ماريو أنور
الحوار المتمدن-العدد: 1302 - 2005 / 8 / 30 - 08:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن موقف المسلمين من المسيحيين يختلف باختلاف ما يستندون إليه من آيات قرآنية لتحديد هذا الموقف . فمن اعتمد الآيات التى تحمل على النصارى الطالحين . وقف منهم موقفاً صارماً . أما من أخذ بالآيات التى تمتدح النصارى الصالحين , فإنه – على النقيض من ذلك – يقف نتهم موقف الانفتاح .
و هناك موقف متطرف لا يجيز الحوار و لا إقامة علاقات ودية مع المسيحيين . هذا الموقف هو السائد لدى الجماهير فى البلاد الإسلامية , لأنها ترى فى المسيحيين مجرد كفار . لذا يتجنبون كل اتصال بهم و يرفضون أن يتفاوضوا و يتعايشوا معهم على أساس من المشاركة بالتساوى . ذلك أن هذه الأوساط المتطرفة تتمسك بالمبدإ الأساسى الذى يحرم على المسلمين أن يتفاوضوا معهم تفاوضاً صريحاً إيجابياً , بل يأمر بإذلالهم ما أمكن , و يهدف فى نهاية المطاف إلى كسبهم للإسلام .
وهم يستندون فى هذا لبصدد إلى ما جاء فى القرآن عن معارضة النصارى للإسلام , و عما يشكلونه من خطر على الدين الجديد , و يعتمدون خصوصاً أمر القرآن بمقاتلتهم إلى أن يخضعوا للإسلام . أما المقاطع القرآنية اللينة و سواها من الآيات التى تثنى على النصارى و تفسح لهم إمكانية للخلاص , فتنسخها الآية التالية نهائياً و تبطل مفعولها : " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه و هو فى الآخرة من الخاسرين " ( 3 : 85 )
ومع ذلك فثم مسلمون يرون الحوار مع المسيحيين جائزاً . وهم يستشهدون , لتبرير رأيهم , بقول القرآن : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتى هى أحسن " ( 16 : 125 ) , لاسيما و إن القرآن ذاته باشر الحوار مع النصارى حيث قال : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ... " ( 3 : 64 ) . كما أنه يعترف بشرعية التعدد فى الأديان المنزلة ( 2 : 148 5 : 48 ) . و علاوة على ذلك فإن القرآن يعد بالخلاص جميع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر و يعملون صالحاً ( 2: 25 20 : 75 – 76 29 : 58 1 : 8 – 9 ) ويصف النصارى و اليهود و الصابئين و المجوس بأنهم مؤمنون , على نقيض الكفار ( 22 : 17 ) . هؤلاء جميعاً مصنفون مع المسلمين فى فئة الذين يخلصون بإيمانهم و مسلكهم الأخلاقى : "" إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون " ( 2 : 62 قارن بـ 5 : 69 ) .
يتضح من هذا المبدإ أن القرآن يثبت صلاحية التوراة شريعة اليهود , و الإنجيل شريعة النصارى , و القرآن شريعة المسلمين ( 5 : 43 – 48 ) . المسلمون الذين يعتبرون الحوار مع المسيحيين جائزاً , يلاحظون بحق أم الأحكام القاسية و التدابير السياسية التى أقرها القرآن ضد اليهود و النصارى , فرضتها الأوضاع التى كانت سائدة فى ذلك العصر . ومن ثم فلا يجوز تبريرها الآن إلا بنشوء ظروف مماثلة , كأن يبادر المسيحيون إلى محاربة المصالح الإسلامية أو أن يمسوا – بفساد اخلاقهم أو مقاومتهم الفعالة للدين الإسلامى أو أخيراً بمحاولتهم رد المؤمنين عن دينهم – خطراً يهدد الإسلام أى الدين الإسلامى , ووحدة الأمة الإسلامية , وبقاء الدول الإسلامية .
وحتى لو جازت إقامة علاقات ودية مع المسيحيين , فإن عدداً كبيراً من المسلمين يرون أن لا فائدة فى التحاور الإيجابى معهم , لأن الإسلام هو الصيغة النهائية الكاملة للدين , و هو يقدم للإنسان كل ما يحتاج إليه ليجد السبيل السوى أمام الله . كل ما سوى ذلك نافل لا نفع فيه , بل قد ينطوى على خطر .
وعلى الرغم من هذا الموقف المنغلق , فهناك أقية مسلمة تؤيد الحوا والتعاون مع المسيحيين بلا تحفظ مبدئى . فهى ترى أن بقاء الإسلام لا يمكن ضمانه و درء الأزمات عنه , دون انفتاح على الآخرين و إجراء اتصال بهم , فى عالم تتقارب أقطاره باستمرار . فتعزيز الإسلام بحركات النهضة الإسلامية المعاصرة , يحرره من الشعور بمركب النقص , ويؤهله لتبنى مناهج الأبحاث الدينية العلمية , وبالتالى للدخول فى حوار مع المسيحيين . زد على ذلك – وهذه هى الرغبة الأساسية الملحة للدوائر الرسمية فى العالم الإسلامى – أنه لابد قبل كل شىء من إقامة تعاون بين المنظمات الإسلامية و الكنائس و المؤسسات المسيحية , لكى تؤدى جميعها شهادة مشتركة للإيمان بالله , وتساهم معاً فى إيجاد حل لمعضلات عصرنا .
فى سبيل الحوار بين المسيحيين و المسلمين
إن الحوار بين المسيحيين و المسلمين و التعايش بين الجماعتين , يثيران عدداً كبيراً من المعضلات النظرية و العملية . فهذه المهمة العسيرة تقتضى من الطرفين انفتاح ذهن حاسماً , وإقدام قلب عظيماً على التضحية . ذلك أن من أراد الحوار وجب عليه أن يخرج من ذاته , ومن ذلك المجال المحمى فى حصن حصين , أعنى نهجه الخاص فى الحياة , ومن الطمأنينة المعتادة الناشئة عن التقاليد الخاصة , لينفتح على الآخرين ويذهب إليهم . إن المشاعر العفوية بالريبة إزاء الأجنبى , التى تزعج عاداتنا المألوفة وتهدد بإعادة النظر فى القواعد التى توجه حياتنا , لابد من ترويضها و التغلب عليها , حتى لو توفرت لنا أسباب كثيرة للقول إن خبرتنا الماضية تحملنا على الحذر . ففى هذا العالم المفعم بالحقد و الاغتراب , يجدر بنا – اقتداء بالمسيح , الذى ضحى بذاته فداءً عن الجميع – أن نثبت على الأقل صدقنا فى العمل للتغلب على الريبة و على سوء التفاهم , وأن نتعاطف تعاطفاً مخلصاً , من شأنه أن يعزز إرادة التفاهم و كذلك القدرة على التفاهم .
ومما يؤول إلى التفاهم المتبادل , أن يبذل كل طرف قصارى جهده , ليقدم للآخر معلومات موضوعية , تنطلق من صميم البديهيات التى يأخذ بها دينه , لينفذ إلى قلب البديهيات الدينية لمخاطبه , وبذلك يتفهم نفسيته ويتعرف إلى هويته الشخصية . لذا , لا ننصح بالترحيب الأعمى , لأن البحث الانتقادى عن الحقيقة لا يجوز أن يفقد هنا شيئاً من مبرراته و لا من مكانته . بل نشجع الانفتاح الانتقادى و التعاطف الانتقادى , حباً للحقيقة و احتراماً للمحاورالذى ينبغى أن يؤخذ حقاً مأخذ الجد , فى شخصيته و فى دينه . ذلك أن الموقف الانتقادى يحمى المتحاورين من الاكتفاء بتبادل مهذب لوجهات النظر , ومن التسرع فى اكتشاف الضالة المنشودة , ومن الوقوع فى حل توفيقى يتساوى فيه الحق و الباطل . وإذا سار الحوار على هذا المنوال من الجدية , زاد استعداد كل طرف لأن يعترف بالقيم الدينية و الإنسانية , بل أن يتقبلها , حيثما وجدها , وهذا من شأنه أن يصبح غنى لحياته الدينية و يساعده على التعمق فيها , ولتحديد الهدف العملى المشترك و توجيهه توجيهاً أكثر دقة .
غير أن الحوار لا يعيش من انفتاح الطرفين المتحاورين واستعداد كل منهما لتقبل الآخر فحسب . إنما يعيش أيضاً , بالقدر ذاته , من الاندفاع الجدى الوفى , الذى يبديه كل طرف إزاء قناعاته الشخصية و إزاء دينه . وهذا الوفاء لا يعنى التعلق الأعمى بكل ما يمت إلى التقاليد بصلة . لكنه لا يسمح للمرء بأن يتخلى , استخفافاً , عما يشكل قوام التراث المأثور أو ما يعادل جوهر الدين و يمثله . فعلى هذا الوفاء للهوية الشخصية , أن يتسم بالصدق و الانفتاح , و بذلك يمسى عنصراً أساسياً للحوار الأصيل المثمر . وبقدر ما يكون النتحاور متعمقاً فى دينه و مقتنعاً بصحته , نراه منفتحاً على القيم التى تعبر عنها الخبرة الدينية لأتباع الأديان الأخرى , بل تلك الأديان نفسها , وبهذا القدر عينه نراه يندفع فى الحوار و فى تبادل الرأى مع الآخرين , دون أن يتخلى عن ذاته , أو أن يترك الانطباع بأنه يتخذ مواقف يتعذر عليه بتاتاً الدفاع عنها .
#ماريو_أنور (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟