أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عادل الحامدي - فصول من حياة حرفي معاق















المزيد.....

فصول من حياة حرفي معاق


عادل الحامدي

الحوار المتمدن-العدد: 4664 - 2014 / 12 / 16 - 23:56
المحور: المجتمع المدني
    



تعود معرفتي بصديقي "" علي " – معاق سمعيا ونطقيا – الى منتصف الثمانينات في الجرابة وهي منطقة حرفية في وسط المدينة العتيقة بالقيروان –وسط تونس -...انذاك كان العديد من المعاقين وابناء الطبقات الفقيرة ممن حرموا من حظهم في متابعة التعليم وانسدت في وجوههم ابواب التشغيل يجدون ملجا من البطالة والخصاصة في ممارسة الحرف اليدوية وبالاخص المعاقين سمعيا منهم ....ورغم ان الباعث على تشغيلهم كان الوازع الديني لدى الاعراف ورغبة في نيل الاجر الاخروي من خلال الاحسان الى هؤلاء المنكوبين اكثر منه اعترافا بحق هذه الفئة في المواطنة و الحصول على مكان في الدورة التشغيلية فان الوضع عموما كان مقبولا ..كان دولاب الاعمال دائرا وهناك نقود تدخل الى الجيب كانت على بساطتها تساهم في ابعاد شبح الخصاصة ...يقول " علي" ذو القسمات الطيبة والنظرات القنوعة مستعملا الاشارة البسيطة لتوضيح ما يريد قوله :لم اكن محتاجا الى اي نوع من التعامل او التواصل مع الاخرين في عملي ..كل ما كان مطلوبا مني هو بذل الجهد البدني ورغم ان احساسي بانني كنت اشبه بماكينة شغل لدى مشغلي كان مرهقا لنفسيتي فقد كنت اشعر وقتها بالراحة من مسؤوليات كثيرة تحتم علي ان اواجهها فيما بعد في سياق رغبتي في الاستقلال بنفسي والخلاص من ذلك الشعور المزعج
في سن ال38استقل " علي" بنفسه في محل صغير اكتراه حيث مارس النسيج اليدوي وانشا عائلة تتركب من زوجة " ز" واربع بنات وطفل سيصاب في سن الشباب باعاقة عضوية افسدت حسابات الرجل وحطمت اماله في شيخوخة امنة ..اذ كان يمني النفس برؤية فتاه وقد اتم دراسته وتخرج ونابه في اعالة العائلة وتامين مستوى معيشي لها لم ينجح هو في الوصول اليه حيث ان ازدهار العمل الحرفي لم يتواصل طويلا وبدا الكساد يضرب ضرباته حتى جاءته الضربة الاكثر ايلاما ...يتذكر " علي " بمرارة وحزن بالغين حادثة اليمة جدت قبل خمس سنوات لابنه الوحيد محمد وخامس اخوته وحولته الى مقعد – جلطة دماغية في سن العشرين نتج عنها شلل تام في الاطراف السفلية والجانب الايسر وعسر في النطق تواصل لسنوات ..ورغم ان الشاب يبدو حاليا في صحة جيدة بالنظر الى اشراق محياه وامتلاء وجهه بالحيوية فهو عاجز عن الحركة بمفرده ..وان يكن قد بدا عليه بعض التحسن بعد 5 سنوات من الاصابة حيث صار بمقدوره القيام ببعض الحركات فهو لا يزال بعيدا عن العودة الى صحته السابقة وممارسة حياته الطبيعية وما سببته اعاقته من انهاك نفسي ومادي لوالديه خلف اثارا عميقة في حياتهما وصبغها بصبغة الحزن الدائم ...
-----------------------------.
الشاب" محمد" لا يزال يعيش الى يومنا هذا على سراب زرعه في نفسه احد رؤساء حكومات ما بعد الثورة المغدورة ..يقول محمد : في المستشفى حيث كنت اخضع لحصص تمسيد في السنه الاولى من حكم الترويكا زارنا رئيس الحكومة (....) وسلم علينا بالقبلات وقال لي بالحرف الواحد سنتابع علاجك وعندما تشفى ستشتغل بالتاكيد ...فذلك له اولوية مطلقة في برامجنا ...وعبر محمد عن اعجابه وانبهاره بشخصية ذلك السياسي وما بدا له منه من تواضع واهتمام ..ومثال محمد في غلبة العواطف على احكامه وانخداعه ببريق الاقوال التي نثرها الحكام الجدد كمثال الكثيرين الذين لا يزالون يحلمون بجنة ارضية تصنعهاالاكاذيب وتصديق السذج لها ..قد يكون محمد بعد كل هذه السنوات تفطن الى انه يطارد اضغاث احلام حيث انه لم لم يشف و لم يشتغل و لم يلقى رعاية مهما كان مستواها من الحكام الجدد ولا وجد لنفسه مكانا في برامجهم الا انه بحاجة دائما الى ان يخادع نفسه و يتحايل على حقيقته ليتجنب مواجهتها و انعكاساتها على نفسيته الهشة فيحيل الامر الى المقادير الالهية وما يتبع ذلك من استسلام لواقع اقوى منه او هكذا خيل اليه فذلك الضرب من التفكير يريح نفسيته المتعبة
-------------------------------
في الدور العلوي من المنزل الذي اقامته شقيقته المتزوجة والمقيمة بالعاصمة تقيم شقيقة محمد الاخرى " ح" التي لاذت من حياة الخصاصة هي وزوجها لتقيم في منزل اختها مقابل ما تيسر من المال تدفعه لابيها الذي لا يطالبها بشئ عادة واحيانا يتعذر الدفع بسبب الخصاصة وبطالة الزوج مما يضع هذا الاخير في موضع محرج امام نفسه وامام ابيها ..فهو خجل من نفسه على الدوام ويشعر بانه ضيف ثقيل واحساس المهانة لا يطاق ...يقول الزوج وينظر الى افق لا يوحي بشئ ثم ينكس نظراته كانه يعجز عن استيعاب ذلك الامتداد وما يكتنفه من خواء يحيله على حياته الحاضرة
--------------------------------------
قسمات وجه " علي" الموحية بالطيبة تتلاشى وتحل محلها نظرة كئيبة تعكس ما يختزنه الرجل من مرارات حيال قساوة الواقع وصعوبة المعيشة وانسداد افاق المستقبل واحساسه التام بالعجز امام الانهيارات المعيشية التي مثلت طريقا سريعا نحوالاحتياج المذل ...تمر امام عينيه بانوراما حياته ويتذكر بحسرة كيف كانت الجرابة وكيف اصبحت ...الى حدود منتصف ال80كانت المنطقة تعج بالنشاط الحرفي والحرفاء لا ينقطعون عن ارتيادها وسوقها التي تنعقد يوم السبت من كل اسبوع تمتلئ بمختلف المنتوجات الحرفية الجميلة .ثم جاءت الخيارات النوفمبرية التي حطمت حياة متساكنيها وحولت الجرابة الى خرائب تعبث فيها الفئران والارواح الشريرة والمنحرفون بعد ان هجرها اغلب الحرفيين اما بالانتقال الى الرفيق الاعلى وعزوف الشباب عن العمل اليدوي واما بكساد البضائع وغزو المنتوجات المستوردة اسواقنا ما اعجز اهلها عن المنافسة في غياب ابسط اشكال الدعم من طرف من بيدهم زمام القرار في الجهة التي تركتهم لمصيرهم المحتوم ..المضحك المبكي ان بلدية القيروان قامت منذ سنوات بعملية تهذيب لانهج وشوارع المدينة العتيقةولم تلتفت الى حالة الاحتضار التي كان يعيشها حي الجرابة ولا عنت هي او اي من الجهات ذات الصلة بحالة البؤس التي اصبح عليها الحرفيون كان الحجارة كانت ابجل من الانسان او كان الانسان اخر ما يعنيها فظلت الدكاكين تغلق الواحد بعد الاخر بفعل انحسار عدد الحرفاء وتحيل العاملين بها واعداد كبيرة منهم من المعاقين على البطالة ومنها على الفقر المدقع ...وحدهم الحرفيون الذين لجؤوا الى العمل في اطراف المدينة والضواحي كان حظهم افضل لبعض الوقت ( لبعض الوقت فقط اذ لم ينجحوا في نهاية المطاف في الافلات من مصير مماثل للجرابة)مستفيدين من علاقات شخصية تربطهم باهالي الريف حيث النساء الريفيات الى حد زمن غير بعيد مازلن متمسكات بمنتوجات الصناعة التقليدية وحيث مازلن قادرات على توفير المواد الاولية اللازمة لاستمرار هذه الحرف ولكن التحولات العنيفة التي عرفها مجتمعنا في نمط حياته وغلبة خيار الخوصصة التي لا تعبأ بالحفاظ على نمط حياة سليم يحيا في ظله الناس بقدر ما يهمها الربح الفاحش لاصحاب رؤوس الاموال وانحسار دور الدولة وموجة التفقير التي تعرض لها الريف وادت الى انهيار المستويات المعيشية دفعت المراة الى التخلي عما كانت تمارسه من انشطة تساهم في تحريك دورة الحياة في مفاصل الصناعات التقليدية والخروج الى العمل الفلاحي المضني في مزارع كبار الملاكين باجور زهيدة او العمل لدى السماسرة لتمكين هؤلاء من جني مرابيح طائلة ...خديجة – مثلا- تجد في العمل لدى احد هؤلاء السماسرة مصدر دخل تعين به عائلتها ..لقد حول السماسرة اغلب العائلات الى اجراء لديهم وبالسعر الذي يريدون حيث انه بدلا من التعامل مع المعامل يقوم الفلاحون في العديد من ارياف القيروان من منطلق عدم ادراكهم لخطورة وخبث الدور الذي يلعبه هؤلاء السماسرة ورغبة في بيع منتوجهم في اسرع وقت ببيع الفلفل الاخضر المعد للتحويل وغيره من المنتوجات الفلاحية اليهم وهؤلاء السماسرة يقوموم بتشغيل " خديجة" ومثيلاتها من الكادحات للقيام بعملية تنظيف الفلفل وافراغه من الحبوب ما يكلفها ساعات طويلة من المجهود المضني لقاء دنانير معدودة فيما يتحول اولئك السماسرة سريعا الى اثرياء تكتظ جيوبهم وارصدتهم بالاوراق النقدية ويشرفون على عمل الاجيرات من خلال نوافذ " الميغان" التي اشتروها من وراء عرق " خديجة" ومثيلاتها من البائسات ...وهكذا بانهيار نمط حياة المراة الريفية واقحامها في دورة من الاستغلال والاستنزاف لحساب اثراء الخواص انهار قطاع الصناعات التقليدية وفقد الحرفيون سوقا يروجون فيها منتجاتهم ومصدرا يمدهم بالمواد الاولية اللازمة لاستمرار صناعتهم
--------------------------------------
" علي " المكبل بصممه وعجزه عن التعبير حاليا شبه عاطل عن العمل وهو في ال65 من عمره وفي كفالته ابنه المقعد يفتح دكانه يوميا ويجلس امام بابه متنقلا بنظراته بين ارجاء دكانه المقفر والشارع الممتد امامه منتظرا أملا يتمثل في حريف لن ياتي ابدا ..يقول مستعملا اشارته البسيطة : أشد من البطالة الاحساس الدائم بالوحدة وانعدام الوزن والقيمة ما يجعلني احيانا اعتقد انني اعيش في صحراء وليس في مجتمع وليس في ظل دولة ترعى مواطنيها ..سألته : عدا وعود رئيس الحكومة (....) التي انقضت عليها 3 سنوات هل التفت اليك احدا ممن هم في الحكم اليوم او من سبقه ؟؟يلوح بيده هازئا :
انهم لا يعتبروننا بشرا حتى فنحن المعوقون من ممارسي الحرف اليدوية ( واين هي تلك الحرف الان ؟؟) نجد انفسنا بحكم الواقع والمعاملة التي نلقاها اينما توجهنا اشبه بمواطنين من الدرجة الثانية او الثالثة ونحاذر " الفوسي" الذي يتربصون بنا لالقائنا فيه بل سنظل في اعتبارهم وممارساتهم دون منزلة الانسان حتى وان ادعوا انه " كائن مكرم " في الملتقيات التي يكثر فيها تلميع الوجوه ...
ترى هل ادرك صديقي " علي" بذكائه الفطري ان اغلبنا بحكم الاختيارات اللعينة التي تضع الربح لحساب اقلية ناهبة هدفا اوحدا لها ونحن مجبرون على الانقياد لها والعيش في لفحها ومكابدة حرها قد صرنا فاقدين لانسانيتنا وقدرتنا على ان نحيا بكرامة وما علينا سوى الانقضاض لاسترجاع تلك الانسانية والكرامة



#عادل_الحامدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف نقتل في اجيالنا الصاعدة روح الاختلاف ونحولها الى ببغاوات
- - احزان سعيدة - رواية حول عمل ومعاناة النساء في االارياف الت ...


المزيد.....




- كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
- اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
- السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في ...
- ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
- السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير ...
- غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا ...
- شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
- هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و ...
- ممثل حقوق الإنسان الأممي يتهرب من التعليق على الطبيعة الإرها ...
- العراق.. ناشطون من الناصرية بين الترغيب بالمكاسب والترهيب با ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عادل الحامدي - فصول من حياة حرفي معاق