حازم نهار
الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 11:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
2- تغيرات السياسة الأمريكية والنظام العالمي:
يمكن القول أن السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي ، ونسبياَ خلال الفترة الانتقالية ما بين عامي 1991- 2001 ، قد ارتكزت في المنطقة العربية على محورين أساسيين ، الأول دعم الأنظمة الاستبدادية ، والثاني تشجيع التيارات الإسلامية المتطرفة ، من أجل الحفاظ على مجموعة مصالحها الواضحة ، والمتمثلة في منع القومية العربية من التشكل والتكون ، وقطع الطريق على المد الشيوعي في المنطقة ، وتأمين النفط ، والحفاظ على وجود إسرائيل وأمنها .
هذه الثوابت في السياسة الأمريكية ، سواء ما تعلق منها بالأهداف أو الوسائل ، بدأت تتعرض لتغير نسبي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ، لكنها بدأت بالتبلور فيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، عندما تحول " الإرهاب " إلى قوة عالمية مؤثرة في حياة المجتمعات والدول . و على الرغم من تحول " مكافحة الإرهاب " إلى ذريعة أمريكية تبتز من خلالها الدول ، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة الخوف الأمريكي من ظاهرة " الإرهاب " ، الأمر الذي يفسر وضع مكافحته كأحد مرتكزات السياسة الخارجية الأمريكية . الاستبداد الذي حمته ورعته الولايات المتحدة في المنطقة طوال نصف قرن ، أفرز الكثير من الغضب والكراهية للغرب وحضارته ، وكان الحاضنة الحقيقية للعنف و الإرهاب والسبب الرئيسي في تفجره ونموه وانتشاره ، الأمر الذي جعل التخلص من الاستبداد أحد وسائل مكافحة ومحاصرة الإرهاب ، فضلاَ عن الحاجة الاقتصادية إلى فتح الأسواق العالمية التي لا تلتقي مع وجود الاستبداد .
تحولت السياسة الخارجية الأمريكية إذاَ، على صعيد التوجه العام، من دعم الاستبداد نحو السير في تقويض دعائمه ، والهدف في الحالتين واحد هو المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة والأمن القومي الأمريكي .
في مرحلة دعم الاستبداد ساندت الولايات المتحدة شكلين من الأنظمة العربية ، أو بالأحرى شكلين من الاستبداد ، الاستبداد الموالي أو المتوافق معها صراحة وعلانية ، والاستبداد المعارض لها ، أو الذي يتوهم أنه معارض لها أو الذي يعارض في العلن ويوافق في السر . هل يعني هذا التحول من دعم الاستبداد إلى تسهيل التخلص منه، أن السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت مع "نقيضه"، أي مع الديمقراطية ؟ .
بداهة لا يمكن أن تكون أمريكا مع ديمقراطية متوافقة مع تصوراتنا ، لكن يمكن القول إنها تقف مع شكل ما من الديمقراطية يتوافق مع " التعددية السياسية " ، وهذه الأخيرة شرط للديمقراطية ، لكنها لا تتماثل معها ، وهي محكومة بدرجة أو بأخرى بالمانح أو المعطي و عرضة للاستغلال من قبله ، لكنها من جانب آخر قابلة للتطور والاغتناء، ومحكومة بشروط ومعطيات من الداخل.
يوجد اليوم إذا تقاطع محدد بين المصلحة الأمريكية في المنطقة و مطالب المعارضات الديمقراطية، و هذا يحدث دون سعي أو تأثير هذه الأخيرة. التوافق أو التقاطع في بعض المصالح لا يعني التطابق, كما لا يعني بالضرورة حدوث تنسيق أو تعاون بين الطرفين.
من البديهي القول أن المشروع الأمريكي في المنطقة أكبر من دعم دمقرطتها و تحقيق التعددية. إنه أكبر مساحة و حجماً و امتداداً, و هو ليس من أجل سواد عيون شعوب المنطقة, لكن ينبغي الاعتراف أنه مهما كانت صدقية الخطاب الديمقراطي الأمريكي, و مهما كانت الدوافع الأمريكية, فإن لهذا الالتزام العلني أثر كبير في شق جدار الاستبداد، و في خلق مناخات مناسبة للتحول الديمقراطي, لكن ليس هناك حتمية في حدوث ذلك, فهو رهن بنخب المنطقة و شعوبها التي قد تستطيع تحويل "الديمقراطية العرجاء" إلى ديمقراطية حقيقية.
مهما كانت القدرات الأمريكية, سلباً أو إيجاباً فإنها تبقى محكومة بشروط الداخل , بما يعني أنها ليست كلية القدرة، من هنا نقول إن تعميم التجارب خطأ سياسي فادح ، فقد تشترك التجارب في بعض العناصر ، ولكنها بالضرورة لا يمكن أن تكون ذاتها في كل مرة . يضرب البعض مثلاَ على السياسة الأمريكية الخرقاء في العراق ، لكن هذه السياسة تعاملت ، أو بالأحرى كانت مرغمة على أن تتعامل ، بشكل مختلف في لبنان ، وستكون مرغمة على التعامل بشكل آخر في مناطق أخرى . أياَ يكن فعل الخارج، فإنه سيبقى محكوماَ بالمكونات الواقعية المختلفة من مكان لآخر.
قد يسأل أحدنا: هل يعقل أن تكون الولايات المتحدة مع التوجه الديمقراطي في المنطقة, في الوقت الذي يمكن لهذا التوجه أن ينقلب ضدها ؟ . لقد دعمت أمريكا في السابق الاستبداد الذي حقق لها العديد من المصالح, و منع شعوب المنطقة من التطور, لكنه تحول في المآل إلى منتج لأهم عقبة, أي الإرهاب, أمام المشروع العالمي للولايات المتحدة في دمج اقتصاديات العالم. ودعمت الولايات المتحدة في السابق التيارات الإسلامية المتطرفة, ولم تكن تدر أنها ستحول سلاحها ضدها في يوم من الأيام. إن مجمل هذه السياسات, بما فيها سياستها الداعمة للتوجهات الديمقراطية اليوم تتوافق مع الفهم الصائب للممارسة السياسية بوصفها من أقل الأفعال البشرية وثوقاً, و بوصفها تتضمن العديد من المراهنات على المستقبل، و ربما من جانب آخر تريد الولايات استغلال موجة التحول الديمقراطي في المنطقة و التحكم بها بعد أن تأكدت ملامحها و ظهرت أجنتها. من جانب ثالث يبدو هدف دمج العالم في وحدة اقتصادية محورها الولايات المتحدة , أنه يتقبل وجود شئ من المعارضة لسياسة القوة الأكبر والأعظم, الواثقة من نفسها و من قدراتها على التحكم بها عند الحاجة, خاصة أن الديمقراطية تسمح بوجود قوى سلمية على حساب القوى العنفية.
لكن هذا السؤال يقودنا إلى ضرورة مقاربة التصورات السائدة حول الولايات المتحدة في الذهن الشعبي, أو لدى النخب السياسية و الفكرية في منطقتنا التي لا تختلف في الإطار العام عنه.
عندما نتحدث عن الولايات المتحدة أشعر على الدوام وكأننا نتحدث عن شبح لا ملامح له ، غير معروف بالنسبة لنا ، ولا نستطيع التقاط أبعاد سياساته ، وتغيراته بين لحظة سياسية وأخرى.
الصورة السائدة تتضمن كل عيوب تصوراتنا عن مختلف القضايا, فهي صورة اختزالية و استلابية و سكونية و مطلقة و خرافية في آن معاً. فالولايات المتحدة دائماً وأبداًَ, لدى جميع التيارات الفكرية السياسية, مع تجزئة الدول و تقسيمها من أجل إضعافها و نهب خيراتها, و هي لا تتورع عن اللعب بالتباينات المجتمعية و إثارة النعرات الطائفية.
بالطبع لا تتوانى أمريكا عن القيام بمثل هذه السياسات, لكن هذه السياسات ليست ثابتة , و لا تشكل قواعد أبدية في السياسة الأمريكية. الثابت في السياسة الأمريكية هو المصلحة الأمريكية, و هذه المصلحة قد تكون في لحظة معينة مع الحفاظ على وحدة منطقة معينة, كما يمكن أن تكون المصلحة الأمريكية في لحظات أخرى مع الحفاظ على السلم الأهلي بين الطوائف و التكوينات المجتمعية في منطقة معينة.
في لحظة من اللحظات السياسية أطلق عبد الناصر شعاراَ سياسياَ مفاده أننا نعرف أن سياستنا صائبة و أننا نسير في الطريق عندما تنتقدنا أمريكا أو عندما تقف ضدنا. هذه اللحظة السياسية سحبت ميكانيكياَ على جميع اللحظات السياسية ، لنصبح اليوم فاقدين لأي رؤية سياسية تجاه الولايات المتحدة ، رؤية جديرة بالتعامل ، وما هو سائد فهم ساذج وبسيط ومسطح ، يصل لدرجة رفض أي شيء يصدر عن الولايات المتحدة حتى لو كان في صالح مجتمعاتنا . تقول أمريكا ( ولو على سبيل الخطاب السياسي فقط ) أنها مع إشاعة الحريات والديمقراطية في المنطقة العربية، فيخرج البعض علينا برفض الديمقراطية. تقول أمريكا أنها تقف ضد نظرية الحزب الواحد، يخرج علينا بعض المؤتمرين في المؤتمر الأخير للبعث ليفسر بقاء المادة 8 من الدستور التي تبيح لحزب البعث حق قيادة الدولة والمجتمع قائلاَ " إلغاء هذه المادة مطلب أمريكي ولذلك فهو مرفوض ".
هذه التصورات لها علاقة وثيقة بتصور خرافي عن الآخر يلبسه كل شرور الدنيا, و هذا تصور سهل , لأنه ربما عندما يتصرف هذا الآخر تصرفاً إيجابياً من زاوية مصالحنا الوطنية , فإنه يتركنا في حيرة من أمرنا, و يسبب لنا أزمة سياسية و أخلاقية في آن معا.
في العراق تعاملت أمريكا مع مكونات و صراعات خفية منذ آلاف السنين, و هي لم تخلقها , بل خلقها بشر المنطقة و ساهم في تذكيتها الاستبداد بإلغائه للهوية الوطنية الجامعة , لتنمو التقسيمات الطائفية و الدينية و العشائرية على حساب العراق/الوطن، أي أن أمريكا تعاملت مع واقع موجود , و كانت محكومة به.
التصور الخرافي موجود أيضاً في الضفة الأخرى, أي عند ذلك التيار الذي يرى في الآخر, أي أمريكا, الخير كله, فهذا التصور أيضاً , و إن اختلف ظاهره, إلا أنه يستند إلى النهج ذاته, و من البديهي القول أن هذا النهج غير قادر على وضع سياسات فاعلة و مؤثرة و قادرة على استيعاب ما يحدث و التعامل معه بإيجابية. هذا النهج يذكرنا بتلك الثنائيات التي تمتلئ بها صفحات فكرنا السياسي في قضايا عديدة جرى توصيفها على أنها شر مطلق أو خير مطلق.
لا يمكن أن تكون أمريكا الخير كله أو الشر كله، فهي ليست الرب أو الشيطان. هي دولة معقدة التركيب و شبكة واسعة من المصالح و كتلة متحركة من السياسات و الخيارات المتبدلة استناداً للظرف و المصالح الأمريكية العليا.
الصور الاختزالية الشائعة لأمريكا في الفكر السياسي العربي عديدة ، فهي في تصور التيارات الشيوعية "إمبريالية عالمية فقط" قائمة من أجل نهب خيرات الشعوب واستغلالها وحسب ، وهي عند التيارات القومية "استعمار معاد لقضية القومية العربية وداعم لإسرائيل" ، وهي عند التيارات الإسلامية الأصولية "نمط انحلالي غير أخلاقي ، و نهج مادي لا يقيم وزناَ أو اعتباراَ للروحانيات" ، أو هي جميع هذه الصور الاختزالية معاَ عند كل التيارات .
يشار للأمريكان أيضا عند جميع التيارات بأنهم قراصنة وتجار حروب ومرتزقة و مجتمع هجين ويفتقدون للأصالة التي نمتلكها نحن العرب. في الثقافة العربية الإسلامية المستندة لأصول بدوية ، الآخر نجس و يفتقد لكل علامات "الطهارة" التي نمتلكها ، لذلك يمتلئ رأسنا بشعارات على شاكلة: : " ظلم أهل البيت ولا ظلم الغريب" أو " نار البلد ولا جنة الخارج "، حتى لو كان ظلم أهل البيت أشد وطأة، و على الرغم من أن النتيجة واحدة في الحالتين ، وهي انتهاك كرامة الإنسان سواء من قبل أبناء جلدته أو من الخارج.
هذه الصور الجزئية والاختزالية تنم عن عدم دراية بالآخر الذي هو الوجه الآخر لعدم الدراية بالذات وبملامحها وحاجاتها وأهدافها ، وهي جميعها صور خرافية تحول الصفات النسبية إلى مطلقات .
هذه الصور و الرؤى الخرافية غير كافية، و مضللة، و لا تقدم أي فائدة ، من أجل تأسيس سياسات ناجعة مع الولايات المتحدة ، كما أن الأدوات المعرفية المعتمدة عند جميع التيارات لم تعد قادرة على حل مشكلة سياسية أخلاقية متفاقمة في تعاملنا مع هذا الآخر ، أمريكا .
التحولات العميقة في النظام العالمي، والمعطيات التكنولوجية والسياسية والاقتصادية الجديدة، تقترح تغيير أفكارنا وتعديل سياساتنا، لأنه ما عاد من الممكن التعامل معها بعقل وآليات الماضي. لم يعد مثلاَ من المقبول عالمياَ أن يقوم نظام سياسي ما بنهب شعبه وظلمه والاستبداد به تحت سمع وبصر العالم ، كما لم يعد من الممكن أن يقف العالم متفرجاَ لا حول له ولا قوة باسم احترام السيادات الوطنية ، وهناك اليوم جدل واسع داخل الأمم المتحدة حول هذا الشأن ، أي بخصوص وضع معايير للتدخل من أجل أسباب إنسانية .
الهيمنة والاستغلال موجودان في السياسة الأمريكية، وفي النظام الرأسمالي العولمي ، لكن تجاوز هذا النظام أصبح غير ممكن إلا بجهد بشري عالمي من جهة ، ومن داخل نظام العولمة ذاته من جهة ثانية ، إذ إن مقاومته ومصارعته من خارجه باصطناع قطب مجانب ومضاد أصبحت أمراَ خيالياَ وتأتي بالكوارث أكثر من الفوائد ، فقد ذهبت آليات حركة عدم الانحياز وبناء القطب الاشتراكي إلى غير رجعة . عولمة النظام الرأسمالي أمر محتم سيحدث عاجلاَ أم آجلاَ ، لذلك علينا ألا نصرف الوقت والجهد في مقاومته من خارجه معتقدين أننا بذلك ندفعه عنا إلى الأبد ، فضلاَ عن قولنا أن ما ينقص مجتمعاتنا حقا هو المزيد من التطور الرأسمالي ، رغم كل مخاطره المعروفة، و ليس العكس .
نظام العولمة الرأسمالية يسمح ، وتلك من صميم طبيعته وآلياته ، بمقاومته من داخله ، أي من جهة يتضمن الهيمنة والاستغلال ، ومن جهة ثانية يتضمن شروط تجاوزه : الإعلام ، الأحزاب ، التظاهر السلمي ، البرلمان ، الانتخاب ، المعارضة ...إلخ ، في حين أن ظاهرة الاستبداد اجتثاثية واستئصالية لا تسمح بتكون أي شكل من أشكال المعارضة والتجاوز ، و تسلب أي مجتمع جميع أشكال الدفاع المدني ، فضلاَ عن افتقادها لبعد التقدم ، أي السير بالمجتمع للأمام .
#حازم_نهار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟