|
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 2 من 6
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1298 - 2005 / 8 / 26 - 10:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن قرنا من الزمن الضائع بالنسبة لبناء الكينونة العربية المعاصرة قد كشف، رغم كل مآسيه وهزائمه الكبرى، عن آفاق جديدة إمام توحيده الذاتي. وهي آفاق وثيقة الارتباط بما يمكن دعوته باكتشاف وإعادة تأسيس إبعاده الذاتية. فالسقوط في الهاوية هو مقدمة البحث عن مخارج للصعود، كما أن الانحطاط الشامل هو في الأغلب مقدمة البحث عن بديل شامل. لقد استطاع العالم العربي في مجرى القرن العشرين تجسيد الحد الأدنى من آمال الحصيلة المجردة لإبداع عصر النهضة. فالاستقلال العام للعالم العربي تجسد بصورة منفردة ومجزأة، وتكامله العام لم يحدث حتى على مستوى الدولة - الولاية، بينما بقيت مشاريع التمدن والتقدم والارتقاء ضعيفة بمقاييس معاصرة المستقبل. أما قيم الحرية والعدالة والديمقراطية فأنها تعرضت إلى هزيمة فاحشة. وهي حالة بلغت ذروتها الآن في الانتشار الواسع لمختلف نماذج اللاعقلانية والغلو الراديكالي الديني والدنيوي. لقد أنجز العالم العربي في مجرى قرن من الزمن تجريب كل النماذج "الحية" للراديكاليات الدنيوية والدينية لكي يتوصل في نهاية المطاف إلى إدراك الحقيقة القائلة بان الصيرورة المعاصرة للدولة العربية هي كينونة ثقافية. بمعنى انه لا يمكن صنعها بين ليلة وضحاها. فهي اقرب ما تكون بجهاز حيوي هائل قوي رقيق. ذلك يعني أنها كينونة متراكمة، كما أنها كينونة متجانسة. وتطورها الديناميكي مرهون بمستوى تراكمها المتجانس. فالتجارب الراديكالية برهنت بصورة قاطعة على أن أية محاولة لحرق المراحل هو سقوط في الهاوية، كما أن التفريط بتجارب التاريخ العالمي والتاريخ الخاص لا يؤدي إلا إلى اجترار الزمن. وهي الحالة – الفكرة التي اخذ العراق يمثل ميدانها الملتهب بعد سقوط احد أقسى النظم الراديكالية التوتاليتارية وأكثرها "نموذجية" بهذا الصدد في العالم العربي. وهو ميدان دفع من جديد، وسوف يدفع بقوة اكبر، فكرة الدولة والنظام السياسي والثقافة القومية إلى الأمام باعتبارها الإشكالية الأكثر واقعية وأهمية بالنسبة للوعي والفعل السياسي. وليس اعتباطا أن يتحول العراق إلى بؤرة الصراع الدامي، ومركز الجذب المتنوع لمختلف الإطراف في "حل مشاكله". إن الاهتمام المتزايد والاشتراك المباشر وغير المباشر لمختلف الدول العربية والقوى السياسية والاجتماعية والاتجاهات الفكرية بأوضاع العراق الحالية والمستقبلية، هو دليل على أن القضية هنا ليست قضية العراق بوصفه دولة أو جغرافيا، ولا حتى بوصفه بقعة عربية متعرضة للاحتلال الأمريكي، بقدر ما انه المكان الذي يضع من جديد إشكاليات النهضة العربية المجهضة، ومن ثم مصير الدولة العربية الحديثة وتجارب قواها الراديكالية. فقد كان التاريخ العربي المعاصر وما يزال رهين الفكرة الراديكالية وتقاليدها الوجدانية، أي أسير نفسيتها وذهنيتها اللاعقلانية. إلا أن التحولات العاصفة التي مست تقاليد الراديكالية العربية في العراق قد بدأت في إعادة الاعتبار للفكرة العقلانية ومن ثم تناول إشكاليات الدولة والمجتمع والأمة بمعاييرها. غير أنها عملية ما زالت في بدايتها، رغم أنها تتمتع بتاريخ طويل نسبيا. إلا انه تاريخ بدون فاعلية، وذلك بسبب اغترابه عن الدولة وآليات فعلها، كما كان غريبا أيضا بالنسبة لأغلب الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية بفعل سيطرة الوجدان الراديكالي في تصوراتها وأحكامها وبرامجها العملية. ولعل من أهم مؤشراتها الكبرى هو تراجع "القضية الفلسطينية" إلى حدودها الجغرافية السياسية، بمعنى ضعف وانحلال مركزيتها وجوهريتها التي طبعت تاريخ الفكر السياسي العربي الحديث. بعبارة أخرى، إن الفكرة السائدة عن أن قضية فلسطين هي محور الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي دورها وقيمتها الجوهرية بالنسبة لتحديد مفهوم واتجاه الفكرة القومية العربية أصبحت من مخلفات الماضي الآخذ في الاندثار. إن هذه الفكرة لم تعد أكثر من مجرد انطباع وجداني. ذلك يعني أنها انتقلت إلى مصاف القوة المنحلة في بناء الرؤية العربية الجديدة لذاتها. وهو تحول سوف يرتقي بعد فترة وجيزة إلى مصاف الرؤية المنظومة. بمعنى النظر إلى جوهرية الفكرة القومية العربية من حيث وحدتها الكلية. ومن ثم تحريرها من إسار الخضوع للصراع الجزئي أيا كان طابعه الدرامي. فمن الناحية الظاهرية هي عملية تستجيب لواقع التغير الفعلي في القضية الفلسطينية بإبعادها الوطنية والقومية. وذلك لان القضية الفلسطينية أصبحت في الواقع "قضية وطنية" من حيث قواها ومكوناتها وأساليبها وغاياتها القريبة والبعيدة. ففيما لو نظرنا إلى هذه القضية من حيث مسارها وتغيرها التاريخي، فإننا نلحظ ذلك في طبيعة وحجم التحولات التي رافقتها في كل من نكبة 1948 والانتصار في حرب السويس عام 1956 وانتكاسة عام 1963 وانتصار حرب عام 1972، وهزيمة عام 1982 في لبنان، واستمرارها في هزيمة العراق عام 1992 وتتويجها في سقوط بغداد واحتلال القوات الأمريكية له عام 2003. إننا نقف هنا أمام مرحلة أولية عمرها نصف قرن تتجاذبها الهزائم والانتصارات بين عقد وأخر من الزمن. بمعنى أن الهزائم والانتصارات تتكرر بعد كل عشر سنوات كما لو أنها تكرر عقود التراكم والنمو الطبيعي. وهي عملية تكشف عن حجم النمو القومي وصعوبة ثباته في عالم سريع التغير قوي الإمكانيات. وهو تكرار كان محكوما بفاعلية وتأثير عاملين متضادين الأول وهو الصعود العارم للفكرة القومية العربية التحررية، والثاني إمكانياتها الضعيفة. بمعنى انكسار "المصير العربي" في العملية المتناقضة لصعوده المتفائل وإمكانياته الضعيفة. وهي نسبة كان يصعب فيما يبدو إدراك حجم تأثيرها الفعلي على مسار الحركة الاجتماعية والسياسية والقومية العربية عموما. من هنا سيادة النفسية الراديكالية في الفكر السياسي العربي وقواه الاجتماعية. وهي سيادة أدت في وقت لاحق إلى هزيمة الرؤية العقلانية ومشاريعها الواقعية المحتملة. وفي نفس الوقت كانت هذه الهزيمة التاريخية المسار الضروري لانتقال الصراع "العالمي" للعالم العربي من محيط الجغرافية المحصورة بفلسطين إلى فضاء عالمي أوسع. وهو فضاء يشكل العراق في ظروفه وملابساته الحالية ميدانه الأولي الأكبر. ففيه تجسدت بشكل كامل و"نموذجي" تحلل الفكرة القومية التقليدية وسقوطها التاريخي. ومع هذا التحلل تفسخت "الخميرة الفلسطينية" وأصبحت غير قادرة على صنع رغيف الثورة وشحذ سيكولوجية العوام وإرادة التحدي وإيديولوجيا الوحدة. على العكس! لقد تحولت إلى ورقة لعب للمؤامرة والمقامرة "العربية". ومن ثم فان أية محاولة لاستعادة فاعليتها وتحويلها إلى مكون جوهري في الصراع من "اجل البقاء" و"محور الصراع الوجودي" و"الحضاري" للعالم العربي، لا يعني في الواقع إلا العمل من اجل تعطير جثة ميتة. لقد تجاوز العالم العربي من حيث الواقع والإمكانية مرحلة عمرها نصف قرن من سيادة الراديكالية السياسية بمختلف إشكالها وأنماطها. وهي سيادة أدت إلى فقدان السيادة في كل شيء وانحلال شبه تام للتفاؤل المغري الذي كان يرافق صعود الفكرة القومية العربية. إلا انه نصف قرن من الشحذ المباشر وغير المباشر للفكرة القومية العربية من اجل إعادة بنائها بشكل يحررها من إسار الخضوع للصراع الجزئي أيا كان طابعه الدرامي. بعبارة أخرى، أن هزيمة المشاريع الراديكالية للفكرة القومية العربية هو انتصار لحقيقتها التاريخية. والقضية هنا ليس فقط في أن الفكرة القومية (العربية) لا يمكن القضاء عليها ما لم تنحلّ هي ذاتها في مشروع سياسي دولتي متكامل له حدوده الواضحة والفاعلة على النطاق العالمي، بل ولما فيها من طاقة محكومة بقوة التاريخ والمصالح. إن جوهرية الفكرة القومية العربية تقوم في وحدتها الكلية. بمعنى أنها ليست محكومة بشكل ومحتوى الإحداث السياسية العابرة مهما كان حجمها مؤلما من الناحية الظاهرية، كما هو الحال في ظروف العراق الحالية وخضوعه للاحتلال الأجنبي. فالاحتلال الأمريكي للعراق في ظاهره نقمة وفي باطنه نعمة! انه كشف بصورة درامية عن كل الزيف القومي للراديكاليات السياسية ومستوى "التعاون" و"التكامل" العربي. بمعنى انه ألغى بصورة سريعة وخاطفة الغلاف الميت لتجارب نصف قرن من الزمن. وهو الأمر الذي دفع وسوف يدفع بخطى سريعة بدائل الفكرة القومية العربية بإشكال تأسيسية جديدة تنفي خللها الذاتي. وإذا كانت هذه الفكرة غير واضحة المعالم بعد، فلأنها مازالت في عملية ولادة هي أشبه ما تكون بولادة عسيرة. (يتبع...)
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 1 من 6
-
حق تقرير المصير- في العراق – الإشكالية والمغامرة
-
هوية الدستور الحزبي ودستور الهوية العراقية؟
-
أشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق-2 من 2
-
إشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق+1 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - التصنيع العرقي 2 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - الهمّ الكردي والهمّ العراقي
...
-
مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9
-
الأهمية الفكرية للمرجعية-8 من 9
-
الاهمية السياسية للمرجعية 7 من 9
-
الأهمية الروحية للمرجعية 6 من 9
-
المرجعية الشيعية ومرجعية التقليد - الواقع والآفاق 5 من 9
-
المرجعية الشيعية - الفكرة والتاريخ الفعلي 4 من 9
-
فلسفة المرجعيات في التراث العربي الإسلامي3 من 9
-
مرجعية الروح المتسامي ومرجعية النفس السيئة 2 من 9
-
فلسفة المرجعية والمرجع في العراق1 من 9
-
الديمقراطية في العراق - خطوة إلى الأمام
-
الفدرالية القومية في العراق - خطوة إلى الوراء
-
النخبة السياسية في العراق – الهوية المفقودة
-
هل العراق بحاجة إلى مساعدات؟
المزيد.....
-
مشتبه به بقتل فتاة يجتاز اختبار الكذب بقضية باردة.. والحمض ا
...
-
في ظل استمرار الحرب والحصار، الشتاء يضاعف معاناة نازحي غزة و
...
-
قصف إسرائيلي عنيف يزلزل الضاحية الجنوبية لبيروت
-
صدمة في رومانيا.. مؤيد لروسيا ومنتقد للناتو يتصدر الانتخابات
...
-
البيت الابيض: لا تطور يمكن الحديث عنه في اتصالات وقف النار ب
...
-
نائب رئيس البرلمان اللبناني: لا توجد عقبات جدية تحول دون بدء
...
-
استخدمت -القرود- للتعبير عن السود.. حملة توعوية تثير جدلا في
...
-
-بيروت تقابلها تل أبيب-.. مغردون يتفاعلون مع معادلة حزب الله
...
-
مشاهد للجيش الإسرائيلي تظهر ضراوة القتال مع المقاومة بجباليا
...
-
ماذا وراء المعارك الضارية في الخيام بين حزب الله وإسرائيل؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|