|
التسامح فضيلة أخلاقية يجب رعايتها
ابراهيم الحيدري
الحوار المتمدن-العدد: 4644 - 2014 / 11 / 26 - 21:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعتبر التسامح Toleranceمن المفاهيم المتداولة اليوم التي تستخدم في السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية التي تصف مواقف وممارسات واتجاهات تتسم باحترام الآخر ونبذ التطرف والعنف والتسامح مع الآخر المختلف في الفكر والعقيدة والموقف، أي بمعنى آخر قبول الآخر المختلف سواء في الدين أو العرق أو السياسة أو الثقافة والاعتراف به كند. ومن المفارقة ان التسامح يولد من رحم التعصب الذي يشتد في اقات العنف والإرهاب. وبذلك يكون التسامح نقيض التعصب والعنف المستخدم في الممارسات والافعال والمواقف والأقوال التي تحظر التمييز العرقي والديني والفكري. يقول فولتير: "انا لا أمن بكل ما تريد ان تقول ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في ان تقول ما تريد". أو كما يقول الامام الشافعي": "رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وهذان القولان يوحيان بمعاني التسامح في تبادل الرأي والاجتهاد فيه. والتسامح هو اللين والتساهل مع الآخر والعفو عن اساءته. وهو عكس التشدد والتشنج والتصلب في علاقة الانسان مع الآخر إذا ما صدر عنه ما يسيء اليه قولا او فعلا. وإذا قلنا ان التسامح يعني التساهل فليس معنى ذلك الضعف والجبن والتخاذل وانما منتهى القوة، لأنه من أسمي فضائل المجتمع المدني الذي يقوم على التعدد والتنوع والاختلاف، والذي يتضمن طاقة كبيرة من اتساع الصدر وضبط النفس مما يسمح بسيطرة العقل والحلم على الجهل والحماقة. وبمعنى آخر انه سلوك حضاري رفيع يسلكه الانسان في مواجهة أخطاء الآخرين بالعفو والمغفرة والابتسامة ليضيء شمعة في درب المحبة والسلام في قلب من يخطأ. وبهذا فالتسامح هو فضيلة نبيلة تنتج من احترام الآخر والاعتراف به عن طريق التواصل والتفاهم والحوار. يقول غولدمبرغ :“من الافضل ان تكون متسامحا على ان لا تكون". فالتسامح يقيم علاقة ايجابية مع الآخر ويدفع المرء الى ان يكون حضاريا متسامحا في مواجهة اخطاء الاخرين وزلاتهم، وبصورة خاصة حين يكون التسامح عفوا عند المقدرة او اشعال شمعة من المحبة والسلام في قلب من يخطئ التعامل مع الآخر ويخرج عما يتعارف عليه المجتمع. والتسامح، كموقف من الآخر، واحترام الرأي والرأي الآخر ليس بجديد. فقد ظهر مع الأديان السماوية وبخاصة المسيحية والإسلام واديان اخرى دعت الى التسامح، ولكنه برز كمفهوم اجتماعي وثقافي وسياسي في العصر الحديث وفي سياق التحولات البنيوية العديدة التي ظهرت في عصر الحداثة والتنوير والتقدم الاجتماعي ومبادئ حقوق الانسان، والتي قامت على أنقاض مجتمعات العصر الوسيط وفي سياقات الصراع بين الدول القومية والدولة الدينية والاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش في اوربا التي أججت نيران الحروب. وكان أول من صاغ مفهوم التسامح هو كاستليون في جداله مع كالفن عام 1553. وفي عام 1598 منح ملك فرنسا هنري الرابع رعاياه الكالفينيين الحق في الممارسة الحرة لديانتهم بموجب مرسوم "نانت" ولكن مرسوم نانت ألغي عام 1685 في ظل حكم الملك لويس الرابع عشر. كما صدر مرسوم في زمن الملك العادل فردريك الكبير في بوتسدام عاصمة بروسيا الألمانية يلزم اتباع المصلح الديني لوثر بالتسامح مع الإصلاحيين من أخوتهم في الدين. وتساءل الملك الألماني الشهير فردريك الكبير(1740-1786): هل بوسع الكاثوليكي ان يكتسب الحقوق المدنية؟ وقال:" ان كل الأديان جديرة بالتساوي وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها ان يكونوا صادقين. ولو أراد الاتراك والوثنيون ان يجيئوا الينا ويقطنوا في بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل أمرئ في مملكتي حر في ان يؤمن بما يريد وحسبه ان يكون صادقا". ان الخطوة الاولى للوقوف امام العنف تبدأ بوعينا بخطورة ثقافة العنف والتربة التي ينبت فيها. وهو ما لا يمكن فهمه وتفسيره إلا بإدراكنا ان ثقافة العنف السائدة تعطيه مساحة أكبر. وإذا كانت ثقافة العنف تجعل منه فضيلة الانسان القوي، فان التسامح يقدم بوصفه ضعف الانسان الذي تعوزه الشجاعة لان يكون متسامحا. وتكمن قوة التسامح في مبدأ ان تعيش وان تترك الآخر يعيش حياته بسلام. وبهذا يصبح التسامح طريقا للتعايش السلمي مع الآخر واحترامه. كما تظهر قوة التسامح عادة في ردود الفعل ضد السلوك العدواني، الذي ينتج عن تصريحات او تعبيرات او مواقف غير مقبولة واتخاذ موقف متسامح منها. ولهذا فالتسامح يتطلب دوما انفتاحا فكريا على الآخر، هدفه نشدان الحقيقة كفضيلة اخلاقية ينبغي زرعها واحاطتها بالرعاية والعناية حتى تنمو وتزدهر. وهناك نقطتان رئيستان تشيران الى معنى التسامح بصورة عامة هما: اولا، انه يقوم على تفهم وأدراك موجه من الضمير لاحترام الرأي الأخر وفهمه، وثانيا، انه يقوم على مبادئ وقوانين المجتمع المدني التي تضمن احترام حقوق الانسان. ومن اجل ان يكون التسامح ممارسة عملية فانه يحتاج الى درجة معينة من الانفتاح وسعة الصدر وقبول الآخر والتحاور معه. ففي المجتمع المدني الذي يتصف بالتعدد والتنوع والاختلاف، تتكون هوية جمعية تتخلى عن التعصب العنصري والديني والطائفي والثقافي، ولكن بشروط عدة يجب توفرها، منها ان يكون الانسان ملاماً على سلوك مستنكر او غير مرغوب فيه، وان لا يسمح للملام بالاستنكار او ان يعتبر ما قام به سلوكا طبيعيا، وان لا يخلط بين السلوك الملام عليه والاستنكار. والواقع يجب ان لا يكون التسامح واجبا، لان على المرء ان يميز بين التسامح الايجابي والتسامح السلبي. كما ان التسامح ليس ترفا فكريا، بقدر ما هو شرط اساسي لخلق مجتمع منفتح يؤمن بالتعددية والديمقراطية وكذلك بالخصوصية ويحترم الآخر وينظر الى الاختلاف كعامل اغناء لحوار الحضارات وليس كخطر على الهوية. هل هناك حدود للتسامح؟، ومتى نتسامح ومتى نوقف الآخر المعتدي عند حدود يجب ان لا يتخطاها؟ ان حدود التسامح تبدأ عندما يكون القانون قويا ومحترما ومطبقا، ويكون الافراد متحررين من هاجس الخوف والقهر والاستغلال. ولذلك تصبح له قوة نسبية وقيمة اجتماعية – اخلاقية في مجتمع مدني يحترم ويصون حقوق المواطنين. كما ان هنالك تسامحا فعالا وآخر سالبا، وعلى المرء ان يميز بين التسامح كفضيلة والتسامح كقهر واذلال واستغلال للحرية باسم التحرر من المهانة. ويصل التسامح الى قمته عن طريق قوته النسبية، ولكن على المرء ان يميز في ذات الوقت، بين من يقول " انا متسامح " وبين من يقول " سوف احاول ان اكون متسامحا". فالأول هو قول فعال ويفترض القوة اولا، والثاني يقترب من ان يكون متسامحا. وأفضل اشكال التسامح ما يتم عن طريق التفاهم والحوار المتبادل واتخاذ موقف مرهف الشعور من الآخر. وهو موقف يتطلب معرفة الآخر الذي ينبغي احترامه، وكذلك ارادة واعية لفهم وتحديد موقف الآخر منه الذي لا يمكن قياسه بالملاحظة والكلام فحسب، بل عن طريق العلاقة الحوارية الجادة المتبادلة بين الطرفين. كما يتطلب الاحترام، قناعة باعتباره معنى محدد على المرء ان يفهم ويستوعب تعقيداته. والحقيقة ان التسامح هو المقدمة المنطقية للديمقراطية أو كما قال الفيلسوف ادجار موران" ان التسامح ضرورة ديمقراطية، لان الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار وتندثر بصراع الأجساد. والديمقراطية هي ذلك النظام الذي يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية" الأول هو التسامح، والمبدأ الثاني هو ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. والمبدأ الثالث هو المساواة والعدالة، وهي مبادئ لا يمكن ضمانها إلا في نظام تمثيلي برلماني. وتعود هذه المبادئ أساسا الى ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك ومونتسكيو وروسو. ان هذه المبادئ والأفكار الديمقراطية لم تكن لتنجح دون إرادة سياسية قوية تزامنت مع مواقف السياسيين في اوربا وادراكهم للعواقب الوخيمة لعدم التسامح.
#ابراهيم_الحيدري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النظام الأبوي الذكوري وهيمنته على المجتمع والسلطة
-
علينا ان نتعلم من سنغافورة!
-
النقد الحواري وما بعد الحداثة
-
علماء الاجتماع العرب يحتفلون بمئوية على الوردي
-
فصل الدين عن الدولة
-
أدورنو وتصنيع الثقافة
-
الحداثة والاعتراف بالحرية
-
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
-
علي الوردي.. جمع بين رصانة الفكر وبساطة الأسلوب فأحبه الناس
-
أدب ما بعد الحداثة
-
على الوردي والتغير الاجتماعي في العراق
-
تحديات العولمة وخيار الحداثة
-
سؤال النهضة والحداثة 2-2
-
الشخصية العراقية
-
سؤال النهضة والحداثة (1/2)
-
النظرية الجمالية عند تيودور أدورنو
-
العنف ضد المرأة
-
يجب ان لا يكون التسامح واجبا ؟
-
هاينريش هاينه روح الشعر الألماني
-
هل اصبح العرف العشائري بديلا للقانون؟
المزيد.....
-
صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب
...
-
لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح
...
-
الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن
...
-
المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام
...
-
كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
-
إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك
...
-
العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور
...
-
الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا
...
-
-أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص
...
-
درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|