البدراني الموصلي
الحوار المتمدن-العدد: 4624 - 2014 / 11 / 4 - 15:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في سفينة نوح من الفرات الى الجودي الى ارارات الى قمة ايفرست
قد تبدو هذه الجولة طويلة و صعبة ومتعبة نوعا ما لمن يريد اكمالها حتى نهايتها , وهي فعلا كذلك , لكننا سنوفر فيها ما استطعنا من وسائل الراحة للمسافرين , واذا كنا في الجزء الاول من جولتنا قد بحثنا عبثا عن شاهد عيان واحد على مدى واقعية القصص التي ذكرناها , فأننا هنا سوف نمل من كثرة الشهود الذين يدعي بعضهم انهم شهود ثقة مؤكدون .
قصة سفينة نوح او الفلك ,لها مفصلان اساسيان اولهما التاريخ الاسطوري لعدة شعوب عريقة , ايتداءا من اساطير بابل وأكد والامبراطورية الرومانية الوثنية قبل المسيح , وصولا الى الاساطير الهندية والجنوب شرق اسيوية , وثانيهما هو الاديان التي تناولتها , وفي مقدمتها الاديان الابراهيمية الثلاثة , وكذلك اديان غير سماوية , ان تلك المصادر متباعدة الامكنة والازمنة عن بعضها نسبيا ..
هناك تطابقات وهناك تقاطعات , ابرز التطابقات هو الحدث الجليل نفسه , الطوفان , فقد اجمع الشهود المتقدمون زمنيا على حدوثه , وقد حاول تأييدهم بعض الباحثين العلميين في زماننا هذا .ومنهم من اجهد نفسه حد انه زار المواقع المرجح حدوثه فيها , حاملا ادواته العلمية , وبحث ونقب وتقصى عن الجزئيات , ليوضح الغموض الذي يكتنفها ويجيب على اسئلة هامة , مثل اين فار التنور و ابتدأ الماء يطغي وما هي المساحة التي غمرها الطوفان ومتى خمد التنور ومن اين عادت الحمامة بغصن الزيتون علامة لجفاف قطعة من الارض قريبة من الفلك ,( ومن هذا صار غصن الزيتون في منقار الحمامة البيضاء رمزا للاطمئنان و للسلام العالمي . بينما اعتبر الغراب الذي اطلقه نوح قبل الحمامة ناكرا للجميل لأنه لم يعد بالبشرى للمسافرين , وصارالمسكين رمزا للنحس والنكد . ), ومتى شمر البطل نوح ( اذا اتفقنا على هذا الاسم ) عن ساعديه وابتدأ ببناء سفينته , بأمر هبط به اليه الوحي من مجمع الالهة او من كبيرهم , او برؤيا – حلم – رآها احد الكهنة الناسكين وعلمته كيفية النجاة من طوفان سيغمر الارض ويميت كل من عليها .الا من كان صالحا, وذلك ببناء سفينة قال بعضهم ان طولها اكثر من الف ذراع وعرضها اكثر من اربعمائة ذراع وارتفاعها ثلاثون ذراعا ( لو افترضنا الذراع يساوي مترا واحدا ستكون لدينا المعادلة التالية : 1000 متر في 400 متر في 30 مترا = 12000000 مترا (أثنا عشر مليون متر مكعب ) , اي بمثل حجم المدينة الرياضية في البصرة لو اكتملت جميع منشآتها ) , بينما قال آخرون ان طولها كان مثل عرضها ولم يحدد الابعاد وانها طليت بالقار من الداخل والخارج وكانت من ثلاثة طوابق على ان يصعد اليها زوج او زوجان اثنان من كل الاحياء ( من انسان وحيوان ) و الذين كانت الالهة راضية عنهم .اغلب الباحثين ركزوا جهودهم في البحث عن الحطام , وادعى بعضهم انه وجد شيئا منه , ولكن لم تثبت صحة ادعاءاتهم بأدلة علمية موثوقة , وقد اعتبروا مغامرين يبحثون عن الشهرة العلمية اكثر من الحطام . بينما البعثات التنقيبية اكتشفت احافير وبقايا لسفن فرعونية استدلوا على مواقعها من التاريخ الفرعوني نفسه – ودون اي لبس او غموض – وأعادوا بناء احداها – او اكثر - بأشرعتها ومجاديفها , ولم ترد اية اشارة من قريب او بعيد ان احداها ربما تكون سفينة نوح .
من المفيد ان نذكر ان جلجامش كان احد الاسماء التي رجحت انه نوح نفسه , وان اقدم راقم طيني كتبت عليه قصة الطوفان يعود تاريخه الى زمن الملك العظيم حمورابي , , مما يعني انها كانت ضمن التراث المتوارث جيلا بعد جيل في مدينة اوروك البابلية , اي ان الاسطورة اقدم من حمورابي ومسلته الشهيرة , وقد ورد اسم اتونابشتم في راقم اخر .
اما التقاطعات فكثيرة جدا , وهي في الاديان اكثر منها في الاسطورة , فقد تناحر ما في التوراة مع ما في القرآن ,ليفرز هذا التناحر القوم الى صالحين وآخرين طالحين , ويؤجج بينهما حربا تستعر حينا وتخمد حينا والى يومنا هذا .واذا كنا اليوم نحارب وحش الطائفية التي نخرت الاديان الابراهيمية ثلاثتها من الداخل , فلأننا اغفلنا العنصرية التي ولدت مع نزول سفينة نوح الى الماء في رحلتها الميمونة . الاسلام يعاني من طائفية شرسة نمت من بذرة صغيرة منذ زمن الرسول , حتى صارت عشبة ضارة تمد جذورها بخبث شديد تحت كل نبتة طيبة ( والمثل الانجليزي يقول ان الاعشاب الضارة تنمو اسرع من النباتات الطيبة بكثير ) فنخرت الاسلام من منبعه في الجزيرة البدوية مرورا بدول افريقيا وليس وقوفا عند الفلبين بعد الهند وباكستان , والمسيحية عانت من الطائفية في داخلها وعاصرت الاسلام ولكن ببطئ شديد , الى ان بلغت بالقرون الوسطى ذروتها بمحاكم التفتيش والقتل على الشبهة بالهرطقة والسحر الاسود وغالبا بسبب انفتاح بعض العقول وتنورها بالعلم والمعرفة .واستمرت الحرب سجالا بين الكاثوليك والبروتستانت الى بضعة سنوات ماضية ,كما في ايرلندا الشمالية مثلا , اما بذرة العنصرية العرقية فقد غرست بالضبط في عهد نوح الذي انجب سام وحام ويافث . ولأن سام كان اطيب اخوته وأبرهم بأبويه فقد انجاه الله وانجب قوما صالحين لذلك تشبثت الديانة اليهودية بقناعة انها من نسله, وأن جميع الاقوام الاخرى هي من ابناء حام الشرير او ابناء يافث الذي لم بعصمه اي جبل حاول ان يأوي اليه , علما بأن اليهودية لم تخل من طائفية داخلية , وآخرها مازال قائما حتى اليوم وهو التمييز العرقي الذي مارسه يهود اوروبا – وخاصة اليهود البولنديون - ضد اليهود الافريقيين الذين يسمونهم ( يهود الفلاشا ) وكذلك ما يعانيه باقي اليهود الشرقيين ..
التناقضات السردية للقصة , تجمل في عدة نقاط , اهمها ان بطل الطوفان كان صالحا , وان الالهة ارسلت له انذارا يندرج ضمن حرصها عليه وثوابا له , وأبلغته بأن طوفانا هائلا سوف يغمر الارض وان عليه ان يحتاط للامر فيبني سفينة تسع قومه الصالحين مثله فقط , والذين ذكرت بعض المصادر انهم كانوا ثمانين نفرا , ومصادر اخرى قالت انه هو وزوجته وابنته وأهله الاقربون الصالحون باستثناء احد ابنائه والذي كان يظهر الايمان ويبطن الكفر , بينما مصادر كثيرة لم تحدد اي عدد . وان يحمل فيها كل شيء حي ,( من انسان وحيوان ) ,ليعيد بناء الحياة على الارض بعد انحسار الماء , والنقطة الثانية ان رجلا كان صالحا وعابدا متبتلا , لكنما قومه كانوا اشرارا وبذلك استحقوا الغضب والعقاب ولم تتطرق هذه النظرية الى كيفية عودة البشرية الى الحياة بعد الطوفان اذا كان ذلك الرجل الصالح هو الراكب الوحيد ,وكذلك فان مواقع انطلاق السفينة تراوحت بين نهر الفرات او نهر دجلة او الارض المنخفضة حول مملكة اوروك , لا احد يستطيع ان يجزم شيئا , الا عند الاحتكام الى العقل افتراضا – فلو كانت من الفرات فكيف استطاعت ان تبلغ المرتفعات ( جبل الجودي وهو قرب الموصل في شمال العراق , او جبال ارارات وهي من الجبال الشاهقة في جنوب شرق تركيا وتغطي قممها الثلوج طوال العام ويذكر التاريخ ان الاسكندر المقدوني انهارت معنوياته بسبب شعوره بالعجز عن اجتياز تلك السلسلة من الجبال لكي يغزو مملكتي بابل وفارس , الى ان اهتدى الى واد ما زال الى اليوم يسمى ممر الاسكندر ,لقد ادعى أحد شهود العيان المعاصرين ان السفينة مدفونة تحت ثلوج جبال ارارات لكنه فشل في الكشف عنها حتى مع تكنولوجيا القرن العشرين . ), العقل لا يتقبل ان يكون مجرى الفرات الذي يجري من الشمال الى الجنوب قد حول اتجاهه وصار يحدو بالسفينة من الجنوب الى الشمال , فهل تملك الانهار قدرة ان تعاكس قوانين الطبيعة الازلية الثابتة !!! علما بأن نهر النيل هو النهر الوحيد الذي يجري من الجنوب الى الشمال وذلك بسبب جغرافية افريقيا التي جعلت بحيرة فكتوريا ( في وسط القارة ) والروافد التي تصب فيها اعلى من مستوى الارض المتجهة شمالا والتي تنتهي عند مستوى سطح البحر الابيض المتوسط , شمال القاهرة ,( ان جغرافية افريقيا تبدو لي مثل المرأة الحامل المستلقية على ظهرها , اعلى ما فيها هي سرتها ومنها ينحدر كل شئ الى اطرافها , ), ولتحديد عدد الايام التي تفجرت فيها ينابيع الارض ورافقها هزيم الرعد والبرق والامطار الغزيرة ,فالبعض قالوا انها سبعة ايام بلياليها والبعض الاخر قال انها اربعون يوما بلياليها , ايا كان العدد , وحتى قياسا على الساعات القليلة التي سقطت فيها الامطار على مدينة بغداد وبعض المدن الاخرى في الشتاء الماضي , والتي سببت غرق مناطق واسعة يسكنها ملايين البشر وتمتع بعض الشباب بانزال القوارب المطاطية الى شوارع احيائهم او استعملوا جذوع النخيل والاشجار ليتنقلوا داخل ذلك المتنزه المائي الذي فاجأتهم به السماء ,, اقول حتى قياسا على هذه الحقيقة فقد رأينا جميعنا ان المياه كانت تهدر منحدرة من بغداد باتجاه الجنوب حتى ضاعت في مياه الخليج , اقول وحتى لو امطرت اربعين يوما وليس سبعة ايام فأنه من المستحيل ان تصل المياه الى الموصل التي تتدرج الارض اليها صعودا , ناهيك عن ان جبل الجودي هو مرتفع جبلي وليس ارضا منبسطة مثل المحيطة به ,فكيف الحال اذن مع جبال ارارات في تركيا .
كم هي المدة التي استغرقها بناء السفينة ؟؟؟ قبل الاجابة اذكركم بأن نوح كان نجارا ماهرا , وانه صنع الفلك لوحده لا شريك له مطلقا .وهناك جوابان بارزان على هذا السؤال , اولهما انه اربعون يوما ؟؟؟؟ والثاني انه مائة وخمسون عاما – وشتان ما بين المدتين - وهذا ما قاله من أدعى ان عمر نوح كان تسعمائة عاما , اي انه امضى سدس عمره في بناء سفينة وظل طوال تلك السنين متحملا هزء الهازئين به . ؟؟؟؟ لكم الخيار اي الجوابين به تقتنعون , وان لم تقتنعوا فهذه دالة اضافية على عقولكم المتنورة , رجل واحد يستطيع بناء سفينة تتسع لكل الكائنات التي رضي الله عنها .
ربما تعلمون ان على ضفاف الفرات في هيت وعانة وعلى ضفاف دجلة في بغداد , وشط العرب في البصرة , ورشا ومصانع صغيرة لصناعة القوارب الخشبية للصيادين او للذين يتنقلون بين الضفتين لشتى الاسباب , ويعمل فيها رجال اشداء توارثوا المهنة ابا عن جد ولكنني لم اشاهد مطلقا ورشة تبني سفينة زاد طولها عن عشرين مترا , وحتى المسفن البحري – البريطاني المنشأ - في البصرة وهو على طراز معامل السفن الضخمة في الموانيء البريطانية التي صنعت التايتانيك , ويملك نفس المعدات والتكنولوجيا – في الخمسينيا ت وحتى التسعينيات من القرن الماضي - , لم يبن سفينة واحدة تجاوز طولها عشرين مترا . فكيف لرجل واحد فقط بناء تلك السفينة ؟؟؟؟
الثورة الانفجارية في عالم الاتصالات شجعتني للاتصال بأشهر الشركات العالمية المتخصصة ببناء اضخم السفن وناقلات النفط العملاقة وانا اعرف مؤسستين ,هما معامل البحرية الملكية البريطانية التي كانت في اوج عظمتها في القرن العاشر للميلاد وقد بنت وما زالت تبني السفن والبواخر وسيطرت على العالم بأساطيلها التي لم تتفوق عليها اساطيل اسبانيا والارمادة وايزابيلا , وأكدت لي انها لم تتلق من الشرق الاوسط طلبية لتصدير الواح خشبية تكفي لبناء مثل ذلك الفلك مطلقا وان معاملها لم تصدر الى خارج بريطانيا الواحا خشبية خاصة ببناء السفن , وشركة نيبون كوكان اليابانية , وهي حديثة العهد نسبيا والتي اعتذرت لي بأنها لا تتعامل مع السفن الخشبية واختصاصها هو بناء السفن الحديدية العملاقة .( هذا المقطع من باب التسلية والطرافة مع صحة المعلومات الواردة فيه ), وسؤالي البريء هنا من اين جاءت كمية الاخشاب الكافية للفلك والعراق كله – وليس اوروك فقط وهي في السهل الرسوبي في جنوب العراق– والعراق كله ليس فيه غابات اكثر من غابات القصب والبردي .!!!,
لقد وعدتكم اننا سنوفر لمسافري هذه الرحلة الطويلة والمتعبة كل ما في وسعنا من وسائل الراحة والرفاهية . والمريح في الامر انه ليس هناك درجة خاصة ولا سياحية ولا لرجال الاعمال , لأن السفينة من اقصاها الى ادناها تتمتع بنفس الخدمات الفندقية التي قد ترقى الى مستوى خمس نجوم .وكما قلنا بأنها تتكون من ثلاثة طوابق , كان اعلاها للطيور بأنواعها , وتخصيص هذا الطابق للطيور وذوات الجناح يدل على مثقال ذرة من العقل والمنطق , اما الطايقان الاخران فالاوسط للبشر – الذين لم يعرف عددهم لحد الان – والاسفل للبهائم بانواعها وحجومها المختلفة ولكل دواب الارض ودباباتها . وكانت الطوابق مقسمة الى كابينات ذات قياسات دقيقة جدا , لكي توفر لكل زوج من تلك المخلوقات اقصى درجات الخصوصية , ولا شك ان بعضها قد يحتاج الى خلوة جنسية مع رفيقته - وقد تم أخذ هذا النشاط البيولوجي بنظر الاعتبار ايضا - الافيال والزرافات وهي اطول ذوات الاربع على الارض – ارتفاعا - كانت كابيناتها مرتفعة السقوف لتتحرك فيها بكل حرية , اما الفئران والارانب فلا شك انها لا تحتاج الى سقوف عالية لذلك جعلت كابيناتها اشبه بالجحور والحفر التي تمنحها متعة الشعور ببيئتها الطبيعية الاصلية , وقد احترت انا في قياسات كابينات القرود لان بعضها صغير الحجم جدا مثل الاوران اوتان وبعضها الاخر هائل الحجم مثل الغوريلا , وان بعضها تحتاج الى مساحة واسعة للتنزه وهي تلك التي تتقافز برشاقة عالية بين الاشجار مثل الشمبانزي الكثير المرح - وقد تحتاج ان تتدلى من اذنابها ورؤسها نحو الاسفل لتكتمل راحتها . يجب ان اخفف من قلقي حول هذه النقطة فقد دبرها مدبر الامور بدون اي شك . والا لما وصلت القرود بأنواعها الى قرننا الحادي والعشرين .
ولنلاحظ ان مجمل ما جاء في القرآن هو اكثر عقلانية بكثير مما جاء في التوراة , فالتوراة وبلهجة الله الغاضب على كل ذي جسد على الارض قرر ان يهلك كل شئ حي وان يغمر الارض كلها بطوفان عارم لا يبقي ولا يذر , بينما يجمل القرآن غضب الله على الاشرار من البشر ولا يشمل الارض كلها بغضبه واقتصره على الجغرافية المحيطة بنوح وقومه فقط , ( والعقلانية في القرآن الجمت أفواه الكثيرين من المتقولين بأن الحشرات تتكون من كذا الف صنف , والزواحف من كذا مائة صنف , وان جميع الكائنات تقريبا ليست من صنف واحد , حتى الضواري كالاسود والنمور والذئاب والقطط والكلاب , تتكون من فصائل كثيرة متنوعة , فكيف اتسعت لهم ولاصنافهم السفينة واجتازت بهم تلك اللجج الطامية الى القرن الحادي والعشرين , على اية حال ان كلا الغضبين , غضب الله في التوراة وغضبه في القرآن يؤكدان بلا ادنى شك ان المتحكم بالأمر يعاني من قصور شديد في درسي البيولوجي و الجغرافية , فكتبة التوراة لم يكونوا قد سمعوا بأستراليا والكنغر وجنوب شرق اسيا ولا حتى بجزيرة بالي وهي منتجع سياحي شهير ولا بالقطب الشمالي وشعب الاسكيمو ,ولا يعرفون شيئا عن القارتين الامريكيتين وشمال اوربا , وكذلك كاتب القرآن , لقد كانت جغرافية الاديان الابراهيمية لا تتجاوز الجزيرة التي مازالت بدوية حتى الان وبعض مناطق الهلال الخصيب .
لنترك القال والقيل ولنعتبر ان السفينة قد اكتمل بناؤها وعما قريب ستحين ساعة الانطلاق .بالتأكيد لن نتوقع سماع اصوات المحركات وهي تدير الرفاصات ,فلم تكن تلك التكنولوجيا قد اكتشفت بعد , و لم يوضح لنا احد هل كانت لها اشرعة لتساعدها في الاستفادة من الريح , واذا افترضنا خطورة قصوى بوجود اشرعة في مثل تلك الرياح العاتيات , فأليس من المفيد ان تكون بها بضعة مجاديف تساعد على حفظ توازنها عند انحرافها يمينا او شمالا , وكل الذي عرفناه هو وجود قائد للدفة على متنها , ويبدو لي ان الرجل قد تحمل مسؤلية ضخمة في ايصال السفينة الى بر الامان , وسؤالي البريء ايضا هنا ما هي فائدة الدفة اذا كان ربان السفينة لا يعلم الى اين هو متجه بها بل كان مشدوها او مشلول الفكر لأنها كانت تبحر بواسطة الريموت كونترول ولا سلطة له عليه ..
من ناحية اخرى و بسبب انعدام وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي تماما في ذلك الزمان , يخامرني الظن ان نوحا الذي كان حريصا جدا على تنفيذ مشيئة الله بكل دقة وامانة قد اعتمد على نظرية اجتماعية بسيطة وهي ( حاضركم يبلغ غائبكم ) , وهذه النظرية استغلها نوح لتنفيذ خطوتين مهمتين قبل الاقلاع , اولاهما تبليغ جميع الطيبين المرضي عنهم بأن الكارثة ستحل وشيكا , وثانيتهما انه شجع جميع الكائنات التي حصلت على الفيزا الضرورية للمغادرة , على ان يجمعوا كل ما يحتاجونه من غذاء وشراب ويختزنوه في مستودعات السفينة تحوطا للرحلة التي لم يبلغهم احد كم هو مداها , علما بأن هناك دورة في الطبيعة مفادها ان كل الكائنات تعتمد في غذائها على تناول كل الكائنات , و الانسان مثلا يعتمد في غذائه على انواع كثيرة من الحيوانات وكان – الانسان – ذات يوم غذاءا لكائنات اخرى تجاوره السكن في الكهوف والغابات وما زال بعض تلك الكائنات تستطيب لحم الانسان اذا تمكنت منه , , ويقول بعض الادعياء – وانا منهم - ان بعض المسافرين قد اصطحبوا معهم اعز المخلوقات اليهم وهم اطفالهم , وانهم لم يغفلوا كم هي حاجة هؤلاء الصغار الى اللهو واللعب لتزجية الوقت في تلك الكابينات الصغيرة , فحملوا معهم لعبهم ومن ضمنها باربي بالنسبة للفتيات الصغيرات وتماثيل سوبرمان والرجل الوطواط , وبعض الاطفال الاشقياء خبئوا بين طيات ثيابهم بعض الرشاشات البلاستيكية والمدرعات العسكرية الصغيرة عند صعودهم الى ظهر السفينة .ويقول شاهد عيان ان المشرفين على صعود الركاب لم يمنعوا القطط من نقل كرات الخيوط في افواهها , لتلهو بها في اوقات الفراغ الطويلة المتوقعة .
لنلق نظرة سريعة على عملية تبليغ الكائنات التي منحت فيزا المغادرة , لا شك ان الاسد ولبوته لم يكونا لوحدهما في الغابة فالمعروف ان الاسود تعيش في اسر متجاورة متآلفة , وكذلك النمور والذئاب والافيال وقطعان الخيول والابقار والاغنام والجمال بصورة خاصة فهي سيدة الجزيرة البدوية , لقد احترت كيف تم اختيار زوج واحد او زوجين فقط من كل تلك المجاميع , ويأخذني سوء الظن الى تفسير سئ فعلا , وهو ان الرشوة كانت عاملا فاعلا في الاختيار , وان من يدفع اكثر يكون الفائز بالنجاة , واذا تساهلت بعض الشئ فأنني استبعد الرشوة لعدم معقولية وجودها في ذلك الزمان , فأضطر الى اعتبار ان المحسوبية والمنسوبية هي البديل عنها وهي العامل الفعال حقا . وهذا ما يخفف كثيرا من غضبي شبه اليومي عند مراجعتي للدوائر الحكومية وتجشم عناء الحضور اليها قبل اربع ساعات او خمس من بداية الدوام الرسمي واكون من اوائل الداخلين اليها , ولكنني افاجأ بأن امام الموظف المسؤل عشرات الاضابير التي هيأها بواسطة الهاتف النقال , فانزرع واقفا الى ان ينتهي منها – واحيانا لا ينتهي منها لان الهاتف النقال لا ينقطع عن الغناء والموسيقى – لتخرج اضابير جديدة وتوضع امام السيد المسؤل وكأن البشر المسطولين امامه , اشباح لا يرون الا بواسطة الاشعة فوق البنفسجية التي لم تزوده دائرته بها . احيانا اخرج مع موعد للمراجعة بعد اسبوع واحيانا اخرج خالي الوفاض تماما لان حرف الباء في اسمي يشبه حرف الياء ولا يمكن تمشية معاملتي .
سيكون عتبي بالتأكيد منصبا على نوح فقط اذا اثبت العلماء والباحثون ان المحسوبية والمنسوبية كانت بسبب سفينته وطريقة منح الفيزا غير العادلة .
لقد تمت عملية اخلاء الكائنات من منطقة الخطر والكارثة النازلة بهم بكل يسر وسلاسة , وكلي ثقة ان الشعب الياباني عندما ضرب التسونامي بعض مدنه ودمرها تدميرا , قد استلهم الهدوء والنظام في تقدمه لاستلام المعونات من الخيرين , من ركاب سفينة نوح وهم يصعدون الى متنها مع علمهم ان الكارثة النازلة بهم ستكون اعتى واشد من اي تسونامي سيمر على الارض .
لا اريد ان انكر كيف للمتناقضات بين تلك الكائنات ان ذابت واضمحلت وحل محلها الالفة والمحبة والوئام . لم يذكر احد ان كلبا عوى على قطة او طاردها استعراضا لقوته وتباهيا بسيطرته على جنس القطط , ولم يتجرأ ملك الغابة – الاسد ان يطارد غزالا رشيقا منظره يسر الناظرين ويسيل لعاب الآكلين - , ولا ذئب نازعته نفسه الامارة بالسوء ان يعدو خلف القاصية من الخراف , ولم يطبق نمر فكيه باسنانه القوية على عنق بقرة خارت قواها هربا من مصير محتوم , وحتى الثعابين اعلنت تآخيها مع الفئران ولم تتسلل الى كابيناتها لتلتهمها هنيئا مريئا . لقد دبر الامر كله مدبر الكون .ومن باب الفهلوة والشطارة ادعي انني اعرف جزءا من ذلك التدبير وهو ان تلك الكابينات كانت محكمة الجدران وكاتمة للصوت حتى ان الساكن هنا لا يعرف من هو جاره الملاصق له ولا يسمع نأمة ولا همسة ابدا , بالاضافة الى ان غذاؤه متوفر وخدمة الغرف متميزة جدا لتلبية الطلبات على اختلافها وفي لحظات .
شيء آخر يربك تفكيري كلما تذكرته , ولأذكر لكم معلومة واقعية يمكنكم التأكد منها ببساطة , وهي ان السفن الخشبية الصغيرة والمتوسطة الحجم والتي كانت واسطة النقل الأساسية بين دول الخليج والهند وبعض شواطئ جنوب شرق اسيا , والتي كان يقودها ويعمل على متنها بضعة بحارة قد يصل عددهم الى عشرين او لنقل خمسين رجلا , كانت تعالج مسألة النفايات البشرية بطريقة بسيطة وعملية جدا , فأنت ترى في مؤخرة السفينة غرفة او غرفتين – حسب حجم السفينة – ملتصقة بجدار السفينة الخارجي . وليس الداخلي , ويسميها البحارة الخليجيون بيت الراحة , وهي فعلا بيت للراحة لأن في دخولهم اليها يفرغون كل ما في جوفهم من نفايات والى البحر مباشرة , والبحر كما نعلم جميعا واسع جدا ولا تمثل تلك النفايات اكثر من بضعة قطرات منه .( ما زالت بعض تلك السفن تتنقل بين امارات الخليج , والبعض منها معروض في متاحفها بكاملها وحتى بيت الراحة ).
قلت ان شيئا يؤبك تفكيري , ما هو ؟؟؟ انه : هل كانت تلك الطوابق الثلاثة من سفينة نوح تحتوي على بنى تحتية لازمة لتصريف نفايات الركاب الى البحر مباشرة لا سيما وان بعض الركاب من الضخامة كما نعلم - الفيل مثلا - الى الحد الذي يجعل نفاياته تناسب حجم جسمه , وان بعضها يفرز سوائل سريعة التعفن والفساد . بالتأكيد ان البحر لم يكن سيرفضها , لكن السؤال كيف كانت تصل اليه , ويزداد ارتباكي عندما اخمن ان الرحلة ربما قد استغرقت اربعين يوما بلياليها , والتي كانت مدة كافية للوصول الى قمة جبل ايفرست نظرا لعتو الرياح وسرعتها الهائلة , كاد انعدام البنى التحتية سيؤدي الى كارثة بيئية لا شك في ذلك , واعلل نفسي بأن الامر قد دبره مدبر الامور .
لم اكن ارغب ان اجعل الجزء الاخير من الرواية مزعجا , فأعذروني لأن السياق قد فرض علي ذلك
لاتعاتبوني لانكم لم تصلوا الى الجودي او ارارات او قمة ايفرست , وتوجب علي الان ان التمسكم ان تأخذوا قسطا من الراحة وان تزيلوا عنكم وعثاء السفر
#البدراني_الموصلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
