عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4647 - 2014 / 11 / 29 - 18:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ما يحسب على النقد العلمي من قيمة تتمثل في السعي لاكتشاف الجديد وفرزه والتميز بين عوالم الفكر وأثراء المعرفة وأضافه تراكم عقلي لها ,وليس البحث عن السلبيات وتأشير مواطن الضعف في محاولة تصيد العثرات الفكرية, ولا هذا المنحى والحال هو من اختصاصه بل وظيفة النقد العلمي البحث عن كل مواطن القوة والضعف في محاولة تقويم وتصحيح مسار الفكر بعقلانية العلم وبتجرد من المحسسات والحساسيات الضيقة التي تقولب النقد بقالب السلبية واللا منتج فعلي حقيقي.
إن الدارس لفكر الدكتور عبد الكريم عليه أن يؤشر له مجموعة أفكار تتسم بالنضج والكفاءة المعرفية وتدل على قوة المراد الفهمي عنده مقرنة بالموجود ضمن ساحة الفكر الإسلامي عموما والفكر الإيراني الديني خصوصا, هذا الفكر الذي بالرغم من ضخامته وتعدد مشاربه والمؤثرات الداخلية والخارجية فيه وتنوعها من صوفية إلى نزعة قومية إلى التيارات شعوبية بقى أسير المحلية الإيرانية عموما إلا ما أنتقل منها للمجتمع الشيعي الخارجي نتيجة التماثل العقيدي وحسب مقتضيات الصراع الفكري الشيعي _الشيعي الداخلي ,لكنه وجد ضالته والفرصة لأن يتحرر بعد انتصار الثورة الإيرانية واهتمام المفكرين المسلمين عموما بدوافعه أما للكشف والاطلاع على هذا الفكر أو لمقتضيات الدفاع عن عقيدة الطرف الثاني.
أكتشف قراء الفكر الشيعي الإيراني أن هذا الفكر فيه تعدد وتنوع أكبر مما كان يتصور عنه وأن الضرورات الفكرية تستوجب البحث الجاد فيه وعنه من مختلف مصادره الأصلية والمترجمة حتى يتم الكشف عن خطوطه العامة والخاصة, ومن ضمن ما تم الكشف عنه في مراحل حديثة نسبيا الفكر الليبرالي الإسلامي الإصلاحي الذي كان يمثل الخلاصة النهائية له الدكتور عبد الكريم سروش في تجربته البحثية الممتدة عبر بضع سنين والتي تركزت حول مفهوم حرية العقل في أعادة القراءة وخرق الخطوط الحمر التي سنتها المدرسة التقليدية الإسلامية عامة وضيقت حدود البحث فيها أو منعت حتى التقرب منه.
مما أكتشفه البعض بتقدير من مفاهيم هذه المدرسة الفكرية مفهوم الحرية كما قلنا وحدود هذه الحرية ومقاربة الدعاة لها بطريقة مختلفة عن المنهج التقليدي السلفي للدين(يتجسد مفهوم سروش عن الحرية والعقل في ان الحرية ملازمة للعقل وان العقل حتى يفهم وجوده لابد وان يبحث عن الحرية ويجسدها واقعياً ,وان العقل ليس مخزن للحقائق بلا اداة للوصول الى الحقيقة) .
هذا الاكتشاف قاد مجموعة كبيرة من الباحثين لإعادة صياغة مفهومهم الكامل عن الشيعة وعن فكرهم كما شكل أداة دعم موازية للتيار الليبرالي الذي قاده من المغرب السني كل من محمد أركون وأخرون لينطلقا في عالم الحداثة الفكرية وليدخل الفكر الشيعي المبني أساسا على تعقل النصوص بدل التقليد الأعمى في الخوض في عملية تحديث القراءة وتجديد الفكر ولمتابعة التخلص من عبودية النص الإصرار على بنائيته الذاتية والاستحكام خلفها.
هنا يستطرد الباحث ليفهم وليبلور من بحوث وأراء الدكتور سروش فكرة أن دعاة محاربة التجديد لفكري وتحديث القراءات إنما ينطلقون من فكرة تقديس الحق الذي يهدده الباطل متوهمين وظانين أن التحديث يعني الخروج عن حكم الله (يعتقد سروش ان من لا يحترمون حق الحرية بحجة الشفقة على المجتمعات من انتشار الباطل بانهم سيئوا الظن من جانبين الاول سوء الظن بالعقل البشري في انه لا يمتلك قوة في الاختيار ومواجهة الباطل والاخر سوء الظن في الحق بانه ضعيف في مقابل قوى الباطل ) , هنا التبرير في غاية الإيجابية ومتوافق مع روح وجوهر الدين ,الحق قوي بوجوده الذاتي وأن الباطل لا يمكن أن يفرض وجوده مع الحق لأن النص القرآني يجزم بذلك ويؤكد على استحالة أن يحدث هذا{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } الأنفال8, بالإضافة إلى إيماننا بالنص أيضا على ضعف الباطل وعدم قدرته على مواجهة الحق {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }الشورى24.
هذه الحرية أسست لأول مرة في الفكر الشيعي الليبرالي مفهوم احترام التعددية وأوجب الإقرار بالتنوع بدل فكرة الحق المطلق الكلي قبال فكرة الباطل المطلق الكلي ببسط اطروحة البلوراية الدينية التي اعتمد عليها سروش والتي تعني الاعتراف برسمية التعدد والتنوع في الثقافات والاديان واللغات والتجارب البشرية, وتعدها من نتاجات الحضارة الجديدة وتبحث في مجالين مهمين احدها الاديان والثقافات والثانية المجال الاجتماعي.
هذه البلوراية تضمن للنص الديني من خلال حرية القراءة وتنوعها توسع المدى الذي يمكن أن تتخلله في المفردات من المسائل الواقعية الأجتماعية وتمنحه ليس فقط القدرة على التصدي لها بل تضمن له قوة الخلود أيضا وأيضا بعيدا عن فكرة الخلود الغيبي التي تضمنتها النصوص وتعاملنا معها بالتسليم دون أن نفهم مغزى خلود النص الحقيقي الذي يستنبطنه القول الرباني وكأنه من الحقائق المطلقة سواء سعينا لها أم تركناه يسعى لها بدون تدخل العقل البشري.
بغض النظر عن صحية وتمامية النتائج التي توصل لها سروش و قادته له أفكاره عن الحرية هذه ,يبقى لمحاولته في كسر الجمود الفكري الذي ركن موارد العقل لتتفرع أكثر بالتفرعات وتخصص أكثر في ولوج المخصوصات والخصوصيات الدقيقة واجترار نفس الأفكار دون أن تخرج عن دائرة التقليد وكسر طوق المقدس الفكري, تبقى مؤشر مهم وحقيقي على جدية الطرح وأحقيته في مواجهة التيارات المتشددة والسلبية في تعاملها مع الفهم الديني للقرآن ولأساسيات ومدارج الكيف في التعاطي مع الدين كمتعبدات يومية أو كفكر كلي لا بد له أن يستوعب كليته في مراعاة الواقع والاستجابة له ,لأن الدين بمفهومي أنا الباحث ليس قيدا وسجنا لا بد لنا أن نعيش بداخله لنتخلص من تأثيرات الباطل بل هو تسليح حقيقي وواقعي للعقل لأن يبتكر خطوط للدفاع عن الحق ومجاراته.
نقول وبكل الثقة أن الجرأة اللا مسبوقة بفتح باب القراءة العقلية وتحت سقف الحرية المسئولة تفتح الباب ليس فقط لتجديد الأفكار وإنما تدفع باتجاه فك الترابط بين التقليدية السلفية وبين الضرورات التي يتشدق بها التقليديون من عدم قابلية النصوص للقراءة بوجه أخر.
وجه يبحث عن روح الأبداع والتنوع والغوص في بحار النصوص دون الاكتفاء بمنظرها الخلاب, هذا الفكر يبشر بإمكانية أن يكون هناك أمل في تأسيس منظومة فكرية أقل تبعية للنص بدون روح وأكثرا انفتاحا نحو المقاصد الكلية منه, أنها مدرسة العقل المؤمن لا مدرسة الإنسان المؤمن.
إذن علينا كمسلمين نحاول أن نفتح باب العقل من جديد وأن نبتعد قليلا عن المحذور العقلي الذي صنعه الخوف من أن يكون مؤداه عامل زلزلة عند البعض فيما يخص إيمانهم التقليدي المبني أساسا على عبادة النص لا تمثل جوهر النص الديني بلحاظ أن الدين الحقيقي يحتمل الحصانة الذاتية ويكتنزها في أصالته ,الدين يستطيع أن يدافع عن وجوده لو خلي عنان العقل السليم أن يتعامل معه بحرية, هنا نشهد للدكتور سروش هذه المفصلية في الدعوة وإن لم نتفق بالنتيجة معه(مرّة اُخرى أقول إنّ الأشخاص الذين يقولون بأنّ البحوث الكلامية تؤدي إلى زلزلة ايمان الناس وزوال يقينهم، يجب أن نقول لهم :أيّ يقين تريدون ؟ هل اليقين المهزوز، المعلّل، غير المدلّل، الموروثي، التقليدي ؟ إنّ هذا النوع من اليقين لم يحصل عليه الإنسان من جرّاء البحث والدليل حتّى يزول بالبحث والدليل، إنّ مصدر هذا اليقين هو العلّة فلابدّ من إزالته بعلّة مماثلة، وإن كنتم تقصدون الإيمان المدلّل «المستدل» فانّ البحوث الكلامية هي مصدر هذا الإيمان، فغلق باب علم الكلام من أجل بعض النواقص والآفات ليس له مسوّغ عقلائي ) , إذن ربط الدليل بالعلة هو الطريق لمنهج يستعين بكل فنون المعرفة ولا يستحي أو يتعالى عليها بحجة النقص أو بحجة الدفاع عن احتمالية أن يخرج الفهم من الحق للباطل.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟