فقد إيمانه الكالوثيكي نتيجة قراءته لسامويل بيكيت. آخر قرر الالتحاق بالجامعة بعدما قرأ جود المغمور Jude the Obscure (لتوماس هاردي). هناك العديد من الكتب المفيدة بالطبع، والمتنوعة. هناك مجموعة من الكتب الجيدة "تفيدني"، غير أن الكتاب الذي أحدث شيئا بداخلي، ولا يزال كذلك كلما أطالعه، هو كتاب البطريق الكلاسيكي : أشعار ومختارات لرامبو، بمقدمة ومنثورات مترجمة لـأوليفر برنارد. لقد كان "الجسد العتيق" بالفعل بمعنى أو بآخر.

كنت قد اتخذت قراراً بأن أصبح شاعراً، لم يكن هذا فقط بالتأثير الذي أحدثه فيّ : لقد كان على نحو أكثر، مفهوماً ثوريا حول معنى كينونة "الشاعر"، ليس بمعنى أخذ صيغة أو صيغتين ساعياً لأن تبدو شبيها بشاب عبقري قدر الإمكان، بل على نحو عميق حتى المستوى الأكثر عمقاً. لقد كان ولا يزال، نداءً في أعماق البحر.

"لست بالشخص الجاد وأنت في سن السابعة عشر" تقول الرومانسية، من قصيدة رامبو حول حب فترة المراهقة. من المساعد إدراك ذلك في مثل هذه السن، طالما أن كل شيء حينذاك لا يبدو شيئا جاداً، خاصةً الحب. تقول لك القصيدة بأن هذه الفتاة جذابة، و"الوهن مُسكر ويذهب مباشرة لداخل عقلك"، وبهذه، بهذه السن، كل شيء يُأخذ. كم كان يبلغ رامبو من العمر حينما كتب ذلك ؟ لم يكن بالكاد قد تجاوز السابعة عشر، بما أنه قد بدأ ينشر قصائده بسن السادسة عشر، وتوقف عن ذلك بالوقت الذي بلغ فيه الواحد والعشرين. الرومانسية كانت على نحو ما (بالنسبة لرامبو)، فارسا متأملاً، متساءلاً ومنقاداً نحو نيران "موسم في الجحيم" و"إشراقات".

يجب أن نتخيل موهبة فذة، شاباً بائساً، مفخرة المدرسة التي يدرس بها، يلف مقاطع شعرية بإحدى الاختبارات ويحوز الجوائز، لكن أيضا ذلك الذي يترك بيته المضجر وتشدّد أمه الديني الخانق، بـشارلفيل، متوجّهاً إلى باريس ليصبح برناسياً*، شاعر البناء الأدبي الأكثر صفاءً، وهو الدور الذي وُهب له على أعلى درجة. لقد صار سنداً للعامة داعماً للشعب. وقد كتب حينها مجموعة من الرسائل الخلابة، والتي يعلن من خلالها أن على الشاعر أن يكون رائياً، ويجب على حواسه أن تُفتن. وتلك كانت المسألة مع بول فرلان Paul Verlaine. حيث الهدف ـ فرلان يصيب ويجرح ورامبو يشرب حد الثمل ـ والسعي. لكن يبقى الأهم من ذلك أن القصائد ذات جرأة وعظمة فاتنة. ثم النهاية ـ أو كما كتب مارتن بيل في قصيدته : "رامبو يتمدد مستلقيا بأفريقيا" ـ ميّتاً بسن الثلاثين، كتاجر، لم يكتب بعدها أي قصيدة.

أوليست هذه بكل بساطة قصة المراهقة ؟ أوليست السبب في وقوع البشر في حب القصائد والمظاهر على حد سواء، ليس فقط سبب حبهم لهذه الفترة ذاتها، حيث الشقاء والملل، بل بسبب حبهم لمعنى المراهقة ؟ أوليست سوى أسطورة بروميثيوس**، حيث يتكرر الأمر مراراً وتكراراً ؟ حيث الحياة ك"فن" استيهامي ؟ غير أنه لا يمكنك أن تحوز الأسطورة من دون أشعار. ليست بأشعار حول النمو ـ إنما حول التدرج والإنتاجية، التنامي والقدرة على النضج داخل منبت فريد مؤقت.

لم أكن بشيء يُذكر، هكذا كشاب. كنت عاديا، مدّعيا، انطوائيا ومترددا. تخيل أن تكون كما كان رامبو، والذي أعرفه جيدا، فقط تخيل. لقد تخيلت قَدَرا جيدا بعد، بسن السادسة عشر والسابعة عشر. ومعظم ما تخيلته كان فشلا وتوقفا عن الفشل. إلى أن وصلت لتلك المرحلة التي لم أعد أريد بعدها أن أظل بائع صحف، أقرأ خلف الشباك، أحلم، ثم نعم أتخيل، وأكافح في صحراء بجزيرة الفشل، حيث يمكن للإنسان أن يسقط بسلام.

ربما أراد رامبو أن يتابع (يستوفي) بعد ؟ لا أعتقد ذلك. أدركت جيدا مقصده حول رغبته بأن يكون شخصا آخر، أن يكون رائياً، حول التشتت حيث تنفلت الحواس متناثرة، حول الرغبة بمغادرة شارلفيل (في حالتي مغادرة الشمال الغربي لضاحية لندن) والأم (من، سامحيني أمي).

بَطْريق رامبو تم تقديمه بترجمات مبتذلة، لكن مع هذا التلميذ الفرنسي والدقة التناغمية لـأوليفر برنارد، تفتحت القصائد أمامي كمفرقعات إعجازية صغيرة. لقد أحببت تلك البطاريق على كل حال، كذلك بودلير، ريلكه، غوته، مختارات الشعر الحديث من مختلف اللغات. لقد كانوا عوالم قائمة بحد ذاتها. لكن في حالة رامبو (بودلير كان كل حلمه) فقد كان الأمر أكثر من ذلك. لقد كان، ولا يزال، إشراقاً ليس فقط على نحو فني، بل مهما بدى في الأمر من مفارقة، فقد كان إشراقاً فكرياً.

حقيقة، لم أقصد كتابة الأمر على هذا النحو بالضبط، لكن هكذا كتبته الآن على أية حال. هناك حيث يجب أن يكون شيء ما بعمق الفن، إنه الإنزعاج، عدم بلوغ الرضى، التطلّب، مع هذه الحماسه للمراهقة المتزمتة. ليس هناك من "أنا" بهذا المكان : إنها هناك بمكان آخر. حيث الحواس مشتتة بحق، وهناك ربما شيء ما مرئي كأنه هناك، شيء متهكم بشكل قاتل حول التصوارت الخاصة، والتي رغم كل ذلك تصورات. هذا التهكم يشتعل داخل رامبو، حيث يمنح الفن. أما نحن فلا. تجلّي رامبو هو حينما يكتب.. كمرشد، صارم، سيء، وحشي، رائع، وحقيقي.


When I read Rimbaud’s verse I heard the call at the bottom of the sea
- George Szirtes
The Guardian : Sunday 31 August 2014.

هوامش :

* البرناسية : مذهب شعري، يمثل مرحلة انتقالية بين الرومانسية والرمزية، فمن الذاتية والانطواء على النفس مروراً بالوضوح والرقة وصولاً إلى مرحلة التوازن مابين الاثنين أي إلى الرمزية أخيراً - (أحمد صالح يساوي - الفرات).

** بروميثيوس : إله بالمثيولوجيا الإغريقية، حيث عاقبه زيوس على السرقة، بأن ربطه بصخرة بجبال القوقاز، مسلطا عليه نسرا ينهش كبده كل يوم، ثم يتجدد كبده بالليل، كمعاناة لا تنتهي إلى أن قام هِرَقل (هيراكليس) بتخليصه.



#حمودة_إسماعيلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف يقوم أبرز العلماء بفك أعظم ألغاز الحياة ؟
- علم نفس الفيسبوك
- الطبيعة الإلحادية للإله
- الهلاوس، الجنون، وألاعيب العقل البشري
- الكذب والنفاق هما أكثر السلوكات ممارسة في العالم
- حظ الجميلة وحظ القبيحة
- تقديس المغاربة للغة الفرنسية ونقد المهدي المنجرة للموقف كرفض ...
- هل طعن الإسلام نفسه بعد الربيع العربي ؟
- ما الذي تقدّمه الرسوم المتحركة (الكرتون) للأطفال ؟
- كل أنثى عاهرة
- إشكالية الثقافة العربية : أزمة دينية أدّت لتخريف سياسي
- تلاعب المسلمين على أنفسهم : بين الآيات الشيطانية والداعشية
- تاريخ الداعشية : أو قولبة الإسلام إجراميا
- التشرذم النفسي : أو حين يصبح الشخص عدة أشخاص دون وعي
- حقيقة : يخلق من الشبه أربعين
- التفسير المنطقي للضيق النفسي
- مصائب سوريا عند المتأسلمين فوائدُ
- عبد الباري عطوان وتأليه صدام حسين
- منطقة الشرق الأوسط.. من مهبط الأنبياء لمهبط الصواريخ
- البلادة كآلية نفسية لتحمّل الواقع المر


المزيد.....




- مزارع يجد نفسه بمواجهة نمر سيبيري عدائي.. شاهد مصيره وما فعل ...
- متأثرا وحابسا دموعه.. السيسي يرد على نصيحة -هون على نفسك- بح ...
- الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف على أطراف م ...
- السيسي يطلب نصيحة من متحدث الجيش المصري
- مذكرات الجنائية الدولية: -حضيض أخلاقي لإسرائيل- – هآرتس
- فرض طوق أمني حول السفارة الأمريكية في لندن والشرطة تنفذ تفجي ...
- الكرملين: رسالة بوتين للغرب الليلة الماضية مفادها أن أي قرار ...
- لندن وباريس تتعهدان بمواصلة دعم أوكرانيا رغم ضربة -أوريشنيك- ...
- -الذعر- يخيم على الصفحات الأولى للصحف الغربية
- بيان تضامني: من أجل إطلاق سراح الناشط إسماعيل الغزاوي


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة إسماعيلي - نداء من أعماق البحر يفتح الحياة