نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1302 - 2005 / 8 / 30 - 10:27
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
دار مؤخراً على صفحات الملحق الثقافي الأسبوعي ليومية هاآرتس الإسرائيلية سجال حول مفهوم (الهوية) اليهودية بين البرفيسور زئيف شترنهيل و بين الأديب الإسرائيلي الأشهر أ. ب. يهوشواع. بدأ السجال من مكان بعيد, دورية ألبايم الثقافية, حيث نشر أ. ب. يهوشواع, في إطار عدد عن معاداة السامية, مقالاً حول الهوية اليهودية و معاداة السامية, تحدث فيه عن أسباب معاداة السامية الكامنة في الهوية اليهودية, في هذه الهوية تحديداً, فهي هوية غير واضحة, تنقصها العناصر التقليدية للهوية مثل الأرض و اللغة, و لذا فمن (الطبيعي) أن تثير في نفس غير اليهودي المخاوف والكراهية. ثم, و على صفحات هاآرتس, قدم البروفيسور زئيف شترنهيل قراءة لمقالة يهوشواع, حلل فيها عناصرها الأولية و أرجعها إلى العناصر التقليدية للأفكار المعادية للسامية في أوروبا القرن التاسع عشر: الاستحالة المطلقة لذوبان اليهود في المجتمعات الأوروبية التي عاشوا فيها, الخصوصية اليهودية, و قوميتهم المختلفة تماما عن أية قومية أخرى, كانت هذه المزاعم هي التي سمحت لمعاداة السامية , و التي توجت بالهولوكست, بأن تنمو في أوروبا, و هي التي – في مفارقة- سمحت للكثير من اليهود باعتناق الصهيونية, من هنا جاء التماهي بين آراء يهوشواع المغرقة في صهيونيتها و بين معاداة السامية. و ردا على قراءة شترنهيل لمقالته, قام يهوشواع في عدد تال من هاآرتس بالتعقيب على القراءة.
امتاز تعليق يهوشواع بالخفة, كعادة تعليقاته التي تؤهله ليكون واحدا من أكثر الكتاب شعبية في إسرائيل. يختتم يهوشواع رده بالكلمات الشجاعة - حسب توصيفه- للزعيم الصهيوني الأشهر بن جوريون و التي قالها بعد أربع سنوات فحسب من انتهاء الحرب العالمية لثانية بهولوكستها الرهيب, و هي الكلمات الدالة على أفكار يهوشواع نفسه و التي يجد نفسه متماهيا معها إلى حد الاستشهاد بها للبرهنة على فرضيته: (ليست معاداة السامية هي مشكلتنا, فأساليب و قوانين تطور الشعوب التي نعيش بينها لا تستجيب لاحتياجات اليهود, و هي احتياجات مختلفة لشعب ليس من نظير له في العالم. لا نملك نحن أي أساس منطقي أو أخلاقي لكي نطلب من العالم أن يكيف أساليب تفكيره, إطار حياته و أنظمته السياسية على حسب احتياجات أقلية مشتتة و منفصلة تشكل وحدة عالمية ليس لها نظير في التاريخ. لنكن مختلفين عن كل الشعوب, غير أنه لكي نكون مختلفين ينبغي أن نكون, و لن نكون ما لم تكن لنا دولة). هكذا, في جمل بليغة و مختصرة يعلن الزعيم الصهيوني عن تماهيه مع العنصرية الأوروبية, فهو لن يطلب منها أي طلبات, و إنما سيكون جزءا منها, أفراداً جاءوا ليؤسسوا دولة على أنقاض قرى مزارعين ظلوا يزرعون الأرض لمئات السنين. في جمل بليغة يتضامن اليهودي, من كان موضوعا لهولوكست رهيب لم تختف أثاره بعد, مع جلاده الأوروبي, من قام بالهولوكست, عبر إعلان تفرده الجوهري (الذي ليس له من نظير في العالم), و بالتالي عدم معقولية الادعاء بكون اليهود مواطنين "متساوين", فهم ليسوا متساوين و لا يجب أن يكونوا, و دعونا لا ننسى أن الحديث هو عن أناس (ليس لهم نظير في العالم). في قول مشابه يتضمن إعفاء أوروبا من المسئولية عن معاداة السامية يقول يهوشواع في رده على شترنهيل: (لم يتم الحفاظ على العناصر القومية الحقيقية للهوية اليهودية إلا في خيال اليهودي و تم غزل هذه العناصر وفقاً لرغبته, و هو ما جعل الهوية اليهودية أكثر مرونة و أقل تحديداً, هوية استقطبت إليها الإسقاطات و الاستنتاجات المختلفة التي يقوم بها غير اليهودي.) و هكذا إذن: الأوروبي غير مسئول عن العنصرية التي مارسها على اليهودي, و من ثم فهو غير مسئول عن الهولوكست. المسئول عن هذا هو اليهودي, هو الذي ظل بلا أرض و لا لغة لألفي عام, بلا عناصر قومية حقيقية و موضوعية, عناصر يقع موقعها خارج خياله, لهويته, و لن يتم إصلاح الخطأ إلا بأن تكون له ارض و لغة. هذا هو الطبيعي, و هو يشابه في طبيعيته معاداة السامية. من هنا تنبع كراهية يهوشواع لليهود الذين لم يتبنوا الصهيونية, أي الذين لم يستجيبوا للأمر العنصري بإخلاء القارة الأوروبية منهم, فهو يكره "الهوية اليهودية الخالصة" التي وجدت قبل إسرائيل و خارج إسرائيل. في حوار مع جيروزاليم بوست يعود لعام 2003 قال يهوشواع (اليهود في المنفى هم مجرد استمناء أما الأمر الحقيقي فيوجد هنا ) يعني في إسرائيل.
من هنا يمكننا فهم العنصرين الذين ميزا رده على البروفيسور زئيف شترنهيل على صفحات هاآرتس:1- التماهي مع معاداة السامية, تبني أطروحاتها ثم محاولة البناء عليها بالشكل الأكثر إرضاء للفاشية الغربية في منتصف القرن الفائت, أي (تطهير) أوروبا من اليهود, الهجرة إلى مكان بعيد يمكن لليهود فيه أن يخدموا أوروبا, و فيما بعد أمريكا, بدون أن ينغصوا عليها بوجودهم المقلق و غير المتجانس في قلبها – 2- التركيز على كون اليهودية قومية و ليست دين, و لا يعفيها هذا من أن تكون هوية جامدة لا تؤثر و لا تتأثر. فلم يؤثر على الهوية اليهودية ابتعادها لألفي عام عن فلسطين, و لا مئات اللغات التي تحدث بها اليهود و لا مئات الملامح المختلفة التي لهم على حسب البلاد التي أقاموا بها, و إنما ظلت كما هي, و لم يشترط لتحققها إلا عودتها إلى الأرض الأم التي لم تتغير هي كذلك و إنما ظلت متحرقة شوقاً لأصحابها الحقيقيين من بني إسرائيل (في المجاز الجنسي التقليدي للصهيونية) . غير أن يهوشواع يسارع بالتكفير عن هذا التصور الجامد و الكاريكاتيري للهوية, في جملة لم يكن لها من وظيفة إلا أن تكون تكفيراً على ما يبدو, أي اعتذارا عن الخطأ بدون محاولة لتصحيحه. يقول: (كان سلوك اليهود, أرائهم عن مختلف المواضيع, أنشطتهم الاقتصادية, بنية طوائفهم متنوعة تماما على طول التاريخ الطويل وتغيرت كثيرا من مكان لمكان و من فترة لفترة. بسبب تشتتهم في حضارات مختلفة و متغيرة, فالتنوع اليهودي أكثر اتساعاً مما هو في أي شعب آخر, و مع كل هذا فنحن نرى عودة قسرية لبعض العناصر المعادية للسامية في فترات تاريخية مختلفة و في أماكن تبعد عن بعضها كثيرا.) هكذا , وبرغم التباين المطلق بين اليهود في مكان و بينهم في مكان آخر, التباين في اللغة و الملامح و الطقوس الدينية, و حتى الجينات الوراثية, فِإن شيئاً ما يظل فيهم ثابتاً و أبديا و خارجاً عن التاريخ, هو معاداة السامية الموجهة ضدهم. و لأن إدانة العنصرية الغربية غير مستحبة لدى يهوشواع (هو الشرقي الذي يتمنى الخلاص من شرقيته في مصهر إسرائيل, الدولة الغربية المتقدمة) فهو يرجع مصدر معاداة السامية إلى اليهود, إلى تشتتهم و افتقادهم الأرض و اللغة, هكذا لا يجمع اليهود (كشعب و كذوي هوية واحدة) إلا كونهم يفتقدون العناصر التقليدية للشعب أو للهوية الواحدة, هذا ما يدفع الشعوب التي عاشوا بينها إلى الخوف منهم و هذا ما يجعل "العودة" إلى صهيون حتمية, من ناحية للخلاص من الكراهية (المبررة) ضدهم, و من ناحية لإضفاء العناصر التقليدية للهوية على هؤلاء الذين لا يتمتعوا بها و إنما يملكون مع ذلك هوية يهودية, عصية على التعريف و إنما موجودة. هذا هو الإيمان الأكثر تفاهة ل أ. ب. يهوشواع. يقول يهوشواع : (الهوية اليهودية في المنفى و التي تحتوي في داخلها على عناصر خيالية, تجذب إليها الشياطين, أي إحباطات و مخاوف الفرد المعادي للسامية حتى قبل أن تتحول إلى أيديولوجيا معادية لليهود سواء كانت اجتماعية أو قومية) عن أي شيء يدور الحديث و ما هي هذه العناصر الخيالية في الهوية اليهودية؟
لا يمكن فهم كلام يهوشواع بدون الرجوع إلى مجاز قديم للصهيونية كذلك, يعتمد تيمات الرعب, و يغلق بشكل أكثر نجاعة الدائرة الخاصة بالهوية اليهودية. صيغ المجاز في أواخر القرن التاسع عشر, على يد المفكر اليهودي البولندي و الذي كان من أوائل من بشروا بالصهيونية, ليو بنسكر, في كتابه الشهير "التحرر الذاتي" (يخاف الأغيار من اليهود لكونهم روحاً بلا جسد, أي شعباً بلا ارض, و سينتهي الخوف فور تجمع اليهود في أرض مستقلة) أي أن معاداة السامية يمكن إرجاعها إلى خوف الإنسان التقليدي من الأشباح. ليس المهم في المجاز طرافته فحسب و إنما كذلك دائرته المغلقة: اليهود شعب, غير أنهم لا يملكون أرضا أو لغة واحدة, و من هنا ينبع الخوف منهم, و لذا يلزم تمتع اليهود بالأرض, فيصيروا من بعدها شعبا كسائر الشعوب. لماذا إذن كان ذلك افتراضاً مسبقاً: كون اليهود شعباً؟ على أي أساس تم هذا ما داموا يفتقدون جسد الشعب, أرضه و لغته؟ هل هي "الروح" اليهودية, هذه الروح التي تجنب يهوشواع ذكرها بمهارة في مقاله بدورية ألبايم, و إنما استعمل مفهوما قريبا هو "الهوية" اليهودية, و هي هوية لا تختلف كثيرا عن الروح, يستعصي تعريفها, مرنة و تتسع لآلاف السنين و ألاف الكيلومترات التي تفصل بين تجمع يهودي و آخر, و برغم ذلك فهي – في نظر يهوشواع – موجودة, و وجودها هذا ينبع من الإيمان الذاتي بوجودها. يقول يهوشواع: (الواقع يقول أن الانتماء الحقيقي أو المتخيل للأرض, و اللغة المشتركة, و التي أحيانا ما تستعمل فعلا و أحيانا ما تظل لغة مقدسة محدودة و غامضة, و بشكل خاص الوعي التاريخي القومي المشترك, كل هذه العناصر تستعين, في نظري, بالدين و بالثقافة المشتركة) هكذا لا يعير اهتماما و لو بسيطا لكون الانتماء للأرض حقيقيا أو متخيلا , لكون اللغة مقدسة أو لغة تعامل. و ماذا عن حق عودة الفلسطينيين للأرض التي تم هجرها من ستين عاما فحسب, مادام الحال هكذا؟ هل يسبغ عليه يهوشواع بعضا من تعطفه, و يعطيه بعضاً من (الموضوعية) مادام (ذواته), على الأقل, قد اعتقدوا بموضوعيته؟ لا يبدو, فالعنصرية تسير في اتجاه واحد, تبرئة الأقوى و إدانة الأضعف, و هو ما يبرع فيه يهوشواع إلى هذا الحد, الأديب اليهودي القادم من أصل مشرقي, مقدسي بالأحرى, ويقوم كل جهده على محاولة تخليص نفسه من شرقيته, و إدماجها في الهوية الإسرائيلية الأوسع, المنتمية إلى أوروبا بالضرورة, أوروبا التي أدخلت اليهود أفران الغاز و خرجت بريئة و وادعة بينما حمل ذنبها اللاجئون التعساء المنتزعين بعنف من قراهم المحترقة.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟