هذه مجموعة من الدروس ألقيت فى وقت ما من العام الماضى .. ليس كما أُلقيت بالضبط ، ولكن كما دُونت فى كراسة المحاضرات التى اصطحبتها معى وأنا أتلقاها من شخص ، افتراضى فيما أظن ، يحاول أن يقدم فكرة مبسطة عما يحدث فى واقعنا الثقافى . أما كلمتى الوحيدة التى أحب أن أضيفها وأنا أقدم هذه الدروس .. فهى مقولة المسيح الشهيرة : "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" .. فقناعتى هى أن الأحجار الأيديولوجية المتطايرة الكثيرة تنطلق - كلها أو معظمها - من بيوت مبنية من ذات الزجاج الهش ..
أما الدفع الاحتياطى - والحذر واجب على كل حال - فهو أن ناقل الكفر ليس بكافر
أعزائى المستمعين الكرام .. لكم أن تعتبرونى شيخكم أو زميلكم أو تلميذكم .. فأنا أولا زميل لكم ، مثقف من هذا البلد ، أو هكذا يتم تصنيفى عادة .. وأنا شيخكم طبعا لأنى أحاضركم .. وأنا تلميذكم لأننى لم أتوقف عن التعلم منكم والتفكير (وليس التكفير) فى كتاباتكم ، على اختلاف اتجاهاتكم . وفى كل الأحوال أنتم أعزائى .. وكل منكم هو عزيزى .. وهو فى هذه المحاضرة تلميذى النجيب . وكل ما أطلبه منكم هو أن تقبلوا الآن وضع التلاميذ حتى أنتهى من محاضراتى .. وبعدئذ يكون لكل مقام مقال .. ومن يدرى هل ستجدونى وقتها أم لا !!
دروسى هذه التى أتيتم لسماعها قد لا تعجب البعض منكم ، أو كلكم .. ولكن أظن أنها مفيدة .. فعلى حد علمى لا توجد بعد نظرية فى التكفير ، برغم أن التكفير دائر على قدم وساق كما تعلمون جميعا . وليست نظرية التكفير كالتكفير ، فهى تنتمى إلى عالم مختلف .. تماما مثلما تختلف نظرية الحركة لنيوتن عن الكوكب المندفع فى مداره بالقصور الذاتى .. أو الحجر الساقط من برج بيـزا المائل .. ولكن من ناحية أخرى ليست نظرية التكفير كنظرية الحركة .. فموضوعها هو الأفكار ، أفكار التكفير .. فهى تتشابه مع موضوعها : فكرة تتناول فكرة .. وليتكم تتذكرون خطورة هذا المبدأ : تناول الأفكار بالأفكار ، وما ينطوى عليه من مزالق .. أبسطها أن الفكرة لا بد أن تنتقد الفكرة التى تتناولها .. وتتأثر بها فى ذات الوقت .. وأعقدها أنها تُوهمنا أننا أمام عالم خالص للأفكار .. وقد سبق لهيجل أن عرَّف الفكرة المطلقة بأنها الفكر الذى يفكر فى ذاته . فإياكم أن تنسوا من أنا .. لماذا أقول ما أقوله .. وما علاقة ذلك بكل ما يحدث حولنا ولنا : لى ولكم .. أنتم المكفِّرون (بكسر وتشديد الفاء) على اختلاف مذاهبكم وآرائكم ..
وكفى بذلك تقديما .. ()
أستبق احتجاجكم على وصفكم بالمكفِّرين .. لا أحد منا يقبل طبعا بهذا الوصف .. فكل منا صاحب قضية .. والتكفير بالنسبة له ليس سوى أحد وسائله لنصرة قضيته ، وإحقاق الحق ، وكشف تلاعب الآخرين بالكلمات ، أو نفاقهم .. ولكن أرجوكم لا تخجلوا من الوصف .. فهو نقطة الانطلاق الأساسية لهذه المحاضرات .
يا عزيزى كلنا مكفِّرون .. وبالتالى - وهذا طبيعى - كلنا مكفَّرون (بفتح وتشديد الفاء) .. وبالأصح كلنا يكفِّر بعضنا بعضا ، وليس فى ذلك ما يُخجل ، فالتكفير ليس خطأ أو خطيئة كما نقول أحيانا لبعضنا البعض ، لأن التكفير - كما سأشرح لاحقا - تنوير . والتنوير بطريقة التكفير هو جوهر الثقافة .. وثقافة هذا البلد الذى نعيش فيه بالذات . وإذا كان يبدو للعالم الآن أننا قد انفردنا أو تفوقنا فى هذا النوع من التنوير .. فلا يجب أن ننسى أن الإصلاح الدينى الأوربى قام على التكفير تحديدا ، وأن الثورات الفكرية والأدبية والفنية هناك ما زالت تأخذ نفس الطابع ، رغم أنها لا تطالب طبعا بقطع الرقاب ، وأن العلم الحديث بالذات هو المنبع الذى يدشن فكرة الحقيقة الواحدة عن الشىء الواحد .. خصوصا علم القرن التاسع عشر الذى لا نعرف على صعيد الأفكار العامة سواه. أليس العلم فى ملحمته الأوربية هو غزو الأباطيل وقهرها .. تكفيرها وتطهير المعرفة منها ؟
ولكن لا تظن يا عزيزى أننى أنوى أن ألقى بهذا الكلام كرة التكفير فى معسكر الغرب .. حسب القاعدة المتأصلة التى تقول عند نفر منا أن كل ما هو خير فمن عندنا وكل ما هو شر فينا فمن الغرب اللعين ، ناهيك عن أن التكفير كما قلت لك منذ البداية .. تنوير ....
أما بالنسبة للأصالة فيقول لنا الراسخون فى الفصحى أن "الكفر" لغة هو الحجب أو التغطية .. فأن تكفُر يعنى أن تكون على وجه التقريب مزورا أو نصابا .. لأنك تحاول أن تغطى وتحجب .. وهذا يترتب عليه بالبديهة أنك تعرف وجود ما تحجبه .. وأنك تحاول فقط أن تغطيه لتوهمنا بعدم وجوده . فليس الكافر كغير المصدِّق .. بل هو متآمر مخادع ، لأنه يعرف الحقيقة . ومن هنا ليس الفارق بين الكافر والمنافق (فى المصطلح الإسلامى) سوى فارق فى الدرجة .. فالمنافق ليس إلا كافرا مرفوعا لأُس (2) : فهو أولا يحجب الحقيقة التى يعلمها .. ثم يعلن إيمانه بها على خلاف واقع مشاعره . وقد يبدو فى ذلك تناقض .. لأن الأمر يبدو كما لو أنك تتهم المنافق بأنه لا يصدق .. فى حين أنه كافر (أى مصدِّق ومنكر لما يصدقه ، وفقا لمصطلح الكفر ذاته) . ولكن المشكلة ليست صعبة إلى هذا الحد .. فالمنافق هو فى الواقع شخص : يعرف الحقيقة أولا .. ويرفضها فى داخله ثانيا .. ويعلن كاذبا اعترافه بها ثالثا ..
ولكن ما جدوى هذه الدورة الطويلة طالما أنه ينتهى فى النهاية إلى إعلان الحقيقة التى يرفضها ؟ الجدوى هى فيما وراء المبدأ .. فى "لكن" التى تأتى بعد الاعتراف بالحقيقة .. وما تنطوى عليه "لكن" هذه من أقوال وأفعال تعمل على ضرب الحقيقة من الداخل .. وقف مفعولها .. تحييدها . وبذلك نتغلب على التناقض الظاهرى فى تصور المنافق ، وننتهى إلى أن كلاهما مزور ونصاب ..
المسألة الأساسية الثانية المترتبة على تصور "الكفر" .. يا عزيزى .. أنك أنت - المؤمن - سيد الحقيقة .. لا أحد ينازعك فى ذلك .. فالكافر والمنافق نفسيهما يُقرَّان بأنك على حق : الكافر يحجبها وهو يعرفها ، والمنافق يتلاعب بها . الكافر والمنافق إذن يُقران بسموك .. ويضحيان بالحقيقة عن علم من أجل مصالح أو أهواء .. أو .. أو .. لا فرق . المهم أن الحقيقة الوحيدة هى حقيقتك .. عقيدتك .. لا يأتيها الباطل حتى من أعدائها أنفسهم . هل ثمة ضمانة أعلى من هذه ؟ هل ثمة دافع أقوى من ذلك لتناضل ضدهم ؟ هم - تذكر ذلك جيدا - ليسوا مختلفـين .. ليسوا مؤمنين بشىء آخر .. ولا حتى ضالين ، بل هم مضلِّلين عن عمد وسبق إصرار .. أشرار .
نأتى الآن للتكفير . ليس ثمة مشكلة مع الكافر الصريح : عليك أن تنتصر عليه وتمنعه من ممارسة التزوير .. تمنعه من إعلان كفره حتى لا يضلل الآخرين (وسأقول لك بعد ذلك من هم هؤلاء الآخرين) . المشكلة هى مشكلة المنافقين الذين يخلطون الأوراق ، مثل نصر حامد أبو زيد الذى يدعى الإسلام - إذا كنت أنت حاكميا - أو جماعة كوبنهاجن التى تدعى الوطنية - إذا كنت أنت من أنصار الوطنية المصرية أو العربية . فهنا يأتى واجبك فى التكفير .
والتكفير هو أن تكشف الجوهر الكافر خلف المظهر المؤمن .. أن تنزع حجاب الغموض الذى يلف به المنافقون حقيقتك (الحاكمية أو الوطنية أو غيرها) التى هى حقيقتهم أيضا برغم إنكارهم الباطنى . رسالتك هى إذن تنوير الأذهان بحقيقة المنافقين ، وطريقك هو العقل الفاحص المدقق ، والكلمة هى أداتك التى تكشف بها وجه الحقيقة وتنور العقول . فالتكفير هو التنوير ، أو هو أعلى مراتب التنوير ..
لماذا ؟ لأنك لن تستطيع أن تخوض معركتك ضد الكفر وصفوفك ملغومة من الداخل بكافرين متنكرين .. يعكرون وجه الحقيقة ، ويهدمون الفواصل بين الحق والباطل ، ويخلقون الشبهات .. فكيف بربك تنتصر حقيقة ران عليها الظلام واختلطت بالباطل ؟ فالحقيقة إذن لا بد وأن يظهر وجهها جليا أولا حتى تتمايز المعسكرات ، وتبدأ المعركة الفاصلة بين الحق والباطل حتى النصر .
وهنا نأتى إلى الملمح الثالث المترتب على مصطلح الكفر كما شرحته لكم .. فأنت يا عزيزى لا بد وأن تتأكد أن الحق سينتصر ، ليس فقط لأنه حق ، بل لأنه الحق الوحيد : الحق بألف لام التعريف . لماذا ؟ لأن أعدائك أنفسهم يؤمنون به كما قلنا .. هم يغطون وجه الحق الذى يعرفونه جيدا ، بغرض إخفائه .. ولكنهم بالمقابل منشقون من الداخل ، بينما أنت متسق مع نفسك ومتكامل . ثق أنهم لن ينتصروا عليك إلا إذا تقاعست عن واجبك فى الدعوة والمواجهة والتكفير .. وتركت المنافقين ينعمون بالأمان وهم يدعون الإيمان . هنا فقط ستنهزم ، ولن تنهزم وحدك .. بل ستنهزم معك الحقيقة : ستنهزم معك دعوة اللـه الحاكمية ، أو الشعب ، أو المقهورين ، أو البروليتاريا .. الخ .. الخ ..
عزيزى : أنت إذن رسول الحق .. أنت المنوط بك أن تنقذ البشرية ، أو الوطن، أو المبدأ ، أو كل ذلك معا .. أنت ظل الحقيقة على الأرض .. فلا تتراجع .. لا تلجأ للحلول الوسط .. لا تتهاون .. لا تتوقف عن التكفير .. حتى النصر .
دمنا قد اتفقنا يا عزيزى على أنك ستناضل .. فمن واجبى الآن أن أعرفك على أعدائك.
من هو عدوك ؟ الجميع طبعا . آمل ألا يجعلك ذلك تتراجع .. وعموما فأنا واثق أنك - بالعكس - تعتز بأنك ، أنت وجماعتك ، أنتم فقط الذين تعتمد عليكم الحقيقة كى تنتصر . ولا تظن أننى أبالغ .. تذكر أن الحق واحد لا يتعدد .. وأنه معك ، وأن كل الآخرين كما قلت لك يعرفونه برغم أنهم يحاربونه .. ولذلك فليست كل أفكارهم سوى صور متعددة للكفر .. لإنكار الحق .. وبشكل أوضح .. كلها صور معكوسة مقلوبة للحق الذى تحمله أنت ..
لا تخدع نفسك وتعتقد أنهم كثيرون .. متعددون .. متنازعون فيما بينهم : فما نزاعهم الذى تراه أحيانا إلا من طمع نفوسهم المريضة .. من مصالحهم ومكرهم وشرهم الذى دفعهم لإنكار الحق الذى يعرفونه . ولكن مهما بلغت نزاعاتهم فإنك أنت وحدك الذى تشكل الخطر الأكبر على كل منهم .. ولذا فإنهم يتَّحِدون جميعا ضدك كلما ظهرت تباشير الحق . فإذا كنت حاكميا لا يغرنك انقسامهم إلى رأسماليين واشتراكيين .. ديمقراطيين ومستبدين .. إلىآخر تقسيمات الكفر . وإذا كنت وطنيا لا يغرنك انقسامهم إلى مؤمنين وكافرين بالدين .. أو حاكميين ومتغربين .. وهكذا بالنسبة لكل مبدأ .. فهم جميعا متآمرون ضد الإسلام .. أو الوطن .. أو الشعب .. أو المقهورين . هم عملاء لأمريكا .. أو إسرائيل .. أو الرأسمالية .. أو الشيوعية .. حسب مبدأك .
قد يقابلك يا عزيزى أفراد منهم تبدو عليهم الطيبة والسذاجة والنية الحسنة .. فلا تنخدع بمعسول الكلام . ولكن حتى إذا اقتنعت بأن أحدهم قد التبس عليه الأمر وضل عن حقيقتك - رغم أن ذلك شبه مستبعد كما تعلم - فتذكر أنه "عميل موضوعى" للكفر .
والعميل الموضوعى - يا أعزائى - هو ذلك الذى يخدم الكفر بغير وعى .. عن حسن نية .. يخدمه بالسلوك والأقوال ، لأنه يساهم فى حصار حقيقتك وينزع عنها الأنصار ، ويفتت الصفوف ، ويخلط الرايات ، ويبرر التعامل مع الكفر، ويروج لاحترامه ، أو التسامح معه ، ويترك الظلام ينتشر ، بل وربما يبشر به معتبرا إياه خيرا ونورا . فلا تتهاون مع هؤلاء .. ولا تدع تصوراتك الشخصية عنهم تبلبل موقفك وتعرقل كفاحك .. فهم الأخطر على المبدأ بسبب مظهرهم البرىء ذاته . وهنا يجب أن تتذكر جيدا العمالة الموضوعية ، فهى طوق النجاة لك، خصوصا فى هذا العصر الذى كثرت فيه الأفكار واختلطت ، وشاع فيه التشوش، وكثرت العقائد . بل أنك ستجد أن أعداءك يتهمونك أنت نفسك بالعمالة ، وفقا لمبدئهم .. وعليك فى مواجهتهم أن تواصل التكفير .. بلا هوادة .
ولا تظن أن التكفير مسألة صعبة . فطالما تذكرت مبدأك ولم تنسه ولم تدخل فى التشوش حول التفاصيل .. ستجد بسهولة الفارق الذى تقسم به العالم إلى من هو معك فى الحقيقة ومن هو ضدك فى الكفر . ولا تتردد فى استخدام تهمة العمالة ، لأن هذا الاتهام يوضح المسألة ويجعلها يسيرة الفهم بالنسبة للجميع : يكشف عن المصالح الكامنة وراء الكفر بأبسط طريقة ، وهو فوق ذلك اتهام فعال .. لا رد عليه : فكيف يستطيع المرء أن يثبت أنه ليس عميلا ؟؟ ربما كان يتلقى أموالا من خلف ظهور الناس .. ربما كانت له مصالح مشتركة لم تنكشف بكاملها .. وربما .. وربما . فالمسألة الجوهرية فى كل الأحوال أنهم يكسبون شيئا بالتأكيد من إنكار الحق .. وإلا فلماذا بربك ينكرونه ؟ فالاتهام بالعمالة إذن يا عزيزى ليس بعيدا عن الحقيقة على كل حال ، والأهم من ذلك أنه اتهام سهل .. والتخلص منه أصعب ، وهى نقطة لصالحك : لصالح المبدأ ، لصالح الحق ، وضد الكفر والباطل والشر . وفى أقل تقدير سوف يتيح لك أن تنتقل من الدفاع إلى الهجوم ، وأن تدفع أعداءك المخادعين إلى الدفاع والاهتمام بتأكيد مبدئك أنت وتبرئة أنفسهم ، بدلا من نشر الباطل .
ولا تدع ضميرك يؤرقك كثيرا ، ليس لأنه ليس عندنا ضمير .. فنحن الضمير الحى للمبدأ وللعالم كله .. ولكن لأن الكفار والمنافقين هم بالفعل عملاء .. لأن ملة الكفر واحدة كما تعلم . فحتى إذا أعوزتنا الأدلة الدامغة على العمالة المباشرة ، فإن العمالة الموضوعية للأعداء .. على الأقل .. شبه مؤكدة سلفا ، واحتمال العمالة المباشرة التى لم نكتشفها احتمال كبير أيضا . أنبهك أخيرا إلى أنك قد تواجه فى كفاحك من يمتلك سمعة منيعة إلى حد ما .. بحيث يصعب اتهامه بالعمالة المباشرة .. وعليك فى هذه الحالة أن تلجأ لحجة العمالة الموضوعية الأكثر أمانا . وطريقتها بسيطة جدا .. فهى ليست أكثر من تكرار مبدئك ذاته .. مضافا إليه فكرة المؤامرة العالمية التى سبق أن أوضحتها لك ..
وسأذكرك بحادثة بسيطة توضح ما أقول .. هل تتذكر هذه الأقوال المتكررة حول علاقة مجموعات من الشعراء والكتاب الشبان وبعض النشرات غير الدورية بالصهيونية ؟ .. هذه المعركة الصغيرة التى حدثت على هامش الثقافة ستوضح لك بأبسط الأشكال كيف يستحيل على المرء أن يدحض تهمة العمالة .. سواء كانت المسألة إقامة علاقة بصحفى يهودى بريطانى .. تؤوَّل طبعا بسهولة بالعمالة لإسرائيل .. أو كانت ببساطة نوع من الكتابة الأدبية غير مألوف ويتعارض مع مسلماتنا . فهنا جرى اتهامهم بتقويض اللغة والشعر والتقاليد .. لمصلحة الأعداء طبعا . فما حدث هو باختصار أنهم أكدوا قناعاتهم بما يعتبر فى نظرهم عملا أدبيا وما لا يعتبر كذلك .. ومن خلال هذا التأكيد المضمر وحده أصبح الاتهام بالعمالة الموضوعية واضحا بذاته .. فانظر وتعلم .
باختصار .. فإن درسنا اليوم قد انصب على التكفير الشامل .. الدائم .. المتنوع الأشكال .. للجميع .. وهذا هو أساس العمل الذى نقوم به .. نحن رسل الحقيقة والخير
تلاميذى الأعزاء : اليوم أعرج بكم على مسألة فى غاية الخطورة : تكفير الذات . أريد منكم هنا أن تستوعبوا الكلمات جيدا .. وأن تكون لديكم الشجاعة - ولا أشك فى أنكم تتمتعون بها - فى تفهُّم هذه النقطة الجوهرية التى هى مناط الأمل فى تفوقكم . ذلك أن تكفير الذات هو المرتكز الرئيسى الذى لا يصلح التنوير/ التكفير إلا به ..
وكما سيتضح لكم .. أنا لا أنوى هنا أن أعلمكم شيئا جديدا .. فسوف تكتشفون بسهولة أن كل ما سأقوله قد خبرتموه بأنفسكم ، ولكن مررتم به غالبا مرور الكرام ، لرغبتكم فى أن تؤكدوا لأنفسكم إخلاصكم .. ربما . وقد آن الأوان لأن نعيره الأهمية البالغة التى يستحقها . فإذا كان المنافقون أخطر من الكفار .. لأنهم يشاركونكم - ادعاءً - فى المبدأ .. فأنتم أنفسكم أخطر من المنافقين !! فأنتم رسل الحق .. وإذا التبست عليكم الأمور ضاع الحق معكم ..
كيف تلتبس عليكم الأمور ؟؟ من خلال النقاش والتفكير فيه .. فالمنافقين ماهرون ، كثيرو الحجج ، أساليبهم كثيرة ومتشعبة . وقد تجد نفسك وأنت تتناقش معهم ، أو تدحض أفكارهم ، تنجرف فى سيل الحجج ، ويصيبك التشوش . فعليك دائما أن تعتصم بعصبة الحق من أنصارك .. أصحاب المذهب الخالص ، ولا تدع المنافقين يخدعونك ويدخلونك فى جو النسبية اللعين ، حيث يكون كل شىء صحيحا من ناحية معينة ، وحيث تتوالى الاعتبارات والملابسات والظروف والوقائع .. إلى آخر ما يرددونه لمحو الفاصل الواضح بين الحق والباطل، وتكون قد فقدت إيمانك وصرت منافقا أو أضل سبيلا ..
عليك فى مواجهة هذا الخطر أن تطمئن أولا إلى أنه خطر معتاد .. يتعرض له كل صاحب عقيدة .. حتى لا تشك فى نفسك وتنعزل عن جماعتك خزيا إذا كنت من أصحاب النفوس الحساسة .. فتفقد الطريق ثم تكفُر . وعليك ثانيا ألا تتنازل مهما بلغت قوة هواجسك : فأى تنازل من جانبك للمنافقين سوف يميع القضية التى يسعون لتمييعها .. ولتجعل نصب عينيك دائما أنك إذا انزلقت خطوة واحدة لن تجد لديك قوة كافية للتوقف عن التدحرج .. فقط سيستغرق انحدارك بعض الوقت لتصل فى النهاية إلى سفح الكفر الصريح أو الباطن .
وعليك إذن أن تبتعد عن المزالق .. وهذا أمر بسيط : فما عليك إلا أن تحرص على تجنب طرح ما لا يتفق مع صريح المبدأ بشكل مباشر .. أو ما يختلف عنه قيد أنملة . تجنب .. إذا كنت حاكميا .. مناقشة أفكار أمثال نصر حامد أبو زيد .. لا تزن أفكاره بالحجة والمنطق إلا فى حالة الضرورة القصوى وبغاية الحذر، مع الحرص دائما على تذكر موقعه ، بوصفه من وجهة نظرك عميلا صريحا أو موضوعيا . أما إذا كنت وطنيا فتجنب النقاش مع أنصار العولمة ومن لف لفهم . وأيا كان مبدؤك فإن الإدانة الدائمة وغير المشروطة لمثل هؤلاء تظل دائما دليل عملك . والأهم من ذلك أنها دليل سلامتك أنت شخصيا ، لتتجنب الانزلاق على منحدر النسبية اللعين .. كما قلت لك . والأفضل أن تدع مسألة مناقشة العدو والرد عليه إلى شيوخك من المكفِّرين المجربين .. فهم الأقدر على حماية أنفسهم من الشكوك وهم يطالعون الكفر وحججه . وأنا أعرف طبعا أنك تتصرف على هذا النحو بالسليقة .. ولكن مزيد من الإيضاح لا يضر .
ولا تظنن يا عزيزى أن هذا الكلام الكثير عن تكفير الذات نابع من الشك فيك .. فأنا يا عزيزى لا أشك فيك قيد أنملة .. فنحن شركاء كفاح . أنا لا أُرهبك .. ولكنى أقدم لك نصيحة الأخ لأخيه ، أو الزميل لزميله . لك علىّ واجب النصيحة : فهذا جزء من مهمات الدعوة . الأهم من ذلك أننى أنصحك وأنا أضع أمامى قبل كل شىء واجبنا المشترك نحو المخدوعين : نحو العامة ..
لنكن صرحاء .. لتكن لك هواجسك وشكوكك .. فهذا أمر لا مفر منه تقريبا إذا كنت تتمتع بشىء من الذكاء . ولكن إذا لم تستطع أن تقتلها بداخلك فناقشها معى .. فنحن رفاق الطريق المسئولون .. وعلينا أن نتساند . بالعكس .. أنا أحاول أن أقلل خوفك من هذه الهواجس التى تنتابك ، وأقول لك مصادرها ، وأنبئك بأنها من طبيعة الأمور ، وأقول لك على الحل السليم: تكفير الذات . فقط حذار أن تعلن عن هذه الهواجس .. فإخفاؤها هو مسئوليتنا الأولى : ذلك أن قوام الدعوة بكل مشتملاتها - بما فيها التكفير - هو أن تبدو كصاحب مبدأ لا يتطرق إليه الشك من قريب أو بعيد .. وكفانا ما يفعله الكفار والمنافقون لتشويش عقيدتنا ..
المؤمنون طبعا يا عزيزى كأسنان المشط .. ولكن ليس من يعلم كمن لا يعلم .. وليس من تنطلى عليه الشبهات كمن لا تنطلى عليه . ومسئوليتنا هى أن نحمى عقول العامة من الزيغ ، وندفعهم إلى الإيمان لنحمى المبدأ ، ونقرر لهم وجه الخطأ والصواب فى كل أمر . وإلا ماذا سيحدث إذا فكر كل فرد على هواه ؟؟ نحن القدوة .. ولذا فإن عليك أن تنفى جميع الهواجس حين تتحدث : كن واثقا وواضحا ، مارس تكفيرا متواصلا متماسكا ، اغرس عادة التكفير ، وضع الفواصل واضحة بين الكفر والإيمان .. إن لم يكن بالعقل فبغيره : بالاستنكار والاتهام . وثق يا عزيزى أن هذا السلوك سيفيدك أنت نفسك فى نفى الهواجس التى تؤرقك .. فدورك الذى ستمارسه سيضع على كاهلك التزامات واضحة ومتتالية وسيقيدك بمواقف الحق لتنتهى فى النهاية إلى الاقتناع بما تقول .. أو كما ينصح المشايخ بحكمة .. صلِّ لكى تؤمن ..
لا تظن يا عزيزى أنك أنت وحدك المطالب بتكفير نفسك .. فهذا قدرنا جميعا .. الفرق بينى وبينك أننى طبعا لا أقول لك هذا عن نفسى : أحل مشكلات تكفيرى وحدى ، فأنا أقدر منك على تكفير نفسى بنفسى ، ولذا فأنا الأكثر تشددا ، ولذا أنا معلمك . فالمؤمن الذى لا يكفِّر نفسه ويحاكمها لن يصلح يوما من الأيام لتكفير الآخرين ..
وباعتبارك أحد الحواريين النجباء أقول لك أننى فى الحقيقة لست بمثل هذا التشدد الذى أُظهره : فبحكم مسئوليتى العقيدية نحوكم أجد نفسى مضطرا للإطلاع على الكفر وأفكار الكفار .. لأعرف مناوراتهم وما ينبغى علىّ أن أقوله فى مواجهتها .. سواء لك أو للعامة . وليس هذا بالأمر الهين : لأنه يعنى أن أعرف نقاط القوة فى منطق الأعداء ، وأعانى من ذلك : ذلك أن الفهم خطير : يؤدى إلى التشوش . فتخيل ماذا سيحدث إذا لم أكن قادرا على تكفير نفسى ؟؟ كيف سأقنعكم بكفر أعدائنا إذا لم أكن قد قمت أولا بتكفير الذات وتنقية أفكارى من الهواجس وتوصلت إلى وضع الحدود القاطعة بين الحق والباطل وتحديد إمكانيات الاتهام ومواطن الضعف ؟؟ أنتم تعيشون فى نعيم لا تشعرون به بفضلى .. وبفضل زملائى من شيوخ التكفير .
سوف تحتلون موقعى فى يوم من الأيام .. لذا أقول لكم أننى أحيانا أجد أنه من الضرورى أن أتحالف مع شعبة من شعب الكفر .. وأصل معها إلى موقف وسط : أتفاوض معهم وأتحدث بلغة وسط ، أتخلى عن تكفيرهم فى لقاء كهذا لأتفق معهم على تكفير مشترك ضد عدو مشترك .. أو لأتجنب مخاطر معينة من جانب السلطة أو القانون .. أو حتى ما يسمى الرأى العام الذى رأيت فى لحظة ما أن أتوجه له بوسيلة دعائية مقبولة . وأنت تعرف يا صديقى كيف نتعرض أحيانا للنكسات ونضطر إلى تغيير لهجتنا وأسلوبنا بعض الشىء . وأحيانا أضطر إلى المبادرة بذلك : فأكتب من تلقاء نفسى أو أخطب فى ندوة أو مؤتمر بلغة وأفكار تجمع بيننا وبين بعض الكافرين لنفس الهدف .. وبعد ذلك علىّ أن أقنعكم بما فعلت وأتجنب تكفيركم لى بالأدوات التى علمتها لكم والتى أعرف مفعولها جيدا ، وعلىّ فى نفس الوقت أن أحافظ على ألا تضلوا سواء السبيل ، فلا تختلط عليكم الأمور ، ولا تتصوروا أن المبدأ قد تغير أو تحور ، حتى لا تضيع الحقيقة ولا أفقد وتفقدون معى سلاح التكفير .
كل ذلك يا تلميذى النجيب يضغط علىّ ، يُخرجنى من حصن المبدأ ، يعرضنى للتشوش . ولكن - وهذا بينى وبينكم - يقف عند حدود معينة بسببكم أنتم : الخلصاء والأتباع . فلست على استعداد لأن أخسر مكانتى بينكم ، وقوتى التى استمدها من إيمانكم بكلماتى لمجرد بضع خواطر مرت بذهنى . لقد بنيت مكانتى بينكم وأمام خصومكم بدفاع لا يتزعزع عن المبدأ .. وأصبح التمسك به حتى النهاية مسألة شرف وكرامة ووجود ..
ولكنك سوف تظلمنى وتظلم نفسك كثيرا إذا فهمت من ذلك أننى مجرد صاحب مصلحة . وليس من مصلحتك على كل حال أن تقول ذلك حتى لو اقتنعت به : فنحن فى مركب واحد ، وسمعتى من سمعتك . وعليك فوق ذلك أن تقدر صراحتى معك ، خصوصا وأننى أعرف أنك لا تتصرف من منطلقات تختلف كثيرا ، لأن كل منا بوصفه حامل المبدأ ونصير القضية ينتهى يه الأمر إلى أن يتوحد بالمبدأ .. فمنه يكتسب مكانته ودوره . وأنا فى ذلك كله لست أسوأ من غيرى .. فأنا كما تعرف ظل الحقيقة على الأرض : رسالتى هداية الخراف الضالة، وقيادتكم .. أنتم الزملاء الصغار ، وعلىَّ أن أظل كما كنت دائما مناط أملكم فى مواجهة الكفر .. والمتحدث باسمكم .. فكيف أخون الأمانة ؟؟
ولكن - كى أكون صريحا معكم للنهاية - فإننى لا أخضع لضغوطكم بغير قيد أو شرط .. فعينى مصوبة دائما نحو الجمهور .. ما الذى ينتظره منى ؟؟ إلى أى مدى يؤيدنى . والأهم من ذلك: إلى أى حد يتيح لى فعليا أن أتحدث باسمه ؟؟ ولذلك فأنا على استعداد كامل لأن أتحداكم إذا لمست جمهورا يؤيد عقيدتى وما أحدثه فيها من تغيرات .. أو إذا يئست تماما من الطريق الذى نسير فيه وانفض الناس من حولنا . وعلى كل حال فأنا واثق من أننى إذا لم أفعل ذلك سوف تنفضون أنتم أنفسكم عنى . هذا أكيد .. على الأقل بالنسبة لأذكاكم ، فنحن جميعا يا عزيزى طلاب سلطة .. وهذا يمهد لدرسنا التالى : درس فى سبيل اللـه .. أو من أجل الوطن .. أو من أجل الحرية والتقدم .. المهم أن يكون "من أجل" أو "فى سبيل" .. والسلام ..
لست أشك يا تلاميذى الأعزاء أنكم ما أتيتم إلىّ اليوم للمرة الرابعة إلا لتعرفوا من أكون بالضبط . فبالحس المباشر ، ليس ثمة مناضل إسلامى أو وطنى أو ديمقراطى أو يسارى سيقول لكم ما أقول .. فهذا الكلام عن منطق التكفير يخرج عن أى نظام معروف للتكفير .. بل هو يهدده : لأنه يعممه ويفقده خصوصيته ، وبالتالى قدسيته . وقوام التكفير كما نعلم جميعا هو الإصرار على مبدأ واحد لا شريك له .. وليس - كما فعلت - تناول كل المبادئ على قدم المساواة .. وقد آن الأوان لأقول لكم من أنا حقيقةً .. حتى تستكملوا معى هذه الدروس - إذا أردتم - على نور ..
أنا يا أعزائى مجرد مثقف مصرى : واحد من هذه الفئة التى يصنفها علماء الاجتماع تحت فئة أكبر هى الإنتليجنسيا . أنا واحد من هؤلاء الذين منحوا أنفسهم حق وضع المبادئ والدفاع عنها . ولا يهم كثيرا ما إذا كنت أصلا وطنيا أو حاكميا أو تقدميا .. أو حتى ديمقراطيا .. إلى آخر هذه التصنيفات . المهم أننى هنا الآن لأرشدك إلى شروط عضوية هذه الفئة التى أعرفها جيدا .. ومشاكل هذه العضوية .. وماذا تفعل بصددها..
وبصراحة أكثر فأنا يا عزيزى كما ترى قد بلغت من العمر أرذله .. وأتاح لى عمرى الطويل أن أطوف على جميع هذه المبادئ المتصارعة .. فهالنى - ويا للهول - أننى وجدت الشىء نفسه دائما : وجدت هذه المبادئ التى وصفتها لكم تعمل فى كل مكان بنفس الطريقة .. دون شعور بهذا التقارب المهول أو الهزلى بين الأعداء : بين الحاكمى والتنويرى كما بين التقدمى والليبرالى . ورأيت المعارك الطاحنة داخل أبناء كل فريق ، وليس فقط بين الفرق المختلفة . فوجدت نفس الاتهامات بالعمالة والتعاون مع الأعداء وبخيانة المبدأ والخروج عن صحيح العقيدة أو الوطنية أو النظرية . هذه الخبرة يا أعزائى هى التى دفعتنى للتساؤل : من نحن وماذا نريد ؟ وما هى قواعد اللعبة ؟ وباختصار فإننى لم أكن مخلصا بما فيه الكفاية لأى مبدأ .. وليست سيرة حياتى هى النموذج الأمثل لرجل التكفير/ التنوير الذى شرحته لكم .
ولكن لا تظن يا عزيزى بسبب ذلك أننى كافر ، وأنا أشك كثيرا فى أن تكون البسيطة قد حملت على ظهرها فى أى يوم من الأيام مثقفا واحدا كافرا على مدى التاريخ ، وعلى الأقل أنا عن نفسى لم أشهد هذا المثقف الكافر أبدا . كلنا - كما لعلك لاحظت - مؤمنون .. فحتى العدميين - وقد يخطر ببالك لتتخلص من مشكلتى أن تتهمنى بالعدمية (ها أنا ذا أعطيك عن طيب خاطر أسلحة تستخدمها ضدى) - أقول لك أنه حتى العدميين يؤمنون بمبدئهم .. فالمثقف العدمى لا يكتفى بأن يكتئب كأى مواطن .. فلا بد له بالغريزة الثقافية أن يحول موقفه إلى نظرية يدافع عنها ، ويتصرف فى العلن ويكفِّر الآخرين : غير العدميين، على أساسها ...
ومثل أى مبدأ .. لا يهم هنا يا عزيزى أن تكون فى الظاهر كما أنت فى الباطن . فقد تكون عدميا فى المؤتمر والمقهى والصحيفة والندوة .. ورجلا محافظا حريصا على أدق تفاصيل النظام فى بيتك . لا يهم : فبينى وبينك .. لم يوجد بعد مبدأ واحد فى العالم يستطيع أن يحقق للفرد التكامل النفسى والاتساق المطلق الذى ندعيه جميعا أيا كان مبدأنا .. ولكنه قَدَرنا ومهنتنا أن نكون صناع المبادئ ودعاتها .. تلك هى وظيفتنا .. وهى ليست بالأمر الهين كما ترى : فأنت مضطر لأن تظهر فى العلن كما لو كنت المبدأ ذاته مجسدا .. وإلا بربك كيف تكون داعية .. ناهيك عن أن تكون مكفرا؟؟ كيف تكون - وهذا مصطلح مقدس آخر لا أشك فى أنكم تعرفونه جيدا - " قدوة
اسمحوا لى يا أعزائى فى هذا الدرس ببعض الاستطراد .. فأنا أدخل الآن فى الجزء الذى يمتعنى شخصيا فى هذه الدروس..
نحن كما قلنا .. " قدوة " . ما معنى هذا ؟ و " قدوة " لمن ؟ سبق لى يا أعزائى أن أقنعتكم طيلة الدروس الماضية بأن العالم ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما: الحق والباطل ، الكفر والإيمان ، ثم عدت وقلت لكم أن المسألة ليست بهذه البساطة : فالكل مؤمنون بشىء أو بآخر ، وأنهم لهذا السبب بالذات يكفِّر بعضهم بعضا . واليوم أعود وأقول لكم أن الأمر ليس بهذه البساطة أيضا .. وأنا فى الواقع أعتمد كثيرا على سعة صدركم وأنا أتجول بكم بين هذه المتناقضات .. ذلك أن المؤمنين حقيقة ليسوا فى الواقع سوى المثقفين حملة الحقيقة : أنا وأنتم ، وخارجنا يقع هذا الجمع المتلاطم من الكفار الذين أخذنا على عاتقنا أن نهديهم .. هم هؤلاء الذين نسميهم الجمهور أو الرعية أو "الناس العادية" .. أو المقهورين : حسب انتماءاتنا .
هؤلاء نحن لهم قدوة .. شاءوا أم أبوا : علينا مسئولية إرشادهم إلى الحق ، أو جعلهم يطيعونه ويعترفون بسموه عليهم فى العلن على أقل تقدير . فهؤلاء - أكثر من أعدائنا - هم الكفار الأصلاء ، لأنهم ببساطة ليسوا على استعداد لأن يتبعوا أى مبدأ باتساق إلى النهاية ، حتى ولو كان مبدأ الكفر ذاته . ليسوا من صناع الأفكار ولا من مروجيها .. وعلينا دائما أن نكون لهم "قدوة".
هذا كله طبعا بينى وبينكم .. فنحن لا نستطيع أن نفترض صراحة أن العامة كُفَّار ، وإلا فكيف يستقيم القول بالكفر أصلا ؟ تذكر أننا نفترض أن الكفر ليس أكثر من حجب متعمد للحقيقة - كما شرحت لكم - لا يقوم به سوى أصحاب مصالح مغرضة ، أى هؤلاء الذين يدَّعون أنهم يؤمنون بشىء آخر غير حقيقتنا الوحيدة .. التى يعرفونها جميعا ويخافونها . أما العامة فيجب أن نفترض أنهم - على العكس - على ديننا بالفطرة : هم على الفطرة ، وفطرتهم سليمة طبعا ، أى متفقة مع ما ندعوهم إليه .. أيا كان . فهم على فطرة الإسلام ، مثلا .. أو على فطرة الثورة ليؤدوا دورهم التاريخى الذى ندعوهم إليه .. أو وطنيون بالسليقة .. أو ديمقراطيون عشاق للحرية بالغريزة . فإذا كانوا يتصرفون على خلاف ما نعتقده فيهم فليس ذلك سوى تأثير الأعداء السيئ : تأثير الكفار الحقيقيين ، دعاة المبادئ الزائفة ، أو باختصار : زملائنا المثقفين المضلِّلين . مبدأنا هو الأصيل فيهم .. هو فطرتهم الحقيقية ، وما عدا ذلك ليس سوى غبش يرين على عقولهم ، صنعته دعاية الأشرار، وواجبنا هو أن ننقذهم . ولذا عليك دائما يا عزيزى أن تكون أمامهم قدوة : هذا أهم كثيرا من هواجسك التى كلمتك عنها فى الدرس الثالث ، وهو حافز قوى لتنساها وتتجاهلها ، لتتشدد وتمارس التكفير بغير تردد أيا كانت هواجسك ..
نحن قادتهم الطبيعيون .. لأننا نمثل أنقى ما فيهم : فطرتهم ، نحن قادتهم بالكلمة ، برغم أننا لا ننتمى إليهم أبدا . فنحن - ولا ينبغى بعد هذه الدروس الماضية أن يزعجك هذا : ننتمى لأعدائنا ، لهؤلاء الذين ينافسوننا على ولاء العامة، لأصحاب المبادئ .. وهذا مرة أخرى بينى وبينكم فقط . فنحن معا نوع من السادة .. سادة بالكلمة وليس بالسلطة أو المال .. فنحن من البهوات .. تماما كأصحاب السلطة والثروة . وليس عليك أن تؤكد لهم ذلك طبعا ، ولا داعى أيضا لإخفائه : فهم يعرفونه جيدا ، فأنت لن تجد عاملا ولا فلاحا ولا حتى لصا أو أفاقا أو بقالا إلا وهو يدرك ذلك ، فهذا كسبنا التاريخى المعترف به بداهة ، لأننا نملك الكلمة التى لا يملكونها ، والتى تعودوا أن ينتظروها منّا ، أو حتى أن نفرضها عليهم فرضا .
قد لا يقرأ الأميون منهم كلماتنا ، وقد لا يسمعونها أيضا . ولكنهم يعرفون جيدا أننا نقولها، وأننا نفهم تماما كيف تسير هذه الدولة التى نعيش فيها ، سواء كنّا نفهم هذا حقا أم لا . ولكن على كل حال نحن نعرف الإجراءات على الأقل، ونعرف الحقوق والواجبات جيدا ، حتى إذا كنا نرفضها .. نعرف عيوب السلطة ونقاط ضعفها ، ونعرف ما الذى ينبغى أن يقال عند الاحتجاج ، بل نحن الذين نحدده أصلا ، ولنا علاقتنا التى تحمينا وتفرض على الدولة معاملتنا معاملة خاصة . ولذا فما يخرج عن نطاق سيطرتنا نسميه انتفاضة عفوية .. أو فتنة .. أو تمرد غوغائى : فهؤلاء المساكين لا يعرفون ماذا يفعلون بالسلطة .. وقد انزرع فيهم الخوف منها إلى الأبد ..
أول ما يجب عليك أن تعلمه أنك تملك سلطة الكلمة .. ولكن هذا لن يضمن لك بحد ذاته شيئا ما ، فلا بد وأن تعرف أولا ما هى سلطة الكلمة هذه . هى القدرة على التأثير على الولاء .. فالسلطة تحتاج إلى ولاء هؤلاء العامة الذين لا يتبعون أى مبدأ مجرد ثابت . وتتمثل سلطة الكلمة ، ليس بالضرورة فى جعلهم يتبعونها ، ولكن فى فرض احترامهم لها : أن تكون لهم بشكل أو بآخر معيارا لسلوكهم ومواقفهم فى العلن ، والأهم من ذلك معيارا لما يجب أو يجوز أو لا يجوز أو يستحيل أن يقال . وفى ذلك يتنافس كلُّ منّا .. كل فرقة من فرقنا . وكلما جمعت حولك - أو حول المبدأ - أكبر عدد من الأتباع من المتعلمين ، وكلما اقتربت من وسائل الدعاية واسعة النطاق ، كلما زادت أهميتك ، وارتفع شأنك فى سلم سلطة الكلمة ، وأصبح يحسب لك حساب.
وأنت فى ذلك كله يا عزيزى تدين لخصومك أولا وأخيرا .. كما يدينون هم لك بسلطتهم . فإذا كان الأنبياء - فى مقولة شهيرة - لا يهدون إلا المهتدين - بمعنى أنهم يهدون المستعدين أصلا للهداية - فإنه من الواضح أيضا أنه لا حاجة لنبى أو داعية فى مجتمع من المهتدين !! فإذا كان الجميع يعرفون ما تعرفه ، وإذا كان مبدأك مستقرا بلا أعداء ذوى وزن ، وإذا كان ما تدعو إليه بديهيا واضحا وضوح الشمس .. لن تكون لك فائدة .
خلاصة القول يا عزيزى أن نشاطك ووضعك وتميزك إنما ينبع من تنافسك مع أعدائك ، ومن افتراض أساسى مكمل له : هو مبدأ حماية الضعيف ، وبالذات ضعفاء العقول : العامة الذين يسهل على الأشرار إغوائهم وتحريفهم عن فطرتهم، التى تمثلها أنت . فمهمتك تكون مشروعة ومبررة بقدر ما تؤيدها فكرة حماية "الكفار" - الذين نسميهم العامة ونصفهم بأنهم مؤمنون على الفطرة - من "المؤمنين" بمبادئ مخالفة لنا الذين نسميهم كفارا ومارقين على العقيدة ، على الحق .. أيا كانت هذه العقيدة أو هذا الحق . فالضعيف يا عزيزى هو ثروتك ، رأس مالك .. مثلك مثل كل سلطة أخرى : هو مبرر وجودك ذاته ومبرر سلطتك ..
يا عزيزى نحن أبناء السلطة .. قسم منها .. فإذا لم تفهم يا عزيزى أننا طلاب سلطة لن تكون مثقفا .. ولن تكون مؤمنا .. ناهيك عن أن تكون مكفِّرا ، أو قدوة . وفى درسنا القادم سوف أشرح لك اللعبة الكبرى : لعبة السلطة .. فانتظرنى .
بقدر ما يكون لك من التأثير المستقل بقدر ما تستطيع أنت ورفاقك ، أو أخوتك فى اللـه ، أن تقيموا مؤسساتكم وتمولونها وتنشروا الدعوة ، وتصبحون فى موقف أقوى عند المساومة على السلطة . وإلا فيمكنك يا صديقى أن تنضم إلى مؤسسة قائمة ، أو تحصل على تمويل خارجى أو داخلى من جهات تملك الثروة .. إذا ما اتفقتما سويا على العقيدة والتكفير المترتب عليها . وكلما كانت الأخطار أكبر والمهمة أشق ، كلما كان التمويل أوفر .. هذا إذا كنت قد أثبتَّ قدرتك على خوض معارك التكفير بكفاءة : فالسلطات المالية والدولة لا تتحالف إلا مع سلطة ثقافية لها وزنها الكبير فى مجالها . وأقولها لك بصراحة .. لا ورد بلا شوك .. إذا لم تكن مناضلا لن تحصل على الكثير .
يا عزيزى لا تعتقد أننى أتهمك بالعمالة أو أحرضك عليها . فقط أوضح لك طبيعة الأمور حتى لا تظل مثقفا على هامش الأحداث . وأنا لا أطلب منك أو أحرضك على جمع المال .. وأنت تعرف جيدا أن هذه الخصلة بالذات ممقوتة وسط المثقفين ، برغم أنها تلقى احترام قطاع واسع منهم فى نهاية المطاف . ولكنى أكلمك هنا عن السلطة : فالمال لا يؤثر بغير تحالف مع الثقافة ، ولكن الثقافة أيضا لا تؤثر بغير تحالف مع المال . ولا أقول لك أحصل على المال لنفسك ، ولكن على الأقل لمبدئك ..
يمكنك أن تتحالف مع الدولة ، خصوصا إذا كنت ضعيفا . يمكنك أن تضغط وتطالب بتدخل الدولة ضد أعدائك : تستطيع أن تضغط عليها لتحقق لك ذلك بأن تستخدم مبادئها المعلنة التى توافق أنت عليها ، وتحاول مدها لتغطى أهدافك ، وتطلب منها بالتالى أن تتدخل لقمع معارضيك ، أو لتوفير ظروف أفضل لنشاطك. وتستطيع أن تضغط بتهديدها بخطر الكفار عليها .. وما قد تسببه أقوالهم من تفكك اجتماعى ، أو تناحر طائفى أو طبقى ، أو انهيار الأخلاق بوصفها ركيزة للنظام .. حسب مبدئك ومبدأ من تواجهه من الكفار .
ولا تظن أنك تخسر بتحريض الدولة أو تفويضها فى الدفاع عن مبدئك : فالتفويض ضغط طالما ظل وضعك مستقلا نسبيا عنها ، بل هو يتيح لك من قبلها حرية أوسع ، ويجعلها تقدم لك خدمات شتى ولو حتى بمجرد تنفيذ جزء من أهدافك باتخاذ موقف ضد المفكرين الكفرة . دعها تخلى لك الساحة ، وتذكر أن التفويض هو فى ذات الوقت طلب استخدام .. ومن منا يرفض أن يخدم الدولة إذا كانت ستمنحه السيادة الثقافية ؟ ولماذا نرفض ؟ ألسنا نريد أن نسيطر ونوجه؟ أليست الدولة الأداة المثلى لتحقيق ذلك ؟ ..
ولكن خير ما يمكنك أن تفعله لنصرة مبدئك ، ولكى تحقق أفضل التحالفات، أن تحرص على التكفير : لا تدع الفرصة تفوتك وقتما تتراءى لك ، فالتكفير هو الذى يضمن لك إظهار مبدئك للعلن ، وجذب الأنصار ، وإقناع كل المهتمين أو تهويشهم بوجود خطر كبير .. فاشحذ حميتك ، وأملأ الدنيا ضجيجا بقدر الإمكان . ولك أن تعتبر معركة "سلمان رشدى" نموذجا تتبعه ، أيَّا كان مبدؤك . ففى هذا النموذج تم التهويل من أمر رواية ، لم تُتَداول هنا أبدا ، حتى أصبحت أخطر موضوع مثار .. فقُرعت الطبول تطالب بإنقاذ الإسلام ، وكثرت الإشارات إلى التهديد العالمى للإسلام ، والمؤامرة العالمية ، واستُفزت المشاعر ، وتم استعراض القوى ، وأُحرجت الدولة ، وفُتح السبيل أمام سيل من تكفيرات أعداء الحاكمية، وأعيد فتح ملفات طه حسين وغيره من الكفار .. والأهم من ذلك أن مبدأ التكفير قد تم إقراره على أوسع نطاق . فانظر كم المكاسب التى كانت ستضيع لو كان المجاهدون قد أهملوا شأن الرواية باعتبارها أمرا تافها لا يستحق الجهد ؟
ثمة أمثلة أخرى أيضا .. التلميذة شيماء التى قتلت عن طريق الخطأ فى فصلها فى محاولة اغتيال رئيس الوزراء السابق .. ألا تتذكر كم كُتب عنها ؟ وعن أسرتها والآمال التى وضُعت فيها .. براءتها وطفولتها .. ووحشية المجرمين ؟ ليس مهما أن يموت طفل فى بالوعة مفتوحة .. ولكن أن يموت أثناء عمل إرهابى .. فهذه فرصة لا تعوض : فهنا تسنح إمكانيات توجيه طعنات للحاكمية ، واستثارة مشاعر الأبوة والأمومة ، وحشد الرأى العام ، وتشجيع الدولة على مد يدها للمثقفين المعادين للحاكمية .
وثمة مبدأ لا يقل أهمية فى الصراع الثقافى : استثمار الشهيد . لا تظن ببلاهة أن الشهيد من أجل مبدأ يقدم مجرد نموذج ومثل أعلى للأنصار ، فهو قبل ذلك كله دليل على السعى الجدى نحو الهدف المعلن ، ودليل على وجود قوة يستطيع من يريد أن يعتمد عليها ، وأن يدعمها وهو مطمئن إلى قدرتها على الإنجاز . والأهم من ذلك أنه يفتح المجال للحديث فى القضية ، والدفاع عن الشهيد فى وجه الاتهامات ، وإدانة من قتلوه ، وتأكيد عظمة المبدأ بتعميده بالدم، وإشاعة الرهبة والإعجاب فى نفوس العامة . وهذا كله يعتمد على ربط الشهيد فى كل قول بالمبدأ : تذكر المبدأ دائما كما قلت لك مرارا .
باختصار يا عزيزى .. عليك دائما أن تتذكر أنك سلطة ، وأنك تنتمى إلى السلطة ، وأنك "بيه" ، وأن سلطتك نابعة من الكلمة ، وأن علاقتك بالسلطة هى علاقة صراع من الداخل - وليس من الخارج . لا أقول لك ذلك لتعلنه للكافة ، ولكن ليكون مرشدا لك فى تحركك العملى الحقيقى . أنت جزء من الصفوة .. ولكنك لن تكتسب سلطتك كاملة إلا إذا كنت صاحب مبدأ ، أى مستقل عن الصفوة بتوجه معين ، بحقيقة يتبعها تكفير ، فسلطتك هى سلطة القلم .. وليس القلم كالسيف أو المال ، ولن تكون له قيمة إلا إذا استقل عنهما وواجههما بدرجة أو بأخرى . عليك أن تكون مناضلا : لا تتراجع .. ولكن عليك أولا أن تدرك أن عدوك الأساسى ليس هو صاحب السيف أو المال ،بل هو ذلك الذى يكفِّرك بحقيقة أخرى ليست حقيقتك . طريقك إلى السلطة والنزاع مع أصحاب السيف والمال والتحالف معهم يمر أولا بنزاعك داخل حقل الثقافة .. المبادئ .. الأفكار . والتكفير هو أداتك التى تخلى لك الساحة .
ولكن دعك يا عزيزى من كل حسابات السلطة التى نناور فيها بقدرتنا المزعومة على حماية أفكار البسطاء من التشوه .. المهم هو المبدأ ، هو إشكالية المثقف والسلطة التى ندور حولها ليلا ونهارا ، عقدا وراء عقد . نحن وسطاء كما قلت لك ، مثل كل سلطة حديثة .. فنحن أبناء الدولة الحديثة التى ربتنا وعلمتنا، وطلبتنا كى نساعدها فى مد سلطتها ، ويحق لنا أن نطالب بنصيبنا . وقد أثبتت لنا الأحداث مرارا وتكرارا أن الحفاظ على مسافة من السلطة هو أقوم الطرق لانتزاع حقوقنا .
فكر مثلا فى هذا المثال البسيط : الموقف من التطبيع .. أن يذهب عمرو موسى إلى إسرائيل وتنتهى لقاءاته باتفاقات محددة فهذه مناسبة لنا لننقد الدولة ، ولكن أن يقوم أحد المثقفين بهذه الزيارة بدون اتفاقات ولا مباحثات فتلك كارثة الكوارث التى لا يجوز السكوت عليها .. لماذا ؟ هل لأن هذا شرخ فى ضمير الأمة حقا كما ندعى ؟ .. هل لأننا تلقينا تفويضا بأن نكون ضمير هذه الأمة ؟ آلاف ذهبوا إلى العمل فى إسرائيل من البسطاء الذين نفرض عليهم وصايتنا .. ولكن لم تكن هذه هى المشكلة .. المشكلة هى أن يقوم بعض من طائفتنا بذلك : لأن ذلك ببساطة يطعن فى مصداقيتنا الوطنية عموما ، ويحرمنا من إمكانية نقد الدولة ، والأهم من ذلك يطعن استقلالنا فى هذه القضية التى طالما لعبنا فيها دورا مشهودا .. كُلِّلنا فيه بالغار . ليس ثمة من هو أقدر على كسر المحرمات من المثقف، لأن الدولة تستطيع ببساطة أن تشير إلى الواقع العملى لتبرر ما تفعله .. خطأ أم صوابا ، والفرد العادى مجرد "مواطن" ، وليس جزءا من سلطة السيف أو الكلمة . ولكن المثقف مضطر كما قلت لك للتنظير لأفعاله وأقواله .. سوف يطيح إذن بالمبدأ ، ولن نبرأ من الجريمة التى اقترفها إلا إذا كفَّرناه إلى النهاية مرة ومرارا وتكرارا ، حتى تتمايز الصفوف ، وتتضح الرؤية .. والأهم من ذلك كله أنه يتيح الحفاظ على المسافة التى تفصلنا عن الدولة ، والتى هى كما قلت لك أساس جوهرى لانتزاع نصيبنا منها .. مؤيدين كنا أو معارضين . فبربك ما هى فائدة المثقف المؤيد للدولة إذا لم يكن ثمة معارض ؟
فوق ذلك كله يا عزيزى لا تنس أن تكفير المؤيد يحمل عديدا من المزايا التى سبق وشرحتها لك : إثارة المبدأ ، وإقامة معركة حوله ، والحث على الجهاد ، كما أنه مناسبة مهمة للرفع من قيمتنا : فسوف ننجح فى سياق الهجوم أن نعلن عن خطورة دور المثقف ، وأن شق ما يسمى الجبهة الثقافية حلم قديم للموساد ، وأن هذه الجبهة هى حارسة الوطن ومقدساته . وإذا كنت من مثقفى الهوية الوطنية يمكنك أ، تضيف أن المثقف هو معقل الروح الوطنية والكرامة ، وأملنا الوحيد فى المستقبل .. إلى آخره ، وبالتالى فهى أهم نقطة فى الدفاع عن الوطن ، أى أن الدفاع عما يسمى الثقافة الوطنية هو خط الدفاع الأخير والأساسى عن الوطن ..
وبصفة عامة .. عليك يا عزيزى أن تكون حذرا للغاية : لا تفعل أو تقول شيئا غير مألوف .. عليك دائما أن تكرر المبدأ كما هو .. لا تصرح بآرائك إذا كانت غريبة عن المتداول فى قبيلتك .. ولا تقل لى أن ذلك هو الخوف أو الجبن .. فكلنا نخاف ، والخوف أهون من التعرض للتكفير . أحب أن تفتح عينيك جيدا على حقيقة أساسية .. هى أهمية الروح الدفاعية التى تلعب دورا خطيرا فى لعبة التكفير التى أمرنك عليها : فالتكفير كما قلت لك يقوم على فكرة المؤامرة العالمية من ضمن ما يقوم عليه ، وليس هذا محض تكتيك مناسب ، فهو أخطر من ذلك بكثير . فإذا كنا نستخدم الساذج البسيط كمبرر لدورنا فى حمايته ، فإن المؤامرة العالمية تبرر دورنا بشكل أقوى ، فليس من يتصدى للنملة كمن يتصدى للأسد . وبجمع الفكرتين معا نصل إلى تصور ضرورى : هو تجنب الأعداء حتى لا يؤثرون علينا : فإذا أتاك الإسرائيلى إلى مصر وقابلك فسوف "يضحك عليك" وينتزع منك أسرارا .. أو يشوه عقيدتك ويجعلك "مائعا" نسبيا . وإذا أنت ذهبت إليه هناك فالمسألة هى ذاتها : أنت الخاسر فى كل الأحوال فى أى مواجهة (مثل نكتة "كوهين ومحمد" علَى شط القناة التى انتشرت قبل حرب 1973 .. فكوهين كما تعلم كان ينجح دائما فى أن يشتم محمدا سواء استيقظ هو مبكرا أم نجح محمد فى الاستيقاظ قبله ! ! ) .. ولعلمك الخاص فإن مجموعة كوبنهاجن ذاتها لم يكن لها أى مشروع خاص ، بل تلقت ضوءا رسميا أخضر فى عملها من البداية للنهاية : ففى هذا المسائل ثمة محرمات ومخاوف لا تقل عن مخاوف الطفل من "أبو رجل مسلوخة" تمنع أى مثقف من السير منفردا .. فلا بد له هنا من حماية : حماية جماعته أو حماية الدولة . إن الشىء الذى يجمع عليه الجميع ، والذى يشكل ضرورة لكل منا فى كفاحه من أجل الثقافة بأسلوب التكفير/ التنوير هو ببساطة : لا تسر وحدك ، ليس ثمة مواقف شخصية ولا أراء خارج القبائل المعروفة جيدا .
هل تذكُر كيف حذرتك مرارا وتكرارا من الضعف ؟ من فقدان المبدأ ؟ من النقاش مع الأعداء ؟ إن هذا كله مسطور فى كتاب ثقافتنا .. لمن يملك العين التى ترى ، مسطور بحروف عميقة غائرة .. ضخمة ، حتى أننا لا نراها فى زحمة التفاصيل . نحن لا نخشى الأعداء المجمع على عداوتهم فحسب بل نحن نخشى أن يناقش بعضنا بعضا .. فخطر الكفر ماثل دائما ..
فلا تنس يا عزيزى أن اللعب على هذه الخاصية يعد أحد أهم مقومات التكفير الناجح .. ولعل هذا يكون آخر ما أعلمه لك عن التكفير .. ولكن ما زال لنا لقاء أخير ..
ليوم أتممت لكم رسالتى .. لن يتوقف الزمن ، ولن تظل المعسكرات التى نحتشد فيها كما هى .. ولكن قد يبقى المبدأ راسخا : مبدأ التكفير ، وقد لا يبقى .. ذلك يتوقف على ظروف كثيرة.
أصارحكم الآن بأن رسالتى ليست التكفير أصلا : فلكى تكفِّر ينبغى أن تنضم لمعسكر .. وتمارس التكفير فعلا . أما القواعد العامة للتكفير التى حاولت أن أوضحها لكم ?فربما كان من شأنها أن تطعن فى طريقة التكفير ذاتها . ليست لى رسالة معينة أوجهها لكم : أريد فقط أن تكونوا على بينة . والأفكار التى طرحتها عليكم ليست لها نتيجة معينة : قد تدفع إلى التخلى عن التكفير لدى بعضكم ، وقد تدفع إلى تكفير البعض الآخر لى ، وقد تستخدم لتكفير التكفير ، وقد تتجاهلونها ، وما لا أدرى أيضا . ولكن دافعى الأساسى - ولا أخفيكم سرا - أننى قد سئمت اللعبة كلها .. بكل أشكالها ..
أنا لا أرفضكم ، ولا أحملكم المسئولية . نحن نتاج ثقافة متوارثة ، وظروف تاريخية ، وواقع عام .. لسنا نحن المثقفين الذين ابتدعنا التكفير .. التكفير شربناه منذ الصغر . دعك من التكفير الرسمى الذى نمارسه نحن وتمارسه الدولة : التكفير بصدد الأفكار العامة والسلطة الكلية ، أنظر حولك (كما يقول الإعلان ! ) ستجد التكفير فى كل مكان ، بل هو على أشده . ألا ترى معى كيف أصبحنا نشك فى كل ما حولنا ؟ فى الموظف والطبيب والمهندس ؟ أليسوا هم فى العرف العام المرتشين وبائعى الأعضاء وبناة العمارات المتهدمة ؟ ألا نشك فى قطع الغيار التى يأتى بها السباك والميكانيكى والكهربائى ؟ أليس الغش هاجسا يوميا يناوشنا ونحن فى الأسواق أيا كان ما نشتريه ؟ أليس كل فرد فى هذا البلد يتعصب لنادٍ أو لطريقة فى الطبخ والملبس والحياة ؟ أليس الناس سريعو اللجوء إلى "تكفير" كل من يختلف عن طريقتهم الخاصة فى ذلك كله ؟ يعتبرون طريقتهم وحدها القويمة وغيرها على باطل .. حتى ولو كانت طريقة عمل الملوخية ! ! ألا ينطبق ذلك بالذات على المتعلمين : أهلنا وأقاربنا أكثر من غيرهم ؟؟
فلا تظن يا عزيزى المكفِّر أنك تأتى بجديد : نحن جميعا فاقدو الثقة فى الآخرين وفى أنفسنا ، تفكيرنا منصب على المؤامرات المحبوكة - وأغلبها متخيل - وكلنا يظن أنه عرضة للخداع . لسنا نحن المسئولين عن ذلك كله .. نحن ضحايا عصر انتقال من مجتمع قديم قائم على الطوائف المغلقة ، والثقة المبنية على المعرفة الشخصية ، إلى المجتمع الحديث الذى نحاول أن نتمثله .. حيث الأفراد يتعاملون ولا يعرف بعضهم بعضا . أنت لا تعرف الطبيب الذى تتعامل معه ، ولا تعرف المهندس الذى بنى مسكنك ، ولا البقال الذى تزوره يوميا أو أسبوعيا ، ولا الموظف المكلف بإنهاء أوراقك . وفى ذات الوقت لا يوجد نظام لحمايتك من الخداع والغش .. مثلما قامت النظم فى أوربا المرهوبة المحبوبة المكروهة . أنت تحاول مثلك مثل كل شخص أن تتغلب فى ذلك بالواسطة .. أى العلاقات الشخصية . ومع شيوع المسألة أصبحت شبه موقن من نهب حقوقك إذا افتقدت هذه الواسطة . أنت تخرق القوانين بدلا من أن تتحداها وتغيرها : فالتغيير فى نظرك منصب على السلطة فقط .. حين ترتدى ملابس الخروج وتتجه إلى الاجتماع أو الندوة أو المؤتمر أو الجريدة ، ولكن حين تسيِّر أمور حياتك اليومية ليس لديك مطلب فيما يتعلق بالقانون .. بل أنت فقط تخترقه إذا استطعت ، بالواسطة ، بالعراك ، بالتجاهل .. كيفما اتفق . لا رقابة لك على السلطة ، وتحاول أن تفلت من رقابتها عليك .. ومن خلال ذلك كله تتعلم منذ الصغر معنى الخداع ، وعدم الثقة بالنفس .. فالفرص ليست مفتوحة للجميع .. والحد الأدنى من النظام غير متوفر .. ووجودك بالتالى كفرد مهدَّد دائما .
الفرق بينك وبين ما نسميه خطأ المواطن العادى - الذى لا يعمل فى صياغة ونشر الأفكار العامة - أنك من الصفوة .. كما قلت لك ، ولكنك تعانى من كل المشكلات الأخرى . أنت من الصفوة التى تدرك معنى كلمة مجتمع .. دولة .. نظام عام ، وتعلمت أن لك موقعا فى هذه السلطة بحكم مؤهلاتك الفكرية ، بحكم ما تملكه أنت ولا يملكه الآخرون ممن يعملون بأيديهم ، فإذا أنت فشلت فى الحصول على مكانتك ، وواجهت هذه العقبات التاريخية ، أصبحت صاحب مبدأ .. أصبحت مكفِّرا .. ودخلت فى هذه اللعبة التى حاولت أن أشرح لك قواعدها.
أنت وأنا .. نحن جميعا .. ننادى هذه اللا ثقة ونحن نرفع شعارات التكفير .. نخاطب الأفراد بلغة يعرفونها جيدا .. ونتولى قيادتهم أو ندعى ذلك بالأصح بوصفنا أساتذة التكفير ، ونحارب بعضنا البعض حتى يصبح لنا حق الكلام باسم "الرأى العام" ، ونحتكره إذا استطعنا ، ونكتسب من ذلك دورا ومكانة . وإذا لم نحتكره فإن إجماعنا : نحن الفرقاء .. الأخوة الأعداء .. على مبدأ التكفير .. يحفظ لنا المبدأ على الأقل ، وحد أدنى من الدور والمكانة المبنية على المبدأ . فكلنا ندافع عن الشعب، عن الفرد العادى ، عن المغفل الذى يستغفله الآخرون . وكلنا نواجه الدولة ونطالبها .. بالتحالف والصراع معها ، وكلنا ضحايا لتدخلها أو مستفيدين .. حسب السياق . كلنا وسائط لنقل القوى من خلال بلورة الأفكار .
والآن أيها الأصدقاء .. ماذا يحدث لنا ؟؟
لم يعد أحد يحتشد خلفنا .. لم تعد ثمة مظاهرات كبرى تطالب بالثأر من هزيمة 1967 .. ولا صلوات كبرى تملأ الشوارع والميادين وتحمل روح التحدى للنظام. كل أيديولوجياتنا لها أحزابها الخاوية على عروشها ليس لها من سميع أو مجيب .. الطبلة الزاعقة التى يستخدمها حزب العمل ، والأخرى التى (كانت) تدوى فى "الدستور" باسم القومية ، لا تفعل أكثر من تغذية أحقاد ، ولكن بلا فاعلية : الكل يقرأها ويمضى إلى عمله أو بيته ، والمواضيع نفسها أصبحت أكثر تفاهة واضمحلالا . فالطبلة المدوية يرتفع صوتها باستمرار .. ولكن فى شأن صغائر الأمور . الناس أصبحت أكثر وعيا وتلتفت إلى التكفير على مستوى حياتها اليومية . أما قضيتنا ذاتها : قضية المتعلمين الذين لا يجدون عملا أو يتلقون مرتبات هزيلة .. لم يعد أحد يهتم بها سوى الدولة . فقدنا الكثير من قوى الضغط، وبرامجنا أصبحت أقل وضوحا وأكثر تشوشا مع الزمن . لم يعد لنا من سند سوى الإرهاب، ولكن الإرهاب لم يفعل أكثر من أن يدفع الحكومة إلى تحسين ظروف الصعيد والبنادر والقرى ، وتحجيم بطالة المتعلمين : سياسات عملية لا تلتفت كثيرا إلى المبدأ .. بل وتسحب من تحت أقدامنا الأرض التى نستثمر فيها المبدأ ..
نحن المثقفون بالمعنى القديم الذى عرفناه وألفناه نتهاوى .. نحن يا عزيزى فى حاجة إلى مثقف جديد : مثقف يكون من وجهة نظرنا الحالية عدميا بلا مبدأ ، ولكنه يتحلى بالواقعية : بالاهتمام الحقيقى برأى الناس وحياتهم اليومية ، بدورهم فى تقرير مستقبلهم ، باستعادة الثقة بين بعضهم البعض ، بقدرتهم على التكاتف من أجل هدف مشترك . ومن خلال ذلك يمكن .. ربما .. أن نستعيد للمثقف دورا .. خارج إشكالية المثقف والسلطة (أى الدولة) التى ورثناها من عصر التكفير ..
هل نملك القدرة على صياغة الثقافة التى تنحى التكفير جانبا .. التى تكف عن تقديس السلطة العامة حتى وهى تحاربها ؟
صعب جدا يا عزيزى .. إذا كنت قد نسيت فسأذكرك برواية لطيفة اسمها "الصقار" ، قامت قيامة الحاكميين والوطنيين ولم تقعد بسببها ، واندفع "المعتدلون" من الجانبين يتكلمون عن دور الدولة فى حماية المعتقدات والأخلاق (تذكر الدروس الماضية عن أصول اقتناص الفرصة والتحالف مع الدولة وتفويضها) . هل تعرف الحجة الدامغة التى استخدمها الطرفان فى إدانة هذا الكاتب وجيله بأكمله؟ أنهم مع اجترائهم على المقدسات والأخلاق لم يكسروا التابو السياسى : لا يجرءون على أن يهاجموا مسئولا أو رئيسا فى أعمالهم الأدبية .
أنا وأنت نعرف كيف شعروا بالارتياح الشديد وهم يتوصلون إلى هذه الفكرة ويصوغونها .. فهى تنبعث من أعمق أركان ثقافتنا : أن الثقافة شأن يتعلق بالسلطة ، تأييدا ورفضا .. الدور التنويرى (التكفيرى) للمثقف .. إشكالية المثقف والسلطة .. رسالة الفن الأخلاقية أو الوطنية أو التقدمية - حسب الأحوال - بكل المضامين الدينية لكلمة "الرسالة" . فلا عجب إذن أن تكون الصقار "رواية حقيرة" .. أو ليست رواية على الإطلاق .. فالرواية يا كاتب "الصقار" - إن كنت لا تدرى - لابد وأن تكون وطنية أو إسلامية أو تحوى نقدا اجتماعيا ، والأدب ملحق من ملحقات السياسة ، يعبر عن الآمال والنقد والرفض، يعرض معاناة شعب أو شريحة منه بسبب الأوضاع . أما أن تخرج عن ذلك كله .. فهذا يدل على أنك لست كاتبا أصلا .. ناهيك عن أن تكون روائيا. أنت جسم غريب موضوع فى الثقافة .. أنت نبت شيطانى .. أو ربما دستك جهة معادية وسطنا . ربما كنت متآمرا أو عميلا (تذكر ما سبق من دروس) . لو كنت قد شتمت السلطة ربما كنا التمسنا لك بعض العذر واتهمناك بالشطط وخلط الأوراق فحسب .. ولكن .. بدون حتى كلمة عن المسئولين .. ؟! ! أنت إذن مجرد نبت تافه .. مجرد عابث .. وأنت فوق ذلك صيد ثمين يتيح لنا أن نرفع عقيرتنا ، ونطالب بحماية المواطن المغفل الذى يدغدغون له غرائزه ويؤهلونه ليكون لقمة طرية للاستعمار والصهيونية وما لا أدرى أيضا ! ! وأنت دونا عن جيلك يا كاتب "الصقار" مناسبة لطيفة لعقد أواصر تحالف بين الوطنيين المتشددين والمعتدلين الإسلاميين .. أنت حقا ثروة لا تدرى قيمة نفسها ! !
هذا باختصار ملخص سريع لما يدور داخل أصحاب فكر التكفير وما يُعلنونه. هل أدركت يا عزيزى كيف تتجذر فى داخلنا أصول عميقة لفكر التكفير ؟ كيف أننا أصلا نحترم الأصدقاء والأعداء بمعايير هى ذاتها "تنويرية/ سلطوية" ؟ هل أدركت كم هو بعيد عن تفكيرنا ، وقلوبنا ، وأقصر أحلامنا عن الحرية أيا كان نوعها ، أن نقلع عن التكفير ؟ ناهيك أن نطالب ونحارب من أجل أوضاع اجتماعية وسياسية تجعل "الشعب" أو "المؤمنين" أو "الكادحين" يقلعون عنه ويكتسبوا عقلانية عصرية ؟؟
كلا .. لسنا متواضعين بما يكفى ، لسنا أرفع من السلطة العامة كما ندعى ، بل نحن نستخدم هذه الفكرة فحسب لترتفع قيمتنا . نحن أسرى تاريخ وتراث وأوضاع . الأمل الوحيد أن تتغير الظروف ، أن يكون عندنا فرد ونظم .. حتى نكتسب الثقة فى أنفسنا ونخرج من كهوف التكفير التى تحمينا .
أنا يا عزيزى قد خرجت إلى العراء .. وقد بلغت كما قلت لك من العمر أرذله .. رأيت الصورة كلها .. وانسحبت ، بعد أن رأيت العلم نفسه يستخدم فى التكفير : رأيت كيف ينادون بالتفكير العلمى ليكفِّروا الإسلاميين بوصفهم غير علميين ، مناهضين للتقدم . رأيت العلم ينقلب إلى سحر ، والفكر إلى أسطورة ، ورأيت عمق الهوة .
يا عزيزى : لا تتوقف عن التكفير .. فهذا هو كارت العضوية فى فئتك المختارة ، أو أخرج ، ولا أقول أخرج معى .. بل إلى العراء .. عسى أن يجد أحدنا نقطة بداية جديدة خارج المستنقع ..
من حقنا أن نحلم .. ولو أحيانا ..
(نهاية الدروس - ش)