|
الشرُّ وَالخطيئَة الأصلية
ماريو أنور
الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 11:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
توطئَة رأينا أن الله هو الإله الأوحد، الآب الضابط الكل، الذي بفيض من محبته خلق السماء والأرض وكل ما فيها من جماد ونبات وحيوان، وجعل من الانسان قمة الخلائق. ورأينا كذلك أن الكائنات كلها تستقي من الله وجودها وكيانها. إلاّ أنّ الله كليّ الصلاح، أما في سائر الكائنات فنجد جنباً إلى جنب الخير والشرّ. فمن أين الشر إذاً، إنْ كان الله ينبوع الخير والصلاح؟
يمكننا تعريف الشرّ بقولنا انه خلل في الكائنات. والشرّ على نوعين، طبيعي وأدبي. فالشرّ الطبيعي هو الذي يحدث من دون إرادة الانسان، كالمرض والموت والكوارث الطبيعية التي تسبّب للانسان الأذى والضرر، كما لزلازل والفيضانات والأوبئة... أما الشرّ الأدبي فهو الخلل الذي يحدثه الانسان بملء ارادته في نفسه وفي الآخرين؛ وهذه هي الخطيئة على مختلف أنواعها.
لا ريب في أنه بإمكاننا تفسير الشرّ الأدبي، أي الخطيئة، بالعودة إلى حرية الانسان. فعندما يقتل إنسان أخاه، أو يظلمه، أو يستعبده، أو يستغلّه كأداة لتحقيق مآربه الأنانية، لا يخطر على بال أحد أن يتّهم الله ويعزو إليه مسؤولية ذلك، فالانسان هو المسؤول عما يحدث في العالم من جرائم ومظالم.
ولكنّ الشرّ الطبيعي، الذي يقع من دون إرادة الانسان، فيُحدث خللاً في جسمه أو في نفسه، ويسبّب له المرض والألم أو يقوده إلى الموت، مَن المسؤول عنه؟ واذا كان الانسان يخطأ، أفليس لأنه من طبيعته يميل إلى الخطيئة؟ وإن كان باستطاعة الانسان أن يقتل أخاه، أفليس لأن الانسان من طبيعته مائت؟ وطبيعته هذه من خلقها؟ أليس الله؟ فلماذا إذاً الإله الكلي الصلاح خلق في طبيعة الانسان الميل إلى الشرّ؟ ولماذا الإله الكلي المحبة وضع في طبيعة الانسان إمكان الألم وحتميّة الموت؟
القِسم الأول تفسيرات خاطئة لقد أعطيت، على مرّ العصور، وفي مختلف الأديان، تفسيرات للشرّ لم تعد مقبولة اليوم.
1- تفسير ميثولوجي في الأديان التي تعتقد بتعدّد الآلهة كان الاعتقاد السائد عند اليونانيين والبابليين أنّ الخير هو من صنع الإله الأعظم، وأنّ الشرّ هو من عمل الآلهة الأدنين. وتلك هي الأسطورة التي نقرأها في كتاب طيمَاوس لأفلاطون: ان الله الكليّ الصلاح قد أراد أن يكون كلّ ما في الكون صالحاً على مثاله، فكوّن هو نفسه الآلهة الأدنين، وأزال عنها كل شرّ، ومنحها الخلود، ووكل إليها مهمّة صنع سائر المخلوقات، فجبلتها مزيجاً من روح وجسد، من خلود وموت، من خير وشرّ؛ ونشأ هكذا أصل كل الشرور. وإنّ هذه الأسطورة إذ تنزّه الإله الأعظم عن خلق الشرّ، وتلقي المسؤولية على الآلهة الأدنين، تجد حلاً لمعضلة الشرّ.
2- تفسير الغنوصيّين والمانويّين: الشرّ في المادة لتفسير وجود الشرّ يقول الغنوصيون -وهم بدعة ظهرت في القرون المسيحية الأولى- ان المادة انبثقت من الله ولكن على مراحل متعدّدة. وفي كل انبثاق كان الخير يتقلّص والشرّ يزيد، إلى أن انبثقت المادة الحالية التي هي شرّ كلّها.
أما المانويون -وهم أتباع الفيلسوف الفارسي ماني، الذي توفي في فارس سنة 273 بعد المسيح- فلا يعتقدون بوجود إله واحد خالق للكون، بل بوجود مبدأين أزليين وغير مخلوقين، النور والظلمة، أحدهما صالح والآخر شرير. فالنور هو إله الخير، والظلمة إله الشرّ. أما المادة فهي ظلمة، أي شرّ. وفي أساطيرهم انه حدث يوماً أن أشرق إله الخير بنوره على المادة المظلمة، فأرادت أن ترتفع إلى مستواه، فصدّها، وخلق الانسان الأول لمساعدته على مقاومتها. إلا أن الظلمة كانت أقوى من الانسان، فسجنته في المادة. ومن هذا الانسان المقهور وُلدَت الانسانية الحالية التي لا تستطيع التحرّر من قيود المادة إلا بالمعرفة الحقيقية.
ان ما يجمع بين الغنوصيّين والمانويّين، في تفسير الشرّ، هو أنهم يرون الشرّ كلّه في المادة. أمّا الله فلا وجود للشرّ فيه، لأنه روح محض؛ فهو إذاً الخير والصلاح في ذاته.
3- تفسير الشرّ بالعودة إلى العناية الإلهية: الشرّ الجزئي يقود إلى الخير العام
يقول أفلوطين إنّ في العالم "نفساً شاملة" هي عناية الله التي تنتشر من تلقاء ذاتها في العالم وتقوده إلى الخير، لذلك لا وجود للشرّفي العالم. أما ما نعتبره شرًّا، من زاويتنا الضيقة، فهو في الحقيقة خير ضروري للنظام العام ضرورةَ الجلاَّد في الدولة.
وهذا التفسير قد تأثّر به بعض آباء الكنيسة، كالقديس أوغوسطينوس الذي يرى أنّ العناية الالهية تنظّم كل شيء بحكمة، وانّ كل شرّ ينتابنا، علينا أن نقبله بفرح لأنه يقودنا إلى الخير العام.
هذا التفسير نجده أيضاً في القرن الثامن عشر عند الفيلسوف الألماني لايبنيتز الذي يتصوّر الله مهندساً يبني قصراً جميلاً لمجده الخاص. ويقول انه يجب علينا، لتفسير معضلة الشرّ، ألاّ ننظر إلى قباحة بعض التفاصيل بل إلى روعة البناء بجملته. وأكثر من ذلك، فان قباحة تلك التفاصيل تزيد روعة البناء وتضاعف إعجابنا بحكمة الله الذي يستخدم الشرّ ليخرج منه الخير الأعظم. لذلك، وان كانت هناك عدّة عوالم ممكنة، فالعالم الذي خلقه الله هو أفضلها.
إن تفسير الشرّ بالرجوع إلى العناية الإلهية لا يزال التفسير السائد مختلف الأوساط المسيحية التي تؤمن بصلاح الله ولا تريد أن تعزو إليه أيّ شرّ. فتقول إن الله يَعلم خيرنا أكثر منّا، فاذا سمح بالشرّ، فما ذلك إلا ليقودنا إلى الخير. وقد نسمع، لدى موت شاب في ريعان العمر، أن الله قد أراد له هذا الموت المبكِّر لأنه يعلم بعلمه السابق أنّه لو بقي على قيد الحياة لعاش في الألم والشرّ. فموته هو في نظرنا شرّ؛ أما في نظر الله الذي يعلم كل شيء علماً سابقاً، فإنما هو خير.
وفي نظرة مماثلة يرى البعض أن الشرور الطبيعية، من أمراض وأوبئة وفيضانات وزلازل، إنما هي "ضربات" يرسلها الله للبشر عقاباً على خطاياهم. لذلك نسمع بعض الناس يتذمّرون وينتقدون الله قائلين: ماذا فعلت من إثم لكي يعاقبني الله؟ أيّ ذنب اقترفت ليميت الله ولدي؟
وفي هذه النظرة يصبح الإنسان هو نفسه مسؤولاً عن الشرّ، حتى عن الشرّ الطبيعي: فالشرّ هو عقاب الخطيئة. وهذا يقودنا إلى التفسير التقليدي في المسيحية: الشرّ هو نتيجة الخطيئة الأصلية.
القِسم الثَاني هل يكون الشرّ نتيجة الخطيئة الاصلية؟ 1- الخطيئة الأصليّة في كتابات القديس أوغوسطينوس هناك تفسير للشرّ بدأ في المسيحية في القرن الخامس مع القديس أوغوسطينوس، وساد الفكر المسيحي الغربي طوال قرون عديدة، وتأثرت به عقليتنا الشرقية، في حين كان في البداية غريباً عن تفكير آباء الكنيسة الشرقية القدامى.
يقول القديس أوغوسطينوس ان آدم هو، كما يروي سفر التكوين، أول إنسان خلقه الله على الأرض. وهذا الانسان قد ارتكب الخطيئة الأولى التي يروي الفصل الثالث من سفر التكوين أحداثها. وبسبب وضعه المميّز في الفردوس ومسؤوليته الشاملة كجدّ للبشرية كلها، فقد انتقلت الخطيئة بالوراثة منه إلى جميع الناس. وفي رأي أوغوسطينوس أن الهوة الجنسيّة ليست من صُلب الطبيعة البشرية، أي ان الله لم يضعها في الانسان عندما خلقه، بل هي نتيجة خطيئة آدم وحواء. وبما أنها نتجت من الخطيئة فهي تقود حتماً إلى الخطيئة. لذلك كل انسان يولد إنما هو ثمرة الشهوة وبالتالي ثمرة الخطيئة. بخطيئة آدم لم تصبح البشرية خاطئة وحسب، بل فوق ذلك أصبحت تولّد أُناساً خاطئين. فآدم هو الأصل الذي كان الجنس البشري بجملته حاضراً فيه عندما ارتكب خطيئته. فخطيئته هي الأصل والسبب لجميع الخطايا التي ارتكبها البشر على مدى التاريخ. لذلك يدعو أوغوسطينوس خطيئة آدم "الخطيئة الأصلية".
لا يمكننا فهم تفسير أوغوسطينوس هذا إلا إذا وضعناه في إطاره التاريخي. فهذا التفسير ليس إلا جواباً على تعاليم المبتدع بيلاجيوس، الذي كان يدَّعي أن طبيعة الانسان ليست خاطئة ولا فاسدة، وأنّ كل إنسان بالتالي يستطيع الحصول على الخلاص ودخولَ الملكوت بأعماله البشرية، دون أي حاجة إلى فداء المسيح. فالمسيح لم يفتدِ الناس، بل كان لهم مجرّد معلّم ومثال. لا ريب في أن تعاليم بيلاجيوس هذه تقتلع سرّ الفداء من جذوره، إذ تزيل عن المسيح كل وساطة في الخلاص؛ لذلك ثار عليها أوغوسطينوس؛ إلا أن تفسيره للخطيئة الأصلية كان متطرّفاً إذ حمّل آدم وحده مسؤولية كل ميل إلى الخطيئة في الانسان.
وتبع معظم اللاهوتيين الغربيين نهج أوغوسطينوس وأضافوا إليه، فلم يكتفوا بتحميل آدم مسؤولية الميل إلى الخطيئة وحسب، بل حمّلوه فوق ذلك مسؤولية المرض والموت وسائر الشرور الطبيعية التي اعتبروها أيضاً من نتائج الخطيئة الأصلية.
ماذا يقول لنا الكتاب المقدّس عن خطيئة آدم هذه؟
2- الخطيئة الأصلية في سفر التكوين ان رواية خطيئة آدم وحواء في الفردوس متعلقة بالرواية الثانية للخلق، التي نجدها في الفصل الثاني منّ سفر التكوين. فبعد رواية خلق الانسان، يقول الكاتب:
"وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً، وجعل هناك الانسان الذي جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة حسنة المنظر وطيّبة المأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر... وأمر الرب الإله الانسان قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فانك يوم تأكل منها تموت موتاً" (2: 8، 9، 16، 17).
ثم يتابع الكاتب في الفصل الثالث رواية الخطيئة:
التجربة "وكانت الحيّة أحْيَل جميع حيوان البرية الذي صنعه الرب الإله، فقالت للمرأة: أيقيناً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنّة؟ فقالت المرأة للحيّة: من ثمر شجر الجنّة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنّة، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه كي لا تموتا. فقالت الحيّة للمرأة: لن تموتا! إنما الله عالم أنكما في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ. ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهيّة للعيون، وان الشجرة منية للعقل،
السقوط في التجربة "فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت بعلها أيضاً معها فأكل، فانفتحت أعينهما فعلِما أنهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما منه مآزر.
قصاص الله "فسمعا صوت الرب الإله وهو متمشٍّ في الجنّة عند نسيم النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في ما بين شجر الجنّة. فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنّة فخشيت لأني عريان فاختبأت. قال: فمَن أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عن أن تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ماذا فعلت؟ فقالت المرأة: الحية أغوتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: اذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين البهائم وجميع وحش البرية، على صدرك تسلكين وترابًا تأكلين طول أيام حياتك، وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، فهو يسحق رأسك وأنت ترصدين عقبه. وقال للمرأة: لأكثرنّ مشقات حملك، بالألم تلدين البنين والى بعلك تنقاد أشواقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: اذ سمعت لصوت امرأتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلاً لا تأكل منها، فملعونة الارض بسببك، بمشقة تأكل منها طول أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الصحراء. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود الى الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب والى التراب تعود.
الطرد من الفردوس "وسمّى آدم امرأته حوّاء لأنها أُمّ كلّ حيّ. وصنع الرب الإله لآم وامرأته أقمصة من جلد وكساهما. وقال الرب الإله: هوذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعلّه يمدّ يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضاً فيحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أُخذ منها. فطرد آدم وأقام شرقي جنة عدن الكروبين وبريق سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة".
(تك 3)
أ) فن أدبي خاص إن أول ما يسترعي انتباهنا، لدى قراءتنا تلك الرواية، هو أنها تجعل الحية تنطق وتقود الانسان إلى الخطيئة. والغريب في الأمر أيضاً أن أحداثها تدور حول شجرة في وسط الجنة يدعوها الكاتب "شجرة معرفة الخير والشرّ"، يأكل منها الانسان، خلافاً لوصية الله. وكذلك تتكلم الرواية عن شجرة أخرى هي شجرة الحياة، لا يستطيع الانسان الوصول إليها، ويطرده الله من الجنة قبل أن يأكل منها. ونحن نعلم أن الحية لا تتكلم، وأنه لا وجود لشجرة معرفة الخير والشرّ، ولا لشجرة الحياة.
من هنا نستخلص أن الرواية ليست رواية لحدث تاريخي جرى مرة في بدء الخليقة، إنما هي رواية رمزية تعليمية هدفها تفسير واقع الخطيئة، الذي يختبره الانسان في ذاته وفي الآخرين. كل إنسان يسأل: ما هي الخطيئة؟ ما هي علاقتها بالله؟ ما هي نتائجها؟ للإجابة على تلك الأسئلة يلجأ الكاتب المقدس إلى فنّ أدبي معروف في الأدب العبري وفي مختلف الآداب القديمة والحديثة، وهو فن "الأمثال". وهذا الفن الأدبي هو الذي سيلجأ إليه يسوع في تعليمه. ومن أشهر أمثاله مَثَل الإبن الشاطر، وهو نقيض حكاية آدم وحواء. فبينما يخرج آدم وحواء من الجنة، أي من الحياة مع الله، يعود الإبن الشاطر إلى بيت أبيه بعد أن اختبر أن لا حياة له إلا بالقرب من الله. وكأن يسوع يشير في هذا المَثَل إلى أن مسؤولية مغادرة الجنة والابتعاد عن الله تقع كلها على عاتق الانسان الذي بملء إرادته غادر البيت الأبوي. أما الله فلا يزال ذلك الأب المحبّ الرحيم الذي ينتظر عودة أبنائه إليه ليغفر لهم ويُعيد إليهم الحياة.
وتحت تأثير الأدب الأسطوري القديم، أدخل الكاتب على فمن الأمثال عناصر من فمن "الأسطورة"، فأعطى الحية دوراً هاماً في روايته. فالأدب المصري كان يتصوّر الحية تعترض سبيل الإلهة الشمس لمنعها من الظهور؛ والحية عند الكنعانيين كانت رمزاً للجنس في بعض العبادات؛ وفي أسطورة جلجامش البابلية تلعب الحية دوراً مماثلاً للدور الذي تلعبه في قصة آدم وحواء، فهي التي تسرق من البطل جلجامش "نبتة الحياة" التي استطاع الحصول عليها بعد عناء كثير.
لا شك في ان اختيار الكاتب المقدس للحية قد تأثّر بالآداب المجاورة. ولكن تعليمه عن الخطيئة وأسبابها مخالف لتعاليم الأديان القديمة. فبينما يرى البابليون أن الآلهة هم الذين خلقوا البشر خطأة وأشراراً، يعتبر سفر التكوين أن الخطيئة ليست من طبيعة الانسان، بل بدأت بتجربة من الخارج في مقدوره أن يرفضها. فهو إذاً المسؤول عن الخطايا التي يرتكبها.
ب) الخطيئة رفض الله لتعريف الخطيئة يتكلّم سفر التكوين بأسلوب روائي، في حين يتكلّم سفر تثنية الاشتراع بأسلوب تشريعي. يقول الله للشعب على لسان موسى:
"إن هذه الوصية التي أنا آمرك بها اليوم ليست فوق طاقتك ولا بعيدة منك. لا هي في السماء فتقول مَن يصعد لنا إلى السماء فيتناولها ويسمعنا إياها فنعمل بها. ولا هي في عبر البحر فتقول مَن يقطع لنا هذا البر فيتناولها ويسمعنا إياها فنعمل بها. بل الكلمة قريبة منك جداً في فيك وفي قلبك لتعمل بها. أنظر اني قد جعلت اليوم بين يديك الحياة والخير والموت والشرّ... وان زاغ قلبك ولم تسمع وملت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فقد أنبأتكم اليوم أنكم يكون تهلكون هلاكاً، ولا تطول مدّتكم في الأرض التي أنتم عابرون الاردن لتدخلوها وتمتلكوها. وقد أشهدت عليكم اليوم السماء والأرض بأني قد جعلت بين أيديكم الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي نحيا أنت وذريتك" (تثنية 30: 11- 20).
نرى في هذا النص التشريعي العبارات نفسها التي ترد في حكاية آدم وحواء. "فالحياة والموت"، و"الخير والشرّ" هي بين أيدي الانسان. فان سمع وصية الله حصل على الحياة، وإلا نال الموت واللعنة وهلك هلاكاً.
ان "شجرة معرفة الخير والشرّ" التي يتكلم عنها سفر التكوين لا تعني مجرد التمييز بين الخير والشرّ، فهذا من ميزات الانسان العاقل، بل بالأحرى السلطة على تقرير ما هو خير وما هو شرّ، وهذا أمر محفوظ لله الذي يعلّم الانسان ما هو خير وما هو شرّ في ما يعطيه من وصايا.
فخطيئة الانسان إذاً تقوم على التمرّد على الله ورفض وصاياه. وهنا لا بدّ من الاشارة إلى أنه لا تناقض بين وصايا الله وخير الانسان. فالله لا يوصي إلا بما يقود الانسان إلى الخير ويمنحه الحياة. لذلك مخالفة وصايا الله هي في الوقت نفسه مخالفة ما يقود الانسان إلى الخير ويمنحه الحياة.
ج) نتائج الخطيئة أما النتائج التي تقود إليها الخطيئة فيعبّر عنها الكاتب في ثلاثة تصاوير:
الخجل من العري "فانفتحت أعينهما فعلما أنهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما منه مآزر". ان الابتعاد عن الله لا يقود الانسان إلى المعرفة والحكمة، كما قالت الحية: "تنفتح أعينكما وقصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ"، بل يقوده إلى اكتشاف عريه. والعري هنا يعني ضعف الانسان وعجزه. ثم ان كلمة عريان في العبرية (عيروم) قريبة من كلمة محتال (عاروم)، وقد قيل في أول الرواية إن الحية "أحيل جميع حيوان البرية"؛ فالانسان الذي يسمع كلمة الشرير المحتال يصبح على مثاله شريراً محتالاً. وإنّ الخجل من العري هو أخيراً تعبير واقعي عن سيطرة الشهوة على الانسان. فالنتيجة الأولى التي تقود إليها الخطيئة هي أنها تجعل الانسان خجلاً من نفسه، عاجزاً إزاء شهوته، محتالاً وشريراً إزاء الآخرين
التعب والمشقّة قال الرب للمرأة: لأكثرنَّ مشقّات حملك، بالألم تلدين البنين وإلى بعلك تنقاد أشواقك وهو يسود عليك. وقال لآدم... ملعونة الأرض بسببك، بمشقّة تأكل منها طول أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تُنبت لك، وتأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها". إنّ النتيجة الثانية التي تقود إليها الخطيئة هي الخلل في العلاقات بين الانسان ونفسه، وبين الانسان والآخرين، وبين الانسان وعمله. وقد رأى الكاتب أمثلة عن هذا الخلل في الألم الذي يرافق الولادة، والتعب الذي يرافق العمل، وعدم الانسجام في العلاقات بين الرجل والمرأة.
فقدان الحياة مع الله "أخرج الرب الإله الانسان من جنّة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها": إنّ "جنة عدن"، أو "جنة النعيم"، هي صورة لحياة الانسان مع الله، والخروج من الجنة تعبير عن فقدان الانسان صداقة الله. لقد رفض الانسان شريعة الله التي تحدّد له "الخير والشر"، وأراد أن يكون هو إله نفسه وشريعة نفسه، فقطع العلاقة الشخصية التي كانت تربطه بالله. فلا عجب من ثمَّ أن يشعر بأنه قد أصبح بعيداً عن الله، وبأن الله قد أصبح عنه غريباً.
#ماريو_أنور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فى سبيل الحوار بين المسيحيين و المسلمين
-
مفهوم الخلق في اللاهوت المسيحي
-
دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الخامسة
-
بين الإلحاد والإيمان
-
دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الرابعة
-
حقيقة الإيمَان بالإله الواحِد
-
دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الثالثة
-
ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الخامسة
-
ثلاثية أبعاد الحب
-
دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الثانية .
-
دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الأولى
-
ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الرابع
-
ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الثالث
-
ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الثانى
-
ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟
-
مشكلة الشر 2
-
مشكلة الشر
-
تعددية الانسان
-
فلسفة الاختلاف بين الجنسين
-
غريزة المراة
المزيد.....
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|