عزة رجب
شاعرة وقاصّة ورائية
(Azza Ragab Samhod)
الحوار المتمدن-العدد: 4633 - 2014 / 11 / 14 - 15:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
التقمص الوجداني والانفعالي في شعر أسماء صقر القاسمي
نص سديم الظل نموذجا يحاكي قصيدة النثر وتأثيرها السيكولوجي
إنَّ الانغماس الفعلي في الحالة الوجدانية داخل النص يتزامن مع قدرة الشاعر على إنتاج بؤرات حراك تصويرية
ودلالية وهذا لايتأتى له إلا من خلال تمكنه من عامل اللغة المُعبر عن الترجمة الفعلية للحراك التفاعلي داخل التناص
الذي يتوجه به الشاعر لنقل إحساس من الذات الشاعرة إلى الذات العامة
والذات العامة تتمثل في صنع رؤية القارئ لما يقرأه ويتعايش معه ، لكن قد تحدث خلال هذه القراءة مايسمى بالقراء التفاعلية وهى القراءة التي تنقل الشحنة الكتابية للشاعر إلى الشحنة القرائية للمُتلقي
في نصوص أسماء صقر القاسمي هنالك حالة من الانسجام التفاعلي مع البيئة المُحيطة بالذات الشاعرة وهنالك التصاق
شديد بمفرادت تلك البيئة وهذا من وجهة النظر الشاعرة التي تتعاطي مع محيطها شعراً هو حالة تلبُّس تتقمصها حين
تسيل حروفها نثراً .
مع أواخر القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين, و مع التطور الهائل الذي تعرضت إليه البشرية في العالم, كان لا بد من أن تتفاعل منظومة الثقافة العربية مع تلك التغيرات التاريخية, و كان لا بد من إيجاد صيغ معرفية للدلالة على نتاجات لم تتم صياغتها ضمن هذه المنظومة, كذلك كان لا بد من إيجاد طريقة للمثاقفة مع الآخر في ظل ثورة حقيقية بدأت تقرب المسافات الجغرافية. وفي ظل الحركة الأدبية الموجودة كجزء من هذه المنظومة الثقافية, بدأت هذه الحركة بالانخراط ضمن هذه التغيرات بخطوات تعثرية تارة و جدية تارة أخرى. و بدأ القارئ العربي بالاطلاع على منتجات أدبية بمصطلحات جديدة في الساحة الأدبية العربية (مسرح – قصة – رواية – و آخرها قصيدة النثر) لكن الملفت للنظر أن الأشكال الأخرى للأدب - عدا قصيدة النثر – لم تلقى التشنج من قبل المتلقي العربي كما لاقاه هذا الجنس الأدبي, و الذي اصطلح فيما بعد على تسميته بقصيدة النثر, على الرغم من أن تلك الأجناس كانت من الجدة ما تفوق قصيدة النثر كالمسرح مثلاً.
فقصيدة النثر استطاعت أن تتلبس القارئ بسلاسة أفكارها وحريه فكرها و استطاعت التصوير بقوة لعمق الحدث الحاصل
من نواحٍ عدة كالانسجام الثقافي مع البيئة و خلق اصطلاحات جديدة قد لايستوعب الشعر حتى وزنها ، كما أنها تتقبل
بحرية فكرها الجديد واللافي على اللغة العربية ، وصدرها يتسع للآصطلاح الغربي والتحوير في أحرف الكلمات
وهذا لايعني أنها خرجت عن السياق اللغوي ، قدر ما يصف حالات تُعبر عن شدة التقمص للحالة المُعاشة التي مرَّ بها
الشاعر خلال نصه .
في نص الشاعر المُخضرمة أسماء صقر القاسمي ( سديم الظل ) تقول :
في القلب ضجيج يتفتق
وجعا
هشم زوايا الذاكرة التي تحيط بي
ويمم وجهه الى أفق بعيد المدى
يتلمس الجهات المعتمة
يلملم بقايا بوحي الغافي على أضلع
الفقد
ويحرض الريح على أقتفاء أثري المسكون
بالسهاد
قلقي يشد وتر الفراغ غير مكتمل
ويوحي للفجر المليء بالثقوب
بنشر ضباب أغنياته في لجج العناء
أحاول ان أكون وحدي
كوشم على كتف الليل المزحوم
بالقلق
لأواصل تمكني وتزمني
تزاحمني عقارب الوقت
على أضغاث حلم عابر فوق
سديم الظل
المضرج بالشفق
يربك سكونه صدى النبض المتوغل
في أوردتي
أسافر عبر أثير الزمن المفقود
لأنزوي في تلك الأقاصي
البعيدة عن نفسي
أراقب قطرات الندى
المتآكلة على أعمدة اللهب
تلعق أصابع الإحتراق
المكتظ بألوان الشحوب
وكما نعرف أن قصيدة النثر تتأسس على مدى قدرة البنية الايقاعية على تحقيق انسجام القراءة ، وعلى المستوى الدلالي للباطن ـ بحيث تتحقق أهم وظيفة للنص ألا وهى الوصول بالقارئ إلى الشعور بحالة الشاعر من حيث حصول مستوى الظاهر محسوس و مستوى الباطن مدرك فكرياً
وهنا نتتبع في هذا النص كل هذا المسار حين تقول الشاعرة أسماء القاسمي "
في القلب ضجيج يتفتق
وجعا
هشم زوايا الذاكرة التي تحيط بي
ويمم وجهه الى أفق بعيد المدى
يتلمس الجهات المعتمة
يلملم بقايا بوحي الغافي على أضلع
الفقد
ويحرض الريح على أقتفاء أثري المسكون
بالسهاد
نلاحظ أن الدلالات التصويرية بددأت بحراك الأفعال في طريقة انتقلت من الحسي الحركي إلى الباطني المُعبر عن وجدانية الحالة ففي يتفتق ...حركة ونشوء فعل آخر جراء التفتُّق وهذا الفعل متروك لإعمال ذاكرة القارئ
وهو نتاج التفاعل الباطني داخل فعلية التلقي من القارئ للنص .
الفعل هشَّم ...والتهشُم تكسير لكل يابس وجاف ....فهل تجفُّ زوايا الذاكرة ؟
في نظر الشاعرة هى ذاكرة قابعة في طي النسيان تمَّ التعبير عنها بقولها في أول النَّص ( في القلب ضجيج يتفتق وجعا)
والوجع حالة اجترارية تتمدد مع حصول التأزم النفسي والسيكولوجي للشاعرة .
نلاحظ الوجهة الزمانية المُصاحبة للفعل يمم ..فالفعل يدل على التوجه المكاني ، لأنه بمعنى وجَّه واتجه بوجهه إلى ناحية مكانية ، لكن الشاعرة تقرنها بالزمن في قولها إلى أفق بعيد المدى وكأنها تستحضر الزمان البعيد هنا
هذه الإشارة غير تصريحية وغير مباشرة أومأت بها في رمزية حاكت بها واقع الحال خاصة بعد أن ألحقتها بقولها :
يتلمس الجهات المُعتمة !
والتلمُس هو التحسُّس للشئ ، واستبيان ماهيته وطبيعته ، فهنا استكشاف فعلي ينتقل بنا من حالة المحسوس الظاهر
إلى حالة المحسوس الباطن لسلب ماهية الشئ وتعرفها .
هذا ينتج عنه ما نسميه بالفعل ورد الفعل ....كونه فيما بعد يلملم بقايا بوحي الغافي على أضلع الفقد
إذا الشاعرة لم تقل كل ماعندها لكنها شملت كل هذا في الجملة لتترجم بها حالة من التدرج الفعلي والانتقال المرحلي
في الحالة التي تمرُّ بها ...لتكون النتيجة حاسمة بالفعل يحرض والتحريض شئ استفزازي ، مثير للحركة ، دافع للاتيان
برد فعل عكسي نحو الآخر .
للإيقاع وظيفة مهمة و تكمن في تنظيم وظائف الدماغ, و أكبر مثال عليها النوم الذي يعتبر السبيل الوحيد لاستعادة الدماغ نشاطه من جديد وهنا يحصل توارد الأفعال فيي إيقاع منتظم جاء بالتدريج في أطوار تتالت حتى بلغت الحالة النثرية مرحلة إيقاظ فكر المُتلقي نتيجة التفاعل الحسي بالباطني .
وهذه حالة صحية بحثة وسليمة يمر بها الشاعر والمُتلقي "
:
يقول النفري في توضيح مفهوم التكثيف " كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا " من هذا المبدأ يكون للتكثيف أهمية قصوى لإحاطة الجزء بالكل, و الذي هو هدف الفن الحقيقي, و التكثيف ليس بمعنى الشطب الذي يؤدي للإبهام, إنما بمعنى الاختزال المبني على رؤية شاملة للفضاء الخارجي, و خلق حالة من التوتر قادرة على حمل القلق الذي تحدثنا عنه.
وهنا في هذا الجزء تختصر الشاعرة الكثير من المساحات اللفظية والكلامية لتضغطها في اختزال مُجزٍ للغاية"""
قلقي يشد وتر الفراغ غير مكتمل
ويوحي للفجر المليء بالثقوب
بنشر ضباب أغنياته في لجج العناء
أحاول ان أكون وحدي
كوشم على كتف الليل المزحوم
بالقلق
لأواصل تمكني وتزمني
تزاحمني عقارب الوقت
على أضغاث حلم عابر فوق
سديم الظل
المضرج بالشفق
يربك سكونه صدى النبض المتوغل
في أوردتي
أسافر عبر أثير الزمن المفقود
لأنزوي في تلك الأقاصي
البعيدة عن نفسي
أراقب قطرات الندى
المتآكلة على أعمدة اللهب
تلعق أصابع الإحتراق
المكتظ بألوان الشحوب
هنالك تواصل روحي بين الحالة الأولى في الجزء السابق وبين هذه الحالة في هذا الجزء
مثال بسيط وعميق "
في قولها ( يحرض الريح على اقتفاء أثري المسكون بالسهاد )
لخصه بقوة قولها " ( تلعق أصابع الإحتراق المكتظ بألوان الشحوب ) وهذه هى بؤرة حراك النص الوجداني القائم
عليها تأسيس النَّص حين تزاحم جملة بؤرة أساسية تكون هى عاملاً مؤسساً في بنية النص الدلالية والتصويرية القائمة على الانزياح في حصوله .
الانغماس في الايقاع الوجداني ، هو نتيجة حتمية لإنتاج الموسيقى المُخيمة على النص ، أي أنَّ نبرة النَّص لاتتوضح
إلا من خلال اللحن الخفي داخل القصيدة والذي تنتجه نبرة الكلمات .
وفي تعريف آخر لمفهوم حدة الانفعال داخل النص النثري يرى النقاد أن هذا مقرون بحدة التوتر الانفعالي داخل النص
والذي يتسبب في إحداث الايقاع الحسي ، الظاهري والباطني ،
(التوتر و هو البؤرة الانفعالية التي لا يخضع لها الشاعر و المتلقي بطريقة عادية - و المقصود بكلمة عادية كل ما يتفرع عنها من تداع و حلم و انسيابية - و إنما توقظه و تثيره و تهز كيانه, أو بمعنىً آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية.)
وهنا ترجمت الشاعرة حالتها بدقة في إيقاع حسي ووجداني وانفعالي وهذا أدى إلى تفجير النظام اللغوي بحسب التعريف النثري ، فاللغة وسيلة و أداة مُعبرة ،وطوق نجاة الشاعر من التراكمات الوجدانية والشحنات الداخلية
يشير جبران خليل جبران في أحد رسائله إلى ماري هاسكل سنة 1929 إلى أن الطموح الجوهري للإنسان الشرقي هو أن يكون نبياً, و النبوة بهذا المعنى ليست النبوة الدينية, إنما النبوة بمعنى الإدراك العميق لما يدور حوله و استقراء الغيب من خلال رؤية عميقة للمستقبل ترتكز على فهم عميق للواقع.
و يعرف ابن خلدون الرؤيا على أنها " مطالعة النفس لمحنة من صور الواقعات مقتبساً بها علم ما تتشوق إليه من الأمور المستقبلية "
بهذا المعنى يجب على الشاعر أن يمتلك رؤية واضحة للمستقبل تمكنه من الانخراط مع الواقع و المصالحة معه, و ربما نسوق هنا مثالاً قريباً عن تلك الرؤيا التي يمتلكها الشاعر الحقيقي, عندما تناقلت الأخبار الثقافية مدى تقاطع أحداث 11 سبتمبر مع مضمون قصيدة قبر لنيويورك للشاعر أدونيس, علماً بأن الشاعر كان قد كتب تلك القصيدة قبل الأحداث بعشر سنوات تقريباً
هنا نلتمس قدرة الشاعرة على إحداث بُؤر تشكيلية صنعت منها نصها بحيث جعلت الخطوط العريضة للشكل البنائي النثري ترسم منحاها على البناء المتنامي ، كون هذا البناء يرسم التدرج الوجداني للنص بعكس باقي الأشكال النثرية من بناء قصصي ومقطعي تراكمي وغيرها .
هنالك تجسيد لحالة منطقية من الالتصاق الشديد بالبيئة وهذا تأتَّى من خلال التحوير في دلالة الكلمة اللغوية
بحيث تمكنت من تحويلها من الأسمية القائمة على التسمية المكانية والزمانية إلى الفعلية القائمة على التأثر الشديد
بالبيئة المحيطة وهذا جسده قولها "
لأواصل تمكني وتزمني.
إنَّ هذا التأصيل العميق في قياس الروح مقارنة مع تفاعلاتها الزمانية والمكانية يجعل الذات الشاعرة قادرة وبقوة على الوصول لإثارة وجدان المُتلقي الذي ينغمس في النص بدءاً من تفتق الأفعال عن إنفعال إنتاجي منها وانتهاء بالتقمص
الزماني والمكاني في الذات الشاعرة .
إنَّ قصيد النثر تعتمد على إثارة الفوضى ، والعبث ، واللانظام كما تقول سوزان برنارد ، وبودلير ، والحرية والحركة والسكون ، والانفعال ، هى خليط يصنع الضجيج في عقل القارئ بلا منازع
ونحن هنا رأينا الإيقاع الحسي والباطني وكيف انتقل في حالة نص ( سديم الظل ) من الظاهري إلى التأثير الباطني
ونرى الايقاع البصري وبما يسمى بالتوزيع البصري للنص بحيث شكَّل نوع البناء المُتنامي بؤرة ممتازة في صنع
خيط نسيج النص والذي لو جاء على هيئة مقاطع أو شذرات لما استطاع أن ينغمس ويتقمص فكر المُتلقي كحالة
من التعاطي بين الكتابة الشعرية والقراءة الانفعالية
.
المراجع "
دراسة للشاعر شريف رزق بعنوان المفاهيم النظرية للأنواع الشعرية في شعر ما خارج الوزن قصيدة الشعر الحر – قصيدة النثر – النثيرة و المنشورة في العدد الخامس عشر من مجلة نزوى العمانية
فلسفة بنية الإيقاع للدكتور علوي الهاشمي العدد 20 من كتابات معاصرة 1994
قضايا الإبداع في قصيدة النثر – يوسف حامد جابر – الطبعة الأولى 1991 عن دار الحصاد بدمشق
عزة رجب
#عزة_رجب (هاشتاغ)
Azza_Ragab_Samhod#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟