مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 4644 - 2014 / 11 / 26 - 21:50
المحور:
سيرة ذاتية
صيدناويات : الطفولة .. والمكان الأول !
أُحبّ الأمكنة وأتعلق بها وأسترجعها بخيالي كل يوم , لكن هذه الأمكنة وأن كان لها صفة جغرافية وطابعاً تضاريسيًا , لا ترد لي كما هي في العالم الخارجي بل هي كما في داخل نفسي , كيف سكنت مع مناظرها وناسها ووجوهها ووظيفتها ؟
لقد سكنت الذات , طبعت رسمت في خيالي المقيمة في الأعماق بالحيوات والمواقف والمشاعر والرغبات والمخاوف والأحلام والذكريات .
عندما أبحث عنها أجدها في داخلي , في عمري ومرحلتي الزمنية . في ذلك الزمان والمكان , وإن انطبعت في صورة توثق تلك اللحظة بتماس الإنسان على الأرض في بقعة معينة جغرافية حفرت أقدامَ تربتها وتنشّقت عطرها , ورسم داخل شبكات العين منظرها ولوحتها الطبيعية التي لا تمحى ,, إنه الإنسان ومروره وانطباعه على الأرض وعشقه لها . العلاقة السريّة المقدسّة , علاقة الإنسان بالأرض , , رفقَة عمر وارتباط عضوي روحي نفسي فكري وحسي يلازمه منذ اللحظة الأولى لولادته حتى رحيله , رحيل الأيام عندما تنطوي , والعمر عندما يتقدم للأمام .
فالمكان هو المحطة الذي يمر بها المرء وهو على هذه الارض , فإما يعطيها روحه وعطره وقلبه , أو يدوسها بأقدامه ويتنكر لها , بوجع وكره وأسف , او بفرح واعتزاز !
المكان الذي يولد وينمو ويكبر إدراكه وحسّه ومدلوله وأهميته في عين وفكر ونفس وخيال الطفل , يتعلق به كإسمه وهويته منذ اليوم الأول للولادة , هو " مسقط الرأس " .
هذا المكان , هو انتماؤه وأرضه وفخره وعزه وحبّه الأول , لأنه رأى النور داخل جدرانه وأبعاد فضاءاته البيضاء الرحبة , المتصلة بالمدى بالسماء الملتصقة بالأرض في دائرة أفقها وبالتراب الذي ارتبط به إلى الأبد .
مسقط الرأس الذي ارتبط بأول الوجوه والأصوات والحركات والأسماء والروائح , وبداية المعرفة والإدراك والوعي بالعالم الخارجي , وأول صوت ولمسة حب ودفء , وأول نقطة حليب , وباكورة الحياة والعلاقات مع الاّخرين , مع المجتمع الصغير الذي هو أسرته وعائلته الممتدة , ثم المجتمع الكبير ..
الصورة الأولى المكانية , المادية والروحية والإنسانية , التي نشأ وتعرّف الطفل عبرها وبواسطتها ومن خلالها وانطلاقا منها , على نسيج البشر والإنسانية والتي أصبح جزءًا من هذه الشبكة الإنسانية , انطبعت داخل تلافيف دماغه ووعيه الباطني , وبداية تسجيل شريط الذاكرة , هذا السر في اعتقادي هو سر " مسقط الرأس " , وحنين الإنسان إليه وحبه له وشوقه الدائم لعالمه القديم الاوَلّي , هو ما يحنّ و يتوق له المرء , لأن يبقى وفياً لذاكرته إلى الأبد ... ومنه ينطلق الحب الكبير .. حبه للوطن !
فحب الوطن والحنين له مرتبط بهذا السرّ , ألا وهو جاذبية المرء لقاع أرضه لمسقط رأسه , لبيته , لوالدته , للأم التي أعطته الحياة , لأن المساحة الصغيرة التي ولد فيها المرء هي جزء من المساحة الكبيرة الذي ينتمي إليها الا وهو الوطن بأكمله – فالوطن هو الأرض – مساحة , تراب , مخلوقات حية , تجمّعات , بشر , حركة , مناظر , بيوت , ووجوه وصدى أصوات .
كذلك البيت ..
فالطفل ....... يبتدئ من النقطة المركزية الصغيرة , لينتهي للأكبر والأوسع
فيكون المكان وأهمية وتجسّد المكان هو محور حياة الإنسان .. ويختلف هذا الشعور ربما بين طفل واّخر –
فعلينا دائماً , أن نغرس وننمّي حب المكان لدى الطفل والتلميذ والطالب , الصغير والكبير لما له من تحديد وتوجيه وتأثير في حياته وسلوكه .
.............
****
إخوتي جميل وقسطنطين كانا أصغرا مني , أصبحتُ مساعدة لأمي رغم صغري , مُحبة ومندفعة للعمل في بعض شؤون المنزل , كتكنيس البيت وترتيبه ومسح البلاط وإحضار الماء من العين , وحمل إخوتي وهم أطفال والإنتباه لهم أو إطعامهم وهزّ السرير الخشبي , أو الأرجوحة ليناما . كانت الأرجوحة المعلقة في سقف البيت في الطابق الأعلى من الغرفة المُطلة على شرفة المنزل , ناحية الجنوب الذي يتراءى منه جبل ( مار جريس ) وبيت جدتي المتكئ على سفوحه المعشوشبة .
كانت أمي تجهّز للطفل – وهي في الأشهر الأخيرة من الحمل – جهاز سريره ونومه ولباسه , إبتداءً من الأرجوحة , , فرشة صغيرة تجللها بالبياض , وتخيط لها الفوط البيضاء الناعمة المستطيلة , لترتب وتنظم بها المقعد لكي يغفو الطفل عليه براحة ونظافة .
ما زلتُ أتذكر , كيف كنتُ أقلّد والدتي أحياناً ودون معرفتها بغسل ملابس إخوتي والفوط بقليل من الماء على الشرفة , كتمرين أولي على الأعمال دون تأفف , و في منتهى الهدوء والجدية والحب . أقوم بهذه المهمات حيث لم تكن حينها مُكتشفة فوط الأطفال " البامبرز " وغيرها من فوط جاهزة , سواء لحيض المراة , او حفاضات الأطفال .. كل شئ كان من البيئة , من الموجود , بالإعتماد على النفس , وكيفية التوفير – خاصة الماء - حيث نمط الإقتصاد البيتي هو السائد في البلدة حينذاك .
هنا ,, لا بد لنا من التعرج على تهيئة جهاز الطفل قبل الولادة , من قِبل الأم ومساعدة الأقارب لها , مثل الخالات والعمّات والجدّة والحماة , الأكثر تجربة في الحياة ,, لقد كانت كلها تُهيأ وتُخيط باليد , أوعلى ماكينة الخياطة " السنجر " التي كانت عند خالتي هيلانة مثل ( الفوط والثياب والملابس الداخلية والخارجية ومكملات الطفل في اللفّ والطعام وغيرها ) . لم نكن نعرف حينها الثياب الجاهزة , فمناديل الرأس وزنّار الخصر والقمصان الداخلية والخارجية الناعمة , والمريلات ( الدقّونيات ) , والمداهن والأقمطة المطرزة على أطرافها شغل يدوي وكل ما يحتاجه الطفل والأم كان يتمّ بالإعتماد على النفس , فالمرأة الصيدناوية إمرأة فنانة مبدعة صبورة مكافحة تعشق الجمال والعمل .
لقد كان الجيل القديم للنساء في البلدة لا يحتجن للكثير من الفوط للأطفال , فقد ابتكرن وسائل وطرق عديدة للتحايل على شحّة الماء والمنظّفات , وللتخفيف من الغسيل والتعب , حيث لم تكن الغسالات الكهربائية ولا اليدوية في ذلك الزمن قد وصلت إلينا , ولم نعرف البيرسيل والأريال والكلور وغيره والمنظفات الأخرى .... , بل الغسيل والغلي بالصابون البلدي والسودا والنيلة ,, والأنكى من ذلك لم تكن المياة ممدّدة وموصلة بعد لداخل المنازل , بل فقط , للعيون الموزعة في البلدة عبر الأقنية والصنابير , وعددها أربع منها : في ساحة البلدية العين الرئيسية , وأخرى بجانب بيت الحلاوي , وعين الكنيسة - كنيسة المجامع القريبة من ماربطرس - وعين دير التجلي حارة الفوقا , وعين حارة التحتا بجانب بيت يوسف التلي .
توارث الخبرات والعادات الشعبية ؟
ما زلت أتذكر من وسائل التحايل على قلة وجود الماء ,,
كانت نساء البلدة تجلب وتحضر تراب ( الخُلد ) من البراري – تراب نظيف مثل الرمل الأحمر ظاهر للعيان فوق التربة العادية بشكل هرم دائري صغير - يحمّصنه على النار , ويضعنه في أواني خاصة نظيفة لوضعه في سرير الطفل تحت قعدته , ليمتص الماء والأوساخ , فتغيره الأم يوميا دون أن تتلوث المحارم والفوط والشراشف ....
إنها الحاجة أم الإختراع !
كانت الحياة في المجتمع الريفي والقروي القديم هادئة بسيطة متعاونة . لا نعرف الحسد والأنانية والفردية والتفاوت الطبقي والأفكار البرجوازية المتعالية . البيئة نظيفة , خام , والعقول أيضاً , لم يغزو التخريب والتلوث والتشويه إليها بعد ... وفرح العلاقات الإجتماعية والألفة والتكاتف والتعاون مع البساطة يغمر الناس صحة وعملاً وإبداعاً .
__
... في اليوم الأول يتعرف الطفل على رائحة وهمسة ولمسة أمه , وصوتها , وطعم لبنها , وتولد العلاقة حيث كان مقيماً في رحمها (تسعة أشهر ) , تكوّن من نسيجها ودمها وخلاياها , فهو قطعة منها , اشترك الأب في ولادة هذا الكائن لكنها , هي من تغذيه وتحمله وتشعر بفرح حركة أعضائه وهو يسبح في بحر رحمها , إنه سر الحياة وسر الإنسان !!
السنة الأولى للطفل : فترة التأسيس والتنشئة والتربية والتعلم والتعرّف على الأشياء والموجودات والكلام , مرحلة التجذّر في كينونة هذا العالم , مرحلة بداية الزرع والنمو والإلتصاق بالأرض واللغة , فترة الإنتماء للعائلة والجماعة والوطن والبشرية , بداية مسيرة حياته , إبتداء من وجه ونغم وصوت ورائحة أمه وعائلته , ولون حيطان البيت والسقف ومساحة داره , واتجاهها وشرفاتها وأبوابها ...
التعرف على أبناء جيله وبيوت الحي , ومشارف البلدة , تلالها , صخورها وجبالها , دروبها أشجارها ومزروعاتها , أوابدها , عبق رائحتها وعطرها , حصّتها من مساحة السماء وضوء الشمس ......., كل هذه المؤثرات البسيطة الأولية التي تغذيه بأوانها وأصواتها وحركاتها وطبيعتها
هو مسقط الرأس , والصورة الأولى " الوشم " الأبدي الخالد الذي لا يُمحى من مخيلة وذاكرة الإنسان !
مريم نجمه
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟