غسان صابور
الحوار المتمدن-العدد: 4649 - 2014 / 12 / 1 - 19:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
زيــارة إلى ســـوريـــا
أو عــودة... وتصفية حــســاب...
عندي صديق سوري, جامعي وباحث علمي معروف, هنا في فرنسا منذ حوالي أربعين سنة. قرر أن يذهب مع زوجته الشهر الماضي بكامله إلى سوريا. وكنا نتحاور باستمرار بواسطة SKYPE, كلما عادت الكهرباء إلى أمكنة وجوده المختلفة... وعاش هناك كما يعيش بقية السوريين. بلا كهرباء, بلا ماء, بلا غاز, بلا بنزين, بلا مازوت. رغم البرد, ورغم فقدان الحاجات المعيشية الرئيسية. ولم يتضايق لا هو ولا زوجته. رغم أنه يعيش هنا في فرنسا برخاء واكتفاء, نظرا لدخله العالي كأستاذ جامعة, بالإضافة إلى ما تدره استشاراته العلمية واختراعاته المختلفة.. فهو يسكن فيللا فخمة وسيارتين... يعني أنه مع زوجته يعيشان برغد ورفاه... ومع ذلك سـافرا إلى سوريا وأمضيا بمختلف المناطق السورية كل شهر تشرين الثاني من هذه السنة. أمضياه بمختلف المناطق السورية ما بين دمشق واللاذقية وطرطوس.. وحتى أنهما زارا مدينة معلولا المنكوبة المتفجرة...
وصلا هذا الصباح إلى مطار باريس, قـادمين من بيروت.. وسوف أذهب لزيارتهما بنهاية هذا الأسبوع لاستقصاء تفاصيل الحياة اليومية, لأهلنا هناك, بمختلف المدن السورية. ولما حادثتهما هاتفيا هذا الصباح لدى وصولهما إلى مطار باريس.. شــعـرت براحتهما وفرحتهما, كأنهما عائدان من جزر هاواي بعد عطلة رائعة في Club Méditerranée ... وأخبراني أنهما جلبا معهما صورا وذكريات وقصصا رائعة من سوريا... وكم أنني متلهف لاستماع تفاصيل هذه العودة إلى أرض الوطن.. بعد أربعة سنوات من حرب ضروس.. لا اسم ولا نعت لها سوى أنها كانت وما زالت غبية.. غبية.. تجاوزت كل تصورات الجرائم ضد الإنسانية... وما زالت قابعة في قعر جورة مجهولة معتمة... بينما زوجتي تردد يوميا, كلما تابعت أخبارها من قنوات عربية أو أجنبية, أنها عندما (تهمد الحالة) ولو نسبيا.. ســوف تأخذ أول طائرة.. كأنها سوف تسافر إلى Toulouse أو Strasbourg أو Bordeaux (مدن فرنسية) وتذهب لزيارة من تبقى من عائلتها هناك في ســوريـا... وكل مساء بعد نهاية نشرة الأخبار, تردد نفس العزم وتزداد نفس الأمنية. لأنها منذ لحقت بي هنا من نصف قـرن, كانت تنظر من أي شباك من منزلنا ناظرة إلى الأفق.. كأنما ســوريـا موجودة بآخر أفق الحي الذي نسكنه بمدينة ليون LYON الفرنسية .. وتتكلم عنها.. وتتكلم عنها كأننا ما زلنا هناك.. رغم أن ذكرياتنا بهذا الهناك, لم تكن عسلية.. أو حتى بسيطة عادية.. لأن لو أن هذا الهناك حافظ لي على قليل من الأوكسيجين.. وترك لي بعضا من حرية الحياة والتنفس والتعبير, لما غادرته, كما فعل الكثيرون من أبناء هذا الهناك.. والذين بنوا حياة واسعة الآفاق هنا.. ولكنهم ما زالوا مرضى بـمـا يسمى " الحنين " أو " النوستالجيا " كما أسميها كأنها مــرض عــضــال... هذا الهناك الذي ما زلنا نعارض ونختلف وندافع ونصرخ من أجله.. وخاصة خلال هذه السنوات الأربعة الأليمة.. لو أن مسؤوليه المختلفين حافظوا على بعض من إنسانيتنا.. لما غادرناه.. وما زلنا نندب ونبكي ونتحسر عليه.. وحتى الذين مثلي لم يملكوا فيه بيتا أو حاكورة بسيطة, ولا حتى خيمة... رغم أن عائلتي هناك ملكت أكثر من كل هذا.. وزادت بورجوازية على بورجوازية.. لأنها مارست الصمت اللامع المخادع.. بكل الأزمنة والأزمات.. ككل من اغتنى وانتفخ... ولكنهم لو مارسوا حقوقهم الطبيعية, ببناء نقد إيجابي بناء, رغم الصعوبات الجمة, وحاولوا إصلاح مجتمعاتهم الغارقة بالهلوسات الدينية والشرائع العتيقة, التي لم تبن أية حياة أو أي تطور.. لا لمستقبل البلد ولا للدفاع عن الإنسان كــإنــســان... بل كانت دوما وأبدا لديمومة الحاكم إلى الأبد... كأنما زرع في جيناتهم أسوأ الأمثال المحلية المتأخرة الرجعية (يا اللي بياخد أمي.. بسميه عمي)!!!... ومن هذا المثل العامي.. تمثل الفساد وترعرع في مجتمعاتنا.. وجمدنا.. وصمتنا.. ونحن صامتون.. صامتون منذ خمسة عشر قرن.. نحن صامتون.. من تــجــرأ بكل هذه السنين انتقاد أي خليفة أو حاكم أو أية سلطة.. أو أية شريعة أو أي نص ديني أو اجتماعي ســائد.. مهما حمل من تناقضات ومغالطات إنسانية.. إلا وتعتبره سلطة كل زمان كافرا وزنديقا... ومخالفا للأمــة... هذه الأمة التي بلينا بكل قواعد تكويناتها قرونا وقرونا من الزمن.. إن كانت عربية أو مغولية أو صحراوية أو إسلامية.. أو تــتــريــة.. وكنا دائما نمشي كالغنم أو نمشي بحمارنا كما جــدنــا جــحــا.. مرددين كالصلاة (ويا اللي بياخد أمي بسميه عمي)... هل تتذكرون الإنسان الوحيد الذي صرخ بوجهنا بثلاثينات القرن الماضي قائلا :
" إذا لم تكونوا أحرارا من أمة حرة.. فحريات الأمـم عــار عليكم "...
فسرعان ما تآمـر عليه حكامنا وحكام العرب وأخرسوه وأعدموه... اسمه : انــطــون ســـعــادة..... هذا الإنسان كان أصدق وأشرف وأقدس إنسان عرفته الأمة السورية, بتاريخها من ألفي سنة.. وحتى هذا المساء.. وغالب الباقين قبله أو بعده.. كانوا دوما بائعي خربشات فكرية وتجارات دين وعنتريات ووهم وحشيش... وخاصة متعربشين بالخلافات والسلطات والكراسي المهلهة... وأن السلطة تدوم على الأقل ألف سنة.............
واليوم وبعد سنين من اغتياله جرما وإجراما.. هناك البعض في سوريا ولبنان, عادوا وحملوا أعلامه ورددوا كلماته.. ولكنهم ما زالوا يرددونها كالببغاءات أو كالغنم.. لأنهم يرددون كلمات فارغة مزورة.. ولم يصلوا إلى عزة الأمة الحرة.. ولا لوقفة الــعــز... والحريات الحقيقية... والأعلام والخطابات التنكية لا تمثل أمة حــرة... طالما داعش وسرطانات داعش تنخر (على كيفها ) بكل من سوريا والعراق ولبنان... وماذا تبقى من أمتكم الحرة.. وداعش تقتل وتسبي وتغزو وتحتل الحدود.. وتتنقل من بلد إلى بلد كالمغول بالسنين السابقة..
ماذا فعلتم بهذا البلد, يا أصحاب الخطابات التنكية, خلال خمسين سنة أو أكثر.. يا مشايخ الوعظ والهداية.. ماذا فعلتم غير الانتفاخ والغنى وتكديس الغنائم... لماذا لم تطوروا سعادة الإنسان.. لماذا لم تطوروا مبادئ العلمانية التي كانت أكبر ضمان لوحدة هذا الوطن السوري, بدلا من تمزيقه طوائفا ومذاهبا.. وتمييزا صحراويا بدائيا غريزيا ما بين المرأة والرجل.. حتى تفكك الوطن وانهار كالخشب التاخخ.. لدى أول عاصفة.
لا بد أن ينعتني بعض المنتفخين من الدين والخطابات الخشبية وتجارة الفساد والوطنية.. بأنني أهدد العزيمة الوطنية... أين كانوا وبأحضان أية سلطة, وبأية مؤامرة مخادعة كانوا قابعين, عندما كنت أصرخ مع عدد قليل من الأصدقاء الشجعان, من أجل كرامة وسمعة هذا الوطن, والذي كنا نصوره دوما عندما كان خالقا لأولى الأبجديات والحضارات, وموزعها الوحيد للعالم كله... قبل أن تنخره الابتداعات الدينية وشرائعها وقوانينها.. حتى انبطحنا.. فعبر فوقنا الغزاة من كل حدب وصوب.. كما يجري بنا بهذه الأيام بالذات.. حيث يدوسنا ويعبر على كرامتنا وعزتنا الأغراب من كل حدب وصوب.. ونردد معه (يا اللي بياخد أمي بسميه عمي)... أنظروا لأطفالنا في الشوارع المهدمة, يحملون أعلام داعش الغريبة.. ويهتفون " الله أكبر " كلما ذبح جزارو ومجرمو داعش أو حلفاؤهم جنديا سـوريا أو إنسانا شــريفا يدافع عما تبقى من هذا البلد...
هؤلاء الأطفال الذين يرعاهم ويربيهم داعش هذه الأيام ومنذ أربعة سنوات.. هــم جيل المستقبل... إذن أيها النقاد.. أيها المحللون الذي لم تحللوا ولم تحلوا خلال سنين عجاف أي شــيء من المشكلة.. لأنكم كنتم قلب المشكلة.. ماذا سيصبح هؤلاء الأطفال بالسنين القادمة.. غير قنابل متفجرة.. تفجر كل شــيء... كل شــيء... بينما أنتم تتشاورون وتحللون وتخططون المستقبل لمجموعة أصفار سياسية, ومناصب وكراسي مهلهة وزارية.. ماذا تحضرون لهؤلاء الأطفال.. أطفال داعش... أطفال سنين النكبة التي لا نعرف متى سوف تنتهي...
*************
على الــهــامــش :
ــ صديقنا بابا روما فرانسوا, هذا الرجل المسالم الطيب الذي تحدثت عنه مطولا في السابق منذ اختياره لهذا المنصب الحساس.. بعد أن زار تركيا من يومين وصلى في جوامعها التي كانت كنائس في السابق.. والتقى برئيسها السيد أردوغان وبعضا من مسؤوليها الدينيين, حتى يجد بعض الحلول معهم لضائقة مسيحيي المشرق وغير المسيحيين, مما يعانون من إرهاب داعش وغير داعش, رغم علمه أن هذه الحكومة التركية الحالية والسابقة واللاحقة.. هي وكر الدبابير الرئيسي الذي يعبر منه قتلة العالم كله, برضا وموافقة هذه السلطات التركية البارعة في الخداع والكلام الباطني والظاهري.. ولكنه حاول الحوار معهم.. وادعوا أنهم يسمعوه... ثم غادرهم.. بلا وعود ولا أية بادرة تطور إيجابي... ومذابح الأقليات ما زالت تتابع بشكل جراحي مخطط مدروس......
بــــالانــــتــــظــــار.......
للقارئات والقراء الأحبة الأكارم.. كل مودتي وصداقتي ومحبتي واحترامي ووفائي وولائي.. وأصدق تحية طيبة مهذبة.
غـسـان صــابــور ـــ لـيـون فــرنــســا
#غسان_صابور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟