في الوقت الذي استطاعت النخب العسكرية، التي وصلت إلى سدَّةِ السلطة في النصف الثاني من القرن الماضي في كل من مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن وليبيا والسودان، أن تحدث هزة عنيفة داخل البنية الاجتماعية المتخلفة والراكدة في هذه البلدان، حينما أصدرت مشاريع الإصلاح الزراعي وتأميم المؤسسات الصناعية والتجارة الخارجية والداخلية ومشاريع التأمينات الاجتماعية المختلفة؛ فهي من جانب آخر، كانت قد خَطَتْ خطوة كبيرة إلى الوراء من الناحية السياسية، حينما احتكرت بالقوة المجال السياسي في المجتمع. فقد كان لهذا التراجع السياسي دور محوري في نقض التقدم الاجتماعي الذي كان من الممكن أن يقوم به الإصلاح الزراعي وتدخل الدولة في الاقتصاد.
- I -
فعدم تأسيس سلطة تشريعية مستقلة ومنتخبة انتخاباً حراً من الشعب، وعدم وجود معارضة وأحزاب، وافتقار المجتمع للمؤسسات المدنية، كل هذه الأمور أدَّتْ في النهاية إلى فقدانِ الرقابة تماماً على ممارسات السلطة سواءً في القطاع الاقتصادي وقطاعات المجتمع الأخرى، وإلى عدمِ القدرة على كبح آفة الفساد التي راحت تقتحم كالهشيم كامل النسيج المجتمعي.
وإذا كان مفهوم الدولة الحديثة قد شهِدَ بعض التبلور والنمو والتقدم إبان حكم المستعمر في هذه البلدان، وفيما بعد إبان الحكم البرجوازي التقليدي، ففي عهد "الانقلابيين التقدميين" راح يتغوَّل مفهوم السلطة على حساب تقلص مفهوم الدولة واضمحلاله، الذي يشمل أساساً المواطنين بمجمل نشاطاتهم وتنظيماتهم السياسية والاقتصادية والثقافية(المجتمع المدني)، ويشمل من جهة ثانية الحكومة بمختلف أجهزتها. إن الحكومة أو السلطة لوحدها لا تشكل الدولة، وفي المقابل لا تقوم الدولة بالمجتمع المدني لوحده, فهي تحتاج لتأسيسها إلى كليهما معاً.
فالسياسة في البلدان العربية "الانقلابية التقدمية" صارت حكراً على أهل السلطة والأقرباء والموالين، وحُرِمَتْ الأكثرية الشعبية من الدخول في مجالها وممارستها. فحلّت الأحزاب القائمة ومنِعَ تشكيل أحزاب جديدة وألغيت الصحافة الحرة واقتصِرَ على الصحافة الحكومية وقيِّدَ النشر بقوانينَ جائرة للمطبوعات، وصودِرَتْ المؤسسات الأهلية والمدنية التي كانت قائمة.
وما أن استحوذَت السلطة بحزبها الواحد تحت راية "الديموقراطية الشعبية" على السياسة والمجتمع المدني، حتى اندارت لتستحوذَ باسم "العدالة الاجتماعية" و"الاشتراكية" على الاقتصاد بكامل فروعه لتقْطِعَه للموالين والمقربين أيضاً. وهكذا راحت تتحكم في توزيعِ الثروة على الأفراد وتتلاعب بمحتوى جيوبهم بما يتناسب مع درجة ولائِهم لها.
ما حدث كان نمطاً متجدداً من الإقطاع السياسي، هيأ بدوره لقيام نمطٍ متجددٍ من الإقطاع الاقتصادي. وطبعاً هذا الإقطاع الجديد لا يتعلق، في هذه المرحلة الزمنية، بأراضٍ فقط كما كان الحال في العهد الإقطاعي القديم، إنما يتعلق بفروعٍ للصناعة والزراعة والنقل والاتصالات والتجارة الخارجية والداخلية والمصارف والجامعات وبمؤسسات مدنية مثل اتحاد نقابات العمال والنقابات المهنية واتحاد الفلاحين واتحاد الحرفيين والاتحاد الرياضي والاتحاد النسائي واتحاد الكتاب واتحاد الشباب واتحاد الطلاب ونقابة الفنانين واتحاد الصحفيين....إلخ
والسلطة التي تحتكر السياسة لنفسها تنتج اقتصاداً تابعاً غيرَ قادرٍ بدوره على تحسينها وتنميتها لأن العلاقة بينهما هي علاقة أحادية الاتجاه، الطرف المؤثر فيها هو السياسة فقط. وبالفعل فالاقتصاد في هذه البلدان بسبب عبوديته للسلطة، لم يقم منذ حوالي أربعة عقود من الزمن، بأي دورٍ في تنمية المجال السياسي في المجتمع، بل على العكس كان يضعف هذا المجال ويقلص دائرته الاجتماعية حتى في داخل الحزب الحاكم وملحقاته الحزبية الأخرى.
فالعلاقة بين السياسة والاقتصاد كان يحكمها طوال هذه الفترة جدل الضعف، ضعف السياسة وضعف الاقتصاد. وهذا ما جعل كل محاولات الإصلاح الاقتصادي التي كانت تلجأ إليها السلطات في هذه البلدان أن تصل إلى الطريق المسدود، لأنها في كل هذه المحاولات كانت تسعى إلى تغيير المستوى الاقتصادي في المجتمع عبر تثبيت مستواه السياسي وتأبيده. لذلك كانت مثل هذه البنية الاجتماعية الفقيرة سياسياً والعاجزة اقتصادياً تتسم بركودها واستنقاعها وتقدم تخلفها، وهذه السمات جعلتها أقرب في علاقاتها الاجتماعية إلى البنية الإقطاعية السلطانية القديمة.
- II -
في ظل هذه البنية الشمولية الإقطاعية الجديدة، راح مواطنو هذه البلدان يفقدون شعورهم بمواطنيتهم وحرياتهم وكياناتهم كأفراد. وصار يتملكهم شعور دائم بعبوديتهم للسلطة، ليس فقط في لقمةِ عيشهم، وإنما في معظم شؤون حياتهم ومستقبلهم، وفي اختيارِ أعمالهم ومهنهم ودراساتهم، وحتى في صوغ وتنميط شخصياتهم ونفسياتهم وأخلاقياتهم. ولقد باتوا في تعاملهم اليومي، محكومين بأعراضِ خليطٍ من الساديةِ والمازوخيةِ وخليطٍ من جنونِ العظمة والدونية، وصار للفرد عموماً وجهان وخطابان في تعامله مع الآخر، بحسب الموقع الاجتماعي لهذا الآخر إن كان من فوق أو من تحت. وراحت " أقْطَعَةُ " البنية الاجتماعية الشمولية تفاقِمُ اندحارَ الطبقة الوسطى إلى أن بات المجتمع يتألف من أكثرية من الفقراء والمسحوقين وأقلية من الأغنياء ذوي الثروات الضخمة. فكل شعارات "الاشتراكية" و"التطور اللارأسمالي" و"العدالة الاجتماعية" و"التقدم الاجتماعي" أمست في طي النسيان.
بالطبع لم يكن أفضل من هذه البنية المتخلفة والفاسدة لكي تستوطنَ الأمراض "النفسية الاجتماعية" (بسيكولوجية الإنسان المقهور- الباحث مصطفى حجازي)، كالنفاجية والاستعراضية والباطنية والنفاق والكذب والاحتيال والوشاية المأجورة، ولكي ينحدرَ الانتماء الوطني إلى الإنتماء الطائفي والمذهبي والعشائري والأسري، ولكي يترعرعَ الفساد وتُسلْطِنَ الرشوة ويؤدلَجَ لهما للرفعِ من شأنهما ومنحِهما المشروعية وإسباغ سمات الذكاء والشطارة والفهلوية عليهما. وبطبيعة الحال كانت هذه البيئة من أفضل البيئات المنتجة للنكوص الفكري الديني المتطرف الذي لجأ إلى الإرهاب كوسيلةٍ وحيدةٍ للنضال السياسي. وهذا ما أدى بدوره إلى انحسار نفوذ القوى الوطنية الديموقراطية، ووفر للسلطة ذريعة اندفاعها أكثر على طريق العسف والقمع والتنكيل بالشعب كله. وكانت النتيجة في نهاية المطاف هي تفاقم ضعف الدولة بشكل عام وابتسار كل معايير قوتها بقوة أجهزتها القمعية، وليس بتقدم اقتصادها ومعرفتها وتقنيتها وثقافتها وقدرتها على مواجهة التحديات والأخطار الخارجية.
ولا تزال السلطات في الدولة الشمولية إلى الآن تعتبر ضعف المعارضة مؤشراً إلى قوتها ودلالة على استقرارها، في الوقت الذي نرى أن المعارضات القوية لا توجد إلا في الدول القوية والأكثر استقراراً. فالدولة بلا معارضة هي دولة بلا نقد، والنقد إصلاح وتصحيح وإغناء، ويحيل أيضاً في لغتنا العربية إلى الغنى والثروة والمال. وربما لغتنا تتفرد في هذه المقاربة العميقة بين النقد المجازي والنقد المادي!! وفي الواقع التاريخي الراهن، دول اللا سياسة واللا معارضة واللا مجتمع مدني(أي دول اللا نقد)، هي دولة فقيرة في اقتصادها ودخلها ومستوى معيشة شعوبها. والدول العربية كافة، الطاردة الممتازة لشعبها من السياسة، دخلها القومي هو أقل من دخل بلدٍ أوربي كان منذ فترة قصيرة يعتبر فقيراً نسبياً بالنسبة إلى البلدان الأوربية(اسبانيا).
فلقد تبين في التجربة التاريخية أن مفهوم الطليعة في البلدان العربية "التقدمية" قد لعب دوراً مركزياً في تشكيل المجتمعات الشمولية البيروقراطية. فهذا المفهوم العصبوي يقوم في الأساس على النفي المستمر للرأي لآخر، وعدم الثقة بالشعب والخوف الدائم من إسهامه في القرار السياسي. وهذا المجتمع الذي قام على مفهوم الطليعة، ومفهوم الحزب القائد في الدولة والمجتمع، كان يتسم دائماً بخوف الشعب من السلطة، وبنفس القدر، بخوف السلطة الدائم من الشعب. فالخوف المتبادل البنيوي بين الطرفين هو من أهم سمات المجتمع الشمولي.
-III -
فالسلطات "التقدمية" و"الثورية" في مصر وسوريا والعراق وكذلك في بعض البلدان العربية الأخرى مثل الجزائر وليبيا والسودان واليمن ابتدأت فترة حكمها بخطوات ملموسة على طريق "الديموقراطية الاجتماعية" (كما كان يسميها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر)، لكنها لم تشرع هذه السلطات طوال فترة حكمها على الإطلاق في أي خطوة على طريق "الديموقراطية السياسية" وهذا ما أدى بالتالي إلى فشل "الديموقراطيتين" معاً ونكوص المجتمع إلى الخلف. فيبدو أن الديموقراطية الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق ما لم تتزامن مع الديموقراطية السياسية.
هذا النمط من المجتمعات العربية الشمولية الذي تحولت فيه السلطة إلى غولٍ سياسي وغولٍ اقتصادي، لا يمكن إلا أن ينتج استبداداً نظيراً للاستبداد الذي تكلم عليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير، إن لم يكن أشَدَّ وطأة وفتكا ً(بسبب قوة آلة القمع الحديثة). ورغم الخلاف الكبير في المظهر والصورة بين المجتمع الشمولي العربي الراهن والمجتمع السلطاني الإقطاعي القديم، فشكل ومضمون العلاقات الاجتماعية فيهما، يحكمهما ثالوث الاستبداد والنهب الداخلي والنهب الخارجي (والأخير قديما كان من حصيلة الغزو الخارجي، بينما في الوقت الراهن هو من المساعدات والقروض الخارجية وبيع المواقف السياسية).
فالقسم الأكبر من الفائض في كلى المجتمعين لم يؤدِ إلى تراكم ونمو في الإنتاج، بل كان ومازال يذهب لخدمة السلطة وأمنها ورفاهيتها واحتفالاتها؛ وبالتالي لم يستطع هذا الاقتصاد "غير التراكمي" أن يسهم في تحرير المجال السياسي من حالِه الإقطاعية المزمنة، لا سابقاً ولا حاضراً. وعلينا ألا نستغرب ضآلة الفروق بين النظام الإقطاعي السلطاني القديم والنظام الشمولي في أواخر القرن العشرين، لأن هذه الفروق لا تتعلق بشكل بنيتهما الداخلية المتشابهة إلى حد كبير بل بصورتيهما ومظهريهما فقط.
وإذا لم يكن في مجتمع السلطنة ما نراه الآن في مجتمعنا من سيارات فارهة وأبنية شاهقة وفنادق فخمة وصحون فضائية وهواتف محمولة ومقاهي للأنترنت، فعلاقات المجتمع السلطاني الاجتماعية لا تزال حاضرةً بيننا، وهي تتجسد يومياً في الخطاب السياسي الذي مازال يستخدم مفاهيم "الأب والراعي والرعية" ومفاهيم "الكرم والتكرم والمكرمات والمَنْح والمنحات والعطاء والعطاءات" ومفاهيم "الرَحمة" و"التوبة". في الواقع ما زالت شعوبنا، في الدول العربية "التقدمية" والدول العربية "الرجعية" على السواء، ترزح تحت وطأة مجتمعاتٍ إقطاعية بطريركية بامتياز(فالبطريرك في اللغة أبُ الآباء وراعيهم).
والحضور الآخر العميق للمجتمع السلطاني في بلادنا نراه في ذلك الحجم الهائل من البصاصين العصريين الذين لاتخلو منهم دائرة أو حي أو قرية أو مدرسة أو كلية أو سيارة أجرة.
وطبعاً الأهم في هذا الحضور، هم الإقطاعيون الجدد الذين ملأت شهرتهم الأسماع في الخارج والداخل. ولقد علق أحد الكتاب الاقتصاديين السوريين حولهم فقال: ولو أن هذا المال الذي صار في حوزتهم ليس من عندهم، فنحن نتمنى لو يتحول هؤلاء إلى رأسماليين حقيقيين بأفكارهم ومعرفتهم!!
لذلك علينا ألا نستغرب في مثل هذا المجتمع الإقطاعي المتجدد أن يبقى مفهوم الشأن العام أي مفهوم الجمهورية (Res-puplique ) مفهوماً رمادياً واهياً ونكوصياً في كل البلدان العربية التي كانت في يوم من الأيام يساريةً وثوريةً وقوميةً واشتراكيةً وجماهيرية...إلخ؛ لأن هذه العلاقات الاقطاعية السياسية الاقتصادية المتجددة تتناقض تماماً مع مفهوم الجمهورية الحديث.
الرأي نشرة سياسية يصدرها الحزب الشيوعي السوري
العدد14/تشرين الثاني/ 2002