عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4617 - 2014 / 10 / 28 - 21:38
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
الأستقامة في اللغة جعل الشيء مستقيما أو على خط مستقيم فنقول مثلا تبنى الجدران على أستقامة الطريق أي تكون مستقيمة وفق خط الطريق الذي يفهم من النص ضمنا أنه مستقيم,والمستقيم بالرياضيات الهندسية هو أقصر خط واصل بين نقطتين ,أي لا يمكن تصور أنه يمكننا رسم خط أقصر منه يوصل بين نقطتين معلومتين,فالمنطق الهندسي الرياضي يقول إن المستقيم هو مما لا يتصور في أعوجاج أو ميل أو زيادة مخفية أو مستترة ,فلو كان فيه أقل أعوجاج فيكون الخط الذي ليس فيه أعوجاج أقل طولا منه وهو أكثر أستقامة منه ,أو أن يكون مطابق للأول فيكون متحدأ معه أو نفسه.
في النصوص القدسية نرى المعنى حاضرا لغويا ومنطقيا وبمفهومه الهندسي بقول الله تعالى{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }الشورى15,هنا أمر بطلب الأستقامة ولكن وفق أي محدد؟ ,ولأي غاية؟, وما هي الكيفية التي تصنع الأستقامة؟.
إنّ القضية المحورية في منهج القرآن هي إنسانية الانسان واحترامها،وتعريفه حقّه تجاه ربّه وبني نوعه،والحفاظ على تلك الحقـوق من خلال تعامل خالق الوجود في هذا الوجود والمجتمع والسلطة معه,ونظرته إلى ذاته,فالذي لا يفهم قيمته الانسانية في هذا الوجود لا يستطيع أن يحقِّق لذاته قيمة لدى الآخرين في الأسرة والمجتمع والدّولة وحتى يعرف ذاته عليه أن يعرف حدود حركة الذات ومسارها بين الحدود .
ليس من العدل أن يخلق الإنسان موجودا وهو لا يعرف حدود الموجود ولا ما هيته ولا يعرف قيمة كل ماهية على حقيقتها وهو يعلم مسبقا إن مسئول عما يختار من حدود{ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ{7} أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ{8} وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ{9} وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ{10}سورة البلد,فهو يعلم علم اليقين بما منحه الله من وسائل أدراكية وفوق ذلك بين له حدودا سماها النجدين أي الخطين المحددين أحدهما مستقيما{وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }الأنعام126,والأخر معوج {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} إبراهيم3 .
فهو محكوم بين أثنين من لاثالث لهما وهو ما أراد الله به الإنسان في مقام الجبرية فليس للإنسان إلا أن يسلك أحدهما بعد أن عرفه ما هيتهما ومؤدى كل واحد منهما وما على الإنسان إلا أن يكون مختارا لأي منهما بمقام الأختيار الحر بما شاء وعلى ضوء ما يشاء يكون الجزاء بما عُلمت وعَلمت من سابق العهد ما هو الطريق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172,فيكون الطريق إذا هو طريق الله الذين هم عنه ليسوا بغافلين, فكيف يكون لمن عَلم وتعلم وشهد وأقر بما شهد أن ينحاز لطريق غير الطريق الذي هداهم له رب العالمين {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً .....ِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ }الأحقاف30.
لقد جعل الله للإنسان قيمة هذه القيمة أصلها الإيمان بالصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا يميل لغير ما يريد الله, ويحدِّد القرآن هذه القيمة الانسانية من خلال حديثه عن كيفـيّة تعامل خالق الوجود معه،قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُم فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُم عَلَى كَثِير مِمَّن خَلَقْنا تَفْضِيلاً }الإسراء70 .
والقرآن حين يتحدّث عن الانسان يتحدّث عنه كقيمة إنسانية مفكرة واعية مدركة متعلمة وعالمة وشاهدة بما تتحسسه من دلائل وبما تتلقاه من نقل رباني مقدس حق كامل واضح وصريح،وليس أجهزة ماديّة تُمارِس عملها بالطّرق البايولوجية والفسيولوجية،وإن أعطى هذا الجانب حقّه,فيكون خياره لا بد أن يبنى على نفس الأسس التي تقدمت بالتكريم وليس على أسس مادية متزينة بظاهرها وتحمل في خفاياها الشر له {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27 .
هذه الحقيقة تقودنا إلى معنى الأستقامة التي وردت في النص الأول وهو وغيره الكثير من النصوص أقدر على كشف ماهية الأستقامة كسلوك بشري أمري الوجود نفعي النتيجة{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}التكوير 28, الآستقامة أشاءة بمعنى الأرادة الحرة فالنص يقول لمن شاء ولمن هنا تخيرية تفيد التبعيض والتقسيم كما {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }المدثر37, {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }الممتحنة6,وغيرهما من عشرات النصوص المقدسة.
فهو تعامل مع الانسان بانسانيّته،الإنسان العاقل المُدرِك،الإنسان المُريد المختار، الإنسان الأخلاقي الذي يستحسن الخير والحبّ والجمال، ويستقبح القبح والشرّ في سلوكه والموضوعات من حوله،ويستشعر قيمتها في وعيه ووجدانه ولا جبر ولا قدرية مسبقة إلا في حدود هذا الفهم ,وعليه سبحث موضوع الأستقامة بمبحثين الأول المحدد وفي الثاني الكيفية.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟