|
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية-6 من 6
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 11:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقد حاولت في مقالاتي الخمسة السابقة البرهنة على أن القومية العربية هي محور الوطنية العراقية ومكونها الجوهري، كما أنها القوة الوحيدة التي تحتوي في ذاتها على إبعاد الوحدة الوطنية والاجتماعية. ومن ثم فان تمثلها العقلاني في فكرة مناسبة لأوضاع العراق يجعل منها ضمانة التطور الديمقراطي الاجتماعي، أي الصيغة الأكثر تجانسا للوعي السياسي والدولتي. وبما أن أزمة العراق شاملة من هنا ضرورة الشمول والمنظومة في البدائل. وهو شمول ومنظومة لا تصنعها إلا قوة كبرى تتمثل مصالح وهموم الأغلبية المطلقة. وفي ظروف العراق لا يمكن لهذا البديل أن يكون شيئا أخرا غير الوحدة المنسجمة بين العراقي والعربي على أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والثقافة الوطنية الحرة. إن هذه المقدمة المكثفة، التي تحتوي في ذاتها على حصيلة الدراسة التاريخية والثقافية والسياسية والدولتية والقومية للعراق تبلور بدورها المطلب السياسي الأكبر بالنسبة لمواجهة التحديات الكبرى التي يقف أمامها العراق الآن، ألا وهو جعل مطلب العراق العربي مطلب الوطنية العراقية وشعارها العملي. وذلك لان العراق يقف أمام حالة فريدة من تراكم وضغوط الاحتلال الأجنبي والانحطاط القومي العربي والانتفاخ العرقي للأقليات القومية والتورم السرطاني للطائفية السياسية، وبالتالي ضمور الهوية الوطنية العراقية في عقول وأفئدة القوى السياسية المسيطرة على مقاليد الأمور، أي القوى المتدرعة بقوة الاحتلال. وهي حالة مركبة لا يمكن تذليلها دون شعار جامع يجبر القوى المتناحرة والمتصارعة والمختلفة على الخضوع له من اجل مستقبل العراق ومستقبل القوى المتصارعة فيه أيضا. ولكن لا بوصفها قوى متصارعة تعيش بمعايير المساومة الدائمة، بل بمعايير المساومة التاريخية الكبرى على أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الدنيوي (العلماني) والمجتمع المدني الحر. فهي المساومة التي تضمن للأقليات حقوقها القومية الثقافية والبقاء ضمن وحدة العراق التاريخية. لاسيما وانه الأسلوب الوحيد الذي يذلل تاريخ المعادلة السيئة للرؤية والممارسة السياسية التي جسدتها الشيوعية والبعثية في العراق، والتي تعيد الممارسة الطائفية السياسية العربية والقومية العرقية الكردية ابتذالها الأتعس! فهما "متعايشان" ومتصارعان ويضمر كل منها للآخر عداء دفينا. إنهما يفكران ويخططان ويعملان بنفس ذهنية وعلاقة الشيوعيين والبعثيين اللذين تحكما بالوعي الاجتماعي والسياسي العراقي لعقود طويلة وقدماه في وقت لاحق قربانا لعقائدهما الجامدة. فقد كان كل منهما الطرف الفعال في المعادلة السيئة لتاريخ العراق السياسي الحديث. وهي الحالة التي نرى صورتها الحالية في وحدة وصراع الأضداد الخربة بين القوى العرقية الكردية والطائفية الشيعية. وليس إلا الانحطاط الشامل في العراق، الذي لم يكن معزولا عن صراع الشيوعية والبعثية في العراق، هو الذي جعل من قوى هامشية كالعرقية والطائفية قوى مؤثرة. مما يشير بدوره إلى أنها قوى الانحطاط وليس التقدم. إضافة لذلك أن البدائل الشاملة لا تحققها أقلية أو قوى جزئية. على العكس! إن هذه القوى عادة ما تكون مخربة من وجهة نظر البدائل العقلانية والأبعاد الإستراتيجية للتقدم الاجتماعي. وهو واقع يقف أمامه العراق في محاولاته تذليل مرحلة الانتقال الحرجة من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. إذ يقف العراق حاليا أمام أربعة احتمالات سيئة كبرى بهذا الصدد وهي أولا، احتمال الحرب الأهلية، ثانيا، احتمال الحرب القومية والعرقية، ثالثا، احتمال استثارة قوى الانحطاط السلفية والصدامية المتفسخة، رابعا، احتمال التدخل الخارجي الإقليمي والدولي المتوحش. أما بالنسبة للعراق فليست هذه الاحتمالات سوى التحديات الكبرى التي يواجهها بوصفها قوى فعلية كامنة فيه أولا وقبل كل شيء. بمعنى أن إمكانية تفعليها أو تذليلها متوقفة على إمكانيته الذاتية في إرساء أسس الوحدة الوطنية ومن ثم بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي. وان جميع هذه الاحتمالات – التحديات متوقفة من حيث مسارها ونتائجها على الكيفية التي تتعامل بها مكونات القومية العربية المجزئة حاليا في العراق. بمعنى أنها تتوقف على مدى ونوعية الإجماع القومي العربي بمعايير الوطنية العراقية، أي على مستوى التمثل الفعلي لما أسميته بوحدة العربي والعراقي بوصفهما روحان لجسد واحد هو العراق. وذلك لان القوى العرقية والطائفية الحالية في العراق ليست قادرة من حيث المبدأ والغاية على تحقيق هذه المهمة. فالقوى القومية الكردية هي قوى "كردستانية"، أما القوى الطائفية السياسية (الشيعية والسنية) فهي ليست قومية ولا وطنية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي أن العراق لا يشكل بالنسبة لهذه القوى العرقية والطائفية هما جوهريا، أو محورا مركزيا أو بؤرة ذاتية. من هنا اغترابها الفعلي عن العرق وعن همومه الكبرى الواقعية والمستقبلية. وهو الأمر الذي يضعها بالضرورة في تناقض مع آفاق تطوره. وفي هذا تكمن خطورة الاحتمالات الأنفة الذكر، أي خطورة الحرب الأهلية، والقومية، واستثارة السلفية الموتورة والصدامية المتفسخة، وإغراء التدخل الخارجي المتنوع في شئون العراق الداخلية. إن مجرد استبيان واقعي ودقيق لنفسية وذهنية ورغبات القوى السياسية العرقية والطائفية من جهة، ومختلف الشرائح الاجتماعية من جهة أخرى، سوف يضعنا أمام صورة واقعية عن احتمال المخاطر الآنفة الذكر. فالتفرقة الطائفية التي تستثيرها جميع القوى السياسية بطرق ومستويات مختلفة، بوعي أو دون وعي تعمل على تعميق هوة الشقاق والخلاف المفتعل ومن ثم تهشيم وتحطيم وتهميش مرجعيات الفكرة الوطنية العراقية. أما الصراع القومي والعرقي، فانه اخذ بالازدياد الفعلي في أمزجة الجمهور. فالتربية القديمة والمنظمة للعداء الكردي للعرب تحول في مجرى "المشاركة" الكردية في السلطة بعد سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية إلى أسلوب لتعميق الشقاق والخلاف القومي والعرقي. وذلك لأنها "مشاركة" لا تهدف في الواقع إلا إلى تعميق التجزئة، وذلك بفعل كون الغاية من وراءها هو الحصول على الغنيمة (الثروة والأرض). وهي مشاركة لم تثمر في مجال العلاقات القومية في ظروف العراق الحالية غير تعميق الشرخ القومي. بمعنى إننا نلاحظ للمرة الأولى في تاريخ العراق تحول وانحراف الصراع بين القوى القومية الكردية (التي كانت تحظى بتأييد شعبي مباشر وغير مباشر من قبل الجمهور العربي واغلب قواه السياسية) وبين السلطة المركزية، إلى صراع دفين ولكنه متزايد ومتعمق ومتوسع بين "الأكراد" و"العرب". بمعنى إننا نلحظ للمرة الأولى في تاريخ العراق ككل بروز ظاهرة الكراهية القومية والعرقية من جانب العرب للأكراد وتعاظمها السريع. في حين شكلت الأحداث الأخيرة لمهاجمة الجماهير العادية والبسيطة في مختلف مدن العراق مراكز الشرطة بوصفها مظهر السلطة المركزية وشعاراتها التي تعتبر "الواوي" (صدام) أفضل من قيادات العراق الحالية هو دليل على عمق الازدراء الفعلي للجماهير بطبيعة ونموذج "النخبة" السياسية الحالية من جهة، وعلى إحباطها المعنوي من هذه "النخبة". بينما شكل رفع صور صدام في مظاهرات أخرى واعتباره قائدا شرعيا وزعيما وطنيا ليس إلا الوجه الآخر لاستثارة الإرهاب العشوائي السلفي. وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها في كل مراحل الانتقال التي لا تتمتع بإرادة وطنية حقيقة قادرة على إقناع الجماهير على تحمل مصاعب الانتقال "سوية". فالنخب السياسية الحالية (العرقية الكردية والطائفية الشيعية) ومعارضتها السلفية والصدامية المتفسخة يكمل احدهما الآخر في مجال الاغتراب الفعلي عن حقيقة الوطنية العراقية. وهي ظاهرة يمكن تلمسها بوضوح في تبذير وضياع التأييد الشعبي لقائمة الائتلاف، التي لم تعد تحظي شعاراتها "الشيعية" بين الشيعة بغير الكراهية والازدراء. أما حصيلة تضافر وفعل المجريات الواقعية لهذه الظاهر (أو المخاطر) فهو مقدمة تكاملها في "فاعلية" التدخل الخارجي المتعدد والمتنوع في شئون العراق الداخلية. وهو تدخل يرضي القوى العرقية والطائفية (رغم صراخها الظاهري) لأنه يستجيب من حيث الجوهر لرغباتها في بقاء العراق مجزأ قابلا للسيطرة والتحكم السريع بتأثير الشعارات العرقية والطائفية. وهو الوهم الأكثر خطورة. وذلك لان اللعب مع النار محرق. وتضافر المخاطر الآنفة الذكر يحولها في أول احتراق إلى لهيب يشعل كل مكوناتها الأربعة، أي يحول الاحتمالات إلى قوى لا يحكم صراعها قاعدة ولا قانون. كل ذلك يجعل من الاحتمالات السابقة تحديات تاريخية كبرى. أنها تضع الجميع أمام مأزق لا يمكن الخروج منه إلا عبر تذليل القوى التي ساهمت في صنعه بوعي أو دون وعي، واقصد بذلك القوى الطائفية العربية والعرقية الكردية والاحتلال الأمريكي والتدخل الخارجي (العربي والإيراني). وهي تحديات تضع الجميع أمام استحقاقات المستقبل. وهي استحقاقات لا يمكن توظيفها العقلاني إلا عبر تنظيم الفكرة القومية العربية الجديدة بالشكل الذي يجعلها مطابقة لحقيقة الوطنية العراقية. وهي عملية معقدة إلا أنها آخذة بالنمو. وذلك لان مأزق العراق الحالي وتكالب القوى الطائفية والاقوم الصغيرة عليه سوف يعيد من جديد بناء الوحدة الذاتية للأبعاد الوطنية والقومية فيه. وكما سقطت وانهارت التوتاليتارية البعثية وتأخذ بالتلاشي والاندثار بقاياها الصدامية، كذلك الحال بالنسبة لمصير العرقية والطائفية وأسيادها من قوى الاحتلال. إن الصراع المقبل بحاجة إلى مواجهات وتضحيات هائلة. وهي أمور لا تقدر عليها قوى مغتربة عن العراق. فالقومي الكردي لا يضحي إلا من اجل "كردستان"، والطائفي العربي لا يضحي إلا من اجل إيران وصدام. أي ليس هناك بينهما من هو قادر ومستعد للتضحية من اجل العراق. وكل شيء مغترب عن العراق يفنى ويبقى العراق كما كان! وهي حقيقة يبرهن عليها الماضي والحاضر والحس والعقل والحدس، وتجارب الأمم جميعا. بمعنى أن القومية الكبرى هي التي تواجه استحقاقات التاريخ الفعلي وهي الوحيدة القادرة على كسب المعركة، لأنها الوحيدة القادرة والمستعدة على تقديم تضحيات لا تنتهي إلا بانتهاء حالة البؤس والخراب. وفي ظروف العراق الحالية ليس هناك من قوة مستعدة وقادرة على تقديم التضحيات غير المتناهية من اجل إنهاء حالة الخراب والبؤس فيه غير القومية العربية. وبهذا المعنى أتكلم عن فكرة وشعار "العراق العربي" بوصفه مطلب الوطنية العراقية. وفي الحقيقة هو ليس شعارا ولا مطلبا بل هو التزام ومستقبل.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 5 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 4 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 3 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 2 من 6
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 1 من 6
-
حق تقرير المصير- في العراق – الإشكالية والمغامرة
-
هوية الدستور الحزبي ودستور الهوية العراقية؟
-
أشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق-2 من 2
-
إشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق+1 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - التصنيع العرقي 2 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - الهمّ الكردي والهمّ العراقي
...
-
مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9
-
الأهمية الفكرية للمرجعية-8 من 9
-
الاهمية السياسية للمرجعية 7 من 9
-
الأهمية الروحية للمرجعية 6 من 9
-
المرجعية الشيعية ومرجعية التقليد - الواقع والآفاق 5 من 9
-
المرجعية الشيعية - الفكرة والتاريخ الفعلي 4 من 9
-
فلسفة المرجعيات في التراث العربي الإسلامي3 من 9
-
مرجعية الروح المتسامي ومرجعية النفس السيئة 2 من 9
-
فلسفة المرجعية والمرجع في العراق1 من 9
المزيد.....
-
شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا
...
-
جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
-
زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
-
كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
-
مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
-
ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
-
مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
-
جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|