خليل صارم
الحوار المتمدن-العدد: 1297 - 2005 / 8 / 25 - 10:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكن الشارع السياسي السوري يعاني من أزمة قوى سياسية تقدمية على شكل تنظيمات وأحزاب ( قواعد وكوادر ) كما هو يعاني الآن , فالشارع السوري عبر تاريخه كان غنياً بقواه السياسية والأفكار المطروحة التي يمور بها لدرجة التخمة , حتى أنه كان يشع أفكاراً خلاقة على محيطه ومن يذكر في مطلع الخمسينات كيف كان هذا الشارع حافلاً بشتى المذاهب السياسية لدرجة الازدحام الشديد , وكيف أن نخب المثقفين تتلمذت في تلك المرحلة على أيدي هذا الشارع الذي كان يعج بالرؤى والطروحات والأيديولوجيات والنظريات وكلها كانت في حالة حراك لايهدأ لتنجب أفضل الكتاب والأدباء والمنظرين السياسيين والاجتماعيين أمثال حنا مينه وسعدا لله ونوس ومحمد الماغوط وفارس زرزور ونزار قباني وأدونيس وجلال صادق العظم والطيب تيزيني مع حفظ الألقاب والاعتذار ممن لم تحضرني أسماؤهم الآن لأنهم كثيرون جداً وهم نتاج تلك المرحلة وذلك المخاض الذي كان قد بلغ ذروته قبل أن ندخل العصر
( الثوري ) ؟؟!!
من المعلوم أن سوريا ومنذ بدء التكوين كانت هي العقل المفكر للبشرية من حيث التأسيس للمجتمعات المنظمة انتقالاً من الحالة البدائية لتشع في محيط البحر المتوسط حضارة ومدنية ناقلة الحرف الذي اكتشفته محولة الفكر الى نص مكتوب ومقروء , والمدقق الجيد في التاريخ ممن هم على مستوى متقدم من الأخلاق الرفيعة والإنصاف يؤكدون ذلك الدور السوري الأساسي في نشوء الحضارة على ظهر هذا الكوكب اذ أن كافة المكتشفات الأثرية في مدن حوض المتوسط تؤكد سورية المنشأ والثقافة والتنظيم , ولم تنقطع هذه السلسلة من التطور إلا في ظل النظام السياسي العربي الذي ظهر كإمبراطورية مسلحة في منتصف القرن السابع الميلادي ( الخلافة الأمويه ) التي احتكرت الحكم ليصبح ملكياً اوتوقراطياً متوارثاُ ثم لينتقل الى العباسية ..الخ . كونها تأسست في عملية إجهاض فكري لآخر الرسالات السماوية التي جاءت متوجة سلسلة الرسالات السماوية بأفكارها المتقدمة والملائمة لروح عصرها واضعة أسس تطوير هذا الفكر . ولأن النظام السياسي قد اعتبر نفسه بديلاً عنها وإن تحدث باسمها فقد أحل أفكاره المنحرفة بدلاً عنها لتنقطع سلسلة التطور الحضاري المجتمعي منذ ذلك الحين خاصة وأن النظام قد لجأ لأسوأ أسلوب قمعي لتثبيت أسسه ثم ليصبح هذا الأسلوب القمعي المتوحش موروثاً حشر بالنص المقدس بحيث لم يعد هناك إمكانية للتخلص منه بسهولة وتنقية أفكار الرسالة الأخلاقية من شوائبه . وهذا دليلاً أكيداً على أن المراحل السابقة له كانت عبارة عن سلسلة حضارية متواصلة لأنها كانت تعيش مناخات متميزة من الحرية , فلما حجر على الحرية , أخصي الفكر وأصبح عقيماً . من هنا نعود للتذكير بمطلع الخمسينات من القرن العشرين ( المنصرم ) حيث كانت هناك حياة سياسية غنية في ظل مناخ ديمقراطي حر وكانت هناك حياة برلمانية بكل مافي هذه الكلمة من معنى , كما كان القانون هو سيد الموقف رغم وجود بعض الهنات والتجاوزات ولكنها لم تكن ملحوظة بالشكل الفاقع والوقح كما هو الحال عليه الآن .
اذاً كان هناك حراك سياسي واسع وشامل وكانت هناك حالة ولادة لمستقبل غني واعد يؤسس لقوى سياسية متمكنة خارجة من نبض الشارع كان مقدراً لها أن تشع على مستوى المنطقة تطوراً ثقافياً. حضاريا ًيمنح الأجيال التالية القدرة على ترجمة الطموحات الى واقع ينتقل بهذه المنطقة الى مستويات متقدمة من الازدهار على كافة الأصعدة الاجتماعية السياسية الاقتصادية ويوفر لها قدرات أكبر لترجمة التطلعات الوطنية , كل ذلك كان يتنامى في ظل وجود قيادات سياسية حاكمه ثبت فيما بعد أنها ديمقراطية بكل مافي هذا المفهوم من معنى على عكس اتهامات القوى ( الثوريه )؟ التي تلتها ( رجعية , إقطاعية , متخلفة , عميله ) الى ماهنالك من مصطلحات حفل بها قاموس القوى الثورية ؟ والتي ثبت أنها كانت طفوليه فعلاً بأحلامها بعيدة كل البعد عن واقعها الحقيقي والبيئة التي أنتجتها , تفتقر الى الخبرة الأمر الذي أدى بها الى تفريغ نظرياتها وثقافتها من مضامينها , ليتأكد الشارع الآن أنها وطيلة مايقارب النصف قرن أنها قد القت به بعيداً عن مجرى الحضارة وأفقدته دقة الاتجاه ليضيع في خضم التناقضات المتخلفة في ظل حالة حضارية مذهلة يشهدها العالم على كافة المسالك والاتجاهات , ولتخرج قوى المجتمع بالنتيجة وبنهاية هذه التجربة الطويلة بحالة من التخلف الحضاري السياسي الاقتصادي لاتقاس.
على الصعيد السياسي : في ظل حالة متنامية من الضغط والحجر على الحريات والغاء الآخر تماماً الذي اضطر بعضه الى النزول تحت السطح يتحرك سراً ليكتشف عند أول فرصة ظهور أنه قد تقوقع في زمن آخر انتهى وأنه بات يملك نفس عقد القوى التي اعتادت العمل السري من حيث نظرتها الى الآخر على أنها الحيدة التي تمتلك الحقيقة وأنها تختزن في داخلها عقلية الثأر من كل شيء , لاتقبل أي نقد وترفض تطعيم أفكارها بالواقع الذي يشهده العالم , فإذا بلغتها التي تتحدث بها باتت منقرضة لاتحسن الحديث الى الشارع الذي سبقها بمسافات طويلة وبالتالي باتت غير قادرة على الإفهام والفهم .
- على الجانب الآخر فان القوى المشاركة بدورها قد ركنت الى تحالفها فاستسلمت للإغراءات المتوفرة لقياداتها حسب الحصص ليطول شهر عسلها ولتكتشف أنها مقابل المكاسب قد خسرت قواعدها وكوادرها وباتت وكأنها قيادات فقط بلا قواعد وان وجد فإنها قواعد متراخية متفككة فقد خطابها ولغتها وبادت في غربة عن شارعها الذي أدار ظهره لها كما هي أدارت ظهرها له وبالتالي باتت تفتقر الى الحد الأدنى من المصداقية كما أنها بدورها قد تقوقعت في حدود زمن مضى وانقضى تجتر شعاراتها التي أصبحت بعيدة تماماً عن مفاهيم الشارع وصارت حواراتها المتبادلة مع الشارع أشبه بحوارات الطرشان أو كأي اثنان مختلفي اللغة يتحاوران كل بلغته دون أن يفهم الآخر مايريده والمشكلة أنهما يتناقشان بحماس وفي اعتقادهما أن كل منهما يفهم مايريد للآخر .
- من بين هذه المسافات التي أصبحت تفصل القوى التقدمية عن الشارع تسللت القوى الظلامية باسم الدين وبحكم الموروث الديني للشارع لتعيد ضخ مفاهيمها مستندة الى إمكانيات مادية ضخمة والى كادر هائل من رجال الدين وأنصاف المتمشيخين مستغلة ردود الفعل المختلفة السائدة والتي تعود لحالة الطلاق بين السلطة وبين هذا الشارع والتعامل معه بفوقية وفي ظل حالة من الفساد تجذرت وتشعبت حتى باتت جزء من الثقافة العامة بشكل أو بآخر بمفاهيمها وقيمها الساقطة الى حدود الابتذال والاستهتار بكل القيم والأعراف والتقاليد والقوانين وكافة أشكال الانحلال الأخلاقي والتي أنتجت فئات وقوى مظلومة مسلوبة الحقوق وأجيال من الشباب تعيش أشكال البطالة في الوقت الذي تحتكر فيه الوظائف من قبل أزلام السلطة ومواليها المنافقين ليصبح ثمن الوظيفة يفوق قدرات الشريحة الأكبر بكثير , وترى حالة أهاليها الصعبة وصعوبات توفير اللقمة بكرامة . اضافة لما تراه من عسف وتسلط الموظفين والمديرين والروتين القاتل التي يواجهون بها المواطن , كل ذلك خلق ردة فعل لدى قسم لابأس به من أجيال الشباب لتتلقفهم القوى الأصولية الظلامية وتضخ فيهم شيء من أحلام وردية ووعود بتوفير فرص عمل بعيداً عن أجهزة الدولة , وتحت ستار المساعدات والأعمال الخيرية والسيطرة على بعض العمليات الاقتصادية وتوفير قروض بدون فوائد لمن يضمنه أعضاء وعضوات في تنظيماتهم السرية والبيع بالتقسيط المريح جداً وبأرباح رمزية تم التغلغل في صفوف هذه الأجيال وشد قسم لابأس به منهم , كل ذلك والسلطة والقوى الموالية لها وحتى القوى السياسية التقدمية التي تزعم المعارضة تقف متفرجة على مايحصل دون أن تبادر للرد وكل من هذه القوى يرمي الكرة في ملعب الآخر ويحمله مسؤولية الفشل والتفشيل بينما القوى المتخلفة تسير بثبات وفق المخطط الذي وضعته لنفسها أو وضعته لها قوى خارجية أخرى لافرق . واستكمالاً لحلقة السيطرة على الشارع عادت هذه القوى لتضخ في أوساط البسطاء مرويات دينية قديمة جديدة ( كاذبة ومختلقة ) وتطبيقات غريبة عجيبة للشعائر حتى أنها باتت قادرة على ضخ معتقدات جديدة وخاصة مخالفة تماماً للأصل وللنص واستطاعت تكريس مذاهب جديدة لم تكن معروفة في فترة الخمسينات .
- هل هناك قوى بديلة قادرة على المواجهة الفكرية والثقافية وماهي إمكاناتها :
قبل عدة سنوات وفي ظل خطاب القسم بدأت قوى جديدة تطل برأسها على الساحة السورية متبنية مفاهيم الحداثة والتطوير ( الحرية , الديمقراطية , العدالة والتنمية ) ... الخ ضمن اطار العلمانية ولكن بمفهوم غائم فهي لم تتقدم لهذا الشارع بوجهة نظرها الصريحة والدقيقة للعلمانية ومن خلال واقعها وبما لايسبب أية حساسية للشارع لأنها جاءت بها وألقتها بوجه الجميع دون تمهيد ( طبعاً مع استثناء بعض الشرائح المثقفة ) , كونها لم تمتلك مفهوماً واضحاً للعلمانية ولم تحسن أقلمة هذا المفهوم مع الموروث الثقافي بشكل لايكون هناك فيه أي تضارب في المفاهيم , ولم تحسن هذه القوى رؤية العلمانية على أنها مفهوم وليس نظرية أو أيديولوجية , وبالتالي قابليتها للتأقلم مع الواقع بما هو وتشكيل مفاهيم جديدة متحركة وقابلة للتطور بشكل مستمر كون العلمانية وكما أشرنا هي مفاهيم وليست نظرية محددة الجوانب لايمكن تجاوز حدودها , الأمر الذي عرضها لهجوم شرس من قبل القوى الدينية المتخلفة التي بدأت بتحريض الشارع ضد العلمانية على أنها شكل من أشكال الكفر والالحاد وإنها خاصة بالطوائف الأخرى ولا علاقة للإسلام بها ولم يفهم هذا الشارع أن هذا الهجوم يقوده رجال الدين الذين خافوا على مواقعهم التي اتخذوها فوق ظهور هذه الشعوب المسحوقة , كما لم يفهم هذا الشارع أن العلمانية تتعامل مع كافة العقائد والأديان والانتماءات الأخرى بمنتهى الاحترام طالما أنها لاتمارس القمع والقسر بمواجهة الآخر وأن هذه النظرة هي من صلب الدين الحقيقي الذي يقدس حرية الفرد والمجتمع , كما أن التعامل العقلاني المنطقي مع الواقع هو أيضاً من صلب الدين الصحيح , وهذا هو التقصير وعدم وضوح الرؤية التي تميزت به القوى السياسية الجديدة , كما أنها لم تتقدم بنفسها كأحزاب تسعى لكي تكون مؤسسة اجتماعية سياسية اقتصادية تمتلك رؤى وطروحات وأفكار قابلة للتطبيق وليست خيالية , كما لوحظ أنها مجرد موجة جديدة كأي تقليعة أو زي أو موضة . وبالتالي عادت لتنظم الى نادي فاقدي المصداقية . وهكذا .
وتبقى السلطة هي الطرف الأقوى والذي يتحمل مسؤولية القرار أمام المجتمع والوطن , فبتضييق هامش الحرية والمراقبة المستمرة للأفكار وبعامل موروثها الذي يعود الى نشأة الامبراطورية العربية لم تتمكن من الخروج من شرنقتها ولم تحسن التعامل مع الحرية التي هي الدافع والمحرك الأساس لعملية النهوض والتطوير , أفسحت المجال واسعاً لقوى الظلام والتخلف لبسط سيطرتها على الشارع , وماتزال هذه السلطة تصدق نفاق مواليها الذين يحشدون لها جيوش الموظفين في المناسبات لتنام في وهم عسل السيطرة على الشارع ولم تتعظ من درس العراق الذي أظهر بشكل لامجال فيه للشك حجم نفاق الموالاة التي لاتضم في غالبيتها سوى الانتهازيين والمرتزقة والتافهين الذين يسعون للتعويض عن تفاهتهم بممارسة النفوذ بمواجهة المواطن البسيط وهم بذلك يساعدون بشكل رئيسي في إنتاج كافة أشكال الحقد ضد البلد والنظام وضد كافة القوى الحضارية في الشارع , فمتى سيتعامل النظام بمنطق العقل ويعود الى الشارع بكافة قواه الحضارية في حالة من الحوار الوطني المستمر ليكون قوة حضارية تتفهم لغة الشارع وتقف الى جانب القوى السياسية الحضارية الأخرى مفتتحاً مرحلة جديدة لبناء سوريا النموذج الذي يلتف حوله الجميع بتلقائية وثقة وقبل أن يفوت الأوان فهامش الوقت يضيق , يضيق والأخطار تتعاظم .
#خليل_صارم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟