|
ما معنى أن يكون الإنسان شخصا؟
داود بوعرفة
الحوار المتمدن-العدد: 4628 - 2014 / 11 / 9 - 18:24
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما معنى أن يكون الإنسان شخصا؟
يترنح الإنسان عبر الدوام تحت وطأة صراع بين مملكتين: مملكة الضرورة ومملكة الحرية، أي بين ما هو موضوعي في الإنسان وماهو ميتافيزيقي فيه، الأمر الذي يجعل من تحقق الشخص في غاية الصعوبة لما يصاحبه من ألم وعذاب. إن تحقق الشخص يتطلب تضحيات جسام، لأنه يترك فينا شعورا بالالم، شعور يفرزه الصراع بين ماهو حيواني فينا وما هو إنساني، فيكون انتصار هذا الأخير لحظة بطولية حقيقة بعد صراع مرير خاضه الإنسان لتحقيق شخصه. لذلك نجد البعض يفضلون العيش في الدرك اللاشخصي لأنه الأسهل وفيه تجنب للعذاب، وهو ما تحاول بعض التصورات الفلسفية والنظريات السياسية التأصيل له على المستوى النظري والعملي، فالشيوعية مثلا ترفض الأنا الشخصية من خلال التأطير الشيوعي للوعي الجماعي وللحياة الاجتماعية عامة. بمعنى أن هذا النمط من الطروحات يرفض الفرد وينادي بالجماعة التي يذوب فيها الشخص و تنمحي معه حريته، وعلى هذا الأساس تكون الحرية الأس الرفيع لكل شخص ممكن. لكن بأي معنى؟ إن الحرية من بين أكثر الابعاد الميتافيزيقية إلتصاقا بالإنسان، بل هي متأصلة فيه، فالأصل في الإنسان أنه حر، ولكي يتحقق الشخص ما على الإنسان إلا اكتشاف الحرية الباطنية فيه، أي الحرية التي ينأى بفضلها عن كل المحددات المكرهة التي تأتيه من الخارج ما دام الإنسان يعيش بين طرفي نزاع: مملكة الضرورة والإكراه، ومملكة الحرية والارتقاء الشخصي. ولا شك في أن الذي يرنو إلى الحرية هو الجدير بأن يكون شخصا. ولكن هل الإنسان حر حقا؟ هل يستطيع الإنسان التعالي عن الشروط الموضوعية ليكون شخصا؟ ماذا عن الموت؟ ألا يمثل الخضوع لتراجيديا الموت ضربا من الانحصار للشخص؟ أليست فكرة الموت عائقا أمام تحقق الشخص؟ إن الكائن اللاشخصي لا يفكر في فكرة الموت في حد ذاتها، لأنه لا يختبر مأساة الموت، فهو لم يتنسم نسمة الحرية، لم يعرف أن يكون شخصا، إنه يعيش حياة الدهماء مستسلما لكل أشكال "التقطعن" والاستلاب. أما الموت بالنسبة للشخص فيشكل تهديدا لتحقيق الذات، لأنه يعرف أن الموت في اقتراب مستمر كلما اشرئب أكثر لتحقيق ذاته، ومع ذلك فالموت لايشكل للشخص نهاية النهاية، لأن مهمة الشخص تتمثل في تحقيق الأبدية التي تكمن في الفكرة الإنسانية-الكونية التي يؤمن بها وينافح من أجلها، فسقراط عندما ضحى بحياته من أجل الحقيقة عرف كيف يكون شخصا، وابن رشد عندما عانى من الطرد وأحرقت كتبه عرف معنى الفرادة والحرية، وغاليلي عندما ضرب على الأرض برجله وهو يحاكم قائلا:"ومع ذلك فهي تدور(الأرض)"، اشتشعر المعاني الحقيقية للشخص، واسبينوزا عندما عاش منبوذا بسبب طروحاته النقدية في مجال اللاهوت اختبر تراجيديا أن يكون المرء شخصا... إن كل هذه النماذج، وغيرها، حاضرة أمامنا ولن تغيب عنا لأنهم سعوا إلى الأبدية، وتعالوا عن كل ماهو موضوعي وما يحمله من أشكال الإكراه والعبودية. ومن ذلك كله، نجد أن الانتصار على الموت لا يتم إلا بطريق واحدة وهي تحقيق الذات الحرة التي تحمل في كنهها الشخص الحقيق. ذلك أن الإنسان عبر تاريخه المديد حاول الاحتماء من الموت بخضوعه لأشكال مختلفة من العبودية، حيث كان عبدا للطبيعة، ثم للدولة، فالطبقة، وأخيرا تحول إلى عبد للتقنية وللمجتمع المنظم. غير أن هذه العبودية لم تنجده ولم تحرره من الموت، لأنه لم يعرف أن الانتصار على الموت لا يتم إلا بقبوله واحتضانه، وهذا لا يعني الخضوع لسلطانه بقدر ما يعني الخروج من دائرة الانعزال الذي يحمل في ثناياه الموت ذاته، فتحقيق الذات، بالتالي تحقق الشخص، لا يعني الانزواء وإنما المشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية والكونية، لأن الشخص الحقيق هو الحامل لهم الإنسان والمجتمع الكوني، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الموت بالنسبة للشخص لا يوجد إلا في عالم الظواهر والاشياء. أما الإنسان فهو كائن ميتافيزيقي كلما سعى الى اكتشاف حريته وما يصاحب ذلك من تحقق لذاته وشخصه. إن مسألة تحقق الشخص تظل متعلقة بما هو ذاتي-فردي بعيدة كل البعد عن أشكال التوجيه الفوقي أوالدمغجة المضللة، فالشخص لا يتحقق إلا بالإبداع الذاتي الذي يمتاز بالخلود، بمعنى أنه بالرغم من ذاتية الإبداع إلا أنه يحمل معه الطموح الإنساني-الكوني الأبدي. ولا شك في أن مفهوم الشخص يظل قائما كلما أمعن المرء في اكتشاف حريته، بل وتوسيع دائرتها كلما أحس بتضييق الخناق عليها خصوصا ونحن نعيش مخاطر التقنية التي أضحت تستعبد البشر.
داود بوعرفة
#داود_بوعرفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|