أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نايف سلوم - الكتاب اللامعقول أو -كتاب الرمل ل بورخيس-















المزيد.....


الكتاب اللامعقول أو -كتاب الرمل ل بورخيس-


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 1302 - 2005 / 8 / 30 - 10:24
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


"فمن هذا الذي يمتدح أعداءه؟!"
[الشاعر أوفيد]

في "الكتاب اللامعقول" أو كتاب الرمل يضيف خورخي لويس بورخيس إلى "التماثل المُمِلّ" أو ما يمكن أن نسميه بـ"النظام" أو "القانون" بعداً آخراً هو الحدث أو الطارئ والذي يشبه بتتابعه المتطاير واللانهائي حبلاً من رمل. والخرافة في حبل الرمل ليست في مفهوم "الحبل" ولا في مفهوم "الرمل" كل على حدة، إنما الخرافة في هذا الجمع العجيب بين "الحبل" و"الرمل" ؛ حبل من رمل!
هذا الاعتراض العجيب على "التماثل المملّ" يعود ببورخيس إلى القرن التاسع عشر بكل أمجاده . فعلى العكس من "سوسير" الذي كان يحبذ دراسة اللغة بوصفها ظاهرة متزامنة Synchronic كان سابقوه من لغويي القرن التاسع عشر يقدمون دراسات تتناول اللغة باعتبارها ظاهرة متتابعة Diachronic".
"حبل من رمل!" ، هذا الكائن الخرافي ، هو ما تسميه"موسوعة الرياضيات" بـ"العدد العقدي" وهو عدد له الشكل (a+bi) ، حيث (a,b) عددان حقيقيان و i =
ويشترط أن تكون (b) لا تساوي الصفر. عندها نقول، والكلام لموسوعة الرياضيات: إن العدد (a+bi) عدد تخيُّليّ ، ونقول إنه تخيلي بحت إذا كان العدد (b) لا يساوي الصفر والعدد (a) مساوياً للصفر. انتهى كلام "موسوعة الرياضيات"(1)، والسنة التي تدور بنا وندور بها مكوّنة من اثني عشر شهراً، وهو ما يشار إليه بالعدد [ 12 ] . وكيف لبورخيس أن يبتدع شهراً آخر خارج "نظام" أشهر السنة المكتملة؟!. كيف له أن يحكي لنا "الحدث غير القابل للتصديق"(2)؟!
كيف له أن يبتدع العدد [ 13 ] هذا الكائن المسحور ، هذا العدد الخرافي، هذا الـ"سفنكس" (Sphinx) ؛ أبو الهول، الذي يجمع بين الحقيقي والخرافي؛ مُخرّب نواميس الوجود، ورمز الشؤم أو الصدفة. يقول بورخيس معقباً على "كتاب الرمل" : "يتضمن هذا الكتاب ثلاث عشرة أقصوصة . هذا العدد هو نتيجة الصدفة أو الشؤم. الكلمتان مترادفتان هنا بدقة" (4).
"الكتاب اللامعقول" هو "اليأس" عند كيركيغارد [كيركيجور]. و"اليأس" حسب ما يدّعيه هذا الفيلسوف الوجودي-المسيحي هو المرض حتى الموت. يقول كيركيغارد: "المرض حتى الموت هو الياس"(5). لا ينكر كيركيغارد – من الجهة الأخرى- وجود نوع من " يأس منتج " ضمن عملية جدل الإيمان.
" الكتاب اللامعقول " هو الغرابة والرهبة، الصمت والرعب عند "إدغار آلان بو" الذي يقول: "يصرخ صوت من الآتي:
"إلى الأمام! إلى الأمام! "لكن لدى الماضي
(أيها البالوع القاتم!) تتوقف روحي وهي ترفرف.
صامتة ساكنة مرعوبة!
لأنه وا أسفاه! وا أسفاه! انتهى
بالنسبة لي ضوء الحياة!
أبداً بعد اليوم، بعد اليوم، بعد اليوم. (هذا كلام البحر الاحتفالي لرمل الشاطئ)" (6).
"الكتاب اللامعقول" أو الشؤم هو الغُراب. الذي سوف يفرد له "إدغار بو" واحدة من أشهر قصائده. يقول "إدغار بو" في "الغراب" (The raven)":
"ورحتُ بعدما استويت جالساً
أربط رؤيا برؤى مفكراً ما الطائر المشؤوم هذا ،
الطائر الغابر والمهزول والعبوس يعني وهو
ينعب، أبداً بعد اليوم nevermore
....
عجبت كيف كان يصغي الطائر الكريه لي بغاية اللباقة
وإن كان جوابه يفتقد المعنى والعلاقة،
لأنه فلنعترف ، ما كائن حي من الناس رأى يوماً غراباً مستقراً فوق باب حجرته
ويحمل اسم nevermore ؛ ما مضى لن يعود"(7).
"..هذه اللازمة هي الكلمة الوحيدة التي يقولها الزائر المشؤوم، ويؤكّد الشاعر أن ما "تنطقه هو مضمونها فحسب". إن هذه اللفظة ، التي لا تساوي أكثر من أصوات قليلة، غنية مع ذلك في مضمونها الدلالي"(8).
"الكتاب اللامعقول" عند بورخيس هو "الأسلوب البسيط والشفهي تقريباً في بعض الأحيان"(9). يقول بخصوص "كتاب الرمل":
"في هذه الممارسات العشوائية أردت أن أبقى أميناً لاقتدائي بـ بويلز (wells) ...وبإمكان القارئ الفضولي أن يضيف أيضاً أسماء سويفت وإدغار بو" (10)
هذا الكابوس ، هذا الشؤم هو ما أضافه نيتشه إلى هيغل. حين استشعر نيتشه عند هيغل ونظامه (نسقه) الفلسفي الشمولي الحدود القصوى للتوسع العقلي البورجوازي الأوربي. واستشعر بالتالي بداية انحطاط هذا العقل، وما يعنيه من انحطاط طبقة من أكثر الطبقات ديناميّة في التاريخ العالمي. لقد أرعب نيتشه الجشع المميت عند البورجوازي السائر نحو انحطاطه وتفسّخه، الجشع في التعاطي مع الإنسان ومع البيئة الطبيعية، أرعبه ما يمكن أن نسميه، إضفاء "المعدنيّة" على كل روح وكل حياة.
نجد هذا الشؤم، أيضاً، في "الضَحِك المُختزل"، الضحكة اللامفسَّرة، المبالغ فيها، قليلة الحياء، الضحكة التي تضع حداً للتفسير الفرويديّ للنفس البشرية ؛ الضحكة التي توقف التحليل النفسي الفرويدي عند حده ، الضحكة التي تهز كل عادات الفكر – فكــرنا [الأوربي].
إنه، كما يقول بورخيس، :"بعض التفاصيل المشدّد عليها". وهذه التفاصيل المشدّد عليها هي التي سوف يُلزم "ميشيل فوكو" نفسه بها. يكتب "فوكو" في مقدمة كتابه الشهير "الكلمات والأشياء":
"لهذا الكتاب مكان ولادة في نص لـ بورخيس (Borges) ، في الضحكة التي تهزّ لدى قراءته كل عادات الفكر- فكرنا، الفكر الذي له عمرنا وجغرافيتنا [أوربا] – مزعزعة كل السطوح المنظّمة، والخطط التي تُعقِّل لنا التدفق الغزير للكائنات، وتجعل ممارستنا النقدية لـ "الذات" ولـ لآخر ترتعش وتقلق لمدة طويلة".
ويضيف "فوكو": "يستشهد هذا النص [نص بورخيس]" بموسوعة صينية معينة "كتب فيها أن الحيوانات تنقسم إلى "أ) يملكها الإمبراطور ب) محنطة ج) داجنة د) خنازير رضيعة ه) جنيات البحر و) خرافية ز) كلاب طليقة ح) ما يدخل في هذا التصنيف ط) التي تهيج كالمجانين ى) حيوانات لا تحصى ك) مرسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل ل) إلى آخره م) التي كسرت الجرة لتوها ن) التي تبدو من بعيد كالذباب.
ونحن تحت تأثير انبهارنا أمام مثل هذا التقسيم [التصنيف] نصل بقفزة واحدة – بفضل المدافع عن هذا التقسيم [بورخيس] البادي لنا كسحر غرائبي لفكر آخر- نصل إلى الحد الأخير لفكرنا: الاستحالة العارية المطلقة لأن نفكر هكذا..
إن الموسوعة الصينية .. تميز بعناية الحيوانات الحقيقة (التي تهيج كالمجانين، أو التي كسرت الجرة)، وتلك التي لا مكان لها إلا في الخيال. فالخلط الخطير مستبعد."، وفوكو يريد أن يلمِّح إلى أن مبالغة الأوربي البرجوازي في دفع التفسير العقلي إلى ما لا نهاية أدى بالنتيجة، ومع الانحطاط الذي أصاب البرجوازية كطبقة، إلى هذا الخلط الخطير بين الحقيقي والخيالي، وبالتالي أدى إلى ظهور الوحش ، أو المينوطور، "ذلك المخلوق الغريب الذي نصفه ثور ونصفه آدمي" (12)، والذي حبسه مينوس في المتاهة.
لقد قاد الضجر والملل من فرط التصنيف الأوربي [فرط تصنيفات العقل الأوربي الحديث] قاد بورخيس إلى الاستعانة بتقسيم [تصنيف] آخر معتمداً على "موسوعة صينية معينة" – هذه الموسوعة هي للآخر (الجنوبيّ) ، وبورخيس يحاكيها بسخرية ممارساً عليها تهكّماً سقراطيّاً. يكتب بورخيس في أقصوصة "الخدعة" على لسان ممثل "الشمال" Einarson إينارسون:
"فهمت يا عزيزي وينتروب أن الانشغال بعدم التحيُّز كان يسيطر عليك. إنك تريد كل شيء ، أن تكون لاعباً منصفاً، ولكونك بالضبط أحد رجال "الشمال" حاولت أن تفهم وتبرهن على صحة قضية الجنوب" ص(93).
إن وينتروب (بورخيس) بامتداحه أهل "الجنوب". وهو من "الشمال" يمارس الأسلوب التقليدي الغامض والممل لأهل الجنوب وهو السانحة، دافعاً إيّاه إلى حدوده القصوى ليظهر عجزه وتهافته، وهذا ما نسميه "التفكيك" * [نطرح أسئلة على "السانحة" تظهر أمامها عاجزة ومتناقضة] ويمكن اعتباره ضرباً من ضروب "التهكُّم السقراطيّ ".
لقد جاء بورخيس بهذه "الحجّة اللامعقولة"، بهذا التصنيف العجائبيّ ليُقدّم – كما يقول في "كتاب الرمل" – "الملاذ الكلاسيكي للتماثل المُمِلّ المتعذر إصلاحه" (13)، وليُقْدِم على محاولة غريبة، بل "معجزة " لإصلاح الديماغوجي. يقول بورخيس: "أنا لا أكتب من أجل نخبة قليلة لا أهتم بها ، ولا من أجل هذا الكيان الأفلاطوني المتزلِّف الذي يسمونه "السواد الأعظم".فأنا لا أثق بهذين الفرضين المجردين العزيزين على قلب الديماغوجي ."(14) و الديماغوجي :خطيب [شعبويّ بيروقراطي] يستغل الاستياء الاجتماعي لاكتساب النفوذ السياسي _ المورد ص(259).
في "كتاب الرمل "يظهر الشؤم مرة أخرى عند بورخيس مقلداً بذلك ظهور "الغراب" عند باب إدغار بو. لكنه يظهر هذه المرة بشخص رجل من أصحاب "الشمال" من أور كاد (orcades) (جزر بريطانية في شمال اسكوتلندا).
جاء في "الكتاب": "أنا أعيش بمفردي في الطابق الرابع من بناية في شارع بلغرانو قبل بضعة شهور مضت ، في أواخر بعد الظهر سمعت طرقاً على بابي. ففتحت، فدخل مجهول. كان رجلاً طويلاً، قسماته غير واضحة...ربما جعلني قصر نظري أراها هكذا. هيئته بكاملها تعبر عن فقر محتشم، كان يرتدي بذلة رمادية وقد أمسك بيده حقيبة ، أدركت فوراً أنه غريب. ظننته لأول وهلة رجلاً مسناً، ولاحظت بعد ذلك أنني خُدعت بشعره القليل، الأشقر ، الذي كاد أن يكون أبيض، كشعر أهل الشمال. وخلال حديثنا الذي لم يدم أكثر من ساعة، علمت أنه ينتمي إلى أور كاد. قدمت له مقعداً، فانتظر برهة قبل أن يتكلم ، كان ينبعث منه نوع من الكآبة كما حالي أنا اليوم".(15)
تحيلنا هذه الكآبة، وهذا الضجر إلى "الغراب" عند إدغار بو، مرة أخرى:
"منتصف الليل الكئيب، مرة، إذ كنت أرنو مرهقاً
وضجراً
إلى كتاب حكمة منسية غريب
مرجحاً رأسي وشبه نائم فاجأني صوت خفيف
كما لو أن واحداً يقرع في وداعة، يقرع باب حجرتي
تمتمت، هذا زائر يقرع باب حجرتي".(16)
ولقد أصابني الفضول لأبحث في المعاجم عن: الغرب, والغريب، والغراب
فقد جاء في "القاموس المحيط " أن (الغَرْب): المغرب، والذهاب والتنحّي، وأول
الشيء، وحدّه كغرابه. والفيضة من الخمر والدمع ..والإغراب: المبالغة في الضحك ..
والغربيّ من الشجر ما أصابته الشمس بحرّها عند أفولها..وغرب غاب كغرّب وبَعُدَ ..
واستغرب واستُغْرِبَ أغرب: بالغ في الضحك .. وعنقاء مُغْرب ومُغْربة ومُغْرب:
طائر معروف الاسم لا الجسم أو طائر عظيم يبعد في طيرانه (خُرافيّ)، أو من الألفاظ الدالة على غير المعنى..وأغربة العرب سودانهم..وأسود غربيب: حالك.. تغرُّب: النزوح عن الوطن كالغربة والاغتراب والتغرُّب.. والتغريب أن يأتي ببنين بيض وبنين سود، ضدُ..والغارب: الكاهل ..وجمعه غوارب وحبلكِ على غاربكِ: أي اذهبي حيث شئتِ، وغَرُب كغمض وخفي"(17).
وإبليس الذي لا يعتبر ذاتاُ، بل عدمَ ذات (الألفاظ الدالة على غير المعنى) سمي بالغريب لإظلامه وضلاله: " فاختلط أمره وساء ظنه..، وبقي في الحجاب، وتمرغ بالتراب..، وسمي كذلك لوحدته. والحلاج هو العالم الغريب لوحدته وعدم فهم الناس له حاله كحال "نيتشه" عند وحدته وعدم فهم الناس له. "فطبيعة نيتشه قد سبقت آلام اليوم بأكثر من جيل، إذ كان ما يتمتع به نيتشه عند وحدته وعدم فهم الناس له تتألم منه الآلاف في يومنا هذا".
لقد اعترض نيتشه على التفسير الأوربي الحديث اعتباراً من ديكارت، وكان اعتراضه
نوعاَ من التهكم السقراطي. محاكياَ هذا التفسير محاكاة ساخرة، دافعاَ إياه إلى حدوده
القصوى. لقد أراد نيتشه بمحاكاته الساخرة للتفسير الأوربي الحديث وانتهاء بجنونه، أن يقول إنه أي الجنون هو النتيجة الحتمية لهذا الشكل المستقيم والمبالِغ للتفسير وضمن الشرط الاجتماعي الراهن ؛ الشرط الإمبريالي الرأسمالي..
كذلك فعل الحلاج في زمنه، "حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل"، زمن "يتفشى فيه الظلم والفساد، ومن ثم تدمير الخطاب الديني في عناصره الجوهرية لإنشاء سلطة قمعية [مستبدّة] تستغل الشعور الديني باسم الله مرة ، وباسم الشريعة مراراً "**
فادّعى أنه غريب وأن إبليس صاحبه وأستاذه متهكماً تهكماً سقراطياً ومحاكياً إبليس محاكاة ساخرة ليعرف الناس الحق بالنقيض، ليس بالخبر ولكن بالفعل والأثر: لقد ضحّى الحلاج بنفسه كشهيد في سبيل إعادة تجديد الإيمان لعصره. يقول الحلاج:
للناس حجٌ ولي حجٌ إلى سَكَنِي
تُهدى الأضاحي وأُهدي مُهجتي ودمي***
و يقول:
لا تلمني فاللوم مني بعيد وأْجُرْ، سيِّدي فإنِّي وحيد
إن في الوعد، وعدك الحق حقاً إن في البدو ، بدو أمري سديد
من أراد الكتاب هذا خطابي فاقرؤوا واعلموا أني شهيد (21)
الحلاج يُظهر لنا إبليس باختلاط أمره وسوء ظنه، وتمرغه بالتراب". ومع هذا يقول: "فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هُدِّد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أُغرق في اليمّ وما رجع عن دعواه. وأنا إن قٌتِلْتُ وقُطِّعت يداي ورجلاي ما رجعتُ عن دعواي"(22).
ونستطيع أن نرى هذا الملمح التهكمي عند سارتر في موقفه من ماركسية عصره (الماركسية الستالينية)- راجع "الماركسية والوجودية". لكنَّ تهكُّم سارتر مُجهَض؛ لا يُكْمل طريقه!
يكتب الحلاج في "طاسين الأزل والالتباس":
في فهم الفهم، في صحة الدعاوي بعكس المعاني.
قال العالم السيد الغريب أبو المغيث (حسين بن منصور الحلاج) :
-"ما صحَّت الدعاوى لأحد إلا لإبليس وأحمد"، بالتجريد هما متماثلان" غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد كشف له عن عين العين"(23).
يكشف لنا الحلاج ، هنا، "حجته اللامعقولة " أو "بِدْعته": صحة الدعاوي بعكس المعاني، أي تعريف المعنى بالنقيض! وفي هذه الدعاوي اعتراف بإبليس كشريك بارع في "المجد"، مجد النبوّة.
والبِدْعة كما يقول بورخيس "إن الجميع مشارك في "المجد، خاصة المشاركين الطوعيين: المسيح، والإسخريوطي، إنه مماثلة بين الإعدام والانتحار.
(راجع أقصوصة "بِدْعة الثلاثين" لبورخيس). حين يتكشف، هنا، سر الكلمة "التي أدت إلى انتحار الشاعر، وإلى تحول الملك إلى متسول. كانت تلك الكلمة هي "الجمال".."الجمال هنا يتولد من انتهاك الانتهاك"(24): "تلك النعمة المُحظّرة على البشر" ، نعمة التحرر من الخوف، وكشف سر السلطة ومعرفة حقيقتها ، وإشراك إبليس في "المجد" (راجع أقصوصة "المرأة والقناع" لبورخيس).
فعندما يخاطب الحلواني (وهو تلميذ الحلاج) سيده قائلاً: "يا سيدي ما هذا الحال؟ يجيبه الحلاج وهو يغني ضاحكاً بقيوده باتجاه الصليب "دلال الجمال" !(25)
لكن كيف لنا أن نعقل دعاوي الحلاج؟
يمكن مقاربة هذه الدعاوي بأخذ مقتطفات من الحلاج والتعليق عليها بشكل أولي:
1- "اسم الفتوة" (إبليس) يقول: "إن سجدت سقط مني اسم الفتوة"، أي سقطت الضدية، سقطت إمكانية تعريف المعنى بالنقيض (تعريف النبوة بالنقيض).
2- منزلة الفتوة (فرعون). يقول: "إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة".
3- باب الفتوة (الحلاج). يقول: "إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من باب الفتوة"(26)، قال إبليس: "أنا خير منه، حين لم ير غيره غيراً ". وقالها فرعون "حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق الباطل"(27).
وقلت (أنا الحلاج): " إن لم تعرفوه فاعرفوا أثره ، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت أبداً بالحق حقا"(28).
عبدت المعبود على التجريد فأصبحت شهيد ، وعرفته في الأزل، وعرفتموه بي أنا الحلاج كأثر عن طريق النقيض. و الأَزَلُ بالتحريك القِدم ، وهو أَزَليِّ ، أو أصله يَزَليِّ ، منسوب إلى لم يزل ، ثم أبدلت الياء ألفاً للخفّة .. وسنة أزولٌ ، شديدة .. وأزله حَبَسَه.. وتأزَّل صدره ، ضاق [القاموس المحيط ص 960-961]
ففي زمن الحلاج، "مدفوعاً برغبة ملحة لإعادة صياغة محددات الشخصية الإلهية بنموذجها المحمديِّ بعيداً عن إفرازات الإسلام السياسي الزمني [الحلاج الأعمال الكاملة ص38] زمن لم يعد الناس، فيه، يميزون بين الحق والباطل. فقد انحطّ الإيمان، وسُخِّر لمصلحة السلطان، فشاءت المشيئة أن تجعل من الحلاج شهيداً، دافعة إياه إلى تعريف النبوة بالنقيض عبر استخدام التهكم السقراطي والمحاكاة الساخرة. والحلاج يريد إعادة النموذج المحمديّ خارج شرطه الزمني ، يريد أن يعبده على التجريد.
يقول الحلاج: سأعرفكم عليه ليس بالخبر ولكن بالفعل والأثر. سأعرفكم عليه بشخصي وبموتي" لأن من يقول عرفته كما وصف نفسه فقد قنع بالخبر دون الأثر"(29). لقد تهكم بشخصه كما فعل سقراط ونيتشه والمسيح " لأن الأشياء [كما يقول] تعرف بأضدادها. فالمَلَك يعرض المحاسن ويقول للمحسن: "إن فعلتها جُزيت"، وإبليس يعرض القبائح ويقول: "إن فعلتها جُزيت مرموزاً" ومن لا يعرف القبيح لا يعرف الحسن"(30).
في زمن انحط فيه الإيمان قرر الحلاج أن يُعرِّف الناس على الحسن بطريق العكس (صحة الدعاوي بعكس العكس، بعكس المعاني). ممارساً في شخصه تهكماً سقراطياً، مدعياً ومتهكماً أنه إبليس وفرعون ليجزى جزاء مرموزاً. وبمحاكاته الساخرة لإبليس وفرعون، وبدعواه أنه هو العالم الغريب والمغيث، في مواجهة حكام سلاطين استخدموا الوجدان الديني لخدمة الباطل. يكون الحلاج قد قرر مصيره وحضَّر صليبه. فمن أدانه في دعواه فقد جعله غريباً ووحيداً، ومن أدانه في دعواه فقد جازاه جزاء مرموزاً وتكون الرسالة (رسالة الحلاج) قد وصلت مرموزة وهي تجديد النبوة بعكس العكس، أي بالتهكم والمحاكاة الساخرة لإبليس، وبالتعريف بالنقيض عن طريق الأثر لا الخبر.
و بودلير، "الشاعر الرجيم" ، يبوح بصلواته في "أزهار الشر" قائلاً:
أنت أيها الشريك البارع يا عكاز المنفيين ومصباح المخترعين
المجد والمديح لك أيها الشيطان"(31).
ومعروف أن إبليس من أصحاب "الشمال"، إبليس البارح.
جاء في "أدب الكاتب" لابن قتيبة أن "الرياح أربع: "الشمال" وهي إذا كانت في الصيف حارة (بارح) وجمعها بوارح. و"الجنوب" تقابلها"(32)، والسانح ما جرى من ناحية اليمين والبارح ما جرى من ناحية اليسار"(33).
و أَبْلَس: يئس وتحير، ومنه إبليس أو هو أعجميّ والمُبْلِِسُ : الساكت على ما في نفسه . والبَلَسُ : من عنده إبلاس وشرّ .. وجبل أحمر.. (القاموس المحيط ص 533-534) وأبلس: دُهش وتحيّر، وسكت غماً وحزناً، وفي حجته: لم تكن له حجة"(34) (حجته لا معقولة). "وشاءم به: أخذ به نحو الشمال". "والشائم الذي يأتي بالشؤم"(35).
"... وأما أنا فلا أدري وقد انتهيت معه إلى النتيجة نفسها وعاداني هو الآخر وأيده في موقفه عدد كبير"(36).
هامش-1
(1) موسوعة الكويت العلمية "الرياضيات"-الجزء الثالث. الطبعة الأولى 1984، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، إدارة التأليف والترجمة. ص ص (168-767).
(2) خورخي لويس بورخيس: "كتاب الرمل". ترجمة لطيفة ديب. منشورات اتحاد الكتاب العرب 1996. ص(31).
(3) جاء في المورد 1991 . ص(887) أنه:
1-كائن خرافي في الميثولوجية الإغريقية له جسم أسد Sphinx: ، وأجنحة، ورأس امرأة وصدرها.2- أبو الهول.
(4) بورخيس-مرجع سابق. ص (116).
(5) د.إمام عبد الفتاح إمام: "سيرن كيركيجور، رائد الوجودية، حياته وأعماله" الجزء الأول. الطبعة الثانية 1983. دار التنوير للطباعة والنشر. ص (271).
(6) جان روسلو-"إدغار آلان بو" ترجمة وقدم له كميل قيصر داغر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى 1978. ص (152).
(7) جان روسلو-مرجع سابق. ص(180).
(8) رومان ياكبسون " ستّ محاضرات في الصوت والمعنى" ترجمة حسن ناظم، وعلي حاكم صالح. الطبعة الأولى 1994. المركز الثقافي. ص(29).
(9) بورخيس-مرجع سابق. ص(116).
(10) بورخيس-مرجع سابق. ص(116).
(11) ميشيل فوكو "الكلمات والأشياء" 1990-1989. فريق الترجمة:
مطاع صفدي، د.سالم يفوت، د. بدر الدين عرودكي، جورج أبي صالح، كمال أسطفان. شارك في المراجعة د. جورج زيناتي. المراجعة الخيرة وإدارة المشروع: مطاع صفدي. ص(20).
(12) الشاعر أوفيد "مسخ الكائنات" ميتامورفوزس (التحولات)، ترجمه وقدم له د.ثروت عكاشة. راجعه على الأصل اللاتيني د.مجدي وهبي. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992. ص (117).
(13) بورخيس-مرجع سابق. ص(116).
(14) بورخيس-مرجع سابق. ص(117).
(15) بورخيس -مرجع سابق. ص(106).
(16) جان روسلو-مرجع سابق. ص(167).
(17) القاموس المحيط (1-2) الجزء الأول. ص ص (113-114-115) المؤسسة العربية
للطباعة والنشر. من دون تاريخ.
(18) "تراث الحلاج" أخباره، ديوانه، طواسينه. "قرأه وأعده وحققه الدكتور عبد اللطيف الراوي.
والدكتور عبد الإله نبهان. الطبعة الأولى 1996. دار الذاكرة حمص(180).
(19) هرمان هيسه "ذئب البوادي" تعريب النابغة الهاشمي. دار ابن رشد. مكتبة النهضة
العربية 1983ص(20).
(20) تراث الحلاج-مرجع سابق. ص(180).
(21) مرجع سابق. ص(181). وجاء في القاموس المحيط : "بدا بَدْواً وبُدُوّاً وبَدَاءةً وبُدُوّاً : ظَهَرَ .. وبداوة الشيء : أول ما يَبْدُو منه . وبادي الرأي : ظاهره .. والبدو والبادية .. : خلاف الحَضَر.. وتبادى تشبّه بأهلها" [أي أقام بها متشبهاً بأهل الحضر؛ تبدّى: أقام بها] ص 1261-1262
(22) تراث الحلاج –مرجع سابق.ص(180).
(23) تراث الحلاج –مرجع سابق.ص(177).
(24) ميلان كونديرا "خفة الكائن التي لا تحتمل" ترجمة د. عفيف دمشقية-دار الآداب. الطبعة الأولى 1991. دار الينابيع للنشر والتوزيع. ص(35).
(25) "الطواسين وبستان المعرفة" لحسين بن منصور الحلاج. أعد النصوص وقدم لها رضوان السح 1994. دار الينابيع للنشر والتوزيع. ص(35).
(26) ، (27) ، (28) تراث الحلاج-مرجع سابق. ص(180).
(29) تراث الحلاج-مرجع سابق. ص(180).
(30) تراث الحلاج-مرجع سابق. ص(179).
(31) بودلير "أزهار الشر" ترجمه عن الفرنسية حنا الطيار وجورجيت الطيار. مراجعة نصر الدين فارس. الطبعة الأولى 1990. دار المعارف –حمص. من قصيدة (صلوات الشيطان).
(329 "أدب الكاتب" تأليف أبي عبد الله بن مسلم قتيبة. حقه وعلق حواشيه ووضع فهارسه محمد الدالي. مؤسسة الرسالة 1985. ص(91).
(33) "أدب الكاتب" –مرجع سابق. ص(189).
(34) معجم الرائد. تأليف جبران مسعود. ص(24).
(35) معجم الرائد-مرجع سابق. ص(854).
(36) وولتر ستيس: "تاريخ الفلسفة اليونانية" ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد ط1 1987.
ص (92). المؤسسة العامة للدراسات والنشر. بيروت.
هامش -2
* "البنيوية وما بعدها" من ليفي شتراوس إلى دريدا. تحرير جون ستروك. ترجمة د.محمد عصفور. "عالم المعرفة" العدد /206/ شباط 1996. ص(17).
** قاسم محمد عباس "الحلّاج الأعمال الكاملة" التفسير- الطواسين- بستان المعرفة- نصوص الولاية- المَرْويات- الديوان.الطبعة الأولى مارس/آذار 2002 رياض نجيب الريّس للكتب والنشر ص39
*** قاسم محمد عباس.. "الحلّاج الأعمال الكاملة .." ص 47







#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تصدير الديمقراطية الغربية
- حياة سَيّد محمود القمْني - إعلان براءة صريحة وتوبة
- أجوبة على أسئلة موقع الحوار المتمدن-الماركسية وأفق البديل ال ...
- في مخاطر المواجهة بين الديمقراطية والحريات السياسية
- الحركة الشيوعية في المشرق العربي-خصوصية النشأة
- الازدهار القطري للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية
- الحادي عشر من أيلول/سبتمبر اللبناني
- شبح الليبرالي العائد، قراءة نقدية في مشروع البرنامج السياسي ...
- المطلق والنسبي-نهاية النضال النظري
- قراءة نقدية لـ مشروع ميثاق العمل الاسلامي لـ الدكتور محمد شح ...
- خطوة تالية أم إعلان نوايا
- من الشيوعية الستالينية إلى المنتدى الاجتماعي
- جاك ديريدا --المعارضة البرلمانية للبنيوية أو بغض الكتاب
- قراءة نقدية لـ -الميثاق الوطني في سورية- المنبثق عن المؤتمر ...
- قراءة نقدية في ميثاق شرف الشيوعيين السوريين
- قراءة نقدية في البرنامج السياسي والنظام الأساسي للتجمع الوطن ...
- ديالكتيك الانعكاس في الفن
- نداء إلى شعوب إيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين
- علمانية ، أم نقد جذري للتراث القومي العربي و الديني؟
- الاشتراكية أو البربرية محمد الخضر


المزيد.....




- الحوثيون يزعمون استهداف قاعدة جوية إسرائيلية بصاروخ باليستي ...
- إسرائيل.. تصعيد بلبنان عقب قرار الجنايات
- طهران تشغل المزيد من أجهزة الطرد المركزي
- صاروخ -أوريشنيك-: من الإنذار إلى الردع
- هولندا.. قضية قانونية ضد دعم إسرائيل
- وزيرة الخارجية الألمانية وزوجها ينفصلان بعد زواج دام 17 عاما ...
- حزب الله وإسرائيل.. تصعيد يؤجل الهدنة
- مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين مقاتلي -حزب الله- والقوات الإسر ...
- صافرات الانذار تدوي بشكل متواصل في نهاريا وعكا وحيفا ومناطق ...
- يديعوت أحرونوت: انتحار 6 جنود إسرائيليين والجيش يرفض إعلان ا ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نايف سلوم - الكتاب اللامعقول أو -كتاب الرمل ل بورخيس-