بلقيس حميد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1298 - 2005 / 8 / 26 - 13:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حينما رأيت بعض الشباب في شوارع النجف والديوانية يهتفون مهللين للدستور الجديد , بكيت فرحا بفرحهم وحزنا لما مر بنا كعراقيين , وأحسست أن هذا الشعب المسكين والمقهور لابد وأن يفرح , هو اكثر توقا للفرح من أي اختلاف, وهو أرقّ وأجمل من تحّمل انتكاسة أخرى , ونكسات فقدان الأحبة تتوالى عليه يوميا من جرائم البعثيين المخربين والحاقدين والإرهابيين المرضى.
فرحت لأن الشعب العراقي- كما صرحوا بذلك على شاشات الفضائيات- اتفق على شيء كبير كالدستور , ونحن الذين لم نتفق على شيء إلا تحت كرابيج الباشوات, أو جحافل الغزاة, أو أهوال وسجون الديكتاتوريات , وحينما جاء إنسان عراقي أصيل ووطني كعبد الكريم قاسم , أراد لنا أن نتفق وأحبنا جميعا من شمال العراق حتى جنوبه , قتله أشرارنا وابتدأ مشوارنا مع المقابر الجماعية وأحواض التيزاب والإبادة المرعبة ..
لذا لابد لنا أن نبارك هذا الاتفاق مهما كان لكي لا نكون عرقلة بعجلة البناء والاستقرار بعد سنين القهر والظلم...
لكن شعورنا الوطني علمنا عدم تجاوز ما نراه خطأ والذي آلينا على أنفسنا البوح به لفائدته وخدمته للشعب والوطن.
مسودة الدستور التي نشرت في بعض الصحف , أسعدتنا المادة الأولى فيها والتي تقول:
المادة (1):العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي.
هذا هو العراق حقا , وهذا الذي يريده أهل العراق لينعموا جميعا في وطنهم الواحد, الاتحادي الذي يرتقي بالإنسان ويخلصه من الفقر أينما كان في شمال العراق أم في جنوبه وغربه , حيث ستوزع الثروات من خلال الحكومة المركزية على السكان بالتساوي وكل منطقة أو فيدرالية وعدد سكانها مهما كانت نسبة ثرواتها الطبيعية , انه العدل والإنسانية والوطنية حقا , وهنا لابد من أن أبارك هذه المادة التي هي فخر الدستور العراقي. كما أن هناك مواد رائعة منها ما يفصل السلطات الثلاث ويحقق الكثير من الضمانات للإنسان العراقي ولسعادته ......
لكننا ما أن تنفرج أساريرنا ونفرح حتى تصدمنا المادة الثانية التي تعتبر اكبر مادة تتسبب في إشكاليات كبيرة , والتي تتناقض وتنفي كثيرا من مواد الدستور وتخلق مشاكل في سن القوانين وتطبيقاتها واحكامها ومؤيداتها الجزائية , مما يشكل خطرا كبيرا على مستقبل القضاء العراقي ويخلق معاناة لرجال القانون لا يمكن حلها بأي شكل من الأشكال , وتجعل الدستور قابلا لتفسيرات كثيرة , وليس موادا واضحة ومحددة لا تقبل التأويل, المادة تقول:
أولا - الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساسي للتشريع، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابته واحكامه.
هنا , لا اعتقد أن دارسي القانون وباحثيه يرضون عن هذه الفقرة إن كانوا حقا رجال قانون يحكمون عليها بتجرد ودون انحياز لدين أو عقيدة ما , فمن البديهيات في كتابة القوانين هي أن تستمد موادها من روح العصر , فالقانون ينظم حاجات الناس السائدة في زمانهم وينظم علاقاتهم ومشاكلهم الحالية وانعكاسات الواقع بما فيه من متطلبات جديدة نابعة من روح العصر وليس مستمدة من عصر مجتمع ما قبل أربعة عشر قرن , أي أن الدين الإسلامي الذي نحترمه جميعنا ونود إبعاده عما يسيء له بتكريمه وفصله عن السياسة وعقدها , لا يمكن أن ينظم علاقات الناس واحتياجاتهم في زمن العلوم والمعارف والاتصالات والفضائيات , انه كتب كشرع لمجتمع بسيط لا يمت بمجتمعات اليوم بشيء سوى ببعض الثوابت التي حتى هي الأخرى تأثرت بالعصر الحديث وتقاليده. بدليل أننا لا نرى أية قدوة لدولة إسلامية نهتدي بها , أو هي باستخدامها الدين كدستور وقانون , نجحت بتنظيم المجتمع وبلغت حدا من التطور ننشده نحن الخارجين من قهر أربعة عقود من حكم البعث المجرم, وهنا نرى أن هذه المادة تتناقض مع ما يليها مباشرة وهي المادة :
ثانياً - لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ولا مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
هنا التناقض واضح جدا فمبادئ الديمقراطية لا تجيز فرض قانون قديم لزمن حديث , فما يصلح لذاك الزمان لا يصلح بالضرورة لزماننا هذا , كما أن الدين يتعلق بفكر الإنسان وعقله واختياره , من هنا يفضل أن لا يكون نظاما سياسيا واسما لدولة متعددة الأديان وشعارا لها وذلك إمعانا بالعدل بين الناس ومحافظة على مشاعر الجميع لنشر المحبة وعد م استـئثار الأكثرية بفرض شروطها بما يتنافى مع حقوق الإنسان والمبادئ الطبيعية التي هي مصدر آخر من مصادر القوانين الوضعية في كل العالم.
كما أننا نخشى استخدام هذه الفقرة لتكون عائقا لما يصدر من فكر حر وآداب إنسانية وفلسفية أبدعها وعُرف بها الشعب العراقي منذ القدم, وها نحن نرى اليوم كيف يُستخدم اسم الدين عند البعض للتكفير والقتل والإرهاب, فكيف إن استغل كمادة ملتبسة بالدستور؟ كما لا يحبذ أن يكون الدستور مطاطا بل الوضوح والسلاسة هو المطلوب , فلماذا نضع الإشكاليات لنا ولأجيالنا المقبلة ؟
ثم أن هذه المادة تعطل كثيرا من المواد وتتناقض معها وتخلق صعوبات في التطبيق مستقبلا ومن هذه المواد :
أولا: الحقوق المدنية والسياسية
المادة (1):
العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي
المادة (17):
تكفل الدولة التوفيق بين دور المرأة في الأسرة وعملها في المجتمع، ومساواتها بالرجل بما يتيح لها المساهمة الفاعلة والكاملة في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بما لا يتعارض مع هذا الدستور.
المادة (31):
لجميع الأفراد الحق في التمتع بكل الحقوق الواردة في المعاهدات والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان التي صادق عليها العراق، ”والتي لا تتناقض مع مبادئ واحكام هذا الدستور
.
ثانياً: لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور، ويعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو أي نص قانوني آخر يتعارض مع هذا الدستور.
هنا سوف نشرح التناقض الحاصل مع هذه المواد , لنقل أن نضالات المرأة العراقية وهي الأكثرية اليوم توصلت إلى الحصول على قانون يساويها مع الرجل في جميع الحقوق وهذا ما تنص عليه المادة (1) من الحقوق المدنية , والمادة (17 )التي تقر بشكل واضح مساواتها بالرجل, إذن فهل تسمح أحكام الشريعة الإسلامية - التي تطلب المادة الثانية من الدستور الالتزام به وبأحكامه وتنفي كل ما يخالفه– هل تسمح بكتابة قانون أحوال شخصية يساوي المرأة بالرجل بالإرث والشهادة ويمنع تعدد الزوجات ويساويها مع الرجل بقانون العقوبات؟
هنا لدينا تناقض وإشكالية لا اعرف كيف يتم الخروج منها مستقبلا.. إشكالية في سن القانون وفي تطبيقه , ثم نرى ذات المادة تتناقض مع المادة (31) التي تتناقض مع ذاتها في عبارتيها أصلا والتي تنص على التمتع بالاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان و تردف العبارة بعبارة " بما لا يتناقض مع الدستور", أي الدستور الذي لا يجوز تنافيه مع أحكام الشريعة ألا سلامية والتي لا تتفق معها كثير من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وأولها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يطلب المساواة بين المرأة والرجل بكافة الحقوق بما فيها الأحوال الشخصية بل هي أهمها , كما أن هذا الإعلان يطالب الدول الأعضاء بالأمم المتحدة أن تكون دساتيرهم متفقة معه ولا تتنافى معه , فكيف يمكننا أن نوافق بين الشريعة الإسلامية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ؟ هنا إشكالية كبرى أيضا كان لزاما علينا تجنبها
ولنفترض أن جمعية وطنية منتخبة في يوم ما جاءت لتسن قانون عقوبات تفرض به على السارق عقوبة قطع اليد وهذه لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية التي يطلب الدستور الالتزام بها وبأحكامها , لكنها تتنافى مع حقوق الإنسان في المعاهدات الدولية, هنا كيف سيتصرف المشرع العراقي في ظل هذا الدستور ؟
أما في المادة (27) ينص الدستور على :
ب- ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية
هنا لا ادري لماذا يصرح المشرع ويؤكد على الشعائر الحسينية وكأنها مختلفة عن شعائر بقية الأديان المذكورة في الفقرة؟ وكأنهم بهذا يعترفون بأن هذه الشعائر ليست دينية والدين منها براء , فهل يريد إخواننا هنا أن يؤكدوا على شعيرة ضرب القامة والزنجيل وتعذيب النفس ونشر تقاليد العنف والتخلف الذي يجعلنا مهزلة أمام الشعوب الأخرى ؟ وليبقوا على هذه الشعيرة مصانة من كل حكومة متـنورة إن أرادت منعها بيوم ما لترتقي بتقاليد المجتمع العراقي وتمنع عنه الأذى وسفك دمه بنفسه بطريقة همجية لا نفع منها ولا تمت للحضارة بشيء ؟
أتمنى على المشرع العراقي توضيح هذا الالتباس والانتباه لهذه المواد ومعالجتها ليكون الدستور عقدا للتعايش بين أبناء العراق جميعا وان يكون عادلا وإنسانيا يدوم كي نبني العراق إنسانا, وأرضا , ومستقبلا , ولنفرح جميعنا وبكل ما نحمل من أحزان عميقة الجذور والعذابات...
أقول قولي هذا كحق أمارسه, يقره لي الدستور العراقي في كثير من مواده . وليرفرف حمام السلام على ارض السلام......
هذه قراءة أولية ربما يكون لي قراءة أخرى من وجهة نظر قانونية .....
#بلقيس_حميد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟