|
الشفافية في مواجهة الفساد
نضال العبود
الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 08:49
المحور:
الادارة و الاقتصاد
ليس هناك من شك أن الشفافية هي أحد السبل الكفيلة بالقضاء على الفساد و الحفاظ على المال العام، و أنها آلية ناجعة من الآليات التي اعتمدتها جميع الإدارات الحديثة في النظم الديموقراطية للحد من هذه الآفة التي تضرب بشكل خاص القطاع العام و تشل عمله و تتركه خاسراً.
بالرغم من طرح مبدأ الشفافية كآلية عمل ناظمة للقطاع العام في سوريا منذ عدة سنوات و بالتحديد منذ استلام الدكتور بشار الأسد سدة الرئاسة، إلا أن ذلك ما برح شعاراً فقط، و لم يتم إسقاطه على أرض الواقع ليصبح منهاج عمل تتبعه الإدارات كمقوم لعملها.
الشفافية و الفساد مفهومين يقعان على طرف نقيض. فكلما اكتسبت الشفافية أراض جديدة، اندحر الفساد و أعلن هزيمته و العكس بالعكس. و هكذا يمكننا اعتبار انعدام الشفافية في إدارة ما مؤشر على انتشار و استفحال الفساد فيها و محاولة واضحة و صريحة للتغطية عليه و تمريره. فبواسطة هذا المبدأ يمكننا تحديد بؤر الفساد و حصرها و بالتالي معالجتها و تسمية الفاعلين، فتسارع الإدارات قبل شيوع أمرها إلى معالجة الخطأ قبل وقوعه ، و تقدم الاعتذارات التي تخفف من وطأته في حال لم تتداركه في الوقت المناسب. فكما نرى أن ذلك يجبرها على رفع سوية العمل و إتباع الاستقامة خشية الفضيحة التي سوف تفقدها الامتيازات التي تتمتع بها و هذا بالتأكيد ما لا ترتضيه.
لا بد من شرعنة مبدأ الشفافية هذا و تأطيره قانونياً بإصدار المراسيم و سن القوانين و إصدار الأوامر و التعليمات التنفيذية الكفيلة بجعله واقعاً حياً معاشاً ليس بالإمكان تجاوزه من أي طرف من الأطراف تحت طائلة المساءلة القانونية.
إن الشكل الوحيد لاتصال الإدارة الخارجي و تبادل المعلومات، يتم بينها و بين جهات أخرى يفترض أن تتمتع بالصفة الرقابية مثل ممثلي الهيئة العامة للرقابة و التفتيش و الجهات الأخرى كممثلي حزب البعث و ممثلي النقابات أو ممثلي الحكومة الذين يقومون أحياناً بزيارات ميدانية. نقول يتم هذا الاتصال بتقديم وجه واحد من الحقيقة أي الحقيقة مجزوءة و هو لا يمثل الحقيقة مطلقاً. فعلى سبيل المثال: يتم الإعلان عن زيارة المسئول عدة أيام فبل تاريخها، مما يهيئ الفرصة للإدارة أن ترتب شؤونها بحيث تقدم أفضل ما عندها، و تعمل في الوقت نفسه على توجيه نظر المسئول و إجباره بشكل من الأشكال على زيارة موقع معين بعد أن سخرت جميع إمكانياتها و استنفرت جميع عناصرها قبل أيام من الزيارة لجعل هذا الموقع آية في الترتيب و النظافة و ضبط العمل، و لا تكتفي بذلك لا بل تختار العناصر التي من الممكن أن تكون على احتكاك مباشر مع هذا المسئول أو ذاك أثناء الزيارة، و تبعد العناصر التي من الممكن أن تتجرأ على إظهار الوجه الحقيقي للمؤسسة بدون "ماكياج" (كأن يقوم مسئول حكومي بزيارة موقع حفارة نفطية مثلاً).
هناك نقطة أخرى تثير التساؤل و الاهتمام، و هي إسقاط الغالبية العظمى من المسئولين الحكوميين و حتى ممثلي الرقابة و التفتيش و ممثلي الحزب و النقابات من برنامجهم بند اللقاء مع العمال على مختلف فئاتهم و الاستماع إلى ملاحظاتهم و نقدهم و وجهة نظرهم في الطريقة المثلى لإدارة المؤسسة و تنميتها، بمعزل عن وجود الطرف الآخر الذي يمثل الإدارة، إلا إذا اعتبرنا أن هذا المسئول ممثل للإدارة أيضاً مع فرق أنه يأتي في مرتبة هرمية أعلى. إلا أننا لا نعتقد أن هذه الفرضية ترضي ممثلي الحكومة و غيرهم الذين لا يتركون مناسبة إلا و يدعون فيها الحياد، و بأن صلب عملهم يتجلى بإصلاح الأخطاء للارتقاء بعمل القطاع العام و تحسين أدائه ليصيح قطاعاً تنافسياً بعد القبول بمبدأ "تحرير التجارة" التي أقرها المؤتمر العاشر لحزب البعث من خلال اعتماده آلية "اقتصاد السوق الاجتماعي" بعد ركود الاقتصاد السوري و حتى تراجعه خلال العقدين الأخيرين و التي تجلت بوضوح بعد نشر أرقام الفقر المرتفعة و معدلات التنمية المنخفضة التي تضمنها تقرير التنمية في سوريا الذي صدر مؤخراً بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة.
تدأب الإدارة باستمرار إلى اعتماد السرية في كافة نشاطاتها كيلا تقع في مطبات لا تستطيع الخروج منها، و لا سيما المدير الذي يقف على قمة الهرم الإداري، حيث يعتمد بقاؤه لفترات طويلة على ما يخفيه من حقائق ليست في صالحه في حال من الأحوال، لذلك يعمد إلى خداع الجهات الأعلى بتقديم أرقام مضللة تخفي المشاكل الحقيقية التي تعاني منها مؤسسته. هذه المشاكل قد أثبتت التجارب أنها تتراكم على مر السنين لتخرج إلى السطح فجأة و بعد فوات الأوان على شكل كوارث أحاقت بالقطاع العام دون أية مؤشرات مسبقة تدل على ذلك. فالخسارات الفادحة المتتالية لقطاعات إنتاجية مختلفة ليست وليدة الساعة، و إنما هي تراكم لسنين طويلة تم فيها إخفاء الحقائق، و بهذا المعنى تكون العملية عبارة عن تخسير لا خسارة ، و الدافع الوحيد ورائها هو الإثراء السريع غير المشروع لعدد كبير من المدراء و بقاؤهم في مناصبهم فترات تمتد أحياناً عشرات السنين.
من هنا يظهر مبدأ الشفافية كصمام أمان ينظم عمل المؤسسة و يجنبها النتائج الكارثية التي وصل إليها القطاع العام في سوريا. يمكننا أن نذكر في هذا الصدد جملة من الإجراءات التي تضمن تطبيق مبدأ الشفافية في الإدارة و تقف حجر عثرة في وجه تقدم الفساد: • تقديم تقارير دورية للجهات الحكومية الأعلى و الجهات الرقابية مثل الحزب و النقابة و هيئة الرقابة و التفتيش عن سير عمل المؤسسة بكل وضوح و شفافية مع التركيز على المشاكل و المعوقات التي تقف في وجه تنفيذ الخطط الموضوعة. • اللقاءات الدورية بين الإدارة من جهة و العمال من جهة أخرى، يتم فيها شرح كافة خفايا المؤسسة و التزام الجرأة في الرد على أسئلة العمال و تجنب التهرب من الأخطاء بإلقائها على جهات أخرى. • سماح الإدارة لعمالها بالوصول إلى كافة الوثائق و البيانات التي لا تحمل طابع السرية و هي كثيرة جداً، خاصة ما يتعلق بالكشوفات الإدارية المالية. • السماح للجهات الرقابية و خاصة الصحافة بالوصول إلى ما تريده، بخاصة ما يتعلق بلجان المشتريات و العقود التي تبرمها مع القطاع الخاص، و مساءلة الإدارة عن الأسس التي تتبعها في تعيين موظفيها و ترقيتهم و تسليمهم المهام. • حرية الصحافة في إجراء لقاءات صحفية مع العمال و في زيارة كافة مواقع العمل دون توجيه من الإدارة لكيفية ممارستها عملها. • تفعيل دور النقابات كمدافع عن حقوق العمال و ضابطاً للممارسات الفاسدة و الحفاظ التام على استقلاليتها عن الجهاز الإداري. • عدم الإبقاء على الإدارات لفترات تزيد عن الأربع سنوات إلى ثماني سنوات حتى لا تتمكن من نسج شبكات أفقية و شاقولية من الفساد. و يتم نقل المدير إلى موقع آخر في حال ثبتت كفاءته، و إلا يعود موظفاً عادياً كغيره من الموظفين و عدم اعتماد الترقية الأوتوماتيكية. • فضح أعمال من يقف وراء الفساد و محاسبتهم محاسبة صارمة بالسجن و التشهير بأسمائهم في وسائل الإعلام و الحجز على ممتلكاتهم و ممتلكات أبنائهم و زوجاتهم المنقولة و غير المنقولة.
مما تقدم يظهر بوضوح أهمية تطبيق مبدأ الشفافية في القضاء على الفساد. هذه المهمة يتقاسم مسؤوليتها عدة أطراف تكوِّن في النهاية المجتمع بأكمله. فالفساد آفة تدمر الدولة و المجتمع و يشكل القضاء عليها واجباً وطنياً و أخلاقياً و إنسانياً. لذلك لا بد من شرعنة مبدأ الشفافية بإصدار المراسيم و القوانين. يجب على الحكومة من جهة و الجهات الرقابية غير الحكومية من جهة ثانية ألا تتهاون في معالجة ظاهرة الفساد لأنها أعاقت عملية التنمية و أفرزت طبقة طفيلية في المجتمع حققت ثراء غير مشروع و سببت شرخاً اجتماعياً بين فئة قليلة لا تعمل و تزداد ثراء و فئة كبيرة تعمل أو لا تجد ما تعمله و تزداد فقراً. هذه الحالة يمكن أن تؤدي إلى صراع اجتماعي عنيف لا تحمد عقباه بسبب فقدان العدالة في توزيع الثروات مع ما يرافقه من تخلف و فقر و انعدام للأمن.
#نضال_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تهميش حملة شهادات الدراسات العليا و تداعي القطاع العام في سو
...
-
إصلاح العلاقة بين الدولة و المجتمع
المزيد.....
-
السعودية: إنتاج المملكة من المياه يعادل إنتاج العالم من البت
...
-
وول ستريت جورنال: قوة الدولار تزيد الضغوط على الصين واقتصادا
...
-
-خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس
...
-
أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
-
أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
-
قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
-
السودان يعقد أول مؤتمر اقتصادي لزيادة الإيرادات في زمن الحرب
...
-
نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات
...
-
اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ
...
-
تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|