|
للسيسي وجوه عتيدة
نرمين خفاجي
الحوار المتمدن-العدد: 4623 - 2014 / 11 / 3 - 23:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكد يظهر على مسرح الأحداث حتى انطلقت عدة شخصات من جعبة التاريخ. حيث تم تشبيهه بمؤسس الدولة الوسطى منتو حتب والرئيس جمال عبد الناصر، مرورا بمحمد علي مؤسس مصر الحديثة كما يعده الكثيرون. التشبيهات قد تكون دقيقة وقد لا تكون، الأهم هو ما حدث من الإنقلاب على حلم العدالة وكل ما تم تحقيقه بالكفاح والدماء، وانهيار الثورة تحت أسلحة وقمع الطغاة. وملء الأجواء بخطاب وطني رديء مشبع بفاشية تبرر قتل واعتقال وسحل الأصوات المختلفة.
وجه الفرعون...إله الحرب والضراوة راض!
عن الفرعون منتو حتب مؤسس الدولة الوسطى التي انتهى حكمها على يد الهكسوس، تحدث وزير الآثار الأسبق زاهي حواس مع صحيفة الجاريان البريطانية مشبهاً "عبد الفتاح السيسي بالملك الفرعوني منتوحتب الثاني في العصر الحديث الذي أعاد إلى مصر الاستقرار بعد قرن من الفوضى". تشبيه حواس هنا قد يكون في محله خصوصاً إذا علمنا أن المعنى الحرفي لاسم الملك "منتو حتب" هو "إله الحرب والضراوة راض." "منتو" هو إله الحرب والضراوة ويصور على شكل صقر له جسد بشري. وقد قام منتوحتب بشن الحرب على كل منافسيه لتوحيد الأقاليم المصرية شمالا وجنوبا لتخضع تحت حكم مركزي هرمي مرة أخرى بعد ثورة كبرى أطاحت بالأسرة السادسة آخر أسرة حاكمة في الدولة القديمة التي يطلق عليها "عصر بناة الاهرام". يمكن التعرف على حياة المصريين في ذلك العصر البعيد من خلال النقوش التي صورت تفاصيل الحياة اليومية ومنها لوحة "كا إم رحو" بالمتحف المصري بالتحرير. تجسد اللوحة عملية جبي الضرائب من الفلاحين فتظهر لقطة لفلاحين اثنين وقد جردا من الملابس والكرامة، وطرحا أرضاً ليتم سحلهما والبطش بهما من قبل جباة الضرائب على مرأى ومسمع من الأهالي. يظهر بتلك اللقطة أيضاً الكتبة وهم يسجلون ما تم تحصيله من ضرائب ووراءهم تبدو أجولة غلال عديدة تستعد لنقلها لخزانة الدولة.
انقلبت عاصمة الإقليم في ساعة في ذلك الوقت البعيد كانت الغلال هي العملة التي تستخدم في المقايضة لسد احتياجات الإنسان الأخرى من ملابس وزيوت وأدوات معيشة. أما الفلاحون فكانوا يمثلون الطبقات الدنيا في المجتمع المصري، وكانت الضرائب المفروضة عليهم تقدر وفقا لمنسوب فيضان نهر النيل، وكانت تُفرض رقابة شديدة على منتجات الحقول من قبل مخبرين تابعين للدولة. ومع تزايد القهر والظلم اللذين ظهرا بجلاء في نقوش مقابر الدولة القديمة انفجرت ثورة عارمة دفعت بالفقراء والمعدمين إلى مهاجمة وتخريب الأماكن التي ترمز لهيبة الدولة مع الإستيلاء على ممتلكات الاغنياء. صورة أدبية للثورة تنقلها لنا بردية الكاتب ورجل الدولة "إيب ور" يقول فيها: "فتحت الدواوين وسرقت كشوف الإحصاء وأتلفت سجلات كتبة المحاصيل". "انقلبت عاصمة الإقليم في ساعة". "ألقيت أوراق دار القضاء في العراء ووطئت بالأقدام في الطرقات ومزقها غوغاء الأزقة"، وأخذ "العوام يروحون ويجيئون في دور القضاء الكبيرة واختفى القضاة في الأرض واحترقت البوابات والأعمدة والأسوار". "أصبح الأثرياء يولولون وغدا المحرمون فرحين". "العوام غدوا في رفاهة، ومن كان منهم حافياً أصبح ذا ثراء عريض". كانت لهذه الثورة عدة نتائج في مصر، منها كسر النظام المركزي الذي يتربع فوق قمته الفرعون، وظهور نظام آخر سُمي نظام "حكام الأقاليم" أتاح الحكم الذاتي لكل إقليم. وبرزت طبقات جديدة لم تعد تعتز بالحسب والنسب، بقدر ما تفتخر بالعصامية، ويعتز فيها الفرد بنفسه، فينقش نصوصاً يؤكد فيها أنه مواطن قادر، يتكلم بوحي من نفسه وليس بإيعاز من غيره سواء كان حاكماً أو كاهناً. ويفتخر بالعمل بذراعه ويحرث بمواشيه والتنقل بقاربه، أي أنه يعتمد في عمله وترحاله على ما تملكه يداه وليس على ما يمتلكه سواه، وقد دون هذا الكلام ليؤكد على حريته وكرامته التي انتزعها بالثورة على استبداد الفرعون وموظفيه. وظهرت طبقة وسطى سمت نفسها بـ"أبناء البلد" وانتعشت أحوال الطبقة الدنيا البسيطة وبدت أدبيات ذلك العصر البعيد في النقوش والبرديات محملة بصيغ اجتماعية وسياسية جديدة مثل: "اعتبر نفسه زوجا للأرامل وأباً لليتيم وأنه آوى من لا عائل له ودفن من لا أهل له"، مع نفي ارتكاب المظالم والنفور منها. واشتملت أيضاً على عبارات تتحدث عن محاربة الفساد وترسيخ العدل. ومن أدبيات ذلك العصر بردية "القروي الفصيح" الذي رفض الخضوع لابتزاز أحد الموظفين الكبار وظل يناضل وراء حقه بكل قوة لم تكن لتتوفر لفلاح بسيط بدون تلك الثورة التي اعادت للفلاحين حقوقهم وكرامتهم. حيث قال في شكايته للحاكم: "قل الحق اذن وافعل الصواب، فالعدل عظيم وخالد". كما اقترنت تلك الثورة أيضا بحالة تحرر من العقائد الدينية، حيث ذكر إيب ور "انظروا ماذا يقول "المتبجح:" لو كنت أعرف أين هو الإله لعملت من أجله. كان هذا هو الحال حتى جاء الفرعون منتو حتب نب حبت رع مؤسس الدولة الوسطى الذي نسب نفسه لإله الحرب والضرواة. ليعاد نفس مسلسل القهر والظلم الذي يستقر فيه الفرعون هانئاً مستريحاً على قمته مستمتعاً بخيرات وثروات استولى عليها بضربات سياط وبطش حاشيته من جباة ضرائب وكتبة وقضاة. يسخر البنائين والنحاتين لبناء معابد الآلهة ليضفي القداسة على ذاته الملكية، ومن حوله مؤرخو وشعراء البلاط ينسجون الأساطير حول ذاته المقدسة.
وجه الباشا.. المشروع الحضاري العظيم
في حوار تلفزيوني بدا فيه الأبنودي في حالة معنوية عالية قال: "لن ينكر التاريخ دوره في أن يرد مصر للمصريين مرة أخرى، وهذا هو ما أعنيه بتشبيه السيسي بمحمد علي بعد أن تخلص من المماليك عمل مشروعه الحضاري العظيم". يمكننا اعتبار هذا التشبيه وجيهاً لعدة أسباب، فقد كان محمد علي رجلاً عسكرياً مثل السيسي، كما تولى حكم مصر بعد ثورة عنيفة كان شعارها الرئيسي "يا رب يا متجلي إهلك العثمانلي". بدأت هذه الثورة في مايو 1805 واستمرت لثلاثة أشهر، حاصرت فيها الحشود الغفيرة حاملة النبابيت والسلاح والطبول القلعة مقر الوالي العثماني "خورشيد باشا" خامس والٍ عثماني خلال سنتين. وقد اشتعلت الثورة بعد فرض ضرائب جديدة على طوائف الصناع والحرفيين، وبعد سلسلة من أحداث السلب والنهب والقتل وطرد الأهالي من مساكنهم من قبل الجنود العثمانيين (الدلاة) الذين جلبهم خورشيد باشا من السلطنة العثمانية ليعضد قوته أمام محمد علي المدعوم بسلطة المشايخ والأعيان والاهالي.
لا نرضى إلا بك والياً علينا بدأت القصة بوصول محمد علي إلى مصر كنائب لقائد فرقة الألبان التي أرسلها السلطان العثماني لطرد الحملة الفرنسية واستعادة مصر كولاية عثمانية. ومع جلاء الحملة الفرنسية ظهر المماليك مرة أخرى على مسرح الأحداث لاستعادة نفوذهم القديم في إدارة البلاد. وكانت حروبهم مع الفرنسيين قد أنهكتهم وخفضت أعدادهم، كما استشعروا قرب زوال النفوذ العثماني، فطمحوا إلى القيام بدور مندوبي القوى العظمى في مصر، وانقسموا إلى فرقتين، واحدة بقيادة الألفي الموالي للإنجليز والاخرى بقيادة البرديسي الموالي للفرنسيين، وعاد المماليك مرة أخرى إلى إرهاق الأهالي بالأتاوات وأعمال العنف، فاشتبكت معهما فرقة الألبان التي أرسلها الباب العالي بقيادة طاهر باشا ونائبه محمد علي واستطاعا طرد الفرقتين إلى الصعيد. بعدها نشب الخلاف بين خسرو باشا الوالي العثماني وقتئذ وبين الجنود الألبان عندما طالبوه برواتبهم فلما رفض حاصروا القلعة واستطاع الهرب ثم قُبض عليه وسُجن. تولى طاهر باشا قائد الفرقة الألبانية الولاية مؤقتاً لحين إرسال والٍ عثمانيا جديد، ولكنه قتل بعدها بأيام قلائل بسبب دعوته المماليك بالعودة للقاهرة مرة أخرى. بعد مقتل طاهر باشا أصبح محمد علي قائداً للفرقة الألبانية، وكان قد عاين بنفسه ضعف المماليك وتآكل النفوذ العثماني بمصر بفعل الحملة الفرنسية وبزوغ نجم المشايخ والأعيان كقيادة سياسية للشعب أثناء ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية وبعدها. ومع تعاظم سلطة المشايخ وعلى رأسهم عمر مكرم ومن خلفهم طوائف الشعب، تحول محمد علي إلى لاعب أساسي على مسرح الأحداث السياسية في مصر بانحيازه إلى الفريق الأقوى، أي المشايخ والأعيان، لكنه حرص في نفس الوقت على الإبقاء على الغطاء العثماني، فأفرج عن خسرو باشا وأعاده إلى كرسي الولاية، إلا أن الفرقة الألبانية عارضت عودته فرحل إلى استانبول. تحالف محمد علي مع خورشيد باشا الذي أصبح والياً لإبعاد المماليك عن القاهرة مرة أخرى، ولكن هذا التحالف انهار بعد فترة وجيزة بسبب تعاظم نفوذ محمد علي، وحاول خورشيد باشا إبعاده باستصدار فرمان عثماني يقضي بعودة الفرقة الألبانية مع قادتها إلى بلادهم. اعترض المشايخ والأعيان على هذا الفرمان وطالبوا محمد علي - الذي دأب على كسب ثقة المشايخ والأهالي بردعه للجنود ومنعهم من الاعتداء على الأهالي- بالبقاء. فاستصدر الوالي أمراً آخر من الباب العالي بتولية محمد علي ولاية جدة لإبعاده عن مصر، بعدها بأيام قليلة أشعل أهالي منطقة مصر القديمة فتيل الثورة بعد أن اعتدى الجنود الدلاة عليهم وطردوهم من بيوتهم وقتلوا بعضا منهم ونهبوا ممتلكاتهم. بدأ الهياج يجتاح جموع الأهالي واتجهوا إلى الأزهر، فأصدر خورشيد أمراً صورياً لجنوده بالجلاء عن البيوت التي احتلوها، ولما امتنع الجنود عن تنفيذ الأمر احتدمت الثورة وتصاعدت الأحداث باجتماع المشايخ والأعيان ورؤساء الطوائف وذهابهم إلى محمد علي. ويذكر الجبرتي أنهم قالوا له: "إنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا ولا بد من عزله من الولاية فقال: ومن تريدونه يكون واليًا قالوا له: "لا نرضى إلا بك وتكون واليًا علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولًا ثم رضي وأحضروا له كركًا وعليه قفطان وقام إليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي فألبساه له". بعد مبايعة محمد علي بدأ الشعب في حصار القلعة لخلع خورشيد باشا يتقدمهم عمر مكرم يشجعهم على الصمود ومواصلة الجهاد. احتشد الثوار من جميع طبقات الشعب حاملين ما استطاعوا الحصول عليه من سلاح، وذكر الجبرتي أن الفقراء كانوا يبيعون ملابسهم ويستدينون من أجل شراء الأسلحة. بلغ عدد الثوار حول القلعة حوالي أربعين ألفاً وصعد إليهم الباعة الجائلين حاملين الخبز والكعك و"القهاوي". استمر الحصار ثلاثة أشهر حتى وصل القاهرة رسول من الاستانة يحمل فرماناً يقضي بعزل خورشيد باشا وتولية محمد علي "والي جدة سابقا" "حيث رضي بذلك العلماء والرعية".
الجانب الخفي للحضارة لم تنته القصة هنا، فقد رسخت أقدام محمد علي على ولاية مصر بعد هزيمة حملة فريزر في 1807. وبعدها بدأ بفرض ضرائب جديدة على الأطيان الموقوفة والمنسوجات والمصوغات والأواني، كما أمر بسحب السلاح من الشعب بدعوى فرض الأمن والاستقرار وقال الجبرتي إن الأهالي بعد هذا الأمر "ازدادوا قهرًا وباتوا على ذلك، وأخذوا يسبون المشايخ ويشتمونهم لتخذيلهم إياهم". بعد فرض منظومة الضرائب الجديدة اجتمع المشايخ في الأزهر بزعامة عمر مكرم لرفع عريضة للوالي تستنكر الضرائب الجديدة وغيرها من المظالم ومنها اعتقال طالب أزهري. لم يتقبل محمد علي مناوءة المشايخ له، فعمل على تقليص نفوذهم بالدسيسة بينهم ثم بعزل عمر مكرم من نقابة الأشراف ونفيه إلى دمياط. بعدها تفرغ للمماليك وقضى عليهم بمذبحة القلعة، ثم تخلص من جنوده الألبان، الذين كانوا يهاجمون الأسواق ويفرضون الأتاوات ويثيرون الفوضى، بإرسالهم لشبه الجزيرة العربية لمحاربة الوهابيين. عندئذ تفرغ محمد علي لإنجاز "مشروعه الحضاري العظيم"، فقام باحتكار الأرض وما عليها من بشر وصناعات ومزروعات، فكان يسخر "فلاحيه" لحفر "ترعه" لتروي "آراضيه" التي تجود بخيرها في "خزائنه" هو وأولاده وأحفاده من بعده، بينما يرفل جموع الشعب في الفقر والقمع والاستعباد ويورد الجبرتي مشهداً لأحد مشاريع محمد علي "الحضارية"، فيقول: "وكان الباشا سافر الى جهة الاسكندرية بسبب ترعة الأشرفية (المحمودية) وأمر حكام الجهات بالأرياف بجمع الفلاحين للعمل فأخذوا في جمعهم فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال وينزلون بهم المراكب وتعطلوا عن زرع الدراوي الذي هو قوتهم وقاسوا شدة بعد رجوعهم من المرة الاولى بعد ما قاسوا ما قاسوه ومات الكثير منهم من البرد والتعب وكل من سقط أهالوا عليه من تراب الحفر ولو فيه الروح". وقد ذكر الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتاب "السخرة في حفر قناة السويس" أنه أثناء حفر ترعة المحمودية وقت محمد علي مات 12 ألف مصري من عمال السخرة نتيجة الجوع والعطش والإرهاق في العمل المتصل من الفجر حتى مغيب الشمس مع التعرض للضرب إذا بدا منهم أي تقصير، وأثناء بناء القناطر الخيرية انتشر وباء الطاعون بين العمال وفتك بجموعهم، أما عن الجيش المصري الذي كونه محمد علي من المصريين عن طريق التجنيد الاجباري فقد ساعد الباشا هو الآخر في إنجاز "مشروعه الحضاري"، بقمع انتفاضة شعبية قامت ضد سياساته المستبدة في الصعيد سنة 1824 بسبب التجنيد الاجباري والضرائب. ويذكر خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا" أنه تم سحق تمرد الفلاحين في مدة لا تتجاوز الأسبوعين وأسفرت الأحداث عن مقتل أكثر من 4 آلاف قتيل.
وجه الزعيم الوطني.. المستبد العادل
بعد مرور شهر ونصف تقريباً على فض اعتصامي رابعة والنهضة، توجه السيسي في 28 سبتمبر 2013 إلى ضريح الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر ليحيي الذكرى ال 43 لوفاته بوضع إكليل من الزهور على قبره. وكان في شرف استقباله "هيكل" و"عبد الحكيم جمال عبد الناصر". أعاد هذا المشهد للذاكرة شخصية الزعيم الراحل، وعد دليلاً إضافياً على العلاقة التي تربط السيسي به، فعبد الناصر تولى رئاسة الجمهورية بعد عزل محمد نجيب، وفي مناخ يعج بالتيارات والحركات السياسية. لذلك طفا على وجه الأحداث صورة كليهما وقد تسيدا المجال السياسي وحددا مواقفهما من الإخوان المسلمين وقضايا الديمقراطية والحريات. وصل الضباط الاحرار إلى السلطة وسط حالة سخط عام على الملك، وفساد الحياة السياسية والبرلمانية التي سيطر عليها حزب الوفد بزعاماته من الإقطاعيين، جنباً بجنب مع مسيرة نضال طويلة ضد الاستعمار ساهمت في بلورة وإنضاج العديد من القوى السياسية. لذلك أعلن الضباط الاحرار أنهم تحركوا من اجل القضاء على الاستعمار والإقطاع وإقامة عدالة اجتماعية. فصدرت قوانين الإصلاح الزراعي وأعلن عبد الناصر أنها "ستحقق السيادة لجميع الفلاحين كما ستحقق لكم العزة والكرامة"، ومعها في نفس الوقت صدر لأول مرة في مصر قانون تنظيم الأحزاب والذي منح وزير الداخلية سلطات واسعة في حل الأحزاب والتضييق عليها لشل القوى السياسية. ارتبطت قوانين الإصلاح الزراعي وقانون تنظيم الأحزاب ببعضهما البعض لكونهما قد ساهما في فتح المجال السياسي للسلطة الجديدة المتمثلة في ضباط يوليو الذين سعوا لإحتكار المشهد السياسي برمته. أكثر من كونهما يهدفان إلى حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مصر، كان الهدف هو كسر شوكة كبار الملاك السياسية بتقليم ملكياتهم الزراعية بالإصلاح الزراعي وبتقليص نفوذهم السياسي بقانون تنظيم الأحزاب. بعد شهر من استيلاء ضباط يوليو على السلطة واعلانهم الإنحياز للفقراء ضد الإقطاعيين، بدأت نذر الثورة الاجتماعية تلوح في الأفق، فوقع اضراب في مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج وتحول الإضراب إلى أحداث عنف، وعلى الرغم من أن مظاهرات عمال المصنع كانت تهتف بحياة قائد ثورة الضباط الأحرار ورئيس الجمهورية آنذاك محمد نجيب، إلا أن ردود سلطة يوليو جاءت مخيبة لآمالهم، فأصدر الضباط إعلان يحمل صيغة تهديد، أكد على اعتبار: "أي خروج على النظام أو إثارة الفوضى خيانة ضد الوطن، وجزاء الخيانة معروف للجميع". وأعقب ذلك عقد محاكمة عسكرية صورية وحكم على اثنين من العمال هما خميس والبقري بالإعدام. سحبت التنظيمات الشيوعية تأييدها ودعمها لضباط يوليو بعد إعدام خميس والبقري، مما أدى إلى تعرضهم لموجات من الاعتقالات والمحاكمات العسكرية السرية على مدار عام 1953. في الوقت الذي بارك فيه الإخوان حكم الإعدام على خميس والبقري حيث دعا سيد قطب وقتها إلى تطبيق حد الحرابة على العمال المضربين. وجاء فوز اتحاد الطلبة المشكل من تحالف الطلاب الشيوعيين والطلاب الوفديين على طلبة الإخوان المدعومين من نظام يوليوفي ديسمبر 1952 ليوضح مدى تدني شعبية الضباط الأحرار وحلفائهم من الإخوان، لذلك قامت سلطة يوليو باعتقال 100 طالب، وصدرت الأوامر بحل الاتحاد وإغلاق الجامعة امعانا في خنق كل بؤر المعارضة.
يوليو والإخوان، علاقة شائكة
كان الإخوان في البداية من المؤيدين لحركة 23 يوليو، ولم يعترضوا على قانون تنظيم الأحزاب الذي استثنى الإخوان من الحل بوصفهم جمعية وليسوا وحزبا. كما أفرجت سلطة يوليو عن الإخوان المعتقلين المتهمين في عمليات اغتيال سياسي باعتبارهم أبطالاً ومناضلين، وأعيد فتح التحقيق في اغتيال حسن البنا. وخاطب عبد الناصر الإخوان قائلاً: "أجد فيكم غايتنا"، "إن البلاد في حاجة إليكم"، "انظروا منذ قامت حركة الجيش، ماذا فعلت؟ إننا نحقق ما ينادي به القرآن". في نفس الوقت تعرضت التيارات الأخرى للقمع والتنيكل، بعد حل الأحزاب وتأميم الصحافة وتغليظ الرقابة عليها، وتعطيل الدستور وشل المناخ السياسي ككل، احتكر الضباط الأحرار كافة القرارات السياسية والسلطات، ورفض الإخوان القيام بدور الشركاء لهم حتى لا تدفع الجماعة ثمن سياسات لم يتخذوها، وبالتالي فقد رفضوا تعيين وزراء منهم في الحكومة، فصدر قرار بحل الجماعة واعتُقل وحوكم بعض أعضائها.
عاد الوفاق مرة أخرى بين الجماعة وعبد الناصر أثناء صراع الأخير ضد محمد نجيب الذي أعلن ضرورة عودة لجيش إلى ثكناته وترك السياسة للمدنيين فيما عرف بأزمة مارس. للخروج من الأزمة تفاوض عبد الناصر مع الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين وقتها لدعم استمرار الضباط في السلطة ومنع عودة الاحزاب السياسية مقابل إعادة الجماعة التي كان قد صدر قرارا بحلها في يناير 1954، مع الإفراج عن أعضائها المعتقلين. بعد عزل محمد نجيب تركزت السلطة في يد جمال عبد الناصر. ثم تصاعدت الأحداث مرة أخرى بعد توقيع إتفاقية الجلاء التي سمحت بعودة انجلترا لاحتلال قاعدة القناة في حالة تعرض المنطقة العربية أو تركيا للخطر. هاجم كل من الشيوعيون والإخوان الاتفاقية، وكان هذا مبرراً مناسباً ليبدأ عبد الناصر حملة شرسة ضد معارضيه، فتخلص من الضباط الإخوان بالجيش عن طريق المحاكمات السرية. ثم عاش الإخوان محنة كبرى من التعذيب والمحاكمات الهزلية أمام ما سمي "بمحكمة الشعب" بعد أن تعرض عبد الناصر لمحاولة اغتيال من التنظيم الخاص للإخوان في أكتوبر 1954. اقترنت المحاكمات بحملة إعلامية لتعبئة الشعب ضد الإخوان من قبل وزارة الإرشاد القومي ووزارة الأوقاف والأزهر "لخلق وعي وطني سليم ووقف الإتجار بالدين"، وقد وجه عبد الناصر خطابا لأئمة المساجد طالبهم فيه بـ"إنقاذ الإسلام من نهّازي الفرص والتضليل والخداع". وقد طالت حملة الاعتقالات المعارضين من كافة القوى. واعتمدت خطابات عبد الناصر قبيل عزل محمد نجيب على تصوير الشعب بوصفه مخدوعاَ ومضللاً ولا يجد من يحنو عليه، مثل: ""طالما تألم الشعب وطالما همس الشعب وطالما صرخ الشعب، وطالما تاه هذا الشعب بين المبادئ المختلفة، طالما خدعوا هذا الشعب في الماضي، أؤمن ان المبادئ ستنتصر، وان المثل العليا ستنتصر، طالما كنتم تؤمنون بالمبادئ وتؤمنون بالمثل. ولاتزال بيانات وخطابات امتداد سلطة يوليو المتمثلة في السيسي مستمرة في مغارلة الشعب وتشبييع المناخ السياسي بخطاب وطني ردييء، فقد جاء بيان القوات المسلحة في يونيو2013، أثناء الأحداث المتلاحقة لعزل محمد مرسي: "لقد عانى هذا الشعب الكريم ولم يجد من يرفق به أو يحنو عليه، وهو ما يلقي بعبء أخلاقي ونفسي على القوات المسلحة التي تجد لزاما أن يتوقف الجميع عن أي شيء بخلاف احتضان هذا الشعب الأبي الذى برهن على استعداده لتحقيق المستحيل إذا شعر بالإخلاص والتفاني من أجله". وأثناء الحقبة الناصرية عاش الشعب منتشيا من خطب عبد الناصر واصلاحاته الاجتماعية -التي لم تغير البينية الاجتماعية في مصر إلا بشكل سطحي- غاضا البصر عن احتكار العسكر للمشهد السياسي بكل مفرداته وعن كافة الإنتهاكات التي كممت أفواه المعارضين سواء بالاعتقالات والتعذيب أو أحكام الإعدام حتى استيقظ الشعب على كابوس هزيمة يونيو.
#نرمين_خفاجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفخار والخزف ..من الطين ينطق التاريخ والفن والجمال
-
دنيا السبح.. فن ووجاهة ..سحر وأذكار
-
الثقافة ..مابين الحقد المسيس وجمع الغنائم
-
حائر ما بين العاشر من أمشير والسابع من يوليو
-
مدينة الرمل الأحمر المتجمد
-
المجد للفاسدين في الأعالي وعلى الثقافة والشعب السلام
-
مصر والثقافة فى عصور مختلفة
-
اساطير مستحدثة
-
انها الحرب
-
ظهور العدرا ومواسم الهجرة الى الشمال
-
المرأة ما بين حقوق الحيوان وحقوق الانسان
-
التراث الشعبي بصمة شعب
-
المسرح الفرعونى
-
الأقباط والاضطهاد والمواطنة والدستور
-
ثورة القاهرة الاولى
-
تعاليم السيد جمال الدين فى وجوب اصلاح الدنيا والدين
-
منظمة ثورة مصر واجواء الثمانينات
-
شعوذات حكام بأمرهم
-
الثورة الفرنسية وملحمة الحرافيش
-
على هامش الاحتفال بيوم المرأة المصرية ..قراءة فى دفتر احواله
...
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|