|
من الأممية- المبادئ إلى الأممية-التنظيم
الرابطة الشيوعية الثورية
الحوار المتمدن-العدد: 1298 - 2005 / 8 / 26 - 13:06
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
(بعد أحداث ماي/(أيار) 1968 في فرنسا، حلت الحكومة الفرنسية الحزب الشيوعي الأممي، الفرع الفرنسي للأممية الرابعة، ومنظمات الشباب التي كان يقودها، الشبيبة الشيوعية الثورية. فاجتمع رفاق التيار التروتسكي في فرنسا بعد حل تنظيماتهم، حول جريدة "روج" التي أسسوها لتقوم بدور المنظم الجماعي. وكانت حقبة بناء تنظيمي ونقاشات واسعة تمهيدا للمؤتمر التأسيسي الذي انعقد سنة 1969 والذي أعلن قيام العصبة الشيوعية، الفرع الفرنسي للأممية الرابعة. ومن أهم النقاشات التي دارت تمهيدا للمؤتمر نقاش حول مسألة الانتساب إلى الأممية الرابعة تم بين ثلاث تيارات: تيار الأكثرية (80% من المندوبين في المؤتمر) وهو القائم اليوم على الفرع الفرنسي، وتيار الأقلية (15% من المندوبين) والشخص البارز فيه يلقب بكرياش –إن هذا التيار الذي تقلصت نسبته إلى ستة بالمائة من التنظيم انشق في العالم الماضي ليشكل منظمة "الثورة" –والتيار الثالث- الماوي العفوي (5% في المؤتمر) الذي ترك بعد المؤتمر التأسيسي. إن النص الذي ننشره فيما يلي هو أحد نصوص تيار الأكثرية، ويناقش وجهات نظر التيارات الأخرى، بعد عرضها وبعد توضيح المفهوم الماركسي اللينيني للأممية مبدأ أو تنظيما. إن هذا النص يشير إلى مسائل يجهلها أو يتناساها معظم دعاة الماركسية في المنطقة العربية
-------------------------------------------------------------------------------- نص تيار الأكثرية المطروح على التصويت لانتخاب المندوبين إلى المؤتمر
"لماذا انتسبنا…"
إن النقاش حول الأممية كثيرا ما تخلله التلافيات والنظرات المليئة بالخفايا. وكان كل عنصر جديد فيه يفهم على أنه هجوم تكتيكي مهيأ بعناية. وبشكل خاص فقد رأى بعض الرفاق في الإنتسابات الفردية إلى الأممية الرابعة التي حصلت من خلال النقاش مناورات للضغط والتخويف. لذلك فإننا نجد من الضروري أن نفسر أمام المؤتمر بشكل علني قراراتنا. إن الجو المحيط بهذا النقاش ليس على الدوام بالصفاء المرجو. إن بعض المناضلين الذين ينتفضون من جراء العجز بقدر ما ينتفضون من نفاد الصبر ينظرون إليه كمشهد كبير في السيرك.
كم من المزارات والكبت و الكتمانات الماضية تدخل في الإستهزاءات الحالية؟ ذلك يصعب حسبانه. إن العديد من المناضلين الذين كانوا قد أرضوا أنفسهم في الماضي برؤية رفاق الأممية الرابعة ينقلون إليهم المكتسبات "الإيجابية" للتروتسكية مع تحملهم وحدهم السلبي فيها و"عبئها"، قد يشعرون ربما بأنهم مذنبون نوعا ما بتهمة التخاذل. وعقدة الذنب التي تتحول إلى شراسة ما هي إلاّ آلية نفسية معروفة. على أننا سنطلب من جميع الرفاق على باب هذا النقاش، أن يتركوا عاطفيتهم خارجا…
ج- وأخيرا فقد رأينا من المفيد أن نحدد موقع موقفنا السياسي ونتيجته التنظيمية بالنسبة إلى فهم معين للمسألة. وقد اقتطفنا لهذا الهدف من "المكتبات المفيدة" إستشهادات طويلة من كلاسيكيات الماركسية، ذلك ليس بهدف استعمالها لتوجيه الضربات كسلسلة من القواعد الموضوعة الواحدة خلف الأخرى. وإنما لإظهار كيف أن قراءة "موجهة" تلقي عليها ضوءا وتربطها بعضها ببعضها الآخر، وكيف أنها هي بالمقابل تعطي إطارا لحل المشكلة.
1- أسس الأممية:
إن الأسس النظرية للأممية قد أغفلت كثيرا مقابل بعض العرائض المبدئية، وهي غائبة بشكل غريب عن بداية النقاش. إن الخلاف التاريخي سريعا ما يغلب على التحليل السياسي. لذلك فمن المفيد التذكير بالمراجع، وان بخطوط عريضة: 1.إن الظروف الطبيعية والجغرافية تشجع في أكثر الأحيان تخصص المناطق أو الأمم ببعض الأنواع من المنتجات الخاصة، (تربية الدواجن، زراعة الحبوب، استخراج المعادن الخام والنفط الخ…)
وتغير من حدة هذه الظروف الطبيعية أو تزيد فيها الظروف الاجتماعية والتاريخية لتطور الأمم. وينتج عن ذلك، إلى جانب أشكال أخرى للتقسيم الاجتماعي للعمل، تقسيم للعمل بين اقتصادات قومية، تقسيم عالمي للعمل.
2.إن تقسيم العمل هذا يؤدي إلى أن على الأمم المختلفة في سبيل إشباع حاجاتها أن تبادل المنتجات التي تملكها بشكل فائض مقابل تلك التي تنقصها، عليها اللجوء إلى تبادل عالمي.
إلاّ أنّ هذا التبادل العالمي لا ينسخ على المستوى الدولي نظاما من المقايضة شبيها بنظام الاقتصاد الإقطاعي، تبادل كل أمة بموجبه فائضاتها مقابل فائضات الأمة المجاورة. إن هذا التبادل العالمي يستند إلى التقسيم العالمي للعمل.
ولكن يجب عدم الاعتقاد بأنه لا يحصل إلاّ ضمن الحدود التي يحددها له كذلك هذا التقسيم. فالبلدان لا تتبادل فقط منتجات من أنواع مختلفة وإنما كذلك منتجات من النوع نفسه. فالبلد الفلاني مثلا يمكن أن يصدر إلى ذلك البلد الآخر ليس فقط بضائع لا ينتجها هذا الأخير أو ينتجها بكميات ضئيلة، وإنما يمكنه كذلك أن يصدر بضائعه منافسا بذلك الإنتاج الأجنبي.
وفي هذه الحالة، يجد التبادل الدولي أساسه ليس فقط في التقسيم العالمي للعمل الذي يقتضي إنتاج قيم بضاعية فقط من أنواع مختلفة، ولكن خاصة "في الفروق بين كلفات الإنتاج، والفروق بين القيم الخاصة (بالنسبة لكل بلد) هذه القيم التي تتلخص في التبادل العالمي، بوقت العمل الضروري اجتماعيا في العالم [2] الذي حددته مواجهة البضائع بعضها لبعض في السوق العالمية.
وأخيرا لا يتوقف هذا التبادل الدولي على تنقل البضائع وتبادلها. إنه يطول أيضا قوة العمل والرأسمال.
"كما أنه في حدود اقتصاد قومي يضبط توزيع قوة العمل بمعدل الأجر الذي يميل نحو مستوى واحد كذلك في إطار الاقتصاد العالمي يتم تساوي معدلات الأجور المختلفة بطريق هجرات لليد العاملة. إن تنقل قوة العمل، بوصفها قطبا من قطبي نظام الإنتاج الرأسمالي، يجد نظيره في تنقل الرأسمال الذي يشكل القطب الآخر. وكما تميل الهجرات إلى تسوية الفروق القومية بعضها بالبعض الآخر، كذلك يميل تنقل الرأسمال إلى تسوية معدلات الربح القومية بعضها بالبعض الآخر، وهو ليس إلاّ أحد القوانين العامة لأسلوب الإنتاج الرأسمالي في اتساعه العالمي". (بوخارين).
3."يقتضي التقسيم العالمي للعمل والتبادل الدولي خلق ووجود سوق عالمية" (بوخارين). وبالطريقة نفسها التي تتشكل فيها في حقل تنقل البضائع، السوق العالمية للبضائع، تتشكل السوق العالمية للرأسمال النقدي التي تجد تعبيرها في تساوي معدل الفائدة ومعدل الحسم. "هكذا يميل العامل المالي هو أيضا إلى المساهمة في إبدال الظرف الاقتصادي لأي بلد منعزل بالظرف العالمي"(بوخارين). ويستنتج بوخارين من ذلك أن "الاقتصاد العالمي ليس مجرد حاصل جمع حسابي لإقتصادات قومية. إن الاقتصاد العالمي يحدد على أنه نظام من علاقات الإنتاج و علاقات التبادل المقابلة يشمل العالم بكليته".
4.وبالتالي فإن صراع الطبقات صراع عالمي. فبطريق تنقل البضائع واليد العاملة و الرساميل والمصالح، تنشأ صلة بين عمال مختلف البلدان كما بين رأسمالييها. "تكمن كل سيرورة الحياة العالمية الاقتصادية في أيامنا في إنتاج فائض القيمة وتوزيعه بين مختلف تجمعات البرجوازية على أساس إعادة إنتاج متزايدة دون إنقطاع للعلاقات بين طبقتين: البروليتاريا العالمية والبرجوازية العالمية"(بوخارين).
وينتج عن ذلك أن التضامن الذي يلحم البروليتاريا العالمية ليس التضامن العاطفي بين الذين يحاربون أعداء من الطبيعة نفسها (أي أرباب عمل يتصفون بنفس الجشع والشراسة، في الهند كما في البيرو)، وإنما هو التضامن الحيوي بين أولئك الذين يجابهون العدو نفسه: البرجوازية العالمية كطبقة. ليس الرابط بين بروليتاريي كل البلدان كل البلدان رباطا تشابهيا يرجع إلى كون العمال في العالم يخوضون نضالات متشابهة ضد أرباب عمل متشابهين، ولكنه رباط عضوي يوقف طبقة مناضلة بوجه عدوها و مضطهديها الدولي. هذا ما كان لينين يشدد عليه منذ عام 1895: "إن سيادة الرأسمال سيادة دولية. وبالتالي فنضال عمال جميع البلدان في سبيل تحررهم لا يمكن أن يتكلل بالنجاح إلاّ إذا قاتل العمال معا الرأسمال الدولي." (مشروع البرنامج).
ونجده منذ مشروع البرنامج في عام 1902 يلخص بقوة هذا الفهم: "لقد خلق تطور التبادلات الدولية و الإنتاج من أجل السوق العالمية، بين جميع شعوب العالم روابط وثيقة إلى حد أنه كان على الحركة العمالية المعاصرة أن تصبح عالمية وقد أصبحت كذلك من أمد طويل. إن الاشتراكية الديموقراطية الروسية تعتبر نفسها كإحدى فصائل الجيش العالمي للبروليتاريا بوصفها جزءا من الاشتراكية الديموقراطية العالمية" (المجلد 6، صفحة 22).
ب – استراتيجية عالمية:
1- التطور غير المتساوي والمركب ونتائجه.
إن فكرة كون الاقتصاد العالمي منظما عالميا ويجد تماسكه على المستوى العالمي، لا تعني تبسيطا لتناقضات الإمبريالية وتحولها إلى تناقض أساسي واحد، ولكن تبقى داخل ذلك الواقع المنظم عالميا، الذي تشكله الإمبريالية، أقسام متميزة تتطور بطريقة غير متساوية ومركبة. وهكذا لا يتلخص صراع الطبقات العالمي في المجابهة العارية بين مجردات عالمية. فالظروف تحدد بشكل قومي: "ليس صحيحا أن الاقتصاد العالمي لا يمثل إلاّ مجرد حاصل لجمع أجزاء قومية متماثلة، ليس صحيحا أن الخطوط الخاصة ليست إلاّ إضافة للخطوط العامة، نوعا من الثؤلولة في وجهها. إن الخصائص القومية تشكل في الواقع خصوصية السمات الأساسية للتطور العالمي. ويمكن لهذه الخصوصية أن تحكم الاستراتيجية الثورية لسنوات طويلة: تشكل الخصوصية القومية الحاصل الأخير والأكثر عمومية لعدم تساوي التطور التاريخي" (تروتسكي –الثورة الدائمة)
ب. التناقضات الرأسمالية الداخلية:
لا يعني التدويل المتزايد للحياة الاقتصادية تدويل مصالح البرجوازية بل بالعكس، لقد زادت حركة التحرر القومي، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، من حدة التناقضات بين البلدان الإمبريالية. كان تنافس هذه البلدان من أجل كسب الأسواق قد أفرغ طوال حقبة كاملة بشكل صراعات وحشية ودموية من اجل كسب مستعمرات. وكانت هذه المجابهة المطموسة في الأدغال و المفازات تكتم كما لو كانت أمراضا معيبة مما كان يسمح للبلدان المستعمرة بالحفاظ على كرامة ظاهرية. إن مد ثورة المستعمرات يرد التنافس بين الرأسماليين إلى قلب البلدان المستعمِرة (بكسر الميم) بالذات، في سبيل تقسيم جديد للأسواق. ويقتضي هذا الأفق مركزة قومية قوية للرأسمال، بأهداف تنافسية. و بهذا الشكل تقابل تدويل الاقتصاد مركزة قومية للرأسمال دون ضمانة من قبل الدولة القومية، تسمح لكل برجوازية قومية بالحفاظ بالشكل الأفضل على موقعها في المزاحمة العالمية.
ج- التناقضات داخل البروليتاريا:
تجني برجوازيات البلدان الرأسمالية المتقدمة أرباحا فائضة هامة من الاستغلال الزائد للشعوب المستعمرة. وهي يمكنها من جراء ذلك أن تمنح الشرائح الأكثر تقدما والأكثر نضالية في طبقتها البروليتارية القومية بعض فتات نهبها الاستعماري. وهكذا تتشكل أرستقراطية عمالية يمكن أن تفهم مصالحها كمصالح مرتبطة بمصالح برجوازيتها القومية، على حساب المصالح الدولية والتاريخية للبروليتاريا. إنها تصل إلى التفكير بتضامن نسبي ومؤقت مع برجوازيتها. هنا يكمن أساس أيديولوجية "المشاركة" وتعاون الرأسمال والعمل التي تربط، في المنافسة الدولية، قسما من الطبقة البروليتارية القومية بالبرجوازية التي تمنحه على حساب البروليتاريا المستعمرة بعض الإكراميات التي يأخذها على أنها امتيازات يجب المحافظة عليها. هكذا تفهم التحالفات القومية كالتي حصلت إبان حرب 1914 الإمبريالية مثلا، التي تتخلى بموجبها البيروقراطيات العمالية، المستندة إلى الأريستوقراطيات العمالية، عن المصالح الدولية للبروليتاريا من أجل الدفاع عن الموقع الدولي لبرجوازيتها وعن الامتيازات الهزيلة رغم ذلك، التي تحصل عليها منها. هنا يكمن منبع الشوفينية
2- نفي كل نظرة استراتيجية:
يقضي قانون التطور غير المتساوي والمركب بكون جبهات صراع البروليتاريا ضد البرجوازية غير متماثلة، وبكونها لا تنفق كمجرد تقسيمات فرعية، المجابهة الدولية بين البروليتاريا والبرجوازية. إن هذه الجبهات متنوعة. ولكن هذا التنوع لا يعني أيضا التجاور الجغرافي لجبهات خاصة غريبة كل منها عن الأخريات. إن هذه الجهات هي على العكس في تفاعل معقد، تتعلق كل منها بالأخريات بشكل متبادل، ومن عدة جوانب. ويبين ذلك بجلاء مثل بديهي هو مثل الثورة الفيتنامية. إنها تحتل في الصراع الدولي موقعا يتجاوز من بعيد موقع نزاع محصور داخل حدود فيتنام. إنها على الصعيد الموضوعي، تجمد في فيتنام قسما مهما من القوات العسكرية الإمبريالية، بحيث أنه كان مثلا من الصعب على الولايات المتحدة أن توظف قوات في فلسطين خلال حرب الأيام الستة أو في فرنسا في ماي/(أيار) 1968، وعلاوة على ذلك تضعف حرب فيتنام الإمبريالية الأمريكية داخليا (الحركة المعادية للحرب، نضال السود)، وأخيرا على الصعيد الذاتي تضع الثورة الفيتنامية جيلا كاملا من المناضلين تحت علامة الثورة المنتصرة، وتثبت لهم بأن النضال ممكن وتشجعهم على الولوج في النضال (أنظر دور الثورة الفيتنامية في نمو الطلائع الجديدة).
لا يمكن الاكتفاء بتسجيل العلاقة المتبادلة بين جبهات النضال على المستوى الدولي، والقول بالتالي بأن كل شيء يؤثر على كل شيء وأن كل مد ثوري في أوروبا يساعد بشكل معين بتطور ونضال الطلائع الباتاغونية أو الإسكيمو! إن الاستفادة القصوى من حركة العلاقات المتبادلة بين الجبهات هذه واستغلال الحلقات الأضعف للإمبريالية يتطلبان استراتيجية عالمية، تقدر التناقضات الرئيسية وتسمح بتوزيع واع للقوى وبموازنة الجهود.
بعكس هذه الضرورة لاستراتيجية عالمية، ترجع عدة مفاهيم للصراع الطبقي العالمي في الواقع إلى إزالة كل جنين لاستراتيجية ما.
فيرجع مفهوم «أول»(Uhl) إلى نفي كل استراتيجية بتأحيد النضالات وبإلغاء مكونات الكل المركب الذي يشكله الصراع الطبقي العالمي فلا يبقى إلاّ نضال واحد هو نفسه أينما كان بين المستغلين والمستغلين. و نضالات التحرر القومي ما هي إلاّ أحلام تحن إلى الماضي، أو تنازلات للذهنية البرجوازية الصغيرة. ذلك هو موقف روزا لوكسمبورغ حول بولونيا وأوكرانيا في كتابها "الثورة الروسية". إنها تبالغ في تقدير الخطوط العامة لتطور الإمبريالية، والاستقطاب المتزايد على المستوى العالمي بين قطبي البروليتاريا والبرجوازية على حساب الأطر القومية للصراعات الطبقية. إن فهما كهذا حتى وإن رافقه موقف ثوري حقا، ينطلق من جذور نظرية كاوتسكي الإصلاحية نفسها حول الأولترا-إمبريالية، القائلة بأن الثروات ووسائل الإنتاج تتركز على الصعيد العالمي بين أيدي حفنة من البرجوازيين بينما تنتفخ صفوف البروليتاريا بانتظام من جراء تفكك الشرائح المتوسطة. ذلك إلى حد أن أفق الصراع العنيف يغدو نافلا. فإنه من الأفضل الإسراع في السيرورة "الطبيعية"، مع التفكير بأن تطور ميزان القوى العددي سيسمح بنزع سلمي لملكية حفنة البرجوازيين التي ستحرم من الركيزة الاجتماعية. إن مفهوما كهذا يحول الصراع الطبقي العالمي إلى رؤية نظرية دون استراتيجية ولا تاكتيك. ويلغي مفهوم ثان كل إمكانية للاستراتيجية بتقسيم الكل إلى أجزاء متجاورة. هكذا تفعل التيارات الصينية التي تقوم، إلى جانب جنين استراتيجية (نظرية منطقة العواصف)، بتفكيك نسيج النضال الأممي بنظرية الثورة على مراحل. فعلى شكل العدائين المصفوفين كل في ممره، على الأمم أن تقوم باجتياز المجرى التاريخي نفسه، وكما على كل عداء أن يصل إلى المتر الخامس والعشرين ثم إلى المتر الخمسين ثم إلى المتر الخامس والسبعين قبل أن يقطع الشريط، كذلك على كل أمة أن تمر بالثورة الديموقراطية البرجوازية قبل أن تتمكن من الطموح للاشتراكية. في مفهوم كهذا لا يبقى للتفاعل بين جبهات الصراع أية نتيجة تقريبا، فوجود الثورات المنتصرة لا يغير شيئا أساسيا في ظروف الصراع وقيمتها فقط في كونها مثلا يقتدى به، إنها تسمح بدروسها بتجنب العقبات والانحرافات. وهكذا يرجع النضال العالمي إلى تزاحم أجزاء متجاورة، متماثلة، تعيد قطع الطريق نفسه. ويأتي الإلهام من مثل النضالات الماضية، مما يسمح بالإستغناء عن إستراتيجية. وتكمن الاستراتيجية الوحيدة في إعطاء النسخة الأفضل عن النموذج الثوري، لا في تملك فهم إجمالي لساحة الصراعات.
1-إطار استراتيجي: نظرية الثورة الدائمة"
"تبين نظرية الثورة الدائمة أن تحقيق المهام الديموقراطية التي تطرح على البلدان البرجوازية المتأخرة يقود هذه البلدان مباشرة إلى ديكتاتورية البروليتاريا، وأن هذه الأخيرة تضع المهام الاشتراكية في حيز التنفيذ" (تروتسكي، الثورة الدائمة ص 51). ويعني هذا خاصة أن تطور الثورات لا يحصل بناء على قانون ترداد تاريخي. ليس هنالك مكان في عصر الإمبريالية لنمو برجوازيات قومية مستقلة سياسيا واقتصاديا. إن البرجوازيات الكومبرادورية مرتبطة بشكل حيوي بدعائمها الدولية (العملاء الآسيويون أو الأميركيون-اللاتينيون)، وينتج عن ذلك أن الثورة في البلدان المستعمرة لا يمكن أن تتوقف في مرحلة وسطية دون التعرض بشكل خطير لخطر الثورة المضادة التي قد تصدرها الإمبريالية عند الاقتضاء. إن الوسيلة الوحيدة لضمان الثورة هي في تدمير جهاز الدولة البرجوازي بالضبط قبل أن تتوطد دعائمه. على الثورة أن تكون اشتراكية أو لا تكون. هذا لا يعني أنها سوف تكون حتميا اشتراكية وإنما عليها أن تنزع نحو الثورة الاشتراكية وتفهم أن إطاحة البرجوازية هي هدفها، وإلاّ كانت تحت رحمة إرتدادات رجعية. ليست الثورة الاشتراكية محتومة، ولكن الطليعة المناضلة تحدد المراحل الوسيطة والآفاق الاستراتيجية، تبعا لهذا الهدف
ب.بعد الاستيلاء على السلطة السياسية، تتميز الثورة الاشتراكية ذاتها بحقبة من "الصراع الداخلي المستمر". "تحتفظ الأحداث الجارية بالضرورة بطابع سياسي لأنها تأخذ شكل صدامات بين مختلف تجمعات المجتمع المتحول، وتتعاقب انفجارات الحرب الأهلية والحروب الخارجية، وحقب الإصلاحات "السلمية". وتشكل الانقلابات في مجالات الاقتصاد والتقنية، والعلم، والعائلة والآداب والعادات، خلال حصولها، تركيبات وعلاقات متبادلة معقدة بشكل لا يسمح للمجتمع بالوصول إلى حالة توازن. وفي هذا يظهر وينجلي الطابع الدائم للثورة الاشتراكية بحد ذاتها" (تروتسكي) وبعد استلام السلطة، طالما استمر في الوجود نظام رأسمالي دولي، تبقى الثورة مهددة من قبل الرجعية الداخلية والخارجية. وتكمن المهمة الرئيسية في إبقاء السياسة في مركز القيادة، أي في عدم الرضوخ لإغراءات التنافس الاقتصادي، وفي الاستمرار في قيادة الثورة طبقا للمصالح الأممية للبروليتاريا العالمية.
ج- لا تشكل الثورة القومية هدفا بحد ذاتها. إنها لا تمثل إلاّ حلقة من السلسلة العالمية. وتمثل الثورة العالمية، رغم تراجعاتها وفترات الجزر المؤقتة، سيرورة دائمة" (تروتسكي). ليس ثمة ثورة اشتراكية منتصرة نهائيا ضمن تخومها القومية الخاصة، بوسعها العيش كحبيسة داخل النظام الرأسمالي العالمي. ويظهر ذلك مثل الإتحاد السوفياتي الذي دخل بعد حقبة من الإستكفاء النسبي في مزاحمة في الأسواق العالمية مع الأقطاب الإمبريالية، ونسج روابط مع المؤسسات الرأسمالية. إذا كان من الممكن للثورة أن تنتصر في فترة أولى داخل الإطار القومي، بإطاحة الدولة البرجوازية، فهي لا تفلت على أمد أطول من شبكة النظام الدولي: "لا يحل قانون التطور غير المتساوي محل قوانين الإقتصاد العالمي ولا يلغيها، إنه ينحني أمامها ويخضع لها" (تروتسكي "الثورة الدائمة" ص 140 من الطبعة الفرنسية). مما يعني بأن الثورة لن تنتصر فعلا إلاّ عندما يتم القضاء على قوانين الرأسمالية على المستوى العالمي بتدمير النظام الإمبريالي بمجمله. لهذا تبقى مصالح كل ثورة ظافرة خاضعة للمصالح الدولية للبروليتاريا العالمية.
د- تسمح نظرية الثورة الدائمة هذه التي تشدد على التطور غير المتساوي والمركب وعلى الطابع العضوي لصراع الطبقات العالمي، وعلى التأثير المتبادل التام بين الجبهات، تسمح بقراءة وبفهم استراتيجيين للظواهر الجديدة. وما يفهمه علماء الإجتماع والجامعيون على شاكلة ماركوز على أنه ظواهر هامشية يلقى عليه الضوء بشكل مختلف إذا فهمنا التركيب الدولي للقوى الإمبريالية و للستالينية، وتكاملهما وحلقاتهما الضعيفة المشتركة. وهكذا فالـ"قوة السوداء" أو الحركة الطلابية التي تشكل بالنسبة للدوغمائي أحداثا عرضية حثالية، و نضالات للمؤخرة، تأخذ معنى آخر وكثافة سياسية مختلفة. والأمر نفسه بالنسبة لثورة المستعمرات في مجملها وللثورة الفيتنامية بشكل خاص إذا فهمت على أنها مفتاح الوضع العالمي في وقت معين. وعلى الأخص لا توجد قراءة محايدة صحفية للأحداث السياسية، وإنما فقط قراءة استراتيجية. ونظرية الثورة الدائمة تقدم لنا الشبكة اللازمة. لم تكن أهمية فيتنام تأتي بالنسبة لنا من الأهمية التي كانت تعطيها إياها الصحافة الرأسمالية في الصفحة الأولى، ولا من الإستنكار الإنساني الذي كان يمكن أن ينتج عن ذلك. الماويون كانوا يرون فيها الدليل الأسطع على صحة نظرية منطقة العواصف، وهذا يشكل بحد ذاته قراءة استراتيجية بدائية.
أما نحن فكنا نقرأ فيها عملية ثورة دائمة، وإعادة إنطلاق للثورة العالمية تنخر الوضع القائم وتضعف الإمبريالية وتهدد الجمودية اللازمة لبقاء الستالينية. كنا نرى فيها نقطة إنقلاب الوضع الدولي. مما كان يسمح بقراءة وفهم لكتابات لي ذوان غير فهم الماويين لها، ويسمح بفهم لدعم الثورة الفيتنامية وأهميتها ودورها في إطلاق طلائع جديدة غير فهم منظمة "الصوت العمالي" السابقة أو "الجبهة الطلابية الثورية" السابقة، ومما كان يسمح بمفهوم للجان فيتنام غير مفهوم "اتحاد الشبيبة الشيوعية الماركسية اللينينية" السابق وبتقدير لتلاقي الأحداث غير تقدير العالم ثالثيين أو الفانونيين أو غيرهم.
وفي الواقع، وحده إطار الثورة الدائمة كان يسمح بقراءة استراتيجية لا حكائية للأحداث الرئيسية للسنوات القريبة الماضية.
ج- بناء أممية:
1-لا إستراتيجية دون تنظيم.
لا يكفي ملاحظة التفاعل بين جبهات الصراع المختلفة على المستوى الدولي و الإستنتاج من ذلك بأن هنالك بعدا استراتيجيا للصراع الطبقي الدولي. إن إستراتيجية كامنة في الأحداث ليست إستراتيجية. وليس هنالك إستراتيجية إلاّ متى يستعمل الإرتباط المتبادل بين الجهات ويستغل بشكل واع من قبل قوة منظمة على المستوى الدولي بوسعها أن تنتج هذه الإستراتيجية وتضطلع بها.
أ- إن ميزة هذا التنظيم الدولي هي في أنه يمثل تنظيميا المصالح التاريخية العامة والعالمية للبروليتاريا. هذا ما يسمح لنا بأن نفهم كيف أن لينين اعترف في المؤتمر الثاني لشعوب الشرق لحفنة من المثقفين المنغوليين بحق حمل لقب "حزب شيوعي". مع أن البروليتاريا المنغولية شبه معدومة وأن إنغراس المثقفين في الجماهير لا يذكر، فهم مع ذلك الحزب الشيوعي المنغولي لأنهم من جراء إنتمائهم إلى الأممية مناضلون في حزب الثورة العالمي، ولأنهم من جراء استنادهم إلى إستراتيجية الأممية يمثلون المصالح التاريخية للبروليتاريا العالمية. ومن المهم التشديد من هنا، بصدد هذا المثل الدقيق، على أن تعريف الطليعة المنغولية ليس تعريفا وصفيا (درجة الإنغراس في الجماهير) وإنما برنامجي (خط الأممية الشيوعية) أي إستراتيجي.
ب- ليست الأممية فقط "الدماغ المفكر" للثورة، إنها لا تكتفي بنشر إستراتيجية ثورية، بل تمارسها. مما يعني أنه عليها أن تقوم باختيارات إستراتيجية من حيث التوظيف المالي والنضالي، وتوزيع الكوادر، وتوزيع المهام داخل التنظيم..الخ. ومما يعني أيضا القدرة على تطوير هذه الإستراتيجية وتحديدها من حيث التكتيك، مثلا بالتقدير الملموس للحلفاء الممكنين (دور الكاستروية في أمريكا اللاتينية، التيارات الصينية) أو بمواقف لا تغلق الباب بدوغمائية أمام كل إمكانية نضالية.
ج-أي أن الأممية، لأنها ليست قطعة أثاث تحافظ خلال التاريخ على مجموعة من الأقوال وإنما لأنها تقيسها بشكل دائم على مقياس الممارسة تسمح بتجنب إنتقاصات النزعة الأممية. الانتقاص الكتبي و الدوغمائي الذي يقارن الواقع الحي لصراع الطبقات "بالكتابات الكلاسيكية" التي يبدو أنها قد حددت نهائيا معيار الأممية الموضوع مع المعايير الدولية للطول والوزن والسعة في بروتوي، و الإنتقاص العفوي مثلما فعلت جماعة "فالتشي مارتللو" التي قبلت "تكتيكيا" ولمدة من الزمن بأن تسكت عن كل مكسب إستراتيجي وتنظيمي لكي لا ترفع حواجز مصطنعة بين الطليعة المحددة والطليعة المحتملة. وكان يتم تصور هذا التنازل في بادئ الأمر على أنه مؤقت ويمكنه أن يسمح بتنمية "تربية سياسية" أي بالإنطلاق بمشية الطليعة المحتملة ذاتها التي ما زالت مشوشة، من أجل جعلها تمر بالطريق نفسه مع لعب دور الدليل. هكذا يتم التخلي عن كل أممية استراتيجية لمناداة الوتر الأمامي العاطفي، بإطلاق النداء للتضامن الواقع مع كل الذين يناضلون حاملين السلاح. إلاّ أن التخلي المؤقت عن كل رسم للحدود السياسية والتنظيمية له دينامية خاصة، هي دينامية الذوبان.
د- أخيرا وآخذا بعين الإعتبار لظاهرة تبقرط القيادات العمالية نشهد ظهور أحزاب سياسية تمثل مصالح هذه الشرائح. إنها تبقى أحزابا عمالية بتركيبها الاجتماعي، ولكنها برجوازية من حيث موقعها الطبقي، وهي تدافع عن إمتيازاتها التي لا تنفصل عن المكانة التي كسبتها برجوازيتها في السوق العالمية. وبتعبير آخر، فإنها مستعدة في نزاع دولي للدفاع عن برجوازيتها حتى بثمن مجزرة مع بروليتاريا البلدان المجاورة، وذلك للحفاظ على منافعها الخاصة: "إن الحزب العمالي البرجوازي نموذجي ومحتوم بالنسبة لكل البلدان الإمبريالية" (لينين المجلد 23 –ص 128) ولهذا السبب، يضيف أن "برنامجا وتكتيكا بروليتاريين على وجه الحصر هما برنامج وتكتيك الاشتراكية الديموقراطية الثورية العالمية”.
2-حالية المشكلة وإلحاحها:
أ- إن تناقضات الإمبريالية في احتداد، وينتقل التشديد من المنافسة الاستعمارية إلى المنافسة بين الرساميل التي تشمل البلد المستعمر. وينتج عن ذلك هامش مناورة محدود بالنسبة للبرجوازيات.
ب- إن المد الثوري الذي نعرفه هو الأكثر شمولية منذ أي وقت مضى. إن المجابهة المباشرة مطروحة في كل أجزاء العالم. وإنها موجة ثورية لا سابق لها في التاريخ، تتجاوز من بعيد موجة سنوات 1918-1920 التي كانت محدودة ببلدان أوروبا الغربية. إن هذا المد يطرح على بساط البحث حالية وإلحاح أممية تسمح بالتدخل الواعي والمحسوب من قبل الثوريين في هذه الحقبة من انهيار الإمبريالية. و علاوة على ذلك فإن اتساع المد يسمح، وللمرة الأولى ربما، بتصور أممية تكون فعلا منظمة إنتاج جماعي وليس مجموعة تجمعات ثورية حول مركز مهيمن (إنكلترا بالنسبة للأممية الأولى، ألمانيا بالنسبة للثانية الإتحاد السوفياتي بالنسبة للثالثة).
ج- وأخيرا فإن أزمة الستالينية المتلازمة مع هذا المد الثوري وتزعزع الإمبريالية، تحرر بروز طلائع جديدة وتطلق العناصر المناضلة لأممية جديدة.
3- مبدأ التنظيم الأممي وأنظمته.
أ-ليس وجود الأممية ضرورة ظرفية متعلقة بمهام محددة ولكنه هدف وضرورة دائمة تعبر عن المبادئ الإستراتيجية للأممية البروليتارية في حقبة حالية الثورة. لهذا يجهد لينين بشكل دائم في سبيل تحديد نظام تنظيمي يهدف إلى تطبيق المبادئ: "لقد ماتت الأممية الثانية، هزمتها الانتهازية. فلتسقط الانتهازية ولتحيى الأممية الثالثة التي تخلصت ليس من الخونة فقط ولكن أيضا من الانتهازية! لقد حققت الأممية الثانية من جهتها عملا تحضيريا مفيدا في تنظيم الجماهير البروليتارية، خلال عصر سلمي طويل كان عصر العبودية الرأسمالية بأقسى أشكالها والتطور الرأسمالي بأسرع وثائره: الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وتعود للأممية الثالثة مهمة تنظيم قوى البروليتاريا بهدف الهجوم الثوري على الحكومات الرأسمالية والحرب الأهلية صد برجوازية كل البلدان في سبيل السلطة السياسية، في سبيل إنتصار الإشتراكية!" (لينين المجلد 21 ص35). هكذا منذ إفلاس الأممية الثانية أعلنت الثالثة وطرح المشروع، حتى ولو أن تحقيقه ليس ممكنا على الفور. إن الانتقال سيؤمنه مع ذلك تجمع دولي جديد، بذهب لينين حتى إلى الإنعام عليه بلقب: أممية زيمرفالد. وكذلك منذ عودته إلى روسيا يضع مشكلة الأممية في حيز التنفيذ. "تجديد الأممية.. أخذ المبادرة في خلق أممية ثورية ضد الإشتراكية الشوفينية وضد الوسط".
هكذا يجهد لينين على الدوام لتكريس المبادئ الأممية بنظام تنظيمي يعطيها أفضل تجسيد ملموس، أخذا بعين الاعتبار للظروف والشروط التاريخية.
إن القضية إذن واضحة. إذا قبلنا بأن مسألة الأممية هي مسألة مبدئية وجزء لا يتجزأ من نظرية التنظيم اللينينية، فلا يمكن التفكير بتركيب أمميات للمناسبة لا علاقة لها بهذه المبادئ. ولا يمكن أيضا اعتبار أن الأممية ضرورية في حقبات معينة، ولمهام معينة والسكوت عن القضية في بقية الوقت. إن مسألة بناء أممية مسألة تطرح نفسها على الدوام بالنسبة لنا. ولا يتم إعطاؤها الجواب الصحيح بالقيام بجردة للقوى "الثورية" الحقيقية والمناضلة. ليست الأممية من اهتمام المرتزقين: يجب البحث عن جواب للمسألة بتعابير برنامجية، على الأممية أن تعبر عن الموقف الإستراتيجي للبروليتاريا العالمية. هنا يكمن مبدأ تحديدها. وتعبر عن هذا المبدأ أنظمة تنظيمية تلائمه إلى هذا الحد أو ذاك: أممية قتالية في بعض الحالات (الثالثة عام 1920) أممية بالوكالة (أممية زيمرفالد)، أممية كوادر (الأممية الرابعة) في حقبة تراجع الحركة العمالية.
وفي أي حال من الأحوال ليس رسم حدود الأممية قضية عدد ولا مسألة إنغراس في الجماهير المكسوة بالشعر والمتراصة وإنما هو مسالة موقف استراتيجي.
"لم يعد بالإمكان القبول بمستنقع زيمرفالد. لم يعد بالإمكان البقاء بسبب كاوتسكيي زيمرفالد المرتبطين نصف ارتباط بأممية أمثال بليخانوف وشيدمان الشوفينية. يجب القطيعة حالا مع هذه الأممية. يجب البقاء في زيمرفالد فقط بصفة مراقبين.
"يتوجب علينا نحن بالتحديد وفي الساعة الحالية بالتحديد أن نؤسس دون تأخير أممية جديدة، أممية ثورية، بروليتارية. ومن الأصح القول بأنه يجب ألا نخشى أن نعلن بصوت مرتفع أنها قد تم تأسيسها فعلا وأنها تناضل.
"إنها أممية الأممين الحقيقيين الذين عددتهم أعلاه وهم حفنة ضئيلة. هم وهم وحدهم ممثلو الجماهير الأممية الثورية لا مفسدوها.
«هؤلاء الإشتراكيون ليسوا كثيرين. ولكن ليتساءل كل عامل إذا ما كان يوجد في روسيا عشية ثورة فبراير/(شباط-مارس/(آذار) 1917 كثير من الثوريين الواعين. ليس العدد هو المهم، وإنما المهم هو التعبير الأمين عن أفكار وسياسة البروليتاريا الثورية حقا. ليس الجوهري في إعلان الإيمان بالمبادئ الأممية ولكنه في أن نعرف كيف نكون حتى في أصعب الأوقات أمميين حقيقيين" (لينين المجلد 24 –ص 75).
د-أيـــة أمميـــة؟
"كان بعض الرفاق يخشون أن يدفعنا تصميمنا إلى العزلة. لا أيها الرفاق! إن تصميمنا يعزلنا عن أولئك الذين يترددون. ولا توجد سوى وسيلة واحدة لمساعدة المترددين. وهي أن يكف المرء نفسه عن التردد". (لينين المجلد 24 –ص 331).
1-صيغة الإختيار. إذا كنا نطرح مسألة أن نبني اليوم وأمام مد الثورة العالمي وأمام إلحاح المهام الناتجة عنه شكلا تنظيميا يجهد في التعبير عن المبادئ الأممية فإنه علينا أن نتجنب حرف الحلول بطرح أسئلة خاطئة.
أ-أولا لا يمكن أن تكون المسألة مسألة اختيار، وذلك خطأ فادح يمكن في استعراض كل ما هو موجود (التيار الصيني، منظمة التضامن الأمريكية-اللاتينية، المؤتمرات الطلابية، الأممية الرابعة)، من أجل الإبقاء على الأقل سوءا. فالأمر لا يتعلق بمباراة استبعادية يختمها اختيار سلبي، وإنما هو في الإختيار بشكل إيجابي أو في بناء المنظمة التي تعبر بالشكل الأفضل برنامجيا عن المبادئ الأممية.
ب-ولا ينبغي كذلك إرجاء الجواب بحجة النقص في المعلومات وعدم المعرفة الكافية للقوى الحقيقية وإنغراسها. الخ.. إن موقفا كهذا ينطلق من مفهوم تجريبي (برجوازي) للمعرفة: لا يعرف المرء إلاّ ما قد رأى. فيجب أمّا التثبت من مصادر المعلومات، وما هي ضمانات موضوعيتها: ما هو التأويل السياسي للواقع الذي تنقله؟ أو يجب البحث عن نتف من الوثائق حسب مصادفات الهجرات السياسية. إن حجة عدم المعرفة الكافية تحكم إجمالا على صاحبها بمصير رحالة ثوري: فإما أنه سيكون عليه الوثوق بمصادر مختلف للمعلومات غير متجانسة سياسيا، وغالبا ما تكون غير محددة بوضوح، أو أنه سيكون عليه أن يجوب العالم بنفسه لكي يتحقق. وعلاوة على ذلك، متى انتهت الجولة حول العالم، وبما أن الوضع سيكون قد تغير منذ الإنطلاق، فقد يكون عليه البدء من جديد… لا يمكن الخروج من المشكلة إذا بقينا على أرضية المعرفة التجريبية للصراعات الدولية، ولا يمكن حلها إلاّ إنطلاقا من نوع آخر من المعرفة، المعرفة الإستراتيجية التي تشمل الموقف البرنامجي للتجمعات الثورية المعنية. طبعا لا يشكل ذلك ضمانة كافية ولكنه الضمانة الوحيدة الضرورية التي يمكن تحديدها. لهذا تبدو حجة الصبر القائلة بأنه لا يمكن الحكم على الأممية الرابعة لعدم معرفة فروعها حجة واهية. فإذا كنا نعتقد بأن ثمة علاقة بين برنامج منظمة ما أو حتى إطارها البرنامجي، وبين حياة هذه النمظمة ذاتها، فإنه يجب حينذاك التساؤل حول برنامج الأممية الرابعة وليس تفكيكها لمعرفة ما إذا كانت آلاتها سليمة.
ج- وأخيرا لا يمكن إبدال هذه الإنتظارية المبررة بالتجاهل، بانتظارية أخرى ترفض رسما للحدود سابقا لأوانه ويمكنه أن يرفع حواجز بيننا وبين قوى غير مصفاة بعد. إن البعض، بحجة عدم تنمية خصوصيات دولية، على استعداد دائم لتنمية خصوصياتهم القومية، مثلما كان البعض بحجة عدم خلق خصوصية قومية مستعدين على الدوام لإدامة خصوصيتهم الإقليمية. هكذا كانت "مجموعة 66" في مرسيليا تعتبر كعمل مدع عام 1966 "الإعلان عن الذات" كمنظمة قومية (على امتداد فرنسا) لن تكون في الواقع إلاّ اتحاد مجموعات. كان في رأيها أن من الأفضل خلق مجموعات محلية، والمواجهة فيما بينها في دورات لتبادل الخبرات الخ… لكن التنظيم القومي قد سمح بإيجاد تجانس في الطليعة، وبالتعويض عن عدم التساوي بين المناطق وبإفادة المدن غير الصلبة من ثقل المنظمة القومية. وقد استطاعت :مجموعة 66" بأن تتعيش في ظل هذه المنظمة. واليوم، يتمنى البعض وينتظرون تطور بعض التيارات الكاستروية، والماوية والعفوية. ولتسهيل هذا التطور يريدون أن يتجنبوا التسرع: يريدون معاملتها كرفيقة طريق، وتناول الخبز النظري معا، ويريدون أن يقطعوا برفقتها طريق الوحي المسيحي الطويلة. كفى خمولا! إن وضع منظمة دولية بوجه هذه التيارات ليس خلق عقبة تنظيمية مصطنعة، إنه طرح مسألة سياسية أساسية عليها، لا كلاميا، وإنما في نتيجتها العملية. لا يعني ذلك إضافة بعد جديد لنفسنا لكي نستعمله بالنسبة للتيارات الأخرى كحكاية الجزرة والحمار، وإنما هو طرح قضية الإستراتيجية الثورية إنطلاقا من نظرة مختلفة نوعيا. إن الطريقة الوحيدة اليوم لتطوير التيارات المشوشة حول قضايا الأممية والاستراتيجية العالمية هي في تجاوز الثرثرات المجاملة وفي طرح هذه المسائل دون فصلها عن تكريسها التنظيمي.
د-في غشت/(آب)، كان واضعو هذا النص قد دافعوا عن موقف قائل بأن علينا القيام بتحول مزدوج: تتحول الأممية الرابعة بالاستفادة من نتائج الدخولية بينما نتحول نحن من تيار قومي إلى منظمة تمارس الأممية. كان هذا الموقف مجردا ومثقفا من ناحيتين على الأقل: فكان من جهة يطرح المشكلة كقضية مفاوضات بين فريقين متساويين دون أن يرى علاقة عدم التساوي بين منظمة دولية وتجمع قومي له ممارسة أممية إلى حد معين، وإنما يملك تربية أممية ضعيفة وفهما شبه معدوم للأممية البروليتارية. وكان إدخال وهم التعادل هذا في النقاش يعني رعاية وهم آخر أكثر خطورة: أي أن النقاش سيتم "بنظافة" بمستوى جيد، بين متناقشين من القياس نفسه، وكان ذلك يعني تشجيع كل الإدعاءات، وكل تنظيرات الخلافات الهادفة إلى رفع الضغائن والترددات أو حتى مجرد الخمول السياسي، إلى مستوى الخط أو التوجيه.
2-التصفويون الماويون-العفويون
ج-في الواقع يصل النص رقم 9 إلى مفهوم أممية متشتتة: "يتغير طابع الأممية تبعا للعصور، حتى أنها يمكن أن توجد أو لا توجد". ماذا يعني هذا؟ ليس فقط وجود التنظيم هو ما يتم طرحه على بساط البحث، وإنما كذلك إمكانية استراتيجية دولية : قيمكن للإستراتيجية أن توجد أو لا توجد، حسب الظروف. وهكذا يرسم النص رقم 9 تسلسلا تاريخيا يثبت أنه لم يوجد على الدوام أممية: فقد وجدت "فراغات" بين الأولى والثانية، وبين الثانية والثالثة. لا يقال مم تشكلت هذه الفراغات، وكيف تم ملؤها جزئيا بالصلات الدولية التي حافظ عليها ماركس وإنجلس، وبأممية زيمرفالد. وإنما يتم الإكتفاء، مثل كتاب تاريخ برجوازي، بتسجيل الوقائع والأحداث، مع التشديد على تقطعها. ويتم التخلي عن كل نظرة سياسية.
إن ما يتخلى عنه النص رقم 9 هو العلاقة بين نظام التنظيم ومبادئه، على المستوى الدولي. "إن الحاجة للأممية الموجودة لدى الثوريين، مرتبطة بالمهام التي يطرحونها على أنفسهم". أي بتعبير آخر مهام الساعة، وليس المبادئ الإستراتيجية للأممية البروليتارية كما ذكرنا بها أعلاه. "لن يتمكن الثوريون من بناء هذه الأممية إلاّ انطلاقا من مستلزمات ممارستهم" هنا أيضا تقلص الأممية إلى مجرد حاجة تجريبية، دون أي رجوع لأسس الأممية البروليتارية.
وبالنتيجة النهائية على المرء أن يبين في كل وضع ملموس لا إمكانية وجود أممية وحسب، وإنما أيضا ضرورتها: "تبعا للظروف، رأى المنظرون الماركسيون إن كان من الضروري أو لا خلق أممية أو استمرارها". إذن إن ما يتخلى عنه النص هو فعلا العلاقة بين مبادئ التنظيم ونظامه. إن ضرورة التنظيم الدولي ضرورة دائمة، ويمثل نظام التنظيم إمكانية تطبيقها الملموسة في شروط تاريخية ملموسة. وفي الواقع فنظرية التنظيم الكامنة في النص رقم 9 هي نظرية وسائلية: ليس التنظيم إلا مجرد أداة تستعمل أولا حسب الحاجات "ليست الأحزاب إلاّ أدوات التاريخ". إن إرجاع الأحزاب إلى دور مجرد الأداة، المفيدة أو لا حسب الحالات، يعني إفقار الصراع السياسي وتدمير خصوصيته، وتحويله إلى مجرد إمتداد للصراعات الإجتماعية، مثلما لا يكون الحزب إلاّ امتدادا تقنيا للطبقة.
إن تصفية نظرية التنظيم في النص رقم 9 هي إذن تصفية كاملة. وهي تشمل التنظيم القومي مثلما تشمل التنظيم الأممي.
3-الشـــك الكرياشـــي
تنطلق محاجة كرياش من فكرة عامة: حسنا، لنقر بأن التنظيم الأممي ضرورة دائمة. إن ذلك لا يلغي أنه يجب تحديد هذه الضرورة تبعا لتحليل الحقبة. هكذا لم تكن الأممية الأولى، في بدايات الحركة العمالية، خالية من الالتباس السياسي. فكان يتجاور فيها الفوضويون والماركسيون والبرودونيون وكان على ماركس القبول بذلك. إن المهمة الأساسية بالنسبة لتلك الحقبة التاريخية، كانت تأكيد وجود حركة عمالية دولية مستقلة كذلك كانت الأممية الثالثة تحدد المبادئ العامة للأممية البروليتارية تبعا لحقبة حالية الثورة: كان الاعتراف بالسوفياتات والقطيعة مع الإشتراكية الشوفينية يشكلان مقاييسها الأساسية. وأخيرا يعترف كرياش أحيانا بأن الأممية الرابعة، كذلك، قد لعبت تاريخيا دورا مفيدا تشكر عليه. فقد حافظت خلال فترة تراجع الثورة العالمية على مكتسبات الماركسية الثورية ضد هجمات الستالينية الظافرة. فالتبرير التاريخي الأساسي للأممية الرابعة هو إذن النضال ضد الستالينية داخل الحركة العمالية.
ويتابع كرياش قائلا: "إلاّ أنه، بالتحديد، يجب اليوم إعادة النظر في مفهوم الستالينية. إن ما يميز الستالينية أساسيا عن الإشتراكية-الديموقراطية العادية هو طابعها الدولي. ليست البيروقراطيات الستالينية مجرد بيروقراطيات إشتراكية-ديموقراطية مستندة إلى أرستقراطيات عمالية. إنها تحصل على قسم كبير من سلطتها من الهيبة التي يعطيها إياها حملها لما بقي من ثياب ثورة أكتوبر ولكفالة الكريملين. ولكن الأحزاب الستالينية تميل اليوم في حقبة أزمة الستالينية أكثر فأكثر، في عملية تحولها بشكل اشتراكي-ديموقراطي، إلى تغليب مصالحها القومية على ديونها تجاه البيروقراطية السوفياتية. هكذا نجد الحزب الشيوعي الفرنسي، مداراة منه لحلفائه البرجوازيين الانتخابيين المحتملين، على استعداد لشجب التدخل السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا. وقد تشهد هذه الظواهر على انهيار الستالينية وعودة الأحزاب الستالينية إلى اشتراكية-ديموقراطية أكثر تقليدية.
ولكن إذا كانت خصوصية الأممية الرابعة تكمن في النضال ضد الستالينية، فإن وجودها يجب أن ينتهي مع احتضار الستالينية. إن المقاييس التي كانت تضعها لرسم الحدود بين الحركة الستالينية والماركسية الثورية (نظرية الثورة الدائمة، نقد الستالينية) لم تعد كافية. ويجب اليوم إيجاد المقاييس الحقيقية الحالية، التي تسمح ليس فقط بمجرد رسم للحدود الإيديولوجية، ولكن بوضع حدود عملية. وبشكل خاص فإن تقويم المدى الدولي للثورة الثقافية، وحالة تدهور الدول العمالية وميول إعادة الرأسمالية فيها، قد يقدم مثل هذه المقاييس ويسمح بإعادة تقسيم للطليعة ليس تبعا لذخائر إيديولوجية حوفظ عليها بعناية، ولكن تبعا لمهام الساعة.
وعلاوة على ذلك، إذا ما زال للمكتسبات النظرية، التي حافظت عليها وأوصلتها حتى أيامنا الأممية الرابعة، بعض القيمة السياسية، فإنها لم تعد احتكارا للأممية الرابعة: يقول كرياش: "إن عدة تجمعات دولية، مميزة عن الأممية الرابعة، قد حازت عليها: إن "أكسيون كومونيتا" (العمل الشيوعي) في إسبانيا، وبعض أجزاء منظمة "زنغاكورين" (في اليايان)، وبعض شخصيات منظمة "س.د.س." (في ألمانيا)، ونحن و"مجموعة 66" في فرنسا، كلها قد فهمت بشكل صحيح الثورة الفيتنامية وبمقدورها تقديم فهم معين للستالينية. تلك هي القوى الحية للطليعة. إن مهمتنا تكمن، عوضا عن الإهتمام بتنمية خصوصيات الأممية الرابعة، في دفع تقوية التجمعات الطليعية، واستقرارها، وعقد مؤتمرات تداولية للمواجهة، الخ.
وبكلمة واحدة إن الأممية الرابعة قد أدت مهمتها وانتهت، وإرادتها في التعيش تحكم عليها بالتدهور أو التفكك. فإنه يكون إذن من المنافي للعقل أن نذهب للمساهمة في هذا التفكك.
4-القليل من التنازل يؤدي إلى الكثير من التراجع:
هذا هو جوهر التحليق الكرياشي حول قضية الأممية. ومع ذلك فإن الشك الذي يتقدم به ليس حتى شكا منهجيا. لنتفق حول العموميات التي تميز الحقبة" إنحدار وسقوط الستالينية، الأزمة المعممة للإمبريالية. ولكن هل يمكن الإستنتاج من انحدار الستالينية بأن السماء قد عاد إليها صفاؤها كما كانت بعد الطوفان؟
في الواقع، يجب ألاّ ننظر إلى الستالينية نظرة حصرية ومحدودة، وإنما يجب أن نرى فيها حقا الظاهرة السياسية الحاسمة في عصرنا. ليس الأمر مجرد علة بيروقراطية تصيب المنظمات العمالية وتبقى داخل محيطها التنظيمي. يجب أن نرى فيها أكثر من ذلك: أضخم إجهاض تاريخي. ففي الفترة التي تصل فيما البرجوازية تاريخيا إلى نهاية دورها، وحيث لم تعد تملك أية قدرة تاريخية على الخلق، وحيث تظهر قيمها التي كانت في السابق منتصرة (الحرية، المساواة، الوطن، الخ.) على أنها تحف بالية، وحدها البروليتاريا تقدر على تقديم حلول وقيم جديدة، وتقدر على تحريك الوضع القائم التاريخي وعلى إخراج الإنسانية من المستنقع. إن إفلاس قيادتها الثورية يسبب إجهاضا تاريخيا يميز الحقبة بمجملها : " يتميز الوضع السياسي العالمي في مجمله قبل أي شيء بالأزمة التاريخية لقيادة البروليتاريا" (البرنامج الإنتقالي).
إن هذه الأزمة وهذا الإفلاس لا يطالان إذن الحركة العمالية فقط، ولكن أيضا مجمل الساحة السياسية. وهما يشلان مركزها العصبي الرئيسي. هكذا تجد البرجوازية، التي يعوزها التجديد والموارد، تجددا لم يكن مأمولا، يتغذى من عجز البروليتاريا. هكذا تشق أيديولوجيات البرجوازية لنفسها من جديد طريقا في المكان الذي تركته فارغا الاستقالة التاريخية للمنظمات العمالية. ولا يمكن، بغير ذلك التفسير، فهم النفحة الثانية التي نفحت، بعد الثورة الروسية، الأيديولوجية الفوضوية (وهي أيديولوجية برجوازية بشكل نموذجي، مبينة على تشتت الممارسة السياسية التي قد تقلصت إلى اليومي والحكائي) التي تتغذى من التدهور الستاليني. وكذلك على الصعيد الإيديولوجي، ليست السوريالية، من جوانب عدة، إلاّ الظل المقابل للستالينية الذي يعيد إحياء قيم برجوازية لعدم المقدرة على تجاوزها بمشروع ثوري منظم. هكذا أيضا قامت الستالينية خلال فترة عزها كلها بخصي كل إسهام خاص من قبل المثقفين للحركة العمالية. ولم يعد المثقفون، الذين كانوا في بداية الحركة العمالية مناضلين بالمعنى الكامل، بالنسبة للستالينية المنتصرة، إلاّ كفالات كمالية قد عهرت تماما "أراغون"، أو الضمير البائس للحركة العمالية (نيزان)، أو أنهم أرغموا على الانتحار (كروفيل، فافيز). ولكنهم لم يعودوا يقدمون أي عطاء نظري حقيقي للحركة العمالية، وعليهم أن يعتبروا أنفسهم معترفين بالجميل ومغفورا لهم أمام التاريخ إذا ما تساهل معهم هذا الأخير.
هكذا ليست الستالينية ظاهرة داخلية للحركة العمالية. إنها عامل ركود سياسي يقولب مجمل الأفق السياسي لعصر كامل. وهي تحدد حتى الحلول البديلة التي تجدها البرجوازية، كما تحدد بقاءها غير المأمول به.
إذا فهم بعد الستالينية على هذا الشكل بكل اتساعه، فلا يمكن الاعتقاد بأن نتائجها تتوقف بشكل آلي مع أزمة أسبابها. ولا يصبح كل شيء من جديد صافيا وواضحا داخل الحركة العمالية لمجرد أن الستالينية في أزمة. فالعناصر التي خلقتها الأزمة تبقى متحدرة من السياسة الستالينية وتبقى إلى حد معين أسيرتها طالما لم نع بشكل واضح طبيعة الستالينية ودورها التاريخي. هكذا تبقى التيارات الماوية أو العفوية، في تشوشها، مدينة للستالينية، مطبوعة بما تدين لها به.
إن دورنا تجاه هذه التيارات هو في توضيح هذه المسألة، وإيصالها إلى نقد جذري للستالينية. وفي سبيل هذا تبقى المقاييس الإستراتيجية الأساسية للأممية الرابعة صحيحة بشكل كامل في عملية التوضيح هذه طالما لم يتم بعد الحكم على الستالينية سياسيا.
لا يكفي القول بأن هنالك مشاكل، وتسجيل وجودها، والقول بأن هذه المشاكل ستدخل مقاييس جديدة في رسم حدود طلائع الغد. فإنه يبقى تحديد أي إطار نظري يسمح بصياغتها وبحلها سياسيا. مثلا، لا يمكن الإدعاء بأن الثورة الثقافية تشكل في صراع الطبقات العالمي بيضة عجيبة تكررت فيها معجزة الميلاد. ولا يمكن تحليل وفهم مداها إلاّ إذا فهم بوضوح الإطار التاريخي لتكون الثورة الصينية: مأساة عام 1927، ثورة 1949 المعاكسة لنصائح ستالين، تجريبية فكر ماو تسي تونغ المضطر إلى المراوغة تجاه المسلمات الستالينية، تكوين القيادة الصينية. ولا يمكن، بمعزل عن العلاقات بين الثورة الصينية والستالينية إعطاء أي شبكة خلفية تسمح بفهم الخلاف الصيني-السوفياتي والثورة الثقافية. كما أنه خارج الستالينية لا يمكن فهم تكون وتطور الدول العمالية وتقدير حالة إنحطاطها.
إن نظرية الثورة الدائمة وتحليل الستالينية يشكلان فعلا، إذن، حتى في حقبة أزمة الستالينية، الحبكة الإستراتيجية الدنيا التي تحدد خصوصية الطليعة. وهذه الحبكة ليست تراث الحركة العمالية في مجملها. بل نجد تيارات عديدة تدور، لعدم حيازتها إياها، في حلقة مفرغة، وتصطدم بعدم فهم الستالينية ونتائجها.
إلاّ أن كرياش يعترض قائلا: جلي أن هذا المكتسب ليس حتى الآن ملك الحركة العمالية بمجملها، غير أنه لم يعد احتكارا للأممية الرابعة. فقد حازته بعض التجمعات الطليعية. هنا نسأل سؤالا: هل تكفي حيازة مكتسب أممي أو أنه يجب أيضا إحياؤه عمليا؟ وكم من الوقت قد تقدر التجمعات المذكورة على إحياء هذا المكتسب بمعزل عن علاقتها المباشرة بمنظمة دولية هي الأممية الرابعة؟
ليس سرا وجود مناضلين من الأممية الرابعة داخل "الشبيبة الشيوعية الثورية" السابقة، وفي "أكسيون كومونيستا" وفي ال "زنغاكورين". وليست علاقات قادة الحركة الإنكليزية أو الألمانية بالأممية الرابعة مجهولة هي الأخرى. وأخيرا فإن المسوخ التاريخية ("مجموعة 66"، تجمع بابلو) هي مولودات غير مباشرة للأممية الرابعة. ولعدم الإكتفاء بتعداد الروابط الملموسة، يجب أيضا تقدير النفوذ السياسي، وتحديد قنواته وواسطاته، وذلك، نظرا لتجربة الدخولية، أمر ليس دائما سهلا…
إن كرياش يقترح أن تتم مع ذلك هذه التجمعات مؤتمرات دولية في سبيل بناء أممية. نحن هنا أمام مسألة موازية لمسألة التجمعات المستقلة للطبقة التي يطرحها النص رقم 7. ولكن الأمر يتعلق هنا بتجمعات مستقلة… للطليعة سؤال جديد: هل يجب دفعها للاستقرار، وأحيانا تأكيد ادعاءاتها كتجمعات قومية؟ أو أنه يجب تجاوز أمميتها المتلعثمة بأن نطرح عليها في الممارسة، وبالتصديق التنظيمي، مشكلة نزعة أممية منطقية؟ كما بالنسبة لـ"التجمعات المستقلة للطبقة"، تحدد وجود هذه التجمعات الطليعية حالة ميزان القوى على المستوى الدولي بين الستالينية والطليعة الماركسية الثورية. إن ميزان القوى هذا، الذي ما زال يميل بشكل كبير لغير صالح الطليعة، يترك لهذه التجمعات المجال أمام سلسلة من الترددات: إن مهمتنا هي في أن نقصر هذه السلسلة، بتصميمنا واختيارنا، لا في إدامتها.
وأخيرا يقترح كرياش بأن تكون لنا علاقات مع الأممية الرابعة بالمستوى نفسه الذي تكون لنا فيه علاقات مع تجمعات دولية أخرى، من حيث أن الأممية ما زال يمكن أن تساعدنا ببعض الوصفات العتيقة المجربة ولكن المفيدة أيضا. غير أنه يجب تحديد التجمعات الدولية الأخرى. ثم ما هي أممية النحلة هذه التي تكمن في جمع المكتسبات من أقاصي الحدائق النظرية المختلفة؟ ألا يعني ذلك الإقرار بشكل كامن بأنه بوسعنا الإنتقاء، وبوسعنا الإختيار ما بين هذه المكتسبات مختلفة المصادر؟ وهو ما قد يعني أننا، كزبون فطن للدكاكين الدولية، نملك القدرة على هضم وتركيب المكتسبات الآتية من آفاق مختلفة، إلا إذا كنا على استعداد للقول بأن أحدا ليس عنده مكتسبات متميزة اليوم، وبأن على كل واحد أن يسكب مكتسباته في السوق، وبأنه ستخرج يوما من سوق البالي هذا أممية مرقعة نكون نحن فيها ترقيعة بين أخريات…
وهذا يبين أن التنازل قليلا حول المكتسبات يحتوي على خطر التراجع كثيرا عن المبادئ..
إلى الأمام…! (الطبعة اللينينية: هيا بنا!)
1-يتنبأ كرياش، بطرحه أن نهاية الأممية الرابعة يجب أن تتطابق مع أزمة الستالينية، يتنبأ للأممية الرابعة بالانحطاط أو التفكك. إنه ينسى طريقا آخر يعطي لينين مفهومه: طريق التحول الداخلي التنظيمي. نحن نعتقد من جهتنا بأن إطارها التنظيمي يبقى ذا أهمية أولية بالنسبة للحقبة. وعلاوة على ذلك لا تطرح فقط مسألة ماذا تقدم لنا الأممية الرابعة، ولكن أيضا ماذا يمكن أن نقدم لها نحن. وإذا كنا نطرح على أنفسنا اليوم مشكلة مقاييس عملية جديدة لتجميع الطليعة، فيجب أن نفهم جيدا أنه لا يوجد تقطع في هذه المقاييس. ليست هنالك المقاييس القديمة المسماة "أيديولوجية" ومقاييس جديدة، "حقيقية وواقعية"، تكون عملية. إن هذه النعوت لا تعني شيئا، فالجوهري هو أن يكون بين الحالين استمرارية استراتيجية.ويجب كذلك أن يفهم بأننا لا نطرح هذه القضايا لأننا أكثر فطنة، وأكثر يقظة وتنبها من الآخرين، ولكن لأن الممارسة النضالية تطرحها علينا بشكل إلزامي. ودخولنا إلى الأممية الرابعة لا يمكنه إلاّ أن يزيد إلحاح هذه القضايا بالنسبة لها هي.
إن الانتساب إلى الأممية الرابعة يعني بالنسبة لنا الإلتحاق بالمكان حيث تنبسط الاستراتيجية الثورية التي كانت ممارستنا سبق أن حملتها. إنه يعني أن نعطي تجسيدا واعيا، نظريا وعمليا منهجيا، وإذن تنظيميا، لتجارب النضالات التي خضناها. إنه التعرف خلال التاريخ على خيط موجه ليس من حقل الأفكار، ولا من حقل الخيارات، وإنما هو رابط حقيقي، رابط تنظيمي بالبروليتاريا المناضلة. ليس للماركسيين الثوريين مصالح مختلفة عن مصالح البروليتاريا. وذلك ليس بوصفهم أفرادا ولا بوصفهم قوة سياسية لها وزنها في اتجاه غير مضمون (يجب التثبت من أصل خط المسير). إن الماركسيين الثوريين يؤكدون بموقفهم كحزب ارتباطهم الذي لا يمس بتحقيق الحاجات التاريخية للبروليتاريا. ولا يمكن تصور استراتيجية خارج الساحة السياسية وبمعزل عما يحملها في تحديد هذه الساحة: التنظيم الثوري من الطراز اللينيني. وكل مشروع سياسي لا يحتوي ضمنيا على مشروع تنظيمي هو من باب التذبذب لا من باب النضالات السياسية الفعلية. إن متنبئين بالشؤم يتكهنون بمصير الأممية. إنهم لن يمنعوا هذا المصير. ولكن خيارهم واضح، إنهم لا يملكون إلاّ موقع المتفرج. إن بوسعهم أن يخشوا، ويخافوا، ويتنهدوا، إنما مهام الساعة تبدد مزاجيات المناضلين الثوريين. لنترك الميتافيزيقيا لغيرنا. نحن لا نربي القلق.
هنالك دائما انتضاريون يراوحون في مكانهم على أرصفة المحطات حتى يقفزوا في عربة القطار الأخيرة، تعوزهم المبادرة، وهم نهائيا عقيمون وعاجزون. إنهم كأقزام مهوشين تاريخيين دائمين، لا يستطيعون سوى التعليق على المبادرات التي لم يأخذوها، والخطوط التي لم يساهموا في نتائجها، والتشديد على منعطفاتها وأخطارها دعونا لا نكون هؤلاء المهوشين، ولنتحمل مسؤولياتنا عمدا. إن الأممية الرابعة اليوم في الطريق إلى تحقيق تحول داخلي من أممية كوادر، هي نفسها متعلقة بالستالينية التي كانت تناضل ضدها، إلى أممية في طور هجوم تأخذ زمام المبادرة في بناء أممية منغرسة في الجماهير. ويتعلق بنا أن نشارك في هذه المهمة أو أن نتخاذل أمام صعوبتها.
بتعلق بنا أن نضطلع بهذه المهمة التي هي مهمتنا التاريخية أو أن نفلس. إن الكلام على التحول الداخلي يعني الإشارة إلى هذه الحركة التي بموجبها يمسك جيل جديد من المناضلين الثوريين بجمرة الثورة حيث حملها جيل سابق من المناضلين ، من الكوادر الثوريين الذين صهرتهم معاناة الستالينية والفاشية، لكي يفعلوا بألف ساعد قوي ما لم يكن بوسع واحد أن يفعله: إشعال حرائق السهل اللامعدودة، البؤر اللامعدودة للثورة الإشتراكية.
يتحدث كرياش عن تفكك محتمل للأممية الرابعة. إن تفككا يسببه الإنهاك وتفككا مقصودا، مختارا عمدا، هما شيئان مختلفان. إذا طرح انهيار الستالينية النهائي، والحكم عليها تاريخيا، على حيز الضرورة تقسيمات جديدة للطلائع، فمن الممكن التفكير بخلق أممية خامسة تقود الثورة العالمية حتى انتصارها. وبهذا الأفق، قد تفكر الأممية الرابعة بتفككها وتحضره بطيبة خاطر. إنها سوف تجد نفسها من جديد في هذا التفكك ذاته، مثل الشجرة التي تخرج أوراقها من البرعم الذي يتمزق وينفتح. ولكن هذه الفرضية تدخل مجهولات كثيرة من حيث تطور النضالات بحيث لا يمكن من الآن تطبيق سلوكنا عليها.
فلنقم إذن بمهام الساعة، إنها أفضل طريقة للتهيؤ للمهام المقبلة ولعدم التخلي باسم احتياطات عديدة وملتوية، عن مسؤولياتنا الحالية.
إن مهمتنا، في حقبة تفكك الستالينية والإمبريالية، بوصفها أنظمة عالمية متكاملة، هي في أن نجدد الأممية البروليتارية، ليس فقط بالكلام ولكن، لكي نبقى منسجمين مع أنفسنا، بنتائجها التنظيمية أيضا.
لذلك انتسبنا إلى الأممية الرابعة، ولذلك نناضل من أجل انتساب تيارنا بمجمله.
بيتيل، جبراك، لودفيك، بوليه
مارس/(آذار) 1969
#الرابطة_الشيوعية_الثورية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فرنسا29 ماي: انتصار ساحق ل-لا- بنسبة 55%.
المزيد.....
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|