بدا منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، وكأن اليسار الماركسي قد تلاشى، واختفت أفكاره وكل القيم التي كان يطرحها، بعدما كان قوة هامّة في الصراع الواقعي، وكان فاعلاً في نشر الفكر الاشتراكي والدفاع عن الاشتراكية، منذ تأسس بداية عشرينات القرن الماضي (برغم كل الخطايا التي ارتكبها منذ نهاية الثلاثينات فيما يتعلق بوعيه الواقع العربي. وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا تجاوز التكوين الإقطاعي وطرق التطور، والمسألة القومية، ومنها القضية الفلسطينية..). وكذلك حينما «تجدّد» نهاية الستينات بنشوء «اليسار الجديد»، الحالم بتجاوز مشكلات الماركسية القديمة، وبلعب الدور ذاته الذي لعبته الماركسية الصينية والفيتنامية والكوبية، والجيفارية..الخ.
هذا التلاشي لم يأت فجأة، فإذا كانت الحركة الماركسية القديمة (الأحزاب الشيوعية)، بمفاهيمها ونشاطها، تخبو منذ ستينات القرن الماضي، رغم محاولات «التجديد» التي طالت بعض أحزابها، فإن «اليسار الجديد» انطفأ سريعاً. وأشير هنا إلى بداية انحدار بدأ منذئذ، وجاء انهيار المنظومة الاشتراكية أعوام 1989 – 1991 ليكمله، مؤشراً على «نهاية الفعل»، وفاتحاً مسار تشتّت، وحالات ضياع وتساؤل وشك وكذلك «ارتداد»، رغم استمرار «أحزاب» و«تجمعات» و«قوى». ليبدو وكأن اليسار الماركسي قد انتهى وبهُتت أفكاره وتشوشت وتاه مناضلوه في صحارى العولمة، وأمواج اللبرلة.
إذن، المسألة تتعلق بمشكلات قديمة، ربما نشأت مع نشوء اليسار الماركسي، وجعلته عاجزاً عن أن يصبح قوة فعل، أي قوة تغيير، وان يبقى "في الصف الثاني"، أو على هامش الحركة الواقعية (رغم أهمية الدور الذي لعبه). مما جعل تلاشيه وتشوّش أفكاره، وبالتالي التشويش على الماركسية والاشتراكية، أمراً محتماً، خصوصاً مع صيرورة التحوّلات الواقعية، ونشوء تناقضات جديدة. ومن ثمّ مع انهيار «مثاله» الذي كان يستمد منه شرعية معينة، تدعّم وجوده الواقعي وتبقيه على «الخريطة السياسية»، وأقصد «التجربة الاشتراكية» التي كان وجودها يسهّل انتشار مفاهيم الاشتراكية، ويبسّط تلقيها، ويقوي الحركة الماركسية انطلاقاً من التعارض العالمي مع الرأسمالية.
وبالتالي، حينما يجري البحث الآن في إعادة بناء اليسار الماركسي، وهذه مسألة ملحّة، من الضروري تلمس تلك المشكلات، والخروج بملخص تقييمي لهذا المسار، يسهم في توضيح مسار البناء الجديد. أن نبتدئ باستخلاصات عامة، تكون مفتاحاً لأية محاولة جديدة، لكن بعد توضيح السياق الواقعي الذي أسهم في تحقيق ذاك التلاشي، حيث ليس من الممكن أن نعزو التلاشي لمشكلات ذاتية فقط، رغم أهمية هذه المسألة، وأولويتها كذلك. وربما كانت هذه من أولى المسائل التي تحتاج إلى بحث للوصول إلى استخلاصات مركزية، خصوصاً فيما يتعلق بالحركة الماركسية القديمة.
هنا يمكن الإشارة إلى المسائل التالية كاستخلاص لمسار ثلاثة أرباع القرن (1920 - ….) من العمل الماركسي العربي:
1) سنلمس، فيما يتعلق بمسار الحركة الماركسية القديمة (الأحزاب الشيوعية)، اختلالات في وعي الواقع العربي (فيما عدا استثناءات محدودة لم يكتب لها الهيمنة والسيادة)، تتمظهر في ثلاثة مستويات، الأول: يتعلق في الدور الذي كان على اليسار الماركسي أن يلعبه، قيادة الحركة الوطنية العامة أم دعم قيادة البرجوازية؟ ولقد هيمن تصوّر دعم قيادة البرجوازية على سياسات هذا اليسار، مما جرفه في أزمة التطور البرجوازي، وجعله ملحقاً لمشروع مجهض. والثاني: تشوّه الرؤية المتعلقة بالعامل القومي، سواء فيما يتعلق بالوحدة العربية، أو بالقضية الفلسطينية بعد نشوء الدولة الصهيونية سنة 1948.فقد امتازت بسيطرة العدمية القومية تحت شعار الأممية، وبالتالي إضعاف مقدرتها الجماهيرية، وتفتيت القوى التي كان يمكن أن توحدها. والثالث: يتعلق بفهم طبيعة الصراع الواقعي، بما هي مسألة حلّ مشكلة مجتمع زراعي (إقطاعي) متخلّف (رغم تغلغل بعض العلاقات الرأسمالية)، ينزع نحو التحديث والتصنيع. وبما أنها اعتبرت بان المرحلة هي مرحلة برجوازية فقد تجاهلت وضع الريف واهتمت بمطالب "عمالية"، ومهام "ديمقراطية"، فقد تجاهلت وضع الريف، واهتمت بمطالب "عمالية"، ومهام "ديمقراطية".
وبالتالي فقد تخلت عن متابعة المشروع النهضوي العربي، الذي عجزت البرجوازية المتشكلة عن تحقيقه. لهذا حصرت برنامجها في مطالب "اقتصادية" و"ديمقراطية"، تتحقق عبر مطالبة برجوازية "يجب" أن تنتصر، مما جعلها ذيل لبرجوازية عاجزة وملحقة ببرنامج لا حياة له. وهذا ما فتح الأفق للأحزاب القومية "التي كانت اكثر راديكالية"، وكذلك فتح الأفق للفئات الوسطى الريفية عموماً من خلال الجيش، حيث لعبت الدور التغييري المحوري منذ ثورة 23 يوليو في مصر.
ولقد نتجت هذه الاختلالات عن مسألة جوهرية تتعلق بطبيعة وعي الماركسية، والتزام "الماركسية السوفياتية" التي كانت حولّت الماركسية إلى "نص"، وأهملت "لبّها"، الذي هو منهجيتها (الجدل المادي).
2) ولقد كان انتصار الحركة القومية العربية في العديد من البلدان العربية، والخطوات التي قامت بتحقيقها، سواء بهدم النظام القديم (الإقطاعي)، أو الميل لبناء الصناعة والتحديث (التأميم، التخطيط، ضمان حقوق العمال والطبقات الشعبية نسبياً، مجانية التعليم..) قد أسهم في سلب الحركة الشيوعية شعاراتها وأهدافها، وغيّر الأرضية الطبقية والاجتماعية التي تأسست وفقها، وهدم كل طموحاتها بانتصار البرجوازية، وصيرورة الواقع «وفق منطق المادية التاريخية» الذي كان يؤشر إلى ضرورة تحقق «الثورة الديمقراطية البرجوازية». لهذا ما لبثت أن أعلنت بأن ما يتحقق في هذه البلدان هو الاشتراكية، فاندفعت للالتحاق بالأنظمة الجديدة (تحت شعار التحالف في جبهات، أو حتى الاندماج)، مما ربط مصيرها بمصير تلك النظم، وقلّص من تأثيرها الواقعي، ومن دورها الثقافي التنويري، كما تشوّه دفاعها عن الاشتراكية، نتيجة دفاعها عن الأنظمة القائمة انطلاقاً من أنها أنظمة اشتراكية (أو ذات توجه اشتراكي، أو تسير نحو الاشتراكية)، مما أناس من بريقها كحركة يسار، قبل أن يكمل انهيار النظم الاشتراكية على البقية الباقية من ذاك البريق، ويدفع بقطاعات منها إلى أحضان الليبرالية والديمقراطية. ويحوّلها إلى «جثث ميّتة».
3) وإذا كانت نهاية الستينات، بعد هزيمة حزيران 1967، وانكسار المدّ القومي، وبدء تفكك الحركة القومية وانهيار نظمها، قد شهدت نشوء محاولة لتجديد اليسار، بتبلور أحزاب ما أسمي «اليسار الجديد»، التي ولدت من رحم الحركة القومية بأحزابها المتعددة، والتي نزعت إلى الراديكالية وعملت على مراجعة العديد من شعارات وأفكار الحركة الشيوعية القديمة ومن شعارات وأفكار الحركة القومية كذلك، وأولت الجانب الإيديولوجي أهمية فائقة كونها تحاول «تحديد ذاتها» وتوضيح هويتها. فقد توضح بأن هذا المخاض أضعف من ان يؤسس يساراً جديداً حقيقياً. ليس نتيجة القمع الذي طاله من قبل الأنظمة (وخصوصاً القومية) فقط، بل كذلك، وكما توضّح، نتيجة العجز عن بلورة رؤية حقيقية للواقع العربي، سواء بالفشل في وعي عمق التغييرات التي أحدثها وصول الحركة القومية إلى السلطة في الدول التي وصلت فيها وفي الوطن العربي عموماً، أو بالفشل في وعي إشكالية المسألة القومية وموقعها في مجمل النضال العربي (ربما فيما عدا الموقف الواضح من القضية الفلسطينية، التي كانت العنصر المحوري في نشوء هذا اليسار، ولهذا اتخذ منها موقفاً راديكالياً عميقاً). وبالأساس بالفشل في وعي الماركسية وعياً علمياً يتجاوز كونها «نصّ»، إلى الانطلاق من كونها منهجية وأداة تحليل. وهو هنا حوّل الوضوح الايديولوجي الذي كان يطالب به ويسعى لتحقيقه إلى مجرد «تعريف بالانتماء» إلى الماركسية اللينينية، وباستعارة أفكار ومفهومات من ماركس ولينين، تروتسكي وماو، جيفارا والحزب الشيوعي الفيتنامي.. الخ. لا تسمح بتأسيس منظومة متماسكة، على العكس تقود أحياناً إلى ميول «مغامرة»، و«طوباوية» (حرب التحرير الشعبية، والثورة الاشتراكية)، وبالتالي يجعلها تعيد إنتاج «المنطق النصّي» الذي حكم الحركة القديمة.
وإذا كان قد بدأ بالتأكيد على ضرورة «الوضوح الأيديولوجي»، وبالتركيز على وعي الماركسية، فقد انساق سريعاً لـ «النضال العملي» و«خوض الصراع الطبقي» و«الممارسة»، قبل أن تنجز مهمتها الأيديولوجية. وقبل أن تعي الواقع وعياً حقيقياً، معتبرة بأن الثورة على الأبواب، وأن التغيير مسألة راهنة، وأننا على أعتاب ثورة اشتراكية راهنة. يجب أن تنجز اليوم لأن إنجازها غداً يعني تأخراً سوف يفشلها. بمعنى أنه عبّر عن نزق شبابي جامح، لم يلحظ الواقع ولا استطاع أن يفهم ممكناته. لهذا تهاوى خلال فترة وجيزة (نهاية الستينات إلى نهاية الثمانينات كحد أقصى لبعض أحزابه)، دون أن يترك إرثاً فكرياً مهماً (رغم كل الإسهامات التي قدمها ن ورغم أهمية بعضها) سوى إرث السجون والاعتقالات، وبعض من روح كفاحية ضرورية لأية حركة ماركسية.
4) وسنلمس هنا أن انكسار الحركة القومية العربية (عبر انهيار العديد من نظمها – مصر، السودان، الجزائر- وتخثر النظم الأخرى) قد فتح الأفق لنهوض أصولي شجعته ابتداءً «قوى الردة» ودعمته كهادم لليسار وللحركة القومية معاً، خصوصاً مع انهيار الحركة الشيوعية، وانهيار «اليسار الجديد»، وبالتالي «غروب» الأيديولوجيات الحديثة (الاشتراكية والقومية) وتراجع مواقعها، والشك في أهميتها وضرورتها وبالتالي دورها، مما أطلق «مارداً» استند إلى ذاك «الفراغ الأيديولوجي» من جهة، وإلى الفئات التي تهمشت بفعل التطور المتحقق خلال مرحلة المدّ القومي، أو بفعل تدمير هذا التطور، ما لبث أن أصبح «قوة الفعل الأولى»، وأيضاً قوة التدمير الأولى. والذي بدا أخيراً – عكس ما بدا لحظة نشوئه – وكأنه حامل مشروع الحرب ضد الرأسمالية العالمية (وإن تحت مسميات الغرب أو المسيحية واليهودية حسب التعابير الأصولية المستخدمة) وبالتالي الوريث لحركة اليسار كلها، رغم كل الظلامية التي ينشرها (بفصم البشر على أساس ديني، والحط من المرأة، وتكبيل المجتمع بقيم شمولية غاية في التخلف. وبنشر الاستبداد وإقحامه بما هو شخصي..)، ورغم عدم امتلاكه لخيارات اقتصادية واجتماعية، تتجاوز الرأسمالية، أو تحلّ محلها، سوى خيار الدمار وتعميق التبعية للمراكز الإمبريالية، وتهديم القوى المنتجة، وبالتالي تهديم المجتمعات.
وإذا كان الوطن العربي يعيش أكثر لحظاته عجزاً وأكثر لحظاته ميلاً للانفجار، في مواجهة أخطار «نكبة جديدة» تطال المسألة الفلسطينية من جهة، وأخطار تغيير الجغرافيا السياسية بفعل السياسة الأمريكية المصمّمة على السيطرة والاحتلال من أجل الهيمنة على النفط والسواق، والموقع الاستراتيجي، وتعزيز الوجود الصهيوني من جهة أخرى، فإن خيارات المواجهة تبدو هزيلة نتيجة هزال الحركة السياسية، وحركة اليسار الماركسي خصوصاً. إننا نعيش مرحلة المدّ الأصولي المتحوّل إلى قوة حرب ضد «الإمبريالية»، في الوقت الذي نشهد تلاشي اليسار الماركسي وتفكك قواه وأفول فعله. رغم ذلك سيبدو أن الخيار المطروح هوالخيار بين استمرار هذا المدّ الأصولي، وتحوّله إلى قوة الفعل (والتدمير) الأولى، وبالتالي استمرار العجز عن تحقيق المواجهة مع الإمبريالية والوجود الصهيوني، والفشل في تحقيق التطور، والغرق في حروب تدمير بربرية. أو إعادة "لملمة" اليسار الماركسي، وإعادة بنائه كقوة حرب ضد النمط الرأسمالي العالمي، وضد سياسات زعيمته الدولة الأمريكية. وكقوة تغيير داخلي (عربي) تهدف إلى تحقيق التطور والتهيئة للانتقال إلى الاشتراكية.
وبهذا فإن إعادة بناء اليسار الماركسي مسألة ذات ضرورة قصوى، لكي يدفع بالتحولات التي تجري في «الشارع العربي»، وحركة التسييس التي تطال قطاعات متسعة. ويؤسس لتحقيق تغييرات عميقة، تعيد تكوين الواقع العربي بما يحقق طموحات طبقاته الفقيرة والمضطهدة، ويحقق طموح الأمة بمجملها. إن إعادة بناء اليسار الماركسي هي الخطوة الضرورية، إذن، من اجل تجاوز كارثة الانهيار والتفكيك والخضوع. كارثة الاحتلال الجديد، والسيطرة على النفط والأسواق والمصائر وتحويل الدولة الصهيونية إلى «إمبريالية فرعية» مهيمنة.
وسنلمس بأن إعادة البناء هذه تفترض مقومات معينة يمكن إجمالها في النقاط التالية: أولاً: انطلاقاً من تلخيصنا السابق لأزمة اليسار الماركسي، يمكن التأكيد أولاً، وبشكل حاسم، على ضرورة وعي الماركسية بما هي منهجية، وأقصد هنا الجدلي المادي، كونه "لب" الماركسية ومحور منظومتها، يعين على تحليل الواقع الملموس تحليلاً علمياً، ويؤسس لوعي آفاق تغييره، ورسم صورة مستقبله. وهو وحده الذي يجنبنا الوقوع في «المنطق النصّي» عبر تحويل الماركسية، كل ما كتبه ماركس وانجلز ولينين، وربما تروتسكي أو ستالين، أو ما.. إلخ. إلى «نصّ مقدّس» يقاس الواقع عليه، كما كان حال الماركسية القديمة، والماركسية السوفياتية عموماً. وكذلك الماركسيات الأخرى (الماوية، التروتسكية). وثانياً: العمل، انطلاقاً من امتلاك المنهجية الماركسية، على وعي الواقع، العالمي والعربي، وعي التكوين الرأسمالي العالمي وأثره في الأطراف، لكي يكون ممكناً تحديد المهمات التي يسعى اليسار الماركسي لتحقيقها، من أجل إنجاز الاستقلال والتطور، إننا إزاء البحث في الواقع لوعي مشكلاته، واكتشاف صيرورته التي وحدها تحدد الدور المناط باليسار الماركسي. وثالثاً: تحديد آليات التغيير في مواجهة "الخارج" (أي الإمبريالية والوجود الصهيوني)، و"الداخل" (الطبقة المسيطرة)، وكذلك تلمّس تنوع أشكال النضال وتعددها، ولمس تعقيد المهام وتشابكها.
هذه المسائل تفرض إيلاء النظري أهمية خاصة فهو المدخل لإعادة بناء الحركة الماركسية والضرورة التي تجعل هذا البناء قادراً على التحوّل إلى قوة فعل وقوة تغيير، وحركة جماهيرية فاعلة، دون تجاهل كل ممكنات النشاط العملي.
ولأجل ذلك، من اجل إعادة بناء اليسار الماركسي، يمكن إبداء ملاحظات تكون أساساً لنشوء جديد، أو مقدمة لحوار ضروري.
• العودة إلى ماركس كونه مؤسس المنهجية الماركسية (الجدل المادي)، ومكتشف قوانين الماركسية الأساسية، ومن ثم يمكن الإفادة من كل الآخرين، وخصوصاً ممن اضافوا قوانين أو تصورات صحيحة. فالماركسية هي بالأساس الجدل المادي، قبل أن تكون رؤى وتصورات و"إيديولوجيا" و"نصوص". إذن أنا أدعو إلى العودة للماركسية كمنهجية، وبالتالي "التخلي" عنها كـ "نصوص" وأيديولوجيا. لأن ذلك وحده هو ما يسمح لنا بوعي الواقع، وعي الراهن في صيرورته وتحولاته. أما "النصوص" والأيديولوجيا فتستعيد لنا ماضٍ ما فقط، وبالتالي تخفي الراهن، وتضيّع كل التحولات. لهذا لا بدّ أولاً من استيعاب المنهجية الماركسية لأنها وحدها من سيعيننا على وعي الواقع ووعي صيرورة تحولاته ودورنا فيها.
• تجاوز التشتت والانقسام اللذين سادا سابقاً، واللذين قاما على أساس "أيديولوجي"، أو انطلاقاً من اختلافات حول قضايا "نظرية"، واعتبار المهمات التي يطرحها الواقع هي أساس التوّحد أو الاختلاف، إن وعي الواقع والمهمات التي يطرحها هي التي تؤسس لنشوء حركة ماركسية موحّدة، بغض النظر عن الاختلافات في القضايا الأخرى، وهذا يفترض تجاوز انقسامات الحركة الماركسية، وتشتتها، وتجاوز التمايز "العصبوي" و"الفئوي"، أو الناتج عن اتخاذ هذا المفكر الماركسي أو ذاك مرجعاً وحيداً. وكذلك الناتج عن الانقسامات القديمة للحركة الماركسية العالمية.
• أن يبلور اليسار الماركسي تصوره "الاستراتيجي" فيما يتعلق بالمشكلات التي يعيشها العرب، والتي يمثل حلها جوهر عملية التغيير الضرورية لتحقيق التطور. إننا إزاء مشكلات التجزئة والوجود الصهيوني والهيمنة الإمبريالية. مشكلات التطور الاقتصادي (المتمحورة حول التصنيع، والمنطلقة من فك الارتباط) وتطوير الوضع المعيشي للطبقة العاملة والطبقات الفقيرة الأخرى، والتحديث (التعليم..)، وتكريس سلطة ديمقراطية تمثل المنتجين.. إلخ.
• التأكيد على مواجهة النمط الرأسمالي العالمي، وصيغته الراهنة (العولمة)، والعمل على توحيد القوى عالمياً لمواجهة والتصدي لأخطار العولمة ولحروبها المدمّرة، والنضال ضد الشركات الاحتكارية متعدية القومية، ولميولها من أجل النهب والسيطرة، وإعادة "الاستعمار"، إننا بحاجة لحركة أممية قادرة على تحشيد القوى الاشتراكية، وتنظيم نشاطها لكي تصبح قادرة على مواجهة وحشية الرأسمالية وبربريتها. من أجل مستقبل متجدد للاشتراكية.
• تجاوز "الانغلاق" اليساري في إطار الفئات الوسطى، والسعي لأن تعبّر الرؤى المطروحة عن مصالح الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وبالتالي العمل من اجل تنظيم صفوفها، وتطوير فعاليتها، وتأكيد نشاطها الثوري فالصراع هو صراع الطبقات، والفعالية هي فعالية الطبقات، وانطلاقاً من ذلك العمل للوصول إلى الأجيال الجديدة (الشباب).
• أساس كل ذلك هو الحوار، الحوار بين مختلف تيارات اليسار الماركسي، من اجل بناء رؤيته "الموَّحدة"، مع التأكيد على الاختلاف والتنوع والتعدد، وبالتالي التأكيد على الديمقراطية كقيمة ضرورية، وكأساس لكل عمل مستقبلي، الحوار هو نقطة البدء.
بعد كل ذلك، هل يستطيع اليسار الماركسي أن يتجدّد؟ هذا هو الرهان الأساسي، وهو الهدف الراهن، والواجب الذي يجب على كل الماركسيين البدء به.
* * *