|
1 اليمين/ اليسار: مقاربة نظرية لشروط النشأة وآليات التصنيف التمايزي
محمد كودي
الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 10:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حظيت الظاهرة الحزبية، بالنظر إلى تعقدها وخصوصيات نشأتها وتعدد ميكانيزمات اشتغالها وفعلها، وإنفعالها بمحيطها السوسيو-سياسي، بكثير من الجهد المبذول في الفكر السياسي، وذلك لكونها أكثر قدما من العلوم السياسية. ولاشك أن الهم النظري والهاجس المعرفي الذي سيطر على هذه الدراسات، بدءا من تلك الأكثر كلاسـيكية ل "لورد جيـمس بروس" مرورا ب "موريس دوفرجيه"، وحتى الكتابات الحديثة في علم السياسة هو الهم التصنيفي للظاهرة الحزبية والواضح أن هذا التهافت التصنيفي والتمايزي ليس إعتباطيا، بل هو نابع من ضرورة علمية تتمثل في كون المقاربة التصنيفية على درجة عالية من الأهمية، كما أنها تشــكل البنية الأساسية والضرورية في تكوين العقل العلمي. وإذا كانت الظاهرة الحزبية محيرة من الناحية العلمية نظرا لتنوعها وتعدد بنياتها التركيبية والسوسيو-سياسية وإختلاف أنماط إشتغالاتها، ألا تشكل محاولات تنميطها في إطارات جاهزة وقائمة نوع من "وهم المعرفة المباشرة" حسب تعبير "بيير بورديو" حيث أن التنميطات القائمة والمؤسسة على "وهم المعرفة المباشرة" لا يمكنها أن تقاوم التفكير النقدي والعقل العلمي، ليس فقط لأن التصنيفات والتنميطات المقترحة ضبابية ويلفها الغموض، بل لكونها وهذا هو الأهم تعاني من كثرة الإستثناءات، مع العلم أن صلاحية براديغم أو مقاربة تصنيفية معينة تتمثل في قدرتها التفسيرية لعدد كبير من الحالات الممكنة، والتي تضم مجموعة من القواسم المشتركة، و كما يقول : "ريمون بودان": "أن القاعدة الجيدة في المجال العلمي والحقل المعرفي هي التي إما لا تعاني بتاتا من وجود استثناءات أو على الأقل تكون هذه الأخيرة ناذرة و في هذا الإطار يؤكد "جورج لافو" أن الوقائع الإجتماعية والتاريخية تبقى أقوى وأكثر تعبيرا وتفسيرا للظاهرة الحزبية من التنمطيات الإختزالية والتجريدات الفلسفية والنظرية. ومن هذا المنطلق المنهجي يتحتم تفسير الظاهرة خارج أي مقترب مقارن أو تركيبي، لكن الإشكال الأساسي هو: أليس من شأن المغالاة في البحث عن الشروط التاريخية والسوسيوسياسية للظاهرة الحزبية أن يجعل علم السياسة يضيع في خصوصيات وتفردات الظاهرة؟ وهل يكف العقل العلمي عن تتبع والبحث عن قوانين علمية تكون صالحة لتفسير الظاهرة الحزبية في عموميتها؟ وهل الجهد المبدول للبحث عن ثوابت وإطارات علمية لتنميط الظاهرة الحزبية حسب الأنماط المثالية "الفبيرية" هو جهد مهيأ في أحسن الظروف للفشل؟ بالنظر إلى كون العقل المعرفي تستهويه أحيانا التماثلات ويغض الطرف عن الإختلافات والتعارضات لضرورات منهجية أو نظرية. وإذا كانت هذه الإنتقادات المنهجية والمعرفية قد واجهتها كافة البراديغمات التصنيفية، وفي مختلف حقول العلوم الإنسانية، فما بالك إمابتصنيف يمين / يسار الذي لم يكن على الأقل في بداياته ثمرة مجهود علمي ونظري لعلماء السياسة، بل أن هؤلاء وجدوه جاهزا وقائما، وله إمتدادات عميقة في الخطاب السياسي، وجدورا قوية في الممارسة الحزبية، مما يصعب معه شحنه بحمولة دلالية ومضامين علمية قد لا يتضمنها أصلا، فهما مجرد نتاج للاعقلانية السياسية، وأسطورات للفعل السياسي، أو كما يرى أحد الباحثين بأن هذين المفهومين مجرد تصنيف للحس المشترك الفعال والمعياري وأن استعمالهما في المجال السياسي بقوة يعود فقط لفاعليتهما الكبيرة وتأثيرهما القوي في تعبئة الكتل الناخبة. ولاشك أن هذه المقاربة تبقى ناقصة وجزئية، حيث أن كافة مقولات الخطاب السياسي لها حمولة معيارية وقيمية، وبالتالي فثنائية اليسار واليمين لا تشكل إستثناءا ضمن هذا الخطاب، كما أن الحمولة المعيارية والقيمية لا تشكل إلا جزءا من الدلالة الحقيقية لهذه الثنائية. وضمن نفس المنحى الإنتقادي لهذين المفهومين، يرى "جان بول سارتر" أنهما مجرد علبتين فارغتين، وليست لهما أية قيمة لا منهجية ولا تصنيفية، بل أنهما مجرد فخ لغوي عادة ما يسقط فيه الجدال السياسي. وعلى الرغم من وجاهة هذه الإنتقادات أو ضعفها النظري أو المنهجي، فإن ثنائية يمين / يسار أصبحت لها حياة مستقلة عن الشروط التاريخية والسوسيو-سياسية التي ساهمت في ظهورها، بل أكثر من ذلك، فقد أصبحت مفاهيم اليمين / اليسار مقاييس ووحدات عالمية للسياسة. إلا أن الإشكال المحوري: هو ما هو المسار الدلالي والتمايزي الذي عرفته هذه الثنائية في بحر إشتغالها بدءا من الجلسة -الأسطورة للجمعية الفرنسية بتاريخ 28 غشت 1789 ؟ وما هي الحمولة الدلالية والقيمية لهذه الثنائيــة في ظل المنــظومات الثقــافية والدينية قبـل أن تستقــرفي الخطاب السياسي وبالنظر إلى الطبيعة المراوغة لهذه الثنائية، فهل يمكن الجزم بأن لها ماهيات ثابتة"( وليست مجرد وحدة ميتافيزيقية للفعل السياسي؟ وأين يكمن التمايز يمين / يسار؟ وهل هذا التمايز يؤسس لبناء حقيقي أم مجرد وهم نظري؟ اليمين / اليسار بحث في تاريخية التمايز ا إن المفاهيم المستعملة لتوصيف جوهر السلطة غير مستمدة فقط من دلالات واصطلاحات سياسية، بل إن هذه المفاهيم تجد إمتداداتها العميقة وجدورها الأولية، إنطلاقا كذلك من المعجم الديني، حيث تستند كلها إلى ميدان المقدس والإستثنائي والواضح أن المقاربة الأركيولوجية لمفاهيم اليمين / اليسار لا تشد عن هذ ا الإطار، حيث أن المتتبع للمسلسل التكويني والدلالي لثنائية يمين / يسار يجد أن هذه الثنائية وحتى قبل إستهلاكها في الخطاب السياسي، إبتداءا من جلسة 28 غشت 1789 كانت حاضرة وبقوة في حقل المنظومات الرمزية والثقافية اليمين / اليسار: من حقل القيم إلى الحقل السياسي: تتضمن المنظومات الرمزية الكثير من الإكراهات الواعية وغير الواعية والعديد من الإرغامات، لأن الرمزي هو المجال الحقيقي لرهانات السلطة. وإذا كانت للمنظومات الرمزية إكراهاتها الذاتية، إلا أن هذه الإرغامات تتكثف من خلال الحضور القوي للفاعلين السياسيين والإجتماعيين، وإنطلاقا من ذلك فإنه لا يمكن فصل الرمزي عن الإطارات السوسيولوجية التي عملت على إنتاجه وإعادة إنتاجه. ويشكل المقدس أحد حقول المنظومة الرمزية، كما أنه يعد مجالا خصبا للمنافسات السياسية -بالنظر إلى الترابط الديناميكي ما بين إستراتيجية المقدس وإستراتيجية السلطة- والإشكال المطروح هو كيف تعاملت المنظومات الرمزية (اللغة، الدين، الأسطورة) كحقل للقيـم مع ثنائية اليمين / اليسار؟ لم يكن انتقال ثنائية يمين / يسار من حقل القيم إلى الحقل السياسي سريعا ولا هينا أو بدون إعتراضات من الفاعلين السياسيين، بل إن تكريسها في هذا الحقل تطلب الكثير من الوقت والكثير من الخيال السياسي، فقد انتقلت هذه الثنائية من آلية وصفية محايدة لطبوغرافية المجالس ولو توقف تطورها عند هذه المرحلة، لأصبحت بدون مستقبل سياسي وخالية من أي تقليد سياسي إلى تكريس هويات سياسية. فكيف تم هذا المسلسل الدلالي والتكويني، وكيف إنتقلت هذه الثنائية من اللغة الوصفية المحايدة إلى لغة برلمانية تقتصر رمزيتها على الفاعلين السياسيين وإلى لغة للمجال العام في الأخير
أسس وتجليات المقاربة الاكسيولوجي لثنائية اليمين و اليسار . يحظى الحقل الديني والفلسفي واللغوي والسياسي بالكثير من التعارضات الثنائية ، بالإضافة إلى التعارض يمين / يسار الذي يشكل معطى ثابتا في الكثير من الثقافات، حيث لا توجد ثقافة لا تعطي حمولة قيمية ورمزية لهذه المفاهيم، من خلال تكريسها لنوع من التراتبية القيمية، لا في حقل الميتافيزيقا ولكن كذلك من خلال الحمولات القيمية والدلالة الرمزية لمقولة اليمين؟ ( الفقرة الأولى) وكيف تعاطت المنظومات الرمزية كبنيات تمثلية مع مقولة اليسار؟ وما هي الحمولات التي تم شحنه بها؟ اليمين ونظام القيم :أولا تحفل المنظومات الرمزية -كبنيات تمثلية للجماعة عن نفسها ومعتقداتها وأنماط سلوكها- بالكثير من من التمثلات الأخلاقية والسلوكية، التي تحتل حيزا كبيرا في المخيال واللاشعور الجماعي للأفراد والجماعة، بما تتضمنه من إعتقادات وإرغامات، لذا فإن الإشكال الأساسي هو معرفة كيف تعاطت هذه المنظومات الرمزية، كحقل لإنتاج الرمزي مع مفهوم اليمين؟ وما هي الدلالات والحمولات التي تم شحنه بها؟ مقولة اليمين وحقل اللغة 1 يرى "بيير بورديو" أن من يهمل مسألة استعمالات اللغة، وبالتالي مشكلة الشروط الإجتماعية لاستخدام الكلمات لابد أن يظل طرحه لسلطة هذه الأخيرة طرحا سادجا، فمقاربة "سوسور" تبقى خاطئة، لأنها تعمل على حصر البحث عن قوتها وسلطتها داخل الكلمات ذاتها، أي بالضبط حيث لا توجد القوة ولا مكان لتلك السلطة وعلى الرغم من رجاحة هذا الطرح في شقه الأول، أي ضرورة البحث عن سلطة الكلمات وعنفها الرمزي في إستخداماتها الإجتماعية، حيث أن إستعمال الخطاب يتم إنطلاقا من مراكز إجتماعية هي التي تعطيه مصداقيته وقوته، إلا أن هذا المعطى العلمي لا ينفي أن للغة إكراهاتها الذاتية، بعيدا عن أي معطى سوسيولوجي أو سياسي، لأن اللغة من خلال حمولاتها الذاتية وإستعاراتها تشكل بذاتها وفي حد ذاتها إرغاما ينضاف إلى باقي الإرغامات السياسية والإجتماعية. وكما يرى "رولان بارت" أن "في اللغة خضوع وسلطة يمتزجان بلا هوادة، فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة، فهي توجيه وإخضاع معممان . وتأسيسا على ذلك، كيف تعاطت اللغة كبنية رمزيةوعنفية مع مفهوم اليمين؟ نشير أن مفهوم اليمين في اللغة العربية يقابله في اللغة الفرنسية مصطلح « Droite » وهي تعني لغويا الشيء المستقيم أو غير الملتوي. أما إصطلاحا فهي تحمل معنى الأمر السوي أو المنتصب أو النزيه، ويوصف به الشخص المخلص، بحيث يقال « Avoir le coeur droit » : ، وكذلك الإنسان الشريف، كما أنه يعني الجانب الأيمن من جمعية تشريعية، ويطلق أيضا على الجناح اليميني لحزب معين وعلى الجناح المتطرف من اليمين. وانطلاقا من هده المقاربة اللغوية لمفهوم اليمين ، أين تكمن سلطة الكلمات وعنفها الرمزي؟ وأين يتجلى الرأسمال الرمزي لمفهوم اليمين؟ ان هدا السؤال ليس عديم الجدوى حيث أن المقاربة اللغوية تكشف كون مفهوم اليمين مسكون بكثير من الحمولات والدلالات القيمية الإيجابية، مما يعطيه مصداقية كبيرة في حقل اللغة وسلم القيم، ويمنحه مركزا مهما في تراتبية الحقل اللغوي، بحيث يستحيل عزل هذا المفهوم -أي اليمين- عن بنيته وحمولته القيمية على الأقل في حقل اللغة، فهو يعتبر مرادفا لكافة الأفعال والصفات الجميلة من الإستقامة إلى الإخلاص والوفاء والعدل، فلا يمكن استعمال مفهوم اليمين لغويا، دون الإحالة إلى حقل القيم هذا. وتأسيسا على ذلك، نجد أن مصطلح اليمين يمتلك إرغاما تصنيفيا بمعزل عن استخداماته الإجتماعية.ومما لاشك فيه أن هذا المقترب القيمي اللغوي يجد امتداده حتى داخل الحقل الديني بشقيه الوثني / الأسطوري، وضمن الديانات السماوية كذلك. 2 - مقولة اليمين والحقل الديني. تعتبر المنظومة الرمزية في بعدها الديني والأسطوري لحمة للتضامن الإجتماعي، وآلية فعالة لإنتاج الرمزي، من خلال العمل على توجيه وتحديد أنماط السلوك الفردي والجماعي، إنطلاقا من مانوية معيارية يجري إستخدامها بكثافة في الخطاب الديني والأسطوري. وإذا كان هذا الخطاب يزخر بثنائيات كثيرة تتأرجح أطرافها ما بين السلبي والإيجابي مثل الله/الشيطان، المؤمن/الكافر، أصحاب الجنة/أصحاب النار، الصالح/الطالح، المنافقين/الصديقين، فكيف تعاطت إذن هذه المنظومة الرمزية مع مفهوم اليمين؟ وما هو الحيز الذي يشغله هذا المفهوم في الحقل الديني؟ أ - المسيحية ومقولة اليمين. أطرت المسيحية لزمن طويل الفكر الديني وأنماط السلوك السياسي للأفراد والجماعات، من خلال مقولات معيارية وأخلاقية. وضمن هذه المقولات الدينية، احتل مفهوم اليمين حيزا مهما في الخطاب المسيحي، من خلال إشباعه بحمولات قيمية إيجابية، فهو يحيل على خلاص الفرد من خطايا الإنسان وانعتاقه وسعادته. فاليمين هو فضاء الإنسان الصادق والمؤمن، وبالتالي فهو مكان الشرف. والإنجيل يعطي صورة واضحة عن هذه الحمولة الإيجابية لمفهوم اليمين، وكمثال على ذلك يقول أنه: " عندما يعود إبن الإنسان في مجده ومعه جميع ملائكته فإنه يجلس على عرش مجده، وتجتمع أمامه الشعوب كلها فيفصل بعضهم عن بعض، كما يفصل الراعي الغنم عن الماعز، فيوقف الغنم عن يمينه والماعز عن يساره ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا من باركهم أبي، رثوا الملكوت الذي أعد لكم منذ إنشاء العالم: لأني جعت فأطعمتموني) ... إلخ" ومما لاشك فيه أن هذه الصورة المحملة بدلالات الخلاص والحياة الأبدية السعيدة، والإنعتاق التي يزخر بها الخطاب المسيحي، لا تقتصر على المقال السابق بل نجد امتداداتها على طول صفحات الإنجيل، وأكثرها تعبيرا عن الرأسمال الرمزي، الذي يتمتع به مفهوم اليمين هي الصورة التي تهم صعود "الرب" يسوع إلى السماء، حيث أن يسوعا وبعد أن قام بتوديع تلامذته الإحدى عشر رفع إلى السماء وجلس عن يمين الله(3) ويرى "جان كلود شميت" أن المتمعن بروية إلى اللوحة التي تظهر المسيح مصلوبا، سيفاجأ بنفس الحمولة القيمية الواردة في الخطاب الديني والتي تشبع مفهوم اليمين بمضامين إيجابية، حيث أن اللص الموجود على اليمين، والذي تم صلبه مع المسيح تظهر عينيه مرتفعتين في اللوحة، ومملوءتين بالأمل والخلاص من الآثام. أما بالنسبة للص الموجود على يسار المسيح والذي كان يسخر منه، فقد كان رأسه ساقطا على صدره لكونه مثقلا بالخطايا والمعاصي .والواضح أن الحمولة القيمية التي يزخر بها الخطاب الديني المسيحي كانت لها إمتدادات قوية في نظام القيم الإجتماعي، فاليد اليمنى، وبالنظر إلى مهارتها وتعدد المهام التي تقوم بها جرى دائما إشباعها بالكثير من الإستعمالات المجازية وأحكام القيمة، كما أن مسيحيي القرون الوسطى يرون بأن الجانب الأيمن هو اختزال لكل ما هو صالح وجميل، فهو مكان الخلاص من العذاب الأليم، كما أنهم كانوا يعتقدون أن "يسوع" سيقوم يوم الحـساب بــرفع يده اليـمنى إيــذانـــا بدخول المؤمنين إلى الجنة. أما اليد اليسرى فسيقوم بخفضها لإرسال المعذبين إلى النار . فالتعارض يبقى إذن قائما وواضحا بالنسبة للقيم التي يتم إلصاقها بأطراف الجسم البشري، كما يلاحظ أن صورة الإله يتم إختزالها على الأقل في الثقافة المسيحية في يد تبرق من وسط غمامة سماوية، وهذه اليد هي دائما اليد اليمنى التي تعطي الأوامر أو تعاقب المذنبين. كما أن لليد اليمنى حمولة قدسية، ففي أغلب التشريعات القانونية يتم تأدية قسم اليمين من خلال رفع اليد اليمنى، كما أنها هي التي تقوم برسم الصليب على الصدر ، ومن هنا يتضح أن الخطاب البيولوجي والديني يعرف هيمنة يمينية كمعطى تكويني ب - الإسلام ومقولة اليمين إن أية مقاربة ولو مختصرة للموروث الثقافي الإسلامي، توضح بما لا يدع مجالا للشك، أن هذا الموروث لا يشكل إستثناءا. فالنص القرءاني تحفل آياته بحمولة رمزية وقيمية لمفهوم اليمين، ونجد مثلا في سورة الواقعة، "أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب" . فاليمين في النص القرءاني يكف عن أن يصبح مجرد معطى طبوغرافي أو جغرافي، بل هو مجالا خصبا لتمثلات قوية ونظاما معياريا يزخر بالدلالات القيمية الإيجابية، فاليمين في الخطاب الديني القرءاني هو مقولة إختزالية لمفاهيم الإيمان والصدق، وهو فضاء للمؤمنين ... والمجاهدين. وانطلاقا من هذه التيمات تنبع قوته الترميزية، كما أن الحمولة الإيجابية لمفهوم اليمين توجد امتدادتها كذلك في نظام القيم الإجتماعي، الذي كرسه الخطاب الديني الإسلامي. وفي هذا الإطار يقول "مالك بن أنس": "أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب عن أبي بكر بن عبيد الله عن عبد الله بن عمران أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" وبالإضافة إلى هذه الطروحات التي أتينا عليها يلاحظ أن القسم في الشريعة الإسلامية يطلق عليه مفهوم "اليمين"، وهو الذي يؤديه المؤمن، فإن حنث به فيطلب منه القيام بخطوات جزائية نتيجة لحنثه وعدم قضائه ما حلف أو أقسم به، الأمر الذي يزكي الدلالة الإيجابية لمقولة اليمين. من هنا نصل إلى استنتاج أخير يتمثل في كون النص القرءاني يمنح مفهوم اليمين تمثلات إيجابية وقوة ترميزية، وبذلك تشكل الثقافة الإسلامية في بعدها الديني تأكيدا لما أتينا عليه في التقليد الغربي ج - الأسطورة ومقولة اليمين للأسطورة وظيفة مزدوجة، فبالإضافة إلى كونها بناءا معرفيا وفلسفيا يهدف إلى مقاربة الحقيقة، من خلال إستجلاء كوامن الفرد / الإنسان والطبيعة والكون بصفة عامة، فهي مع ذلك تشكل تعبيرا مكثفا لعلاقات السلطة، من خلال تنظيم المدى الإجتماعي وتبرير علاقات الهيمنة والسيطرة والخضوع، فكيف تعاملت الأسطورة مع مقولة اليمين؟ بالنظر إلى الإستحالة العملية للإحاطة بكافة الأساطير، فسنقتصر على أسطورة ، وهو شعب من المجتمعات الأمريكـية الهـندية كان يعــيش في « Wimnebago » « Wisconsin » وتروي هذه الأسطورة أن "نصفين" أولهما "سماوي"، ويحوز على السلطة الشعائرية والطقوسية. أما الآخر فهو "أرضي"، و يمتلك مجموعة من المهارات اليدوية التي تكفل تحقيق الأشياء المادية، تصارعا للحصول على السلطة، فكان النصر حليفا "للنصف السماوي"، وهكذا أمن سيطرته، وتحتكر إحدى العشائر التى تتبنى هذه السيطرة والنصر المراكز الإجتماعية المهمة، فهم أبناء السماء، ويتوفرون على مشروعية سياسية تؤمن لهم الخضوع وتتمركز على اليمين من أرض القبيلة، وتعتمد عشائرها العصافير كشعارات طوطمية. أما "أبناء الأرض" المذنبين فهم يحتلون مراكز اجتماعية دنيا، ولا يمارسون السياسة إلا في بعض الجزئيات الثانوية، ويقيمون على الجانب الأيسر من أرض القبيلة(3). ولاشك أن هذه الحقائق تثير دهشة الباحث، فهل يتعلق الأمر بمجرد مصادفات تهم العقل البشري؟ أم أن كل الثقافات في تعدديتها وتنوع مشاربها وخصوصيات منشأها هي ذات هيمنة يمينية؟ ثانيا: نظام القيم والحمولة الرمزية لليسار
كيف تعاطت المنظومات الثقافية بإعتبارها شبكة من الرموز والقيم والعادات والتقاليد التي ينتجها المجتمع لضمان الشروط الضرورية والأساسية للتجمع والتماسك الإجتماعي معمقولة اليسار، وهل ما يطبع هذه الثقافات بتعدد فضاءات إنتاجها وإعادة إنتاجها هو التماثل أو الإختلاف في مقاربتها القيمية لمفهوم اليسار؟ 1 - مقولة اليسار وحقل اللغة. تشكل اللغة باعتبارها أولا وقبل كل شيء مؤسسة إجتماعية تعاقدية لا مناص من الخضوع لإكراهاتها وضوابطها وآليات إشتغالها(1)، حقلا ضروريا للوقوف على نوعية حضور مقولة اليسار داخل فضاءاتها ودلالاته ضمن حقلها المؤسسي والتشريعي إن كلمة يسار باللغة العربية تقابلها في اللغة الفرنسية مصطلح « Gauche »، و يشير "جان كلود شميت" إلى أن الأصل التاريخي لهده الكلمة هو جرماني، ويعني في دلالته اللفظية من ينعرج أو يلتوي عن الطريق المباشر ، ويحيل في الفرنسية إلى الميل والإنحراف، كما أنه يتضمن العديد من الصفات والحمولات المجازية، فيقال ميسرة الجيش واليد اليسرى والزواج غير المتكافئ ،« Homme gauche »،و Mariage gauche » رجل أخرق .كما أنه يعني الجانب الأيسر من جمعية في حالة التداول وأحزاب اليسار ... الخ(
أما في اللغة اللاتينية، فكلمة « Sinister » وهي مرادفة لكلمة. « Sinistre » في اللغة الفرنسية، وتعني الشؤم أو النحس، مثل القول أن له هيئة عبوس « Air sinistre » أو مستقبل مشؤوم ومنظر كئيب أو كارثي والشيء المرعب « Avenir sinistre » من خلال مقاربتنا للدلالة اللغوية والإصطلاحية لمقولة اليسار، وإذا استثنينا الدلالة الطبوغرافية الوصفية والمحايدة لهذه المقولة، نجد أن اللغة باعتبارها أداة إكراهية مؤسسية ونظاما معياريا، تكرس تراتبية واضحة في حقل القيم بين مقولة اليمين، والتي هي دلالة إختزالية معيارية إيجابية، ومقولة اليسارية التي هي توصيف لكافة السلوكات النمطية السيئـة، فاللغة تقوم بترتيب العلاقة ما بين المقولتين وفق معايير ومقاييس سلوكية: الإستقامة/الإنحراف، الأخرق/السوي، القبح /الجمال 2 - مقـولة اليسار والحقل الديني. إن الحقل الديني يزخر بكثير من الإستعارات اللغوية المتعارضة والتي تكرس تراتبية في إقتسام المجال، وأكثر هذه الإستعارات شيوعا التعارض: أعلى/أسفل، والذي يترجم مبدأ التراتبية من خلال العمل على رفع السيد وإعلائه سواء أكان أرضيا أم سماويا، وإلى جانب هذا التعارض نجد يمين / يسار أ - المسيحية ومقولة اليسار لا تشكل المسيحية إستثناءا ضمن حقل الخطاب الديني بالنظر إلى شحنها لمفهوم اليسار بدلالة وحمولة قيمية سلبية، وتعطينا الفقرة التالية مثالا حيا عن هذا المنحى، حيث يشير الإنجيل كما دونه "متى" أنه: "عندما يعود ابن الإنسان في مجده، ومعه جميع ملائكته فإنه يجلس على عرش مجده وتجتمع أمامه الشعوب كلها، فيفصل بعضهم عن بعض، كما يفصل الراعي الغنم عن الماعز، فيوقف الغنم عن يمينه والماعز عن يساره (...)، ثم يقول للذين عن يساره: ابتعدوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وأعوانه، لأني جعت فلم تطعموني وعطشت فلم تسقوني، وكنت غريبا فلم تأووني ... فيذهب هؤلاء إلى العقاب الأبدي" كما أن النظام الإجتماعي المكرس في المخيال والذاكرة الجماعية للشعوب المسيحية يزخر بكثير من الحمولات السلبية لمفهوم اليسار، فالعسر الذين يقومون بأغلب نشاطاتهم وحركاتهم وأعمالهم باليد اليسرى يحظون في أغلب الثقافات ومن ضمنها المسيحية بنظرة مشينة وإزدرائية، وأكثرهم شهرة في هذا الإطار يهودا الأسخريوطي الذي تمثله الأسطورة الدينية بذنب يحيل على المعصية والغذر والخيانة وقديما كانت الشعوب الرومانية ترى أن الطائر إذا حط على يسار أحد أفرادها، فذلك نذير شؤم، ويعني هذا الأمر أنهم مقبلون على أيام صعبة، تشير إما إلى إندلاع حروب جديدة أو حصول كوارث طبيعية، نتيجة لغضب الآلهة وعدم رضاها عن سلوكهم. كما أن الأمر المشين في اعتقاد مسيحي القرون الوسطى هو أن يقوم الفرد بعمل أو نشاط بيده اليسرى بدلا من اليد اليمنى، فمثلا وحسب تعبير ورد في رواية ل « Fauvel » في القرن السادس عشر أنه إذا تم الزواج باليد اليسرى، أي أن القس قام بضم اليدين الشماليتين للزوجين عوض اليمنيتين، فإن هذا السلوك سيجلب النحس والشؤم بالنسبة لهذا الزفاف الجديد. والواضح أن نظام التراتبية ونسق القيم الذي يؤطر ويهيمن على المجال الإجتماعي، ويمنحه هوية وهيمنة يمينية من خلال تمثلات الفكر الديني والإيديولوجيات، يفسح المجال لكثير من الدلالات التراتبية التي تتغدى من مجازات جسدية ب - الإسلام ومقولة اليسار. يحفل النص القرءاني باعتباره أولا وقبل كل شيء موردا وإقتصادا مكثفا للرمزي، بالكثير من الدلالات الإستعارية والمجازية. ويشكل مفهوم اليسار أحد عناصرها الأساسية، لأن اليسار لا يحضر في النص القرءاني كمعطى طبوغرافي محايد ودلالة وصفية لأشياء موضوعية وواقعية، بل أن هذا المفهوم يكتسي صبغة أخرى تتلاحم فيها الدلالة الطبوغرافية ومعنى القداسة، من خلال إشباع هذا المفهوم بكثافة رمزية إختزالية ذات حمولة سلبية، الأمر الذي يؤكد وجود بنيات تماثلية ونوع من التماهي يهم كافة الثقافات القديمة، تدفع بالباحث إلى القول بوجود نوع من التواطؤ المعياري ما بين اللغة، التي تمنح اليمين رأسمالا رمزيا مقارنة مع اليسار، الذي يحتل مراكز دنيا في سلم القيم وما بين الخطاب الديني كمجال للإرغام والإكراه. حيث أن اليسار في الخطاب القرءاني هو فضاء الإنسان -الكافر والملحد، والمنافق والمرتد وهناك العديد من الآيات والأحاديث النبوية التي تؤكد هذا المنحى المعياري لمفهوم اليسار. ففي سورة الواقعة: "وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم" . كما نجد في سورة الحاقة نفس الدلالة "وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية"). ويلاحظ أنه بالإضافة إلى النص القرءاني والأحاديث النبوية هناك كثير من الفرائض الطقوسية التي تعمل من خلال إجراءاتها التقنينية على إعطاء أسبقية وأحقية لليد اليمنى أو الرجل اليمنى وهذا الأمر يكتسي دلالة رمزية على درجة عالية من الأهمية، كما أن هناك مجموعة من الأعراف التي تستمد قوتها وعنفها إما من خلال الخطاب كمجال للأوامر والنواهي، أو من خلال التراكمات السلوكية الفردية أو الجماعية، والتي تميل هي الأخرى إلى إعطاء قيمة دلالية رمزية وإيجابية لمفهوم اليمين
#محمد_كودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|