|
الخوارج – إرادة الحق والحقيقة (4)
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 4629 - 2014 / 11 / 10 - 16:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن الأفكار الأولية الكبرى مثلها مثل الحياة، صراخ وعويل، واستصغار وتهويل، وآمال وأعمال، ومجافاة ومعاناة، ودموع تترقرق في مآقي الأفراح والأحزان، ونشيج يصدح في سرّ المسّرات والأشجان، أي في كل نظراتها الشاخصة والفاحصة لما يجري فيها وحولها. وهو الحال الذي جسدته حركات الخوارج في كافة مواقفها، بحيث جعل منها "خروجا" يصعب تحديده بمعايير المصلحة العملية للعقل الأموي الماكر، كما يصعب قبوله بمعايير القدر المأساوي للأخلاق العلوية. وفيما بينهما تطايرت شظايا الفكرة الخارجية بوصفها لهيب الضمير المتآكل من خروجه على الجميع باسم الجميع. وهي المفارقة التي صنعت في آن واحد مأساة الخوارج ورونقهم الأبدي. وشأن كل مفارقة روحية وفكرية كبرى هي الخميرة الضرورية لوجدان الثقافة وعقلها التاريخي. فالانتقال من وجدان الأحداث إلى عقل المواقف بمعايير الالتزام الفردي هي المكونات الضرورية لصيرورة الفردانية المتسامية. وذلك لأنها تجعل من كل ما يمس روحها وجسدها همّا من همومها الكبرى والصغرى. من هنا بروز الملامح الناتئة في المواقف والمآثر الكبرى والصغرى للخوارج. فالحركات التأسيسية الكبرى لا صغيرة فيها، بسبب قوة الرمزية الكامنة في جوارح الجسد وجروح الروح النازفة في مجرى مواجهة ما يبدو لها خروجا على حقيقة الإنسانية والحق. وفي هذا يكمن السبب الذي جعل من فكرة "مرتكب الكبيرة" العلامة الفارقة للخوارج. فمن حيث المظهر الأولي أو رمزيته التاريخية لم تكن فكرة الخروج حكرا على الخوارج. غير أن ارتباطهما في الوعي التاريخي والسياسي واللاهوتي والأخلاقي الإسلامي يعكس طبيعة التحول الجوهري في فكرة الخروج على السلطة بوصفها الصفة الملازمة للخوارج. وإذا كان الوعي اللاهوتي السياسي بمختلف أصنافه، وبالأخص ذاك الذي استجاب في اغلب حوافزه الأولى لإغراء السلطة وترهيبها، قد طابق بين الخروج على السلطة وبين الخروج على الدين، من خلال ابتداع مصطلح المارقة وإلصاقه بالخوارج، فانه يكون بذلك قد حدس عظمة الفكرة الخارجية الملطخة بدماء أتباعها وأعدائها دون أن يدرك قيمتها! وهو أمر عادي بالنسبة للوعي المتملق والخاضع لرغبات السلطة والسلاطين. بينما كانت شعلة الخوارج الأولى هي لهيب الاحتراق الذاتي في مرحلة الانتقال من الوجدان الأخلاقي إلى العقل الثقافي ومنهما إلى معرفة النفس الفعلية. وجرى التعبير عن هذه العملية بمعايير الخوارج في مصطلح الشراة. فقد كان الخروج فعلا عاما يمكن إطلاقه على أي خروج مهما اختلف شكله ولونه ونوعه. من هنا إمكانية ظهور تهمة "المروق"، بوصفها الصيغة الدينية اللاهوتية المعارضة للخروج على السلطة والدين، بينما كانت تسمية الشراة هي التعبير الذاتي الأصيل عن معرفة النفس الفعلية. وتتماهى هذه التسمية مع رغبة الخوارج الذاتية وعقائدهم العملية. بمعنى تأسيسهم فيها ومن خلالها للفكرة المتسامية عن ضرورة شراء النفس، أي عدم بيعها في أسواق النخاسة والساسة. وقد كانت تلك التسمية الأولى في التاريخ الإسلامي التي جسدت نمطا من الرؤية النظرية التي تتوحد فيها القيمة والمعنى، وأسست نمطا من الرؤية العملية التي تتحقق فيها المبادئ والشخصية. كانت فكرة الخوارج الأولى عن شراء النفس مرهونة بالرغبة الصادقة بمرضاة الله. وليس مصادفة أن يصرخ حرقوص بن زهير، بوجه الخليفة علي قائلا: "يا ابن أبي طالب! لا نريد بقتالك إلا وجه الله والدار الآخرة". كما نراها أيضا في الصورة النموذجية التي تنقلها كتب التاريخ عن هيئة وحالة المواجهة الحربية التي حصلت بينهم وبين معسكر الإمام علي، عندما شدوا رغم أعدادهم القليلة "شدة رجل واحد، والخيل أمام الرجال، فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، فخمدوا". ووصف احدهم ما كان يراه قائلا "لقد رأيت الخوارج حين استقبلتهم الرماح والنبل، كأنهم معز اتقت المطر بقرونها". وهو وصف لا استهجان فيه، بقدر ما انه يبرز عمق الاستعداد غير المتناهي للروح الخوارجي القادر على مواجهة مصيره دون تردد. بل أن المصير نفسه يصبح جزء من غبار المعركة التي تلف الجسد لكي ترميه بحمية بالغة أمام مهمة التضحية العابرة بوصفها تحقيقا لفكرة الأبد. ولم تكن هذه الحالة معزولة عن عنفوان الفروسية التي لا يعقل وجودها دون تحسس الجسد وهو يمرح في صحراء الصبر، وبيداء التحدي، وسواد البصرة والكوفة. إذ لا يعقل الأبد دون الأزل. فهما شأن الوحدة المرعبة والجميلة للحياة والموت. لكل منهما قيمته ومعناه ومداه. وفيما بينهما تتلألأ حمية الروح وصدق العزيمة، بوصفه الأسلوب الوحيد القابل للإدراك بمعايير الحدس المتسامي. وقد تمثل الخوارج هذا الحدس. من هنا "خروجهم" على الجميع! لكنه حدس لم يكن معزولا عن القدر الملازم للدولة الإمبراطورية وثقافة المواجهة العنيفة في مجرى إرساء أسسها الأولى. تمّثل الخوارج إرهاصات الضمير الملازمة لانكسار الوحدة وتجزئتها، التي عادة ما ترافق الانعطافات الحادة في تاريخ الإمبراطوريات، والأديان العالمية، والفلسفات الكبرى، وصعود الأمم. فهي تساهم في تعميق التجربة السياسية وإدخال ما يمكن إدخاله من عناصر الراديكالية المعنوية، كما تفعل في الوقت نفسه على ربط المكونات المتصارعة في رؤيتها الخاصة. الأمر الذي يجعلها شديدة الحساسية تجاه كل ما يعارضها. مما يؤدي بها في حالات معينة إلى الغلو السياسي، والتزمت الأخلاقي، والفوضوية المتسامية، وهوس الشك الوجداني (التوبة) مع ما يترتب عليه من انعدام الثبات والاستقرار في المواقف الظاهرية، بوصفها الصيغة المثلى للثبات الباطني. فعندما استكتب عبد الملك بن مروان، على سبيل المثال، نجدة بن عامر الحنفي (رئيس النجدات) وأعطاه الرضا، خالفه بذلك أتباعه وطالبوه بالتوبة. فتاب. ثم ندموا على ذلك وتابوا وطالبوه بالتوبة من توبته فتاب! مما اضطر ذلك بعضهم (أبو فديك) لقتله! وتكشف هذه الحالة النموذجية عن أن مظاهر الجسد الخشنة للخوارج لم تكن سوى الصيغة التاريخية لتهذب الروح في مجرى التدليل والبرهنة الذاتية على ما أسميته بالاستعداد على مواجهة المصير أيا كان مظهره بوصفه التزام الروح الفردي تجاه النفس والفكرة. وهي نتيجة عادة ما تبعثر مكونات وتراكم وحدة الزمن السياسي، لكنها تصنع على الدوام ما يمكن دعوته بالارتهان الكامل للفرد أمام التاريخ المعنوي (الأخلاقي) والسيرة الشخصية. ولا يمكن حل هذا الخلاف والخروج من مأزقه المتعرج في الحياة والضمير إلا عبر الإخلاص الدائم في الأقوال والأفعال. وقد صنع هذا التناقض خميرة الفكرة الراديكالية في الشخصية، بحيث يجعلها سماد الروح الأخلاقي في حياة الأمم والثقافة، ورماد الاحتراق الذاتي من اجل ذره في عيون السلطة الجائرة. فقد كانت الهموم الكبرى للخوارج مقيدة بإجبار الأمة على العمل بما يمليه الضمير الحي والعقل الوقاد والإخلاص للعدالة، وليس بنفسية أو ذهنية الغزو والسلب والسلطة والجاه. وهو السر القائم وراء تحولهم إلى الخميرة التي أنقذت الصيرورة الثقافية الإسلامية الأولى في ميدان الفكر والإبداع، من الفساد الأموي. بحيث جعلت منهم منذ البدء احد النماذج الرفيعة للإخلاص المادي والمعنوي لمتطلبات الإرادة المتسامية. الأمر الذي صنع ما يمكن دعوته بمثقف الإخلاص للفكرة والمبدأ. فقد استنسخ هذا الأنموذج الجديد روح الشخصية المحمدية التي بدت في أول أمرها خروجا على المعتاد والمألوف و"مروقا" على الوثنية، لكنها كانت في أعماقها وآفاقها شراء للنفس من أسواق الجاهلية بمختلف أصنافها وأشكالها ومستوياتها. بمعنى أنها قدمت النموذج الفعلي لما ينبغي القيام به، وربط كل ذاك بفكرة الإرادة المتحررة من عبودية الرذيلة، والاحتكام إلى صوت الضمير الخالص والصدق بمعاييره فقط. فإذا كان محور الإرادة المتسامية للشخصية المحمدية الأولى يدور حول فكرة الوحدانية بوصفها أسلوب توحيد الأنا والجماعة والحق، فان محور الفكرة الخوارجية كان يدور حول توحيد الأنا والجماعة والأمة تجاه إشكالية السلطة والحق. وليس مصادفة ألا تجتمع كل فرق الخوارج على شيء مثل اجتماعهم على محاربة الإمامة الجائرة، أي السلطة الغاشمة. ومن الممكن فهم بواعث هذا الإجماع في طبيعة معارك "القرن التأسيسي" للإمبراطورية، بوصفه زمن التحول العنيف من الخلافة إلى الملوكية الذي اجترح في مجرى انكساره الأخلاقي والسياسي الأول بعد معركة صفين وقضية التحكيم، ظهور الخوارج. لقد كان ظهور الخوارج بحد ذاته تمثلا لقيم الحق بمشاعر الفروسية العربية والإخلاص الإسلامي الأول، وتصلب في مجرى المعارك القاسية وتألم من قسوة الخديعة، وعاني من تحسس الخروج على القيم الإسلامية الطرية ومحاولة تجفيفها السريع من جانب الأموية. فقد كانت كل هذه المكونات المرة هي حنظل الفطام الذي دهنته الملوكية الأموية على حلمة السلطة المغرية. من هنا اشمئزاز الخوارج، أي ممثلي البراءة وذوق الطفولة المرهف من الاقتراب منها. وهو الشيء الذي كانت تريده وتحلم به الأموية. وذلك لأنها وجدت في فطام الأمة الناشئة عن ألبانها أسلوب التحكم وليس الحكم. الأمر الذي جعلها تسمع في صراخ الخوارج عويلا وليس مناجاة وغناء. فالسلطة الجائرة لا ترغب بشيء غير سماع المديح أو الصمت. من هنا ذم الخوارج للسلطة الجائرة والجهر بذلك أمام الملأ بالأقوال والأفعال. فقد جعل منهم هذا الخروج ممثلي الحق وصوت الحقيقة. ووجد هذا التمثيل انعكاسه العميق في منظومة الأفكار الكبرى التي أسس لها الخوارج في مواقفهم من السلطة. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخوارج – خروج الإرادة المتسامية(3)
-
الخوارج – استقامة الإرادة وعنف الوجدان(2)
-
الخوارج – غيب الإرادة وخراج الروح (1)
-
الخوارج والدواعش- قطبا الحق والباطل
-
الصراع الروسي – الأمريكي حول المشرق العربي وإيران(3-3)
-
الصراع الروسي – الأمريكي حول المشرق العربي وإيران (2)
-
الصراع الروسي – الأمريكي حول المشرق العربي وإيران (1)
-
الخلافة العربية عند محمد عبده والخلافة الإسلامية عند داعش
-
المركزية الإسلامية المعاصرة- قوانين التاريخ ومنطق الثقافة
-
المالكي وعبد الكريم قاسم - نهاية المأساة وبداية المهزلة
-
التحدي التاريخي الأكبر للبديل الوطني العراقي
-
القضية السورية وإشكالية صراع الشرق والغرب
-
الدولة والأمة والإصلاح في سوريا
-
الدولة الشرعية والإصلاح في سوريا
-
المالكي وملكوت الدولة العراقية
-
الإخلاص في فكرة المقاومة عند (حزب الله)
-
(حزب الله) والقضية السورية
-
الكينونة الملهمة لجمال عبد الناصر وحسن نصر الله
-
إشكالية الفكرة القومية والإسلامية للإخوان المسلمين
-
الهوية العراقية ومشروع البديل الوطني (26)
المزيد.....
-
اتفاق وقف إطلاق النار بين -حزب الله- اللبناني وإسرائيل يدخل
...
-
مباشر: بدء سريان هدنة لمدة 60 يوما بين إسرائيل ولبنان بعد أش
...
-
اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بين إسرائيل وحزب الله يدخل حي
...
-
بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل
-
ترحيب دولي باتفاق وقف إطلاق النار في لبنان
-
بيان أمريكي عن قصف -منشأة لتخزين الأسلحة- تابعة لجماعة موالي
...
-
مسؤول أمريكي: لم نهدد إسرائيل بوقف تزويدها بالأسلحة
-
محكمة أمريكية ترفض قضية وثائق ترامب السرية
-
فينر: نأمل أن يخلق اتفاق وقف النار في لبنان مساحة للتوصل لات
...
-
بوتين: روسيا وكازاخستان تحميان تجارتهما من خلال التحول إلى ا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|