|
الدين / الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة من أجل مجتمع بلا إرهاب الجزء التاسع
محمد الحنفي
الحوار المتمدن-العدد: 1300 - 2005 / 8 / 28 - 11:54
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الماركسية و وجود الدين : و قبل الدخول في مناقشة هذا الموضوع نشير إلى انه أثناء خوضنا للنقاش في الفقرات السابقة ركزنا على ترديد و إبراز خلاصة مفادها أن الدين يجب أن يعتبر مكونا من مكونات الواقع، و أن هذا المكون يتحول بسبب ذلك إلى قوة مادية قائمة في الواقع. و الماركسية باعتبارها رؤيا مادية لابد أن تأخذ هذه الخاصية بعين الاعتبار . لأن الماركسية عندما لا تفعل ذلك تتخلى عن علميتها. كما أننا استحضرنا كون الدين إذا صار مؤدلجا يصير نقيضا للماركسية، و موضوعا للصراع الإيديولوجي و مستهدفا بالنفي. و انطلاقا من هاتين الخلاصتين نجد أنفسنا أمام سؤال مركزي يقضي بالوقوف على الفرق الجوهري بين الماركسية و الدين. و هذا السؤال هو : ما طبيعة الماركسية و ما طبيعة الدين ؟ إننا عندما نسعى إلى معرفة طبيعة الماركسية و طبيعة الدين، إنما نسعى إلى التمييز بين العلاقات المدركة و الملموسة بقوانينها التي تحكمها، و بين العلاقات التي لا تكون. فالعلاقات الملموسة هي علاقات مادية تدرك بواسطة العلم المادي الذي ليس إلا القوانين العلمية المادية التي اكتسبها ماركس و انجلز باعتبارهما مؤسسا الماركسية، التي ينسب إليها كل ما ينتج تلك القوانين في دراسة الواقع من فكر علمي يحمل اسم الفكر الماركسي. و ما ينتج عن ذلك الفكر من تطور للواقع و للفكر و للقوانين العلمية في نفس الوقت. فالفكر في الماركسية محرك للواقع و مطور له و الواقع مطور للفكر و محرك له. و ما يجري في الواقع و في الفكر مطور للقوانين العلمية، و القوانين العلمية قادرة على جعل الفكر يتحرك اكثر و أسرع في اتجاه إدراك حقيقة الواقع، و فهم قوانينه التي تحكم حركته في اتجاه التطور أو في اتجاه الجمود. فالعلاقة بين الفكر و الواقع من جهة و بين القوانين العلمية من جهة أخرى علاقة جدلية أيضا. فكل شيء محكوم بالجدل حسب الماركسية. و الماركسيون هم الذين يقتنعون بالجدل، و يعملون على سبر غوره و توظيفه في ممارساتهم اليومية، الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية و التنظيمية حتى تكون ممارستهم هادفة و في نفس الوقت مساهمة في بناء حركة الواقع و تطوره و تطويره في الاتجاه الذي يرونه أفيد للجماهير الشعبية الكادحة و طليعتها الطبقة العاملة. و الماركسيون باقتناعهم ذلك، و بممارستهم تلك إنما يشكلون حركة متناسبة مع الماركسية و الفكر الماركسي، و مع رؤيا علمية للواقع، فهي أيضا إيديولوجية الطبقة العاملة و سائر الكادحين، و هي ليست كباقي الإيديولوجيات إنها الإيديولوجية العلمية التي تجعل المقتنعين بها يخوضون صراعا إيديولوجيا مريرا ضد سائر الإيديولوجيات غير العلمية. إلى جانب الصراع التنظيمي، و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي في أفق نفي تلك الإيديولوجيات، و جعل الإيديولوجية الماركسية هي السائدة في الواقع كما تقتضي حركة التاريخ ذلك. أما عندما نسعى إلى معرفة حقيقة الدين، فإننا لا نرتبط لا بمؤسس، و لا بفكر، و لا بقوانين. إننا نرتبط بشيء واحد فقط، و هذا الشيء هو الإيمان الذي يرتكز على الاقتناع بوجود قوة غيبية تارة تتجسد في قوى الطبيعة أو في الحيوانات أو في الأشخاص أو في الأشجار أو في التماثيل، أو أنها تكون مجردة، لا تدركها الأبصار و هي تدرك الأبصار، كما يقتضي الإيمان ذلك. و هذه القوة الغيبية تسمى "الله" في الديانات الثلاث اليهودية، و المسيحية، و الإسلام، و هي التي استطاع إبراهيم إدراكها بعد بحثه العميق في حقيقة المعبودات من قبل البشر في عصره، فقد جاء في القرءان حكاية عنه " فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لا احب الآفلين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال يا قوم اني بريء مما تشركون، اني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا، و ما أنا من المشركين" و هذه القوى "الله" هي التي جاء عنها في القرءان "لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير". و المومن بدين معين يفترض فيه التشبع بقيم معينة تتناسب مع طبيعة ذلك الدين، كما يقوم بممارسة طقوس معينة تتناسب مع طبيعة كل دين على حدة تعبيرا عن الإيمان بذلك الدين، و سعيا إلى جعله مطلبا للناس حتى يقتنعوا به، و يومنوا بالقوة التي تقف وراءه و تبحث على الرغبة فيه، و الرهبة من تلك القوة التي تصير –حسب الإيمان- مصدرا للخير. و دافعا لمقاومة الشر الذي يصير متناسبا مع إفراز الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي. ليصير الدين –بالإيمان- جزءا من الواقع و مكونا من مكوناته التي يجب اعتبارها في أي تعامل يستهدف ذلك الواقع. و الدين عندما يصير جزءا من الواقع يصير محركا له و محولا للفكر فيه، و ساعيا إلى تعميم قيمه على جميع الناس مهما كان جنسهم أو لونهم أو عرقهم أو لغتهم حتى يصيروا كالمثال الذي يرد في النصوص، أو يرد في مسلكية المومنين به مما تكون على مر العصور. و قد أشرنا في الفقرات الأولى من معالجتنا هذه أن الدين يختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة، و أن الدين الواحد يختلف فهمه و تأويله كذلك حسب الأزمنة و الأمكنة. لأن ذلك الفهم و التأويل يرتبطان بالشروط الموضوعية القائمة في الواقع المحدد في الزمان و المكان. و لذلك نجد تعدد المذاهب في الدين الواحد، و اختلاف تلك المذاهب من زمن إلى زمن آخر و من مكان إلى مكان آخر. و الدين يمكن أن يصير مستهدفا بالادلجة نظرا لشدة تأثيره في نفوس الناس و على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و في جميع مناحي الحياة، و في نفوس كل الناس مهما كان مستواهم المعرفي، و مهما كانت الشروط التي يقتضيها الواقع. و لذلك نجد أن معظم الطبقات الاجتماعية تعمد إلى تحويله إلى إيديولوجية بنسبة أو بأخرى رغبة في تضليل عامة الناس، و خاصتهم ممن لا يقتنعون بإيديولوجية معينة، حتى ينساقوا وراء الطبقة المؤدلجة للدين التي تجعلهم يخدمون مصالحهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و الدين عندما يؤدلج يفقد كونه دينا و يتحول إلى إيديولوجية، و بدل أن يعمل على بث القيم بين الناس يسعى إلى إقناعهم بأدلجته، و كونه يعمل على تحقيق السعادة لهم بتحقيقه للدولة الدينية. و هو بذلك يتحول إلى أداة و وسيلة للصراع بين الطبقات، لأن مؤدلجي الدين الذين يسعون إلى تأسيس الدولة الدينية، يصطدمون بمن يسعون إلى تأسيس دولة دنيوية بورجوازية، أو بورجوازية صغرى أو اشتراكية، أو أي دولة علمانية. و لذلك، فإقحام الدين في الصراع يجعل منه دينا خاصا بطبقة معينة دون سائر الطبقات الاجتماعية التي تبقى طبقات لا دينية لعدم انسياقها وراء ادلجة الدين الإسلامي و هو ما يقتضي العمل على حفظ الدين من الادلجة التي تحرفه عن مقاصده، و تجعله يفقد القدرة على أداء دوره في بث القيم الدينية بين جميع الناس على أساس المساواة فيما بينهم "لا فرق بين عربي و عجمي، و لا بين ابيض و اسود إلا بالتقوى". و حفظ الدين من الادلجة هو مهمة جميع الطبقات الاجتماعية التي ليس من مصلحتها صيرورة الدين إيديولوجية. و الإيديولوجية لا يمكن أن تكون إلا مفسدة للدين، و أداة و وسيلة للصراع، و سببا في تجييش الناس وراء ادلجة الدين باسم الدين من اجل بناء دولة دينية، مكان الدولة العلمانية لجعل الاستبداد القائم في المجتمع استبدادا دينيا، و الاستبداد الديني يعتبر الدين مصدرا للقيم السلطوية الاستبدادية. و بذلك يتبين أن طبيعة الماركسية هي طبيعة علمية تطورية إيديولوجية، تسعى إلى التغيير الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي بين الناس. و هذا التغيير يكون نتيجة للصراع الطبقي المشروع و الذي يتلاءم مع الشروط الذاتية و الموضوعية التي تحكم المجتمع ككل، و التي تتغير حسب الزمان و المكان، و لأن طبيعة الدين هي طبيعة إيمانية بقوة غيبية معينة يعتقد المومنون أنها تقوم بدور معين لصالح الإنسان و الكون و الطبيعة و أن التعبير عن هذا الايمان يتم بواسطة ممارسة طقوس معينة تختلف من دين إلى دين آخر، و من زمن إلى زمن آخر. و تتفاعل مع الشروط الموضوعية التي يعيشها الناس. و نظرا للبعد الغيبي للدين، فإن الطبقات الاجتماعية تلجأ في معظم الأحيان إلى استغلاله على المستوى الإيديولوجي للوصول إلى كسب المتدينين. و بعد وقوفنا على الطبيعة المختلفة للماركسية و للدين نصل إلى طرح السؤال : ما الذي يميز الماركسية عن الدين ؟ و ما الذي يميز الدين عن الماركسية ؟ إن أهم ما يميز الماركسية علميتها لأنها في الأصل وجدت علما، بمنطلقاته المادية، و قوانينه العلمية، و نتائجه الفاعلة و المؤثرة في الواقع، و التي يمكن اعتبارها مغيرة لمجرى التاريخ على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و ما قيام الثورات الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي السابق، و في الصين، و في كوبا، و في الفيتنام، و في كوريا الشمالية، و في غيرها من الأماكن، و في مراحل تاريخية مختلفة إلا دليل على علمية العلم الماركسي، الذي يقتضي الوعي به، و بدوره، و بتفعيله حتى يؤدي دوره في تفكيك الواقع من اجل اكتشاف قوانين تطوره، و إعادة تركيبه وفق ما تقتضيه تلك القوانين حتى يتغير لصالح الكادحين الذين جاءت الماركسية من اجل جعلهم يمتلكون الوعي الطبقي الحقيقي الذي يدفعهم إلى خوض الصراع من اجل انتزاع المكاسب المادية و المعنوية و السعي إلى الوصول إلى السلطة من اجل التحكم في فرض خدمة مصالح الكادحين. و ما يميز الماركسية أيضا هو استفادتها من نتائج تطور العلوم و الآداب و الفنون، لأن تطور كل تلك المعارف يأتي دائما بالجديد العلمي، و الفلسفي و الفكري. و حتى تصير الماركسية في مستوى التحولات لابد من توظيف مكتسبات العلم الحديث و المعرفة الحديثة في جميع المجالات من اجل إغناء المنهج الماركسي و التجربة الماركسية، و تطوير الأدوات الماركسية، و الرؤيا المادية للتاريخ، و الواقع سعيا إلى تطوير الأداء الماركسي في الواقع، و التسريع بعملية التحول الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي في الاتجاه الذي تخطط له الحركة الماركسية، و تسعى إلى تفعيل الواقع من اجله. و بدون الاستفادة من نتائج العلم الحديث، و مما تعرفه الفلسفة و الفكر من تطور ستعرف جمودا، و سينعكس ذلك الجمود على المنهج الماركسي الذي يتحول إلى مجرد مقولات يرددها الماركسيون بدون روح كما ينعكس على الحركة الماركسية التي تصير عاجزة عن مواجهة التحديات التي تعترضها و المتمثلة بالخصوص في عجزها عن القدرة على استيعابها لما يجري في الواقع. و ما يميز الماركسية أيضا هو وقوفها وراء قيام حركات ماركسية حزبية على المستوى المحلي، و الإقليمي و القومي و الدولي، لأنه بدون قيام تلك الحركة الماركسية لا معنى لوجود الماركسية أبدا فيها، تستطيع الماركسية الوصول إلى عموم الشعب في كل أرجاء الأرض، و بها تملك الماركسية الأدوات التي تسعى إلى تحقيق التصور الماركسي على ارض الواقع. و ما يميز الماركسية أيضا هو صيرورتها إيديولوجية الطبقة العاملة، و سائر الكادحين في جميع أرجاء الأرض، و صيرورتها إيديولوجية الكادحين هو الذي يضمن استمرارها، و تطورها باستمرار الطبقة العاملة و تطورها. و ما يميز الماركسية أيضا هو قدرتها على التعامل مع جميع الخصوصيات، و قدرتها على إبداع الآليات التي تتناسب مع كل خصوصية على حدة، و هو ما يجعلها بقدرتها تلك صالحة لكل زمان و مكان ما دامت تحمل أمل شعوب الكادحين، و تسعى إلى تجسيد ذلك الأمل في البنيات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و ما يميزها هو غايتها المتمثلة في تحقيق المجتمع الاشتراكي الذي يعتبر وحده مجتمعا للحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية بالقضاء على جميع أشكال الاستغلال المادي و المعنوي بوصول الكادحين إلى السلطة، و تحويل ملكية وسائل الإنتاج من ملكية فردية إلى ملكية جماعية. و بناء الديمقراطية بمضمونها الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و العمل على حماية مكتسبات الدولة الاشتراكية حتى لا تعرف مصير "الاتحاد السوفياتي السابق" الذي انعدمت فيه أسس استمراره كدولة اشتراكية، و تحول بفعل عوامل ذاتية و خارجية إلى دولة رأسمالية بسبب الجمود العقائدي الذي فرضته البيروقراطية الحزبية التي لم تنصع إلى إرادة الكادحين، و فرضت استبدادها على الجميع. و هذه المميزات التي تميز الماركسية هي التي تلعب دورا كبيرا و أساسيا في جعل الماركسية تتجدد باستمرار، و يتطور تفاعلها مع الواقع المختلف، و تنتج باستمرار واقعا جديدا حتى في ظل تحقق المجتمع الاشتراكي. لأن الاشتراكية هي المناسبة التي يصير فيها الصراع بين مختلف تناقضات المجتمع ديمقراطيا بامتياز حتى يتم الانتقال إلى المرحلة الأعلى في شروط احسن و في ظل تكريس الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية. و انطلاقا من هذه الخلاصة نصل إلى أن الماركسية هي نظرة علمية للواقع المتنوع الذي يعتبر الدين واحدا من مكوناته المختلفة و الذي لا يمكن استئصاله منه لارتباطه بمعتقدات الناس التي ترتبط بوجودهم في الحياة، لكن إذا تأدلج يصير نقيضا للماركسية و تعبيرا عن مصلحة طبقية. و لذلك فالماركسية بقدر ما تعتبر الدين مكونا من مكونات الواقع، بقدر ما تعمل على نفي ادلجة الدين التي لا علاقة لها بالدين. و عمل الماركسية على نفي ادلجة الدين هو الذي يوقع في الخلط بين محاربة الدين و محاربة ادلجة الدين. و الماركسية في تاريخها، و منذ قال ماركس "الدين أفيون الشعوب" لا تحارب إلا ادلجة الدين. أما الدين، فقد كان يلقى الاحترام ما لم يتأدلج. و هذا ما أكدته التجارب التي أثبتت أن الدولة الاشتراكية العظمى "الاتحاد السوفياتي السابق" لم يسبق لها أن عملت على استئصال الدين من المجتمع السوفياتي، و لم تغلق المؤسسات الدينية لسبب واحد و بسيط، و هو أن الدولة الاشتراكية باعتبارها ذات مرجعية ماركسية تحترم الدين و تعتبره من مكونات الواقع، و تترك له الفرصة لأن يتوسع. أما ادلجة الدين التي تستغل الدين، فإن مواجهتها تعتبر ضرورة تاريخية و ضرورية لوقف التضليل الذي يستهدف وعي الكادحين. أما ما يتميز به الدين عن الماركسية فيتجسد في : 1) كون الدين مقوما من مقومات الشعوب التي بها تعرف و التي لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار نظرا لكونه يداخل حياة الناس الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، لأن الناس في علاقاتهم الاقتصادية يستحضرون كونهم يعتنقون دينا معينا، و في علاقاتهم الاجتماعية يبنون علاقتهم الفردية و الجماعية في التعليم و الصحة و السكن و الشغل على هذا الأساس حتى تسود التربية على قيم دين معين، و حتى يكون ذلك الدين موجها للمسلكية الفردية و الجماعية في جميع المجالات و في جميع مناحي الحياة ليصير الوجود البشري مرتبطا بدين معين، و ليصير ذلك الدين مرتبطا بالوجود البشري، لا يزول إلا بزوال البشر. و من طبيعة المكون الديني انه يدخل في بنية البشر، و يصير بمثابة كيمياء تتفاعل مع الكيان البشري. و ذلك التفاعل هو مبعث الوجود و الاستمرار بالنسبة للدين في حد ذاته، و بالنسبة للإنسان المتدين. فالإنسان يحافظ على الدين و يغنيه بتأويلاته ليجعله يتناسب مع الزمان و المكان. و هذه التأويلات المختلفة هي التي تجعلنا نفهم لماذا هذا التعدد في المذاهب و في التوجهات الدينية الكبرى في إطار الدين الواحد كما هو الشأن بالنسبة للكاثوليكية، و البروتستانتية في الديانة المسيحية، و كما هو الشأن بالنسبة للمالكية، و الشافعية و الحنفية و الحنبلية في الإسلام. بالإضافة إلى التوجهات الصغرى داخل كل مذهب ... و هكذا. و انطلاقا من هذا الفهم المختلف و المشروع نظرا لاختلاف الشروط الذاتية و الموضوعية للمتدينين في كل بقعة من بقاع العالم و في كل زمان، يتبين لنا أن الدين هو للناس جميعا مهما كان جنسهم أو لونهم أو لغتهم أو سنهم و أنه لا يجوز لأي كان أن يمارس السطو عليه، و أن يعمل على خوصصته كما تفعل الطبقات في كل بلاد المسلمين، و كما تفعل الصهيونية العالمية، و في فلسطين المحتلة بالنسبة لليهودية. و كما فعل الحكام و معارضوهم في العصور الوسطى بالنسبة للمسيحية و الإسلام. لأن ممارسة السطو على الدين و خوصصته عن طريق ادلجته تجعل الجهة المؤدلجة تعتقد أنها تملك التفويض الإلهي في أن تفعل بالبشر ما تشاء كما جاء على لسان زياد بن أبيه الأموي في خطبته الشهيرة ب"البتراء" : "إننا نسوسكم بسلطان الذي أعطانا و نذوذ عنكم بفيئه الذي خولنا". لأن ما مورس من ادلجة عبر العصور، و ما يمارس منها في هذا العصر يجعل الدين يقف وراء الكثير من الصراعات التي أودت بحياة الملايين من البشر الذين كان يجب الإبقاء على حياتهم لو بقي الدين بعيدا عن الادلجة التي صارت تتخذ بعدا كونيا ليتحول الصراع من صراع طبقي حقيقي إلى صراع عقائدي بين المنتمين إلى معتقدات مختلفة، أو بين المومنين و الكفار، أي بين السماء و السماء بالنسبة للصراع الديني-الديني. و بين السماء و الأرض بالنسبة لصراع المومنين ضد الكفار. و الواقع أن ادلجة الدين لا تهدف إلى حماية الدين كما يوهمنا المؤدلجون، بقدر ما تهدف إلى خدمة المصالح الطبقية للجهة المؤدلجة للدين. و لذلك نرى ضرورة تجنب ادلجة الدين، و عدم توظيفه في الأمور السياسية حتى يحافظ على كونه مقوما من مقومات الشعوب. و حتى يستمر منبعا للقيم النبيلة التي توجه المسلكية الفردية و الجماعية في نفس الوقت. 2) كون الدين مصدرا للقيم التي لها علاقة بالجوانب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و جوهر هذه القيم و روحها هو ما نجده في هذه الأقوال البليغة كقول الرسول محمد "الدين النصيحة" و قوله "الدين المعاملة" وقوله "إماطة الأذى عن الطريق". و هذه التوجيهات القيمة تستهدف جميع المجالات، و في جميع مناحي الحياة، من اجل إيجاد مناخ خال من الأمراض، ملائم لنشأة إنسانية متلائمة مع تلك القيم الدينية النبيلة تحقيقا لسعادة الإنسان الروحية في الدنيا، و تمهيدا لتحقيق تلك السعادة في الحياة الأخرى. ففي المجال الاقتصادي نجد قيمة التضحية المادية من اجل الآخر، حتى تتحقق العدالة في حدودها الدنيا على الأقل بين جميع الناس الذين يعيشون في الزمان و المكان. كما نجد ذك في الدين الإسلامي الذي جاء في كتابه : "إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل" فالتضحية و البذل قيمتان أساسيتان في كل دين، و خاصة الدين الإسلامي. و هي تضحية واجبة حتى لا تترك للأهواء، و حتى لا يتم تأويلها انطلاقا من المصلحة الطبقية، و حتى لا يتعرض المعدمون للهلاك و غيرهم ينعم في خيرات كثيرة. و يمكن اعتبار الحث على قيمة التضحية و البذل من ما صار يعرف في عصرنا هذا بالضمان الاجتماعي، أو الحماية الاجتماعية التي لا تكون في عمقها إلا حماية اقتصادية. و لكن العمل على شيوع هاتين القيمتين لا يعني أبدا الحث على قيمة التواكل التي هي قيمة مرفوضة في مختلف الأديان و آخرها الدين الإسلامي الذي جاء على لسان رسوله "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيبيعه خير له من أن سأل الناس، سواء أعطوه أو منعوه" و معلوم ما لقيمة السؤال من مذلة، و لقيمة العمل من مكانة رفيعة في المجتمع حتى يكون الدخل الاقتصادي للفرد ذا مشروعية إنسانية و اجتماعية يجب أن يكون مصدره العمل الذي يتخذ أبعادا متعددة : بعد التجارة و بعد الصناعة و بعد الزراعة، و بعد الخدمات لأن كل هذه الأبعاد لابد أن تكون بمقابل، أي بفائدة في التجارة، أو بمقابل في الزراعة، أو بأجر عن العمل في الصناعة أو الزراعة أو في الخدمات. و هذا المقابل هو الذي يكسب الفرد عزة النفس. و لكن في نفس الوقت قد تكون الحاجة إلى العمل مصدرا للإذلال و الاستغلال. و لذلك نجد أن الدين يحث على أداء الأجر قبل أن يجف عرق العامل. و انطلاقا من هذا التصور الذي استعرضناه نجد أن الدخل الاقتصادي في الدين يأتي نتيجة لأحد سببين : الأول : قيام تنظيم التضحية بين أفراد المجتمع عن طريق التنازل عن جزء محدد مما يملكون، أو من مدخولهم السنوي لصالح من يعجز عن اكتساب ما يسدد به حاجته بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تتفاعل فيما بينها، فيتواجد و بسبب ذلك العاجزون عن العمل أو عن اكتساب قوتهم اليومي. و الثاني : العمل الذي تتحدد مجالاته في التجارة و الصناعة و الزراعة و الخدمات، و الذي يجب أن يكون مدخوله متناسبا مع متطلبات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. فإذا لم تكن كذلك، فإن العامل يكون مظلوما و مقهورا، و عليه أن يرفض ما يمارس عليه من ظلم أو قهر، أو غير ذلك. و يمكن أن يكون هناك مصدر آخر للدخل عن طريق انتقال الملكية من شخص إلى شخص آخر، أو إلى مجموعة من الأشخاص وفق مقاييس معددة في الدين الإسلامي على الأقل كما جاء في القرءان " للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الاقربون و للنساء نصيب" و هذا النصيب يختلف من شخص إلى آخر "للذكر مثل حظ الأنثيين" إن كان الأشخاص أبناء أشقاء. و سواء اتفقنا مع تعامل الجانب الاقتصادي أم لم نتفق فإن جوهر التعامل يكمن في الدفع بالإنسان إلى الحرص على عزة نفسه، و أن لا يقبل أبدا إذلالها بسبب ذلك. و على المستوى الاجتماعي نجد أن الدين يحث على التعلم الذي يمكن اعتباره مصدرا لامتلاك المعرفة الدينية و الدنيوية في نفس الوقت لأنه بدون تلك المعرفة لا يمكن الحديث أبدا عن شيء اسمه الدين، أو عن شيء اسمه الدنيا. لأن الغاية من التعلم هي غاية دينية و دنيوية في نفس الوقت. و هذه الغاية المزدوجة هي التي تجعل التعلم مسألة أساسية، و في هذا الإطار نجد أن الدين الإسلامي كآخر الأديان السماوية يحث على طلب العلم "اطلب العلم من المهد إلى اللحد" و "اطلب العلم و لو في الصين" و "تعلموا كتاب اليهود، فإني والله لا آمن اليهود على كتابي" كما جاء على لسان الرسول محمد. و قد جاء في القرءان "إنما يخشى الله من عباده العلماء" و أول آية نزلت كانت قوله تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ و ربك الأكرم، علم الإنسان ما لم يعلم". و قد ثبت بالملموس أن تقدم العلوم و تطورها يقف وراءه مدى ما بلغته تلك الأمم من علم، و ما حققته من تقدم على أساس التقدم العلمي، و أن تأخرها يرتبط بشكل كبير بسيادة الأمية في صفوف أفرادها، و معلوم أن المتعلم يزداد تواضعا، و أن الجاهل يزداد تكبرا للتعويض عن جهله و هذا ما انتبه إليه المتنبي حين قال : ذو العقل يشقى في النعيم بعقله و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم و التعلم في الدين لا يهم الذكور وحدهم، و إنما يجب أن يستهدف النساء أيضا، كما جاء في الأثر "النساء شقائق الرجال" و كما جاء في الحديث بالنسبة للدين الإسلامي "طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة" و أهم ما ورد في هذا الإطار قول الشاعر : الام مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق و قوله : ربو بنيكم علموهم هذبوا فتياتكم فالعلم خير قوام و ثبت بالملموس أن المرأة المتعلمة اكثر إفادة للمجتمع من المرأة الجاهلة. و أن العامل المتعلم اكثر إنتاجا من العامل الجاهل. و أن التعلم لم يعد وسيلة للرقي الاجتماعي فقط، و إنما صار أيضا وسيلة للرقي الاقتصادي. و على المستوى الثقافي نجد أن الدين، أي دين، لا يهتم إلا بالعمل على تفعيل القيم التي أتى من اجل العمل على نشرها بين الناس شاء من شاء، و كره من كره. فقيم الدين الإسلامي على سبيل المثال هي المعتبرة في ثقافة هذا الدين. و هي جوهر الممارسة الدينية جملة و تفصيلا، سواء تعلق الأمر بالعبادات، أو بالشرائع. لأن الكل في الدين الإسلامي يهدف إلى إيجاد إنسان بتصور معين، متميز عن الإنسان الذي يحمل في مسلكيته قيم دين آخر، أو قيما لا ملة لها و لا دين من منطلق أن الدين الإسلامي لا ينفي الديانات الأخرى و لا يرغم الناس على اعتناقه، لأنه كما جاء في القرءان "لا إكراه في الدين" و لأن الدين الإسلامي ينطلق من مبدأ الحوار بين الديانات "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله" و حتى إذا ورد في القرءان " و من يتبع غير الإسلام فلن يقبل منه، و هو في الآخرة من الخاسرين" فلأن جميع الديانات في اصلها كانت إسلاما قبل أن يلحقها التحريف كما جاء عنها في القرءان : "و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله" من منطلق أن مفهوم الله في الإسلام و منذ عهد إبراهيم قبل مجيء اليهودية و قبل مجيء المسيحية، هو التجرد و الوحدانية. فالتجرد يفرض أن الله "لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير" و الوحدانية تفرض "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفؤا أحد" و لذلك فاليهودية و المسيحية ديانتان محرفتان عن اصل الدين الذي هو الإسلام مما جعل اليهود و المسيحيين يعتقدون جميعا أن الله ثالث ثلاثة، ليسقط بذلك التجرد الذي يتحول إلى تجسيد في زوجة الله و ابن الله باعتبارهما الهين، و لتسقط بذلك الوحدانية، ليوجد شركاء لله، و هو ما رد عليه القرءان بقوله "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا". و الثقافة الدينية تهدف إلى إشاعة قيم الفضيلة بين الناس، و تجنب قيم الرذيلة التي لا تساهم إلا في تخريب المسلكية الفردية و الجماعية. و الوسيلة إلى ذلك، الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر بأساليب مختلفة من بينهما ما جاء في الحديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، و ذلك اضعف الإيمان".
#محمد_الحنفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدين / الماركسية من اجل منظور جديد للعلاقة نحو افق بلا ارها
...
-
هل يعلم رؤساء الجماعات المحلية أن حبل الكذب قصير ... ؟!
-
نهب المال العام من سمات الرؤساء الجماعيين بالمغرب
-
الجماعات المحليةأو مجال تحويل الأغبياء إلى بورجوازيين كبار
-
توسيع القاعدة الحزبية / الإشعاع الحزبي / التكوين الحزبي : أي
...
-
هل من حق المواطن في الشارع المغربي أن يشعر بالأمن والامان؟
-
العطالة.. أو الأزمة الحادة في سياسية النظام الرأسمالي التبعي
...
-
هل يشكل المثقفون طبقة؟
-
قضية التعليم- قضية الإنسان
-
الطبيعة البورجوازية الصغرى ومعاناة الجماهير الشعبية الكادحة
...
-
ضربة شرم الشيخ وضربة حسني مبارك اي علاقة وايهما اكثر ارهابا؟
-
حول مفهوم اليسار وما جاوره..؟!
-
هل يمكن ان يغادر العرب باحة الصمت تجاه ما يجري في العرق؟
-
الدين / الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة من أجل مجتمع بلا إر
...
-
هل أخطأت نادية ياسين أن تصيب الهدف في خلق الحدث ؟
-
حتى لا تتكرس المغالطة ضرب لندن ليس كوجها ضد الحكومة البريطان
...
-
هل بعد هذه الأزمات المتوالية يمكن أن تحلم الجماهير الشعبية ا
...
-
هل بعد هذه الأزمات المتوالية يمكن أن تحلم الجماهير الشعبية ا
...
-
هل بعد هذه الأزمات المتوالية يمكن أن تحلم الجماهيرالشعبية ال
...
-
هل بعد هذه الأزمات المتوالية يمكن أن نحلم بمستقبل لصالح الجم
...
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|