في جامعتي أربيل والسليمانية
الشاعرالعراقي غيلان
أسئلة في الهوية والشعر
(القى الشاعر العراقي غيلان محاضرتين الأولى في جامعة صلاح الدين (أربيل)-كما يصرالشاعرعلى تسميتها- وفي جلمعة السليمانية وذلك ضمن نشاطه المستمر مع زيارته لوطنه العراق وكردستان منه…)
المحاضرة الأولى التي قدم لها الدكتور اسماعيل قرداغي كانت تحت عنوان ((الشعرالعراقي من الراهن الى الواقعية الأولى أقترب فيها الباحث من المنهج البنيوي في التحليل اللغوي راسماًتضاريس التاريخ العراقي واضعاًالأسئلة عليها ومن الأسئلة يبدأ غيلان بحثه في السؤال عن الهوية العراقية واشكالاتها والتي صارت بمثابة المفتاح لدراسته في الشعر العراقي وأيضاًالهدف في رسم صورة واضحة لهذه الهوية عبر تحريرها من الضغوط القومية.
وعن اهويةالعراقية واكالاتها هكذا تحدث :-
" الكتابة عن الشعر تقودك إلى خصوصيات الأمم والأقوام التي تحيلك بدورها إلى الأسئلة التي يخلقها الشعر ومستوى تأثير هذه الأسئلة على النشاط المتسائل للخطاب الإنساني. وما أن نبدأ بالحديث الذي يسبق الكتابة عن أسئلة تتعلق بالشعر العراقي ترتسم أمامنا خارطة هائلة لتلك الرحلة التي يتوجب قطعها للوصول إلى مصادر الخصوصية التي يتمتع بها الشعر العراقي وخلقه للأسئلة ومستوى تأثيره على قوة الدفع الحضاري في تفاصيل الخطاب الأخرى والثقافات الأخرى فإذا كانت العربية هي لغة الكتابة لغالبية الشعراء العراقيين فإن هذه اللغة وتكوراتها لا بد أن أردنا معاينتها من العثور على تلك الخصوصية العراقية وذلك المناخ وتفاصيله الدافعة لقوة الوجود (إضافة إلى اللغات الآشورية، الآرامية، الكرديةوالتركمانية والشعبية).
وقد أنجزت الثقافات الإنسانية مشروعات تتعلق بخصوصية الشعر فعرف القارئ والباحث ملامح الشعر الفرنسي وتمكن من خلال الانطلوجيا والدراسات والمختارات معرفة التفاصيل التي ميزت الشعر الفرنسي عن سواه من الشعر، وحصل ذلك مع الشعر الأمريكي الذي حصد بجدارة أسباب تمايزه عن الشعر الإنجليزي رغم وحدة اللغة التي فتح في إنفاقها الشعراء الأمريكيون أسباب تمايزهم وطرائق تعاملهم مع لغة بدأت تحمل مكتسبات جديدة في الدلالة مصدرها التعدد الثقافي وهو ما أعان القصيدة الأمريكية على التحليق إضافة إلى خصوصية الحياة وتفاصيلها التي أتت حادة ومشاكسة، قاسية لا تخلو من النبل ومتغيرة بحكم الواقع الثقافي وقوة خطابه الدافع للوجود. وحصل ذلك مع الشعر الإنجليزي والأسباني والخ من الثقافات التي أنجزت خارطة لخصوصية شعرها لأن في إنجاز ذلك ولو كان نسبياً هو تكوين الحالة الثقافية الخاصة وتحصينها بالأسئلة التي يدور حولها الفكر الإنساني بلغة وخصوصية هذه الأمة أو تلك .
وفي مواجهتنا للسؤال حول خصوصية الشعر العراقي، تظهر أمامنا حقيقة ارتباط الثقافة العراقية بالثقافة العربية بروابط عجز عن تفكيكها أو خاف من تفكيكها الخطاب النقدي أو التاريخي مما ألحق بخارطة الثقافة العراقية وتفاصيلها وخصوصياتها الارتباط الذي جمد التفاصيل وواصل مهمته في التجميد لمراحل تاريخية تمتد من الإسلام في فتوحاته ذات الطابع الاستيطاني للعراق إلى يومنا هذا. ورغم ارتباط الثقافة العراقية بتفاصيل هذه الروابط إلا أن خصوصيتها الصعبة جعلت منها قادرة على الإفلات من قبضة هذه الروابط تارة بالانعزال ومرة أخرى بالحس المناهض للانصهار .
ومجرد النظرة الجريئة إلى خارطة العراق ستكشف لنا أن الفترة الممتدة من بداية الحضارة السومرية إلى السقوط الأخير لدولتي بابل وآشور هي الفترة التي عثرت فيها الحفريات على تلك الأسئلة وتلك الملاحم والحفريات الثقافية التي تأخذ على عاتقها البحث عن جوهر الثقافات لا يمكن أن تقوم بذلك لمجرد التأثير السلبي على تناغم ما، التناغم المقصود به هنا الطابع العربي للهوية العراقية الأمر الذي يربك خارطة البحث ويعيدنا وقبل قراءة الشعر وتدوين خصوصيته العراقية إلى إشكاليات الهوية العراقية، ففي الوقت الذي يسهل فيه على الباحثين الحفر والتوغل لمعرفة جوهر الهويات، بل أصبحت هذه البحوث مدار اهتمام المؤسسات الثقافية في العالم ويتم الاحتفال بالكتاب الذين يبحثون في الهويات لما تقدمه هذه البحوث من معلومات تتعلق بإشكالية الإنسان المعاصر وقد نجحت بعض الكتب في الوصول إلى بعض أهدافها كما حصل مع أمين معلوف على سبيل المثال لا الحصر في دراسته عن الهوية المركبة وبالتوازي مع البحوث هذه نجحت في توغلها البحوث المتعلقة بالتاريخ الجيني وتثير هذه البحوث والنتائج الكثير من النقاشات اليوم حول المستقبل الباهر للهندسة الوراثية، أسوق ذلك لما أجده من صعوبات تحيط أي بحث في الهوية العراقية مع أن البحث فيها يغذي الكثير من قنوات المعرفة الإنسانية بالمعلومات عن التذاوب والانصهار كما في التجوهر والتمايز للهويات التي أضفى عليها الزمن طابع الهويات المركبة ولو سطحياً .
ويحتل الاهتمام بالهوية العراقية مساحات مهمة من البحوث ذات العلاقة بالتكونات الأولى للحضارات حيث يتصدر العراق قائمة التأسيسات الأولى للمدن والكتابة وتشكيل اللوائح والقوانين المنظمة للحياة الإنسانية والطبيعية ويتكفل السير الدقيق لهذه البحوث والدراسات حين يتعلق الأمر باللغة فنرى تدفق تلك المعلومات التي تؤشر انتقالات اللغة وتطوراتها في الحقب والمراحل الحضارية عارضة مستوى التأثير اللغوي بين الشعوب وما تم نقله أو استحداثه لدى الشعوب نتيجة لذلك التأثر ونتائجه الواضحة في آداب وعلوم واهتمامات الشعوب ولعل من أبرز تلك التأثيرات الملحمة العراقية "ملحمة كلكامش" وصولاً إلى التفاصيل التي ليس أقلها إثارة المعالجات التحليلية للغات الإنجليزية ومستوى تأثرها أو الحياة التي تنفسها بعض المفردات السومرية في لغات العالم الحديث وهو ما يبثه كتاب الحروف.
ولكن ما أن ننتقل إلى الهوية العراقية وإشكالات البحث في راهنها حتى تبدأ الاعتراضات التي تتخذ طابعاً قومياً صرفاً يحيل هذه البحوث إلى دائرة الاتهام بإخراج العراق من عجينة العروبة تارة وتارة بادعاء صبياني يقول بأن العراق دولة مستحدثة بفعل اتفاقيات سايكس بيكو (كما يذهب بعض القوميين الأكراد). وفي الحالتين إساءة بالغة الجهالة إلى الهوية العراقية وعرقلة للشروع في بحث إشكالياتها الراهنة. فرغم ما توفره العروبة من إغراء يطمس الهوية العراقية.. لكنها لا تستطيع سد الثغرات التي تظهر الطبيعة المتمايزة لهذه الهوية واشتغالاتها الوجودية واستبسال أسئلتها في البقاء حية يتوارثها الأبناء شفاهة وجينات وهذا هو دافعي لقراءة الشعر العراقي من الراهن إلى الواقعية الأولى".
وبعد هذا التقديم يبدأ الدخول من الراهن الذي اتسع بفعل خصوبة النص الذي حررته في التأريخ من الملاحم السومرية الأولى الى آخرجيل شعري فيالعراق فتقرأ الملحمة وأسئلتها في الخلق والموت،في السعادة والخلود ويوضح لنا الباحث انتقالات كلكامش وأناشيد الحب السومري الى الثورات والى ملاحم الأغريق.. ثم يتطرق الى فترة الفتوحات الأسلامية فيقول:"منذ السقوط الأخير لدولتي بابل وآشور …مروراً بفترات الفتح الأسلامي الذي اخذ طابعاً استيطانياً لايمكننا العثور على على مدنوات عربية تشير الى عراقية هذا النص او ذاك .ويسأل هل يمكن أعتماد ما كتبه شعراء العرب الذين استوطنوا العراق شعراً؟ ويطرح مثالاً على ذلك "المتنبي".
وعبر انتقالات الدراسة الى الحقب والمراحل يعتمد الباحث "بدر شاكر السياب" بأعتباره الشاعر الذي اعاد الشعر العراقي الى ينابيعه الأولى عبر تحريره من المناخ الشعري العربي وأعتماداته الذم والمدح أستند الباحث في ذلك الى "انشودة المطر"،"والمعول الحجري" ولم ينس الباحث الشاعر الجواهري ؛اذ لم يستخدم عبارة الحلقة الحيوية التي اعتاد الكتاب على وصف الجواهري بها بل عمد الى وصفه بمن طوع عمود الشعر العربي لهمومه العراقية .
وتبدأ انتقالت الدراسة بعد السياب عارضة تأثيره في حركة التجديد التي اتخذت منابر لهامجلة"شعر"،"حوار ،"الآدب البيروتية" ثم جيل الستينات وجيل السبعينات ويعرض بعدها للجيل الأعزل(جيل الحصار) مؤكداً انه يقف بالضد من تجييل الشعراء فلاريادة وفقاَلمنظوره الا للنص .
وقبل ان اختتم هذا العرض البسيط لمحاضرة اثارت الكثير من الأسئلة الجديدة والجريئة والتي سبق للباحث ان هيألها في الحوار الذي أجرته معه فضائية"Kurdsat " بودي ان اضع خاتمة البحث نهاية لهذا العرض والتي جاءت بعنوان جانبي "العراق وادي الشعر والعجائب".
ما كان لأي شعب أن تتقاطع فيه المتناقضات دولية أو حضارية مثل الشعب العراقي الذي تميز بخصوصية أمدّته بالقدرة على الاستمرار في مشاكسة التاريخ. ليس في عصر الجبروت الأموي حيث أعلن الحجاج صلعه وعجزه من الوصول إلى قلب عراقي واحد رغم أنه قطف الرؤوس مثلما تقطف ثمرة التفاح، ورغم أنه نقل طموح السلطة إلى الوجدان العام فكان لا يتردد عن إعلان رغبته بنبش وجدان العراقيين بالسيف. وليس ذلك من الخيبة العميقة التي مني بها حكم بني العباس حين ظنوا بأن نقل العاصمة الإسلامية من الشام إلى بغداد سيجعل من العراقيين أنصاراً يدعمهم التاريخ الذي يشاكسونه وبذلك تتحقق مساحة مشروعة في لغة الحضارات لحكمهم ويوفر عليهم أغلظ تحتاج يتمثل باحتجاج سكان بلاد السواد الذين قال عنهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب " والله لو حكمتُ هذا المصر (ويقصد العراق) لحكمتُ الأمصار كلها". هؤلاء السكان الذين لم يتردد ابن خلدون عن وصفهم بالشجاعة والمروءة والكرم. وليس ذلك من الجنون المريض الذي أصاب سلاطين العثمانيين كلما أرادوا إصلاح علاقتهم مع كائنٍ لا يمكن معاينته بالمقارنات الأخلاقية سهولية أو جبلية، صحراوية أو نهرية، حارة أو باردة، فهو كل ذلك وهو الجزء أيضاً. وليس ذلك من حيرة العصر الإنجليزي بعد الحرب العالمية الأولى، حيرة تكشفها وثائق الرفض المطلق لكل الحلول حتى وأن كان ذلك في تنصيب صالح جبر الشيعي ومن سكان الجنوب رئيساً للحكومة وكان ذلك محاولة ذكية تقوم على وقائع الغالبية والأقليات الذي يشتغل عليها العقل الكولنيالي لكنها لم تكن موفقة مع العراقيين فإن خاطبوهم كعرب رفضوا العروبة وتشبثوا بعراقيتهم الأولى وأن خاطبوهم بالدين قالوا أن الدين حق فأين حقوقنا؟ وأن خاطبوهم بالشدة نقلوا جمر احتجاجهم إلى الغموض الذي لا يجيز للحاكم الاستراحة (…) وهكذا تخلى الإنجليز عن نصف الملف بعد أن أدركوا أن العراقيين لا يقرأون تاريخاً واحداً فطلابهم يتبولون على كتب التاريخ المقررة وفي بيوتهم يقرأون تاريخهم الجيني وفي مقاهيهم يقرأون تاريخهم الوجودي وفي السياسة يميلون إلى مشاكسة التاريخ لأنه وباعتقادهم يشبه عملية تزوير الألقاب بقوة اليد أو بقوة المال أو بغيرهما، وهكذا يكتب التاريخ المقرر.
ومن هذه النقطة بدأ الحفر الأمريكي عن العداوات العراقية الأولى فهيأ الحطب القومي والديني لأضرامه بيد عراقية فكانت الحرب العراقية الإيرانية أوسع محرقة للذاكرة العراقية وأعنف وسيلة لجر العقل العراقي إلى الإعلان وكان ذلك في إعلان طلبة معهد تكنولوجي ثانوي إنجازهم لمكثفات تخصيب اليورانيوم (…) التي ستكون نتائجها مائدة الرمل المفتوحة حتى هذه اللحظة بتفاصيلها وحصارها وسوداويتها وكوميدية خطاباتها .
ساقني إلى كل هذه المجتزءات ملف الشعر العراقي في الداخل والذي وصلني مؤخراً وكي أكتب مقدمة له بدأتُ بطرح الأسئلة وكلما فرغتُ من سؤال نبتت أمامي حديقة من الأسئلة حول شعب لا يكف عن الاستناد إلى الشعر في كتابة التاريخ وهذه من أصعب العمليات في العلوم الإنسانية في أقل تقدير فالشعر يلاسن التاريخ ويشاكسه أو يوازيه في أعلى مراحله لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً عنه إلاّ في وادي الشعر والعجائب… العراق
نيازي أنور /أربيل.
e-mail [email protected]