|
العراق وإشكاليات الفكرة القومية العربية 1 من 6
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1297 - 2005 / 8 / 25 - 10:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من المفارقات الكبرى للتحولات السياسية والفكرية العاصفة في عراق ما بعد الصدامية أن يصبح الحديث باسم العرب مهنة أو حرفة لأولئك الذين لم يعرف تاريخ العراق السياسي المعاصر ولا تاريخهم الشخصي تمثيلا لها ولا دفاعا عنها ولا تأييدها ولا حتى موقفا حياديا تجاهها. وهو تحول يمكن النظر إليه على انه خطوة صحيحة في مسار الوعي الذاتي الوطني (العراقي) والقومي (العربي). فالإحداث الأخيرة في العراق سوف تدفع الوعي الوطني العراقي للاقتراب أكثر فأكثر من حقيقة الفكرة القومية العربية، وذلك لما فيها من إبعاد جوهرية بالنسبة لإعادة بناء الفكرة الوطنية العراقية وترسيخ أسس وقيم الدولة الشرعية، أي الدولة التي لا مجال فيها للتجزئة الطائفية والجهوية والعرقية والقومية الضيقة. والقضية هنا ليس فقط في أن القومية العربية هي محور الوطنية العراقية ومكونها الجوهري، بل ولما فيها من إبعاد ديمقراطية بحد ذاتها بوصفها قومية الأغلبية المطلقة في العراق. بعبارة أخرى، إن القومية العربية في العراق هي القوة التي تحتوي في ذاتها على إبعاد الوحدة الوطنية والاجتماعية. ومن ثم فان تمثلها العقلاني في فكرة مناسبة لأوضاع العراق يجعل منها ضمانة التطور الديمقراطي الاجتماعي، أي الصيغة الأكثر تجانسا للوعي السياسي والدولتي. لكن حالما نتأمل أفكار ومواقف مختلف "الهيئات" و"اللجان" "العربية" المدافعة عن الأقليات القومية والدينية الأخرى في العراق، فان الفرضية الأنفة الذكر عن "الخطوة الصحيحة في مسار الوعي الذاتي الوطني والقومي" تنقلب رأسا على عقب. والقضية هنا ليست فقط في أن هذا النمط من الممارسة السياسية المقلوبة يعبر عن فكرة متعالية تريد القول، بأننا "أفضل العرب" و"نحن ملح القوم"، و"أننا مصدر المروءة" وما شابه ذلك. وهو حق فيما لو جرى من جانب قوى قومية. غير أنها لا تتعدى في الواقع أكثر من مواقف وأفكار متناثرة لا يربطها سوى اجترار الآراء والتصورات النفسية المعادية للعرب في أوساط الحركة الشيوعية وبعض نماذج التعبير الإيديولوجي والسياسي للأقليات القومية في العراق. وهي مواقف وأفكار تعكس تداخل مكونين، الأول وهو كونها تعبيرا في الأغلب عن نفسية وذهنية الأقليات، وثانيا أنها لم تكن عراقية بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما كانت قوة سياسية في العراق. وهي ظاهرة يمكن تلمسها بوضوح في رجوع اغلب مكوناتها إلى أصولهم العرقية أو القومية الضيقة. بحيث نرى الكردي يرجع إلى كرديته والفيلي إلى فيليتيه والأشوري إلى أشوريته والتركماني إلى تركمانيته والصابئي إلى صابئيته وما شابه ذلك. وفيما لو أجرينا دراسة إحصائية لمكونات الحزب الشيوعي العراقي الآن مقارنة بما كان قبل عقدين، فان نسبة الأقليات القومية التي كانت غالبة فيه قد انخفضت بصورة هائلة. وقد يكون من الصعب الآن العثور عليهم في حزب أممي لم يحصل في ظل التعددية القومية في العراق على أكثر من 1% في الانتخابات الديمقراطية الأخيرة! وفي هذا الواقع يكمن أحد أسباب "الانقلاب" الغريب في تحول بعض غلاة الشيوعية في العراق للحديث باسم العرب، ولكن لا دفاعا عنهم بل عن القوميات الأخرى! وهي نفسية وذهنية تجتر بأسلوب "جديد" نفسية وذهنية الأقلية. فالحركة السياسية التي تدعي تمثل القوميات جميعا، أي الممثلة للأبعاد الوطنية الكبرى ينبغي أن تدافع دوما وأولا وقبل كل شيء عن القومية الأكبر فالقومية الأكبر هي الضمان والسند الأساسي لكل رؤية إستراتيجية سليمة، كما أن حل مشاكلها يتضمن بالضرورة حل مشاكل الآخرين. وذلك لما في هذا التوجه من أبعاد سياسية واجتماعية سليمة ومستقبلية في الوقت نفسه لحل كافة المشاكل والإشكاليات التي تواجهها الدولة والأمة.. وتجربة العراق تبرهن على استحالة حل قضية الأقليات دون حل قضايا القومية الكبرى. أما حالما يتحول الحديث باسم العرب لمهاجمة العرب في كل صغيرة وكبيرة مثل اتهامهم الدائم بالعنصرية والشوفينية والتعريب والدموية والفاشية والنازية وما شابه ذلك من أحكام أيديولوجية فجة، فانه يمثل أولا وقبل كل شيء نفسية وذهنية الأقلية المحقونة بكراهية العرب. وهي كراهية تمثل الوجه الآخر للعنصرية المبطنة. والقضية هنا ليس فقط في انه ليس هناك من قومية في المنطقة، من حيث كونها قومية وشعب، دافع ويدافع عن الأقليات في العراق أكثر من العرب أنفسهم، بل ولما في سلوك "الناطقين باسم العرب" من فجاجة في تناول مختلف القضايا المتعلقة بهذه القضية. والقضية هنا ليس فقط في أنها لا تعمل إلا من اجل "الدفاع عن الأقليات"، بل ولتقديمها هذه المهمة على أولويات الرؤية الوطنية العامة أو لتوظيفها في هجوم سافر ومستتر ضد العرب والقومية العربية في العراق والعالم العربي ككل. بعبارة أخرى، إن مهمتها الأساسية هي خدمة الشعارات السياسية للأقليات القومية وليس الشعار الوطني العام. أما هذا الأخير فانه لا يتعدى من حيث الجوهر أكثر من غلاف ظاهري لاحتراف سياسي ضيق! إن الحديث باسم العرب في العراق هو ليس مهنة ولا متاجرة ولا حتى حقا، بل التزام مادي ومعنوي. وهو التزام يفترض الارتقاء إلى مصاف الرؤية القومية الثقافية والوطنية الحقيقة. ذلك يعني أن العرب في العراق ليسوا بحاجة إلى "لجنة عربية للدفاع عن الأكراد"، بل إلى حركات اجتماعية سياسية وطنية مهمتها تأسيس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والمجتمع المدني. فالوطنية العراقية السليمة تفترض الدفاع عن القوميات جميعا، مثل التركمان الاكلداآشوريين والفيليين والشبك واليزيديين والأرمن والعبرانيين وغيرهم، وليس عن الأكراد فقط! فهي مواقف يمكن للمرء أن يشتم منها رائحة عنصرية. إضافة إلى ما فيها من مجافاة لا معنى لها في ظروف العراق الحالية. فالأكراد لهم "دولتهم" الخاصة و"برلمانهم" و"جيشهم" و"قواهم الأمنية" و"رؤوس أموالهم"، باختصار إنهم يتمتعون بقدرة "للدفاع عن أنفسهم". بعبارة أخرى، إنهم ليسوا بحاجة إلى "لجنة عربية" للدفاع عنهم. إن تشكيل لجان قومية للدفاع عن قوميات أخرى هو بحد ذاته فعل متناقض. إذ من الممكن فهم تشكيل لجان قومية تركمانية للدفاع عن التركمان، وكلداآشورية للدفاع عن الكلداآشوريين, وكردية للدفاع عن الأكراد، ولكنني لم اسمع بوجود هيئات قومية فرنسية للدفاع عن الكورسيكانيين أو انجليزية للدفاع عن السكوتلنديين أو اسبانية للدفاع عن الباسكيين، أو صينية للدفاع عن الايغوريين، أو روسية للدفاع عن الشيشانيين أو فارسية للدفاع عن الأذربيجانيين، أو تركية أو فارسية للدفاع عن العرب والأكراد. غير أننا نعثر على صيغ للدفاع عن الأقليات من خلال برامج سياسية وطنية اجتماعية عامة. من الممكن تشكيل هيئة اجتماعية أو سياسية للدفاع عن العدالة أو مواجهة الاستبداد والظلم والقهر وما شابه ذلك. حينذاك يصبح هذا النوع من الدفاع التزاما ماديا ومعنويا، أي مسئولية وجزء من تراكم وعي الذات الاجتماعي العقلاني والإنساني. لاسيما وانه الطريق الأكثر واقعية وعقلانية لتحقيق الأهداف المعلنة من وجهة النظر الوطنية العامة. كما انه فعل لا يتناقض مع وجود حركات قومية تمثل نفسها، ولكن بمعايير الرؤية الوطنية العامة فقط. وما عدا ذلك تصبح الفكرة "الدفاع عن الأقليات" صيغة مقلوبة لإيديولوجية الانفصال والانعزال القومي. إن حق الحديث باسم العرب هي ليست مصادرة، مأخوذة من نفسية الابتذال الإيديولوجي للماركسية التي اخذ منها أنصاف المتعلمين الصيغة الوهمية القائلة، بأنه كلما يكون المرء اقرب إلى الحضيض في سلم الحياة الاجتماعية كلما يكون أكثر اقترابا من حق تمثيل العدالة والمساواة والإنصاف. إن حق الكلام باسم العرب يفترض تمثل حقائق الفكرة القومية العربية والدفاع عنها بالشكل الذي يجعل منها امة ثقافية. وفي ظروف العراق يفترض ذلك التمسك بالحد الأدنى لها والقائل، بان العراق هو ليس تجمع أعراق، وانه هوية تاريخية ثقافية تشكل الرافيدينية العربية الإسلامية مضمونها الفعلي. وهي المبادئ الوحيدة التي تستجيب لوحدة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية الحرة. وان العمل بهذا الاتجاه هو الذي يعطي لكل حركة وهيئة وتجمع وحزب مصداقية تمثله وتمثله للعرب والعراق. بعبارة أخرى، إن "حق" تمثيل العرب في العراق ليست تجارة حزبية بل التزام قومي!
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حق تقرير المصير- في العراق – الإشكالية والمغامرة
-
هوية الدستور الحزبي ودستور الهوية العراقية؟
-
أشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق-2 من 2
-
إشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق+1 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - التصنيع العرقي 2 من 2
-
الخطاب القومي الكردي في العراق - الهمّ الكردي والهمّ العراقي
...
-
مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9
-
الأهمية الفكرية للمرجعية-8 من 9
-
الاهمية السياسية للمرجعية 7 من 9
-
الأهمية الروحية للمرجعية 6 من 9
-
المرجعية الشيعية ومرجعية التقليد - الواقع والآفاق 5 من 9
-
المرجعية الشيعية - الفكرة والتاريخ الفعلي 4 من 9
-
فلسفة المرجعيات في التراث العربي الإسلامي3 من 9
-
مرجعية الروح المتسامي ومرجعية النفس السيئة 2 من 9
-
فلسفة المرجعية والمرجع في العراق1 من 9
-
الديمقراطية في العراق - خطوة إلى الأمام
-
الفدرالية القومية في العراق - خطوة إلى الوراء
-
النخبة السياسية في العراق – الهوية المفقودة
-
هل العراق بحاجة إلى مساعدات؟
-
جنون الإرهاب الوهابي - خاتم الإرهاب التوتاليتاري 4 من 4
المزيد.....
-
تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ
...
-
بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق
...
-
مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو
...
-
ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم
...
-
إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات
...
-
هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية
...
-
مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض
...
-
ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار
...
-
العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|