|
ميشيل فوكو والنزعة الانسانية
وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 08:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو واحدا من اكبر الفلاسفة حضورا وابداعا وشهرة في الفلسفة الغربية الحديثة ، حيث تأثر كثيرا بكتابات كل من الفلاسفة نيتشه وهيدجر وليفي شتراوس في صياغة فلسفته ورؤيته الفكرية القائمة على تجاوز الخطاب الانساني او النزعه الانسانية من خلال العمل على تقويضها ، إذ يرى ميشيل فوكو ان النزعة الانسانية لم تخلق لدى الانسان سوى الاوهام والاساطير معتبرا ان الانسان ماهو الا مجرد انعطاف في معرفتنا ،وهو اختراع حديث يعود الى مئتي سنه ( الخطاب الفلسفي المعاصر /عبد الرزاق الدواي /دار الطليعه بيروت 1992 /ص 128) وهي هنا اي فلسفة ميشل فوكو تقف بالتضاد المباشر مع الفلسفة الغربية القائمة على الحداثة والنزعة الانسانية والفكر الجدلي التطوري الذي يأخذ بنظر الاعتبار التاريخ والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تطور المجتمعات البشرية ، ومن ثم ولادة الاجهزة المفاهيمية وجميع القيم التي تدخل في مجالات المعرفة البشريه ، حيث اعتمد فوكو على النزعة التحليلية المعاصرة التي سادت اوروبا في الخمسينات من القرن العشرين حيث النزعة العلمية والصارمة التي تملكها ، إذ اهتم كثيرا بنشأة العلوم وتاريخ الافكار من حيث الانقطاعات والانفصالات وعن الثوابت التي تحكم حقل الانتاج المعرفي والنقاش الدائر في عصر معين ( المصدر نفسه ص 133) ، وبذلك شكل فوكو نزعة جديدة ومغايرة عن سابقتها تلغي كل المفاهيم التي جاءت بها الحداثة والمتمثلة بالاهتمام بالذات والحقيقة والعلم والعقل والمعرفة والارادة الانسانية ، وهو بذلك يعلن موت ذلك الانسان ،لم يعد هناك مجال آ خر للتحرر، حيث ينساق فوكو مع عبارة نيتشه " لكي يناضل المرء عليه ان يغطي عينيه بغشاوة من الاوهام " لم يعد هناك تفاعل بشري جديد من اجل خلق عالم افضل كل ذلك يعد وهما في نظر فوكو مستبدلا التاريخ البشري والاحداث البشرية والواقع الاجتماعي المعاش بالنسق او المفهوم الذي من خلاله يتأ سس القهر .هذا النسق يمثل في حد ذاته كما يقول " فكر قاهر وقسري ... بدون ذات ومغفل الهوية ، وهو موجود قبل اي وجود بشري واي فكر بشري ، انه بنية نظرية كبرى " ( الخطاب الفلسفي المعاصر 132 ) وبذلك يكون قد الغى فوكو النزعة الانسانية برمتها حيث يخبرنا ان الذي يتكلم داخل النسق ليس هو الانسان وليس هو الاله الذي اعلن نيتشه بدوره موته ، وهناك من يرى ان فيورباخ هو اول من اعلن ذلك من خلال اعتبار " ان الله ليس سوى بسط للانسان "( جيل دولوز / المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو /ترجمة سالم يفوت / المركز الثقافي العربي / الطبعة الاولى / سنة 1987 ص 144 ) ، و يمثل فوكو مع مجموعة من الفلاسفة والمفكرين من جيله وهم جيل دولوز وكلود ليفي شتراوس وآ رون وغيرهم النزعة القائمة على التعددية العلمية والتشظي والتبعثر وانه لايوجد اسس واحدة يمكن الانطلاق منها ، ويشبه جيل دولوز هذه الفلسفة في كتابه " الجذمور " حيث يقول " ان نقطة الجذمور تستطيع ان تتشابك مع كل نقطة من شيء آخر وينبغي عليها ان تفعل ذلك " ويقول ايضا " ليس للتعددية ذات او موضوع وانما هي فقط ارتفاع وابعاد ومشروطات " ( فرانسوا دوس / عالم فوكو ص 157 )
من المؤكد ان ميشيل فوكو لم يكن ميتافيزيقيا عندما اعلن وجود النسق قبل اي وجود بشري بل كان واقعا تحت سطوة النظرة العلمية البحتة والتي تؤمن بالبيولوجيا الحديثة حيث يشبه هذا النسق بالاكتشاف البيولوجي ، وان للجينات نظاما مرموزا يحدد بكيفية مسبقة ما يكون عليه الكائن البشري ( الخطاب الفلسفي المعاصر/ ص 133) وهنا ينتمي ميشيل فوكو الى الدائرة المتقلبة للصدفة المطلقة والحدث الشاذ الفريد (فرانسوا دوس / عالم فوكو / مجلة المنار / العدد 2 سنة 1985 ص 156 ) ان الغاء النزعة الانسانية يعد تجريدا جديدا لفكر قائم على اللامبالاة تجاه الانسان وما يحدث له ومن ثم جعل الاهتمام ينصب فقط على الشكل او الرمز او المفهوم لاغير ، وبذلك نقول ان هذا الخطاب وليد الاختناقات الايديولوجية التي سادت اوروبا في النصف الاول من القرن العشرين حيث جاءت كرد فعل تجاه الفلسفة الوجودية والتي تمثل النقيض منها تماما حيث تهتم الاولى بالكائن البشري وجودا وقلقا وحياة وتجليا انسانيا داخل العالم الذي يعيش ، وبين الفلسفة البنيويه التي تستند على الايمان بالنظرة العلمية البحته والتي يعرفها ميشيل فوكو على انها " وعي المعرفة الحديثة المتيقظ والقلق " ومن ثم يكون تعاملها مع الانسان منعزلا عن ذاته واحلامه ومشاعره الخ ، حيث اوجدت مفاهيم جديدة لاتشكل الثبات بل الحركه الدائمة والصيرورة السريعة وبذلك لم يعد الانسان ماهو الا بريق او طفاوة على السطح وهنا سطح النسق ذاته الذي يحمل بدوره جميع مراكز السلطة وتوزعها القسري .
ان ميشيل فوكو يحذف من فكره اي نزعة تطورية او تدريجية ومن ثم لاتوجد هناك سوى انقطاعات وانفجارات تنبثق في اماكن معينة ، ولكنه يجهل كيفية حدوث هذه الانقطاعات والانفجارات التي تحدث التغيير في مناخات الوجود البشري ، حيث ان اختفاء الانسان قاد بدوره الى اختفاءات اخرى كالخطاب والمؤلف والذات المبدعه ، ومن ثم يريد فوكو من التاريخ ان يتشظى الى جملة من التخصصات المبعثرة بحيث يصبح ذلك التاريخ غير مؤنسن ولاشكل له ( فرانسوا دوس / عالم فوكو ص 156 )
هل هناك انقطاعات او قطائع نهائية يحدثها اثر معين او ثورة معينة مع الماقبل ويشكل نهائية له ؟ اجد ان الثورات التي حدثت في تاريخ البشرية لم تحدث قطيعة نهائية مع القيم والثوابت الراسخة الجذور للمعرفة البشرية بل هي عملت على زحزحة عوامل انبثاقها وسوء الاستعمال الرمزي والسلطوي للمعرفة والايديولوجيا والتصورات ...الخ
هل من الممكن ان تنطبق فكرة موت الانسان على مجتمعاتنا العربية الاسلامية ؟ من المؤكد انها مقولة غربية ومرتبطة بالتطور الصناعي والعلمي والتكنلوجي في الحضارة الغربية اضافة الى تاثير الراسمالية عليها ، كل ذلك جعل هذه المقولة اكثر صلاحية لدى هذه المجتمعات التي تعيش بشكلل مقنن للقيم والافكار والسيطرة كما يرى ذلك هربرت ماركوز حيث يقول " ان الديمقراطية تدعم السيطرة بشكل اقوى من الحكم المطلق ، وهكذا تصير الحرية المداراة والكبت الغريزي مصدرين دائمي التجدد للانتاجية "( الفكر العربي المعاصر / العدد 6/7 / د. بشارة صارجي / البنيوية... غياب الذات ؟ / ص 17 )
ان مجتمعاتنا ماتزال تحكمها بنى وانساق مختلفة جدا عن تلك التي توجد في المجتمعات المتقدمة حيث سيادة العشائري والطائفي والديني الى حد كبير، ومن ثم ان الانسان موجود كفرد وكسلطة اجتماعية داخل نسق العشيرة او الطائفة اما الوجود الجمعي للافراد فانه محكوم بقدرة الزعامات وجميع الذين يملكون كاريزما اجتماعية معينة ، ولكن اذا كانت الديمقراطية قد خلقت لدى المجتمعات الحديثة السيطرة كما يقول ماركوز ، فأن الحكم المطلق لدى مجتمعاتنا اشد سيطرة وخصوصا بعد التجربة التي عاشتها مجتمعاتنا متمثلة بالاحزاب الشمولية ودولة الحزب الواحد ، إذ يمثل اي الحكم المطلق رمزا للخناق المستمر والمعطل لاية انتاجية معينة من شأ نها ان تضفي التطور والحراك الاجتماعي .
وهناك من يرى ان ميشيل فوكوعمل على تجريد الذات من افكارها وابداعها وجميع عوامل الخلق والتاثير في المجتمع من اجل ان يطمس ذاته هو او يلغي هويته الشخصية وما فيها من خصوصيات معينة لانه لايريد لذاته التي كانت شاذة ان تنطبق على الذات المبدعة ومن ثم يحدث فصلا بين ذاته او هويته وبين ذات الابداع ، حيث عمد الى نكران اي صيغة من صيغ الهوية الذاتية بل رفض حتى الذات كعامل وحدة ضروري لجميع اشكال الهوية ( مصطفى اعراب / فوكو : بعد الشذوذ الجنسي وتجربة الاختراق / مجلة فكر ونقد ) رغم ما يقال من انه قد اعاد للذات في اخريات حياته بعض من فاعليتها واهميتها ، ولاننس ان فوكو قد امضى وقتا طويلا وهو يدافع عن السجناء والعمال المهاجرين وجميع المهمشين والمنبوذين والعاطلين عن العمل ، وهو هنا يؤكد دور الذات في تأثيرها والتزامها الانساني نحو القضايا التي تخص المجتمع البشري .
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو تأصيل جديد لثقافة الحرية
-
الانسان العراقي بين الدكتاتورية والارهاب
-
دولة الاستبداد - دولة الحرية
-
قبول الاخر
-
الدولة الديمقراطية
المزيد.....
-
تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ
...
-
بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق
...
-
مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو
...
-
ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم
...
-
إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات
...
-
هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية
...
-
مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض
...
-
ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار
...
-
العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|