أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جون سولستون - الجينوم البشري بعيدا عن المضاربة















المزيد.....



الجينوم البشري بعيدا عن المضاربة


جون سولستون

الحوار المتمدن-العدد: 340 - 2002 / 12 / 17 - 04:28
المحور: الطب , والعلوم
    


 

عندما منحت جمعية نوبل في مؤسسة كارولينسكا في 10 كانون الأول/ديسمبر جائزة نوبل للطب عن العام 2002  الى سيدني برينر وهـ. روبرت هورفيتز وجون سولستون مكافأة لهم على اكتشافاتهم في مجال عملية الضبط الجيني لتطور الأعضاء ولموت الخلايا المبرمج، كانت في الوقت نفسه تكافئ الفاعليات الرئيسية في المشروع العلمي الرهيب الذي سينجح خلال العام 2003 في جعل كامل سلسلة الجينوم البشري (الخريطة الجينية البشرية) ملكاً عاماً. وإزاء ما تفتحه براءات الاختراع الجينية من شهيات يمكن القول ان هذه النتيجة لم تكن سهلة المنال

 

جون سولستون *
JOHN SULSTON

 

يجب اعتبار خريطة الجينات البشرية (الجينوم)، وهي نقطة انطلاق تطور كل كائن بشري، شأنا مفيدا وليس ملزماً. فالكثيرون يخشون، وعن وجه حق، ان تستخدم المعلومات الجينية المتعلقة بهم ضد إرادتهم. فعلى الأخص تسعى شركات التأمين الى الحصول على ترخيص باستخدام نتائج الفحوص الجينية التي يخضع لها زبائنها قبل أن تتخذ قراراً بعرض عقد ما عليهم، أو برفضه. وإذا ما منحها القانون هذا الحق فسيكون في امكان بعض المستخدِمين  في المستقبل أن يرفضوا توظيف طالب العمل الذي لا يخضع مسبقاً لبعض الفحوص الجينية، وهذا ما يجب ألاّ نقبل به. 

  ومن جهة أخرى فإن الصحافة عندما تعرض في عناوينها العريضة معجزات الرمز الجيني الذي "يمكن أن يستأصل جميع الأمراض" لا تأتي الا بخيبات الأمل في حين ان الناس، سنة بعد سنة، يستمرون في المعاناة من أمراض السرطان  أو الشرايين أو خرف الشيخوخة. 

  وهذا ما يجعل المعلومات الجينية التي تراكمت أخيراً ذات أهمية بالغة بالنسبة الى علم الأحياء وللأبحاث الطبية. ولذلك يبدو من الأهمية بمكان أن تؤدي المسوّدة الأولى لسلسلة الجينوم البشري التي احتفل بنشرها عالمياً في 26 حزيران/يونيو عام 2000، الى  صيغة نهائية وكاملة للمتتاليات كي يتمكن جميع البحاثة من استخدامها في أقرب وقت ممكن. فبمجرد الانتهاء منها خلال العام 2003 ستشكل هذه السلاسل الجينية وثيقة ونقطة ارتكاز دائمة للعلماء. 

  فهل سيكون لمشروع الجينوم البشري تأثير في  خياراتنا الغذائية وفي طريقة عيشنا؟ بالتأكيد، فستجد المجتمعات الغربية في الموضوع نعمة تجارية هائلة وهذا ما يجعلني أعيش هذا الكابوس حيث أتخيل الناس يختارون مطاعمهم وفقاً لنوعيتهم الجينية... 

  وبمزيد من الواقعية يمكن القول انه خلال السنين العشر المقبلة سوف تتوافر علاجات جديدة تستهدف بشكل أفضل الأمراض التي يستعصي علاجها حالياً. ولنأخذ مثلاً على ذلك الدراسة التي تجري حالياً في مؤسسة "سانجر" حيث يقوم فريق الباحثين برئاسة مايك ستراتون بفحص الأورام السرطانية لاكتشاف الفرق، على المستوى الجيني، بينها وبين الأنسجة الطبيعية. فالقضاء على الخلية المريضة أسهل في الواقع، من معالجتها، ومن المفترض ان تساعدنا المعلومات الجينية في اكتشاف الأهداف المحددة في الخلايا السرطانية والتي اليها يجب توجيه العلاج بغية القضاء عليها بطريقة انتقائية، والحد بذلك من الانعكاسات الجانبية وتحسين معدل الشفاء. 

إن ضبط سلسلة الجينوم يمثل خطوة متقدمة رائعة بالنسبة الى المعرفة الانسانية للجسم البشري على المستوى الذري. لكن ليس هذا سوى البداية وليس نهاية المطاف، فنحن لا نزال نجهل تركيب معظم الجينات ولا نعرف مكان أو زمان تبدّيها بشكل بروتيين. ولا يكفي الجينوم وحده لفهم كل ذلك لكنه يشكل صندوق عدة يمكن لكل واحد ان يستعين بأدواته. والمرحلة المقبلة يجب أن تخصص لاكتشاف مجمل تركيب الجينات، ولاكتناه ما تعنيه ومكانها وخصوصاً تحليل آلية رقابتها. 

  ففي تشرين الثاني/نوفمبر عام 1995 اكتشف فريق مايك ستراتون الذي كان يعمل في المؤسسة البريطانية للأبحاث على السرطان(ICR)، في إحدى عائلات سرطان الثدي التي كان يدرسها، عملية تحول بدا أن في الامكان ربطها بالجينة المسماة  BRCA2 ولم يكن قد مضى على  ضبط منطقة الجينوم المحيط بهذه الجينة سوى اسبوعين حين أكد الفريق عملية التحول مضيفاً أنه وجد خمس مناطق اخرى. وقد سارع مايك ستراتون الى نشر هذا الاكتشاف في مجلة "ناتشور" متحفظاً عن إطلاع زملائه على الأمر حتى اللحظة الأخيرة. ومع ذلك وبالرغم من الاحتياطات المتخذة نجحت شركة "ميرياد" الأميركية، ومقرها في يوتاه في الولايات المتحدة في الحصول على كمية كافية من المعلومات لتحديد مكان الجينة ولم يتردد مديرها العلمي مارك سكولنيك في التقدم بطلب براءة اختراع... وذلك عشية نشر الخبر. 

  وإذ خشيت المؤسسة ان تصبح التحولات مادة للاستثمار التجاري فقد قررت أن تحصل على براءة اختراع بما اكتشفته، ومن جهتها طالبت شركة “ميرياد” بحق ملكية كامل ما يتعلق بالجينة BRCA2 كما بالجينة BRCA1 التي تمكن بحاثتها من استنساخها اولا باول، وعندها فتحت مختبراً للتحاليل الطبية. وإذ حصلت على براءة الاختراع هددت بأن تجر أمام العدالة أي مختبر آخر في الولايات المتحدة يستخدم إحدى هاتين الجينتين لاكتشاف سرطان الثدي. وهذه السياسة جعلتها صاحبة المختبر الوحيد الذي يحق له القيام بعملية الفحص هذه (تبلغ كلفته حوالى 2500 دولار)، وسمحت لها بمنح المختبرات الأخرى إجازة بصيغ مبسطة من عمليات الكشف هذه مقابل حوالى 200 دولار للفحص الواحد.

  لكن فحوص شركة “ميرياد” قامت تحديداً على تحول جينة BRCA2 التي اكتشفتها مؤسسة الأبحاث السرطانية البريطانية ICR، وهو تحول يوجد عادة لدى يهود اوروبا الوسطى والشرقية. ويوضح السيد مايك ستراتون أن "وجود هذا التحول لدى اليهود الأشكيناز شكّل جوهر مقالنا الأصلي، ويمكننا أن نقول اليوم للولايات المتحدة أن شركة “ميرياد” تتقاضى أموالاً على تحول هو من اكتشافنا." فهذه هزيمة لا يتقبلها مايك كونه هو نفسه من الأشكيناز.

   وهذه الطريقة في ادعاء حق ملكية الفحوص الخاصة بجينتي  BRCA وخصوصاً جعلها مدفوعة، يعني أن شركة “ميرياد” ترفع من فاتورة الصحة. أضف الى ذلك أنه حين سيفهم الباحثون بأي طريقة تتسبب الجينتان  BRCA 1 و2 بنمو الأورام السرطانية سيتمكنون ربما من ابتكار علاجات جديدة، لكن شركة “ميرياد” ستكون عندها الشركة الوحيدة صاحبة الحق في إنزال هذه العلاجات الى السوق... 

  وطوال مدة العمل على مشروع الجينوم البشري الرائع هذا كنا نطرح على أنفسنا سؤالاً حول ملكية منتجات هذه الأبحاث. ومنذ العام 1995، ومع أننا كنا لا نزال نجهل جميع النتائج المرتقبة، جعلنا تعاطي شركة “ميرياد” العدائي نتبين الطريق الذي سيقودنا فيه الاهتمام الممنوح للربح التجاري ولبراءات الاختراع. وقد اتضح لنا أن على مجتمع البحاثة الدولي أن يتعهد بأن يحول الى الملكية العامة جميع المعلومات المتعلقة بسلسلة الجينوم البشري وذلك تفادياً لتبعثرها هنا وهناك وفق ما ستفرضه الاتفاقات المعقودة مع الشركات. 

  وقد عقدنا لقاء دولياً لتوزيع المهمات ووضع معايير لادارة المعطيات. وهذا اللقاء الذي عقد في جزر برمودا البريطانية القريبة من الولايات المتحدة، والذي جاء استباقاً لدخول الحقل العلمي الذي نعمل فيه، مجال السياسة الدولية، كان بناء جداً. فقد كانت المرة الأولى التي يتبادل فيها العلماء في مجالنا العلمي أفكارهم بدون أي تحفظ. فحجم المشروع أجبرنا على العمل معاً على أساس أنه ليس في امكان أحد أن يأمل في إنجاز عملية ضبط السلسلة وحده. وقد دوّن كل واحد على ورقة صغيرة مناطق الجينوم التي  ينوي العمل عليها وتم استبعاد كل اقتراح تقدم به طرفان اثنان. 

  في تلك الحقبة لم نضع تصوراً لأي آلية لنشر النتائج التمهيدية، فالأسس القائمة عليها المعطيات العامة لم تكن تتقبل الا معطيات منجزة. لكن حتى في الحالات الأولية بدا أن مسوّدة السلسلة الجينية التي كانت آلاتنا تنتجها يمكن أن تكون مفيدة وعلى جناح السرعة لبحاثة آخرين يرغبون في حصر جينة معينة أو التأكد من فرضية ما. وقد قررنا في مؤسسة سانجر أن ننشر، ما يتعلق بالبشر أو بالديدان(١)، على موقعنا على الانترنت جميع المعطيات التي تم التوصل اليها من أجل التمكن من تبادلها عبر الشاشة ونتصرف بما يعود بالمنفعة (٢). وما كنا نطلبه فقط هو أن تعلن الطبيعة التمهيدية للمعلومات أياً كانت وجهة استخدامها وأن تذكر مصادرها في أي منشورة. 

  وكان علينا في جزر برمودا أن نحظى بالموافقة على مبدأ نشر المعطيات بشكل حر والا فإنه لا يمكن إشاعة الثقة بالآخر. والى حد ما لم يكن الاجماع ممكناً، فبعض البحاثة الحاضرين، ومنهم كرايغ فانتر(٣) كان قد مكّن علاقاته بشركات تجارية وقد نجحوا في معارضة فكرة تعميم كل شيء من دون الحصول على شيء في المقابل. ومع ذلك كنت وأنا واقف امام اللوح أكتب وأمحو لأكتب مجدداً حتى توصلنا الى صياغة إعلان. وقد تمكنت شركة ويلكوم تراست، الممولة لمركزنا، أن تحتفظ بصورة عن اللوح حيث سجلت النقاط الثلاث التالية: 

  - البث التلقائي لكل عمليات تجميع السلسلات التي تحوي أكثر من ألف أساس (إذا امكن في 24 ساعة). 

  - تنشر فوراً جميع السلسلات المعلنة منتهية. 

  -  الهدف: توفير امكان وصول السلسلة بأكملها الى الحقل العام وذلك من أجل الأبحاث والتطوير في آنٍ واحد من اجل تحقيق أقصى درجة من المنفعة للمجتمع بأكمله. 

  وفي الوقت نفسه الذي كنا فيه نكتب هذا الميثاق مع بوب واترسون، من جامعة واشنطن في ولاية سانت لويس في الولايات المتحدة في حضور زملائنا، كان زميلنا مايكل مورغان مجتمعاً بممثلين عن بعض وكالات التمويل طالباً دعمهم لهذه الخطوة التي، تحت اسم "مبادئ برمودا" باتت تشكل، بعدما الحقت بها بعض التعديلات، نقطة مرجعية لكل المراجع الكبرى العاملة في مجال ضبط السلسلة الجينية الممولة من القطاع العام. 

  ومبدأ الحصول مجاناً والنشر الفوري يعني أن في امكان جميع علماء الأحياء في العالم استخدام المعطيات وتحويلها ليتوصلوا في النهاية الى اختراعات قد تحظى ببراءات اختراع. لكن بمجرد أن تنشر السلسلة نفسها في شكلها الأولي في الحقل العام يصبح من الصعب الحصول على براءة اختراع بها. وكم كان الأمر مشجعاً أن نرى هذا العدد الكبير من الناس متفقين على اعتبار السلسلة الجينية "ثروة انسانية". وقد اعتمدت هذه العبارة في ما بعد في العام 1997 في المادة الأولى من الاعلان العالمي الخاص بالجينوم البشري وحقوق الانسان في المؤتمر العام للأونيسكو. 

  خلال القرن العشرين نشأت هوة كبيرة بين العلوم والآداب. وبشكل عام لم تعد العلوم تعتبر أنها جزء من الحقل الثقافي. واحد أسباب ذلك هو هذا الخلط المتزايد بين العلم والتكنولوجيا وخضوع الأول للثانية. وهكذا وجد العلماء أنفسهم مدفوعين الى استثمار نتاجهم تجارياً من دون أن يأخذوا في الاعتبار انعكاسات هذا الخيار على المجتمع ككل. 

  لكن سلسلة الجينوم هي اكتشاف وليست اختراعاً. هي مثل الجبال أو المطر شيء طبيعي موجود أساساً، ليس قبلنا طبعاً لكن قبل أن نكتشف وجوده. وأنا أؤمن بأن الكرة الأرضية هي ملك عام وأن من الأفضل، حتى وإن كنا نرسم عليها الحدود، ألا يمتلكها احد. وإذا اكتست احدى المناطق أهمية لأنها تتميز بطبيعتها الجميلة أو لأنها تؤوي أجناساً نادرة فيجب عندها أن نحميها، نعم نحميها، على أساس انها ملك عام. 

  ومن المسلّم به أن نتجادل دائما في شأن التوازن الضروري بين الأراضي الخاصة والأراضي العامة، وان نختلف على وجهة استخدامها. لكن هذه المشكلة تصبح أكثر دقة عندما نتحدث عن الجينوم البشري ، ذاك أن كلاً منا يحمل في ذاته نسخة شخصية وفريدة عن جينومه. لكن لا يجوز لأحد الادعاء بأنه يمتلك إحدى الجينات لأن هذا يعني أنه يمسك ايضاً بإحدى جيناتي. لا يمكن أحداً ان يقول "حسناً فلنتوزع الجينات" ذاك ان كلاً منا هو في حاجة الى جميع جيناته. وبالتأكيد فإن الحصول على براءة اختراع لا يمنح حق ملكية أحد الجينات بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن براءة الاختراع تمنح حق منع الآخرين من استخدام هذه الجينة في اي عمل تجاري. 

  وفي رأيي أن وضع قيود قانونية وحقوق ملكية المتعلقة بالجينات يجب أن يكون محدوداً بدقة بالوجهة التطبيقية التي يعمل عليها الباحث عندما يكون في مرحلة الاختراع. ذاك ان أي باحث آخر قد يقرر أن يعمل في وجهة مختلفة توصل حتماً الى الجينة هذه نفسها. إذ ليس من الممكن اختراع جينة بشرية ولذلك يجب الحفاظ على الطابع اللاتنافسي بالنسبة الى المعارف المتعلقة بالجينات، بسلسلاتها وبوظيفتها الخ. وفي النهاية أليس أن نظام براءات الاختراع قد وضع في جزء منه من أجل تحفيز المنافسة؟ أضف الى ذلك ان التطبيقات الأكثر لزوماً على الجينة تنشأ غالباً بعد أبحاث طويلة بعيداً عن الاستخدامات الأولى السهلة، ليس الأمر إذاً مسألة مبدأ وحسب. 

  ففي آذار/مارس عام 2000 مثلاً أعلنت شركة "هيومن جينوم ساينس" (HGS) أنها حصلت على براءة اختراع خاصة بالجينة CCR5 التي تشير رموزها الى انها أحد المكونات المتلقية على سطح الخلايا. الا أنه عندما تقدمت الشركة بطلب البراءة كانت تجهل فيما يفيد هذا المتلقي. ولم تكن براءة الاختراع قد منحت حين اكتشف فريق من الباحثين الذين يحصلون على تمويلهم من القطاع العام والعاملين لمصلحة مؤسسة الصحة  الوطنية الأميركية (NIH) ان بعض الأشخاص الذين يحملون جينة CCR5 مريضة يتمتعون بمناعة طبيعية ضد فيروس السيدا VIH. وفي معنى آخر يبدو أن جينة CCR5 هي أحد الوسائط التي تسمح لفيروس السيدا VIH بولوج الخلايا. وما إن سمعت شركة "هيومن جينوم ساينسز" بالحديث عن هذا الاكتشاف حتى قامت بتجارب ساعدتها في تأكيد هذا الدور لتستحصل بعدها على براءة الاختراع. وهكذا أعلنت الشركة ملكيتها جميع حقوق استخدام هذه الجينة في اي مجال تطبيقي. وتمكنت بذلك من بيع اجازات الاستخدام من العديد من شركات الأدوية الساعية الى تطوير الأدوية واللقاحات. لكن من الذي كان في اساس مرحلة الابداع هذه؟ أهي الشركة التي وجدت بالصدفة الجينة الملائمة؟ أم الباحثون الذين اكتشفوا الخلل في هذه الجينة لدى بعض الاشخاص من ذوي المناعة ضد فيروس السيدا ؟ 

  ويعتبر وليم هازلتاين المدير العام لشركة "هيومن جينوم ساينسز" أن براءات الاختراع تزيد التطور في الأبحاث الطبية وأن براءة الاختراع قد تساعد في استنباط علاج جديد أو لقاح ما. ومع ذلك فإن دراسة أجريت في اوساط باحثين في المختبرات الجامعية الأميركية بيّنت أن عدداً منهم رفضوا العمل على بعض الأجزاء المحددة من الجينات خوفاً من أن يضطروا الى دفع جعالات مرهقة أو الى الدخول في متاهات القضاء (٤). 

  وقد جرى في الولايات المتحدة توضيح التوجيهات المتعلقة بمنح براءات الاختراع الجينية، هذه التوجيهات التي من أجل استبعاد كل الترشيحات الأكثر تنظيراً أعطت تحديداً أكثر دقة لعبارة "منفعة" التي تستخدمها، فالاستخدام يجب أن يكون "ملموساً محدداً وذا صدقية”. ومع ذلك يستمر منح براءات الاختراع على أنواع السلسلة الجينية مع الايضاح بأنها قد تستخدم مثلاً كرائز لاكتشاف الجينة المسؤولة عن مرض ما. اما التعليمات الأوروبية حول براءات الاختراع والتي اقرها البرلمان الأوروبي في العام 1998، فتشدد على أن السلسلة أو الجزء من السلسلة لا يمكن ان تعطى براءة اختراع على انها "مكونة للمادة" الا إذا أعيد تشكيلها في المختبر، اذا زرعت مثلاً في احدى البكتيريات وتلك هي احدى الطرائق التي اعتمدناها لضبط سلاسل الجينوم البشري. وهذه الحجة بدت لي على الدوام باطلة فجوهر الجينة هو المعلومة ، أي السلسلة، ونقلها تحت شكل آخر لا يغيّر في الأمر شيئاً، فالأمر يبدو كأن نأخذ كتاباً مجلداً وننشر مضمونه في شكل كتاب الجيب وندّعي الحق فيه لأن تجليده مختلف. 

  أساساً تجاوز عدد طلبات براءات الاختراع على الجينات (البشرية أو غيرها) المليون طلب. وقد منحت الآلاف من البراءات، ومع ذلك فإن مسألة براءات الاختراع الجينية تبقى معقدة وغامضة. ففي الولايات المتحدة يعتبر مكتب براءات الاختراع والماركات المسجلة انه يجب منح براءات اختراع لاكتشاف احدى الجينات. وحتى انه منح قبل التعديلات الأخيرة براءات اختراع لاكتشافات جزئية لا تنفع الا في "الفحص الجيني”. أما المكتب الأوروبي للبراءات فكان من جهته أكثر تشكيكاً لكن في العام 1998 قرر الاتحاد الأوروبي السماح صراحة بمنح براءات اختراع على السلسلات الجينية، وقد عارضت بعض الدول الأعضاء ومنها فرنسا هذا التوجه، فيما رأت دول أخرى مثل بريطانيا انه بالعكس يجب تشجيع المقاربة الليبيرالية لموضوع البراءات كي تبقى المصانع الأوروبية قادرة على منافسة مصانع الولايات المتحدة. 

  وانه لمن التوهم الاعتقاد أن أي ذريعة أخلاقية أو حتى قضائية كانت لتساعد في تلك المرحلة في التوصل الى حل عادل. فمن أجل منع تجزئة السلسلة الجينية بواسطة المصالح الخاصة تطلّب الموضوع جعلها ملكاً عاماً وبذلك اكتسب الأمر وضعاً يسمّى في اللغة الدارجة في مكاتب براءات الاختراع "الأولية" ويصبح من المتعذر بحكم هذا الواقع منح براءات اختراع بها. وهذا ما نجح الاتحاد الدولي للمختبرات المجتمع من أجل مشروع الجينوم البشري في عمله في مسألة السلسلة الجينية الأولية. ونحن الان في صدد رفع السقف عبر أقصى ما يمكن من المعلومات ليس فقط حول السلسلة الجينية وإنما حول وظائفها. 

  وقد اقترح البعض رسم خط فاصل بين ما هو حي وما هو جامد فتحجب براءات الاختراع في الحالة الأولى وتعطى في الحالة الثانية. وأنا إذ أشارك في هذه الهواجس وأعتبر أنه من الملحّ إضفاء قيمة غير تجارية على الأشياء الحية أعتقد في أي حال أن لا مبرر لهذا الفصل. ففي الواقع، يجري الآن ردم الهوة التي كانت قائمة بين العلوم البيولوجية والكيمياء، مما يجعل هذا التمييز أقل تماسكاً أكثر فأكثر. فهل يجب القبول ببراءات الاختراع على الفئران المطورة جينياً وعلى شتول القطن؟ بالتأكيد كلا، لكن ليس فقط لأنها شكل من أشكال الحياة، فالسبب الأعمق هو أننا لم نخترع هذه الأجسام، بل نحن اكتشفنا فقط التعديلات المححدة التي تجعلها متأثرة بمرض السرطان (كما في حالة الفئران) أو مقاومة للاصابات (كما في حالة القطن). 

  إن مستقبل علم الأحياء(البيولوجيا) مرتبط بقوة بالمعلوماتية البيولوجية، مجال الأبحاث هذا الذي يهدف الى جمع مختلف أنواع المعطيات البيولوجية تحت أشكال رقمية في محاولة لفهم الكائنات الحية في مجملها واستخلاص العبر من ذلك. وستسمح هذه السياسة لعلماء البيولوجيا التجريبيين أن يستكملوا ما توصلوا اليه من نتائج وأن يعيدوا ربطها بأعمال سائر الباحثين، عبر فتح المجال واسعاً للحصول على المعطيات. ولكي يتمكن هذا المشروع المثير على الصعيد العلمي والغني أيضاً بالمقدمات الطبية من المضي قدماً يجب أن تكون المعطيات الأساسية في متناول الجميع لكي يتمكن كل واحد من تفسيرها وتعديلها ونقلها على غرار نموذج "المصادر المفتوحة" في مجال العقول الالكترونية. فالمسائل العلمية هي من التعقيد بمكان الى درجة أنه لا يمكن التصدي لها بشكل منعزل مع كمية محدودة من المعطيات ومفاتيح اطلاع تظل شركة ما ممسكة بها على الدوام. 

  إن قصة مشروع الجينوم البشري قد برهنت أن العلوم الممولة من المال العام  هي في منتهى الفاعلية لأنها ذات قدرة هائلة على المنافسة. ونجاح هذا المشروع يجب أن يولد إقتناعاً بأن الرأي الذي طالما كان سائداً والقائل بأن المصانع وحدها هي القادرة على القيام بالابحاث على مستوى عال هو رأي خاطئ.

 

--------------------------------------------------------------------------------

  *  باحث في علوم الأحياء (البيولوجيا) ومؤسس "مؤسسة سانجر" في كامبيريج في بريطانيا. وقد اقتبس هذا النص من:  

The Common Thread. A Story of Science, Politics, Ethics, and the Human Genome, Bantam Press, Londres, 2002, coécrit avec Georgina Ferry. 

١   هذه الدودة هي:

 Caenorhabditis elegans

وهي من نوع السلكيات يبلغ طولها ملليمتراً واحداً والتي كان الكاتب قد راقب بالمجهر وبمنتهى الصبر خلية بخلية جميع مراحل تطورها فكانت بذلك أول كائن حي حددت سلسلته الجينية بشكل كامل.

 2 راجع الموقع على الانترنت:

 http://www.sanger.ac.uk/HGP/ 

3

كرايغ فانتر، مؤسس The Institute for Genomic Research (TIGR) وقد أسس في ما بعد شركة Celera Genomics محدداً هدفه في تفكيك رموز السلسلة الكاملة للجينوم البشري وبالحصول على براءة اختراع بمنتجاته. وفي نهاية الأمر في 26 حزيران/يونيو عام 2000، أعلن مشروع الجينوم البشري و Celera Genomics "“ وتحت الضغوط السياسية، في آنٍ واحد مسودة مشتركة متكاملة للسلسلة الجينية.

4 راجع: 

Anna Schissel, Jon Merz et Mildred Cho, ? Survey confirms fears about licensing of genetic tests ?, Nature, vol. 402, 1999, p. 118.

 

العدد: كانون الاول/ديسمبر 2002

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
 



#جون_سولستون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- لا تهمل هذه النصائح مع تناول الحبوب الكاملة
- مفاهيم طبية.. أنواع العلاج الهرمونى وكيف يستخدم مع السرطان ...
- ماتخافش.. حيل نفسية للتغلب على فوبيا العمليات الجراحية
- غارات -عنيفة- على الضاحية الجنوبية لبيروت بعد إنذارات إخلاء ...
- لمتابعة جـمال الطبيعة.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك 2024 وأ ...
- لو عندك التهاب مفاصل.. نصائح بسيطة تخفف آلامك
- القصف الإسرائيلي يتسبب بنفاد الأكسجين والمياه من مستشفى كمال ...
- منظمة الصحة العالمية: القانون الإنساني الدولي ينص على عدم اس ...
- منظمة الصحة العالمية: العراقيل الإسرائيلية تحد من قدرتنا في ...
- “يا أطفال شوفتوا شيكا السراقة الحرامية شو عملت” استقبل حالا ...


المزيد.....

- هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟ / جواد بشارة
- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جون سولستون - الجينوم البشري بعيدا عن المضاربة