عادل شكيب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 4612 - 2014 / 10 / 23 - 13:57
المحور:
الادارة و الاقتصاد
مرّ الاقتصاد السوري بالعديد من المراحل, بعض من هذه المراحل كانت مراحل ازدهار والبعض الأخر كانت مراحل انحدار. سيتم عرض هذه المراحل بدءا من عام 1946 (عام الاستقلال من الاحتلال الفرنسي) حتى عام 2010, وسيتم تسليط الضوء بشكل مختصر على التدهور الكبير الذي لحق بالاقتصاد السوري نتيجة الازمة التي تمر بها البلاد بدءا من عام 2011 وحتى عام 2014.
بعد تحقيق الاستقلال من الاحتلال الفرنسي الذي ربض على صدور السوريين لمده 26 عاما تقريبا, كان للقطاع الزراعي الدور الرئيسي في الاقتصاد السوري, ولعب دورا مهما في تطوير القطاع الصناعي في البلاد ايضا. ذلك لان الاقطاعي (صاحب الاراضي الواسعة والمحصول الزراعي الوفير) كان يستثمر الاموال التي يجنيها من الزراعة في انشاء مشاريع صناعية تعود عليه بربح اكبر. من جهة اخرى, شهدت تلك الفترة من تاريخ البلاد درجة كبيرة من عدم المساواة الاجتماعية ما بين افراد المجتمع, وكانت المناطق الريفية تعاني من نقص في الخدمات الرئيسية مثل التعليم والصحة والكهرباء والمواصلات وشبكات الري. فما كان من هذا الوضع السيئ الّا ان خلق الظروف المثلى لظهور قادة سياسيين يطالبوا الدولة باتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وإدارة الاقتصاد من خلال امتلاكها لوسائل الانتاج الرئيسية.
في عام 1958 تم الاعلان عن تشكيل الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر بقيادة جمال عبد الناصر. كانت سياسة هذه الدولة تتجه نحو الاشتراكية من خلال اصدار العديد من القوانين التي تتيح للدولة السيطرة على الموارد الطبيعية في البلد وتنشط دور القطاع العام وتحارب الاقطاعية من خلال اصدار قانون الاصلاح الزراعي. الّا ان الاتحاد بين سوريا ومصر لم يدم طويلاً. ففي عام 1961 تم الانفصال, وبذلك كان قد تم القضاء على اول تجربة وحدة عربية في العالم العربي بعد رحيل المحتل الغربي عن عالمنا العربي. امّا الحكومة السورية التي جاءت بعد الانفصال فلم تستمر في اجراءات التأميم والسير بالاقتصاد السوري الى الاشتراكية, حتى عام 1963, عندما قامت ثورة الثامن من اذار بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي والتي رسمت سياسة اقتصادية جديدة وواضحة المعالم للدولة السورية, وكان من اهم ميزات هذه السياسة هو السير بالاقتصاد السوري نحو تحقيق الاشتراكية, بما تعنيه من ملكية عامة لوسائل الانتاج وإدارة الاقتصاد من خلال التخطيط المركزي.
وبالاعتماد على مبادئ الاشتراكية وقف الحزب إلى جانب العمال والفلاحين ضد البرجوازية والإقطاعية. كما تم اعتماد سياسة التأميم من قبل الدولة, فتم تأميم معظم الصناعات التحويلية والصناعات الاستخراجية والموارد الطبيعية والتجارة الخارجية وشركات النقل والمواصلات والكهرباء والمصارف وشركات التأمين, بالإضافة إلى تأميم التعليم بكافة مراحله وجعله مجاني, وتم تطبيق نظام نقد خاضع لرقابة شديدة من قبل الدولة وغير قابل للتحويل الحر. بالإضافة الى ذلك, قامت الدولة بدعم القطاع الزراعي من خلال الاستيلاء على مساحات واسعة من الاراضي التي كانت مملوكة من قبل الاقطاعيين وتم توزيعها على الفلاحين, وتم دعم الفلاحيين بالقروض والبذور والسماد والالات الزراعية. ايضا, عملت الدولة على تحسين البنية التحتية من خلال توسيع شبكات الطرق والكهرباء في البلد, واتبعت سياسة دعم اسعار السلع والخدمات الاساسية بقصد تحسين المستوى المعيشي للمواطنين. لكن مع نمو دور القطاع العام خلال هذه الفترة, تقلص دور القطاع الخاص بشكل كبير, حتى اصبح لا يملك اكثر من 25% من الصناعة المحلية في مطلع السبعينات, ومعظم هذه الصناعات كانت عبارة عن ورش ومشاغل.
سبعينيات القرن العشرين 1971 - 1980:
ظهر توجه جديد من قبل الحكومة خلال هذه الفترة لإعطاء دورا اكبر للقطاع الخاص وتحقيق نوعا من التعددية الاقتصادية في البلاد. كما عملت الحكومة السورية خلال هذه الفترة على تخفيض القيود على مستوردات القطاع الخاص وتحقيق الانفتاح الاقتصادي بشكل اكبر. كما صدر تشريع يشجع اصحاب رؤوس الاموال السوريين الذي غادروا البلاد بأموالهم هربا من موجة التأميم التي شهدتها البلاد في الستينيات للعودة الى سوريا والاستثمار فيها بقصد تحسين الوضع الاقتصادي الذي كان يعاني من الركود. كما تم السماح بإقامة شركات فندقية وسياحية مشتركة مابين القطاعين العام والخاص, وتم منحها مزايا عديدة مثل تسهيلات استيراد وإعفاءات جمركية وضريبية. كما تم انشاء المنطقة الحرة عام 1971 بهدف تشجيع الصناعات التصديرية في سوريا. كما كانت هناك محاولات جادة من قبل الحكومة لتحسين العلاقات مع الدول العربية بشكل عام ومع دول الخليج بشكل خاص, وعملت على تخفيف التوتر في العلاقات مع الدول الغربية. وقد حصلت سوريا خلال هذه الفترة على مساعدات مالية من قبل الدول العربية بلغت قيمتها حوالي 1.5 مليار دولار سنويا, مما ساهم في زيادة نفقات الحكومة الاستثمارية لإقامة مشاريع البنية التحتية وبناء الشركات والمصانع, مما خلق مناخ استثماري افضل للقطاع الخاص الذي اندفع بقوة بعد عقد من التأميم. أضف الى ذلك, ارتفاع سعر النفط العالمي عام 1973-1974 ادى الى زيادة حجم الانتاج النفطي في البلاد, مما كان له اثر ايجابي وواضح على الاقتصاد السوري بشكل عام, وكان لانفتاح اسواق العمل في الدول العربية النفطية امام العمال السوريين دورا هاما الى حد ما في تحسين الوضع الاقتصادي السوري, من خلال تحويل الاموال من قبل هؤلاء العمال الى ذويهم في سوريا. وعملت الحكومة السورية ايضا على خلق بنيه تحتية قوية من خلال توسيع شبكات الطرق والكهرباء والمياه والري والتوسع في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية لأفراد المجتمع, مما ساهم في عمليه التطور الاقتصادي والاجتماعي المعتمدة من قبل الدولة. كما استطاعت الحكومة السورية في تلك الفترة بنقل الاقتصاد السوري من اقتصاد زراعي تقليدي الى اقتصاد يعتمد على قطاعات متنوعة مثل الصناعة والتجارة والخدمات. فكانت حصة الصناعة على سبيل المثال حوالي 45% من تكوين راس المال الثابت خلال الفترة 1972-1978, وكانت مساهمة الدولة في الاستثمار الصناعي حوالي 80%, ومعدل نمو القطاع الصناعي حوالي 10% سنويا ما بين عامي 1970 و 1981, بحسب ارقام البنك الدولي. كما اتبعت الحكومة سياسة شراء المصانع على طريقة المفتاح باليد, فكان حوالي 10 مصانع اسمنت و3 مصانع أسمدة و4 مصانع سكّر ومصنع ورق ومعمل لإنتاج الطاقة ومصانع ألمنيوم ومواد بناء وزجاج ومصفاة بترول والعديد من معامل النسيج والصناعات الغذائية تم شراؤها بهذه الطريقة. أما القطاع الخاص فقد ساهم في خلق مصانع صغيرة لصناعة الأدوات الكهربائية والميكانيكية. كان الهدف من هذه الاجراءات هو استخدام الموارد المحلية والنهوض بالصناعة الوطنية وتأمين حاجات الطلب المحلي. لكن توجه الحكومة نحو اقتصاد السوق قد توقف لأسباب سياسية. فبعد زيارة انور السادات (رئيس مصر في تلك الفترة) الى اسرائيل وإقامته صلح منفرد مع اسرائيل, غيرت الحكومة السورية من سياستها الاقتصادية وعادت لتقوي قبضتها على الاقتصاد من جديد وأوقفت خطوات التوسع نحو اقتصاد السوق دون ان تتراجع عن ما قامت به من خطوات سابقة في هذا المجال.
ثمانينات القرن العشرين 1981 - 1990:
مع بداية الثمانينيات, ازدادت اعباء خزينة الدولة وعادت سياسة التشديد على الاستثمار الخاص بعد الازمة الحادة التي واجهها الاقتصاد السوري نتيجة انخفاض سعر النفط العالمي وانخفاض المساعدات المالية من الدول العربية وانخفاض كمية الأموال المحولة من العمال السوريين في الخارج وانخفاض سعر صرف الليرة السورية, بالاضافة الى الجفاف الذي كان له تأثير كبير على الانتاج الزراعي. من جهة اخرى, بعد موقف سوريا المعادي لاتفاق السادات مع اسرائيل في نهاية السبعينيات ووقوف سوريا ضد حرب العراق على ايران عام 1980, بالرغم من دعم معظم الدول العربية لهذه الحرب, وبسبب توقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيقي عام 1980, تدهورت العلاقات السورية مع الدول العربية والغربية. ومن ثم قادت حركة الاخوان المسلمين المعارضة للحكومة السورية والمدعومة من بعض الدول الغربية والعربية المتحالفة معها تمردا مسلحا ضد الدولة السورية. ايضاً, تراجعت نسبة المساعدات المالية التي كانت تقدم من الدول العربية الى سوريا, وتم اغلاق اسواق العمل بوجه العمالة السورية في العديد من الدول العربية, مما كان له اثر سلبي على الاقتصاد السوري في تلك الفترة. بالإضافة الى العوامل السياسية, فقد كان لانخفاض سعر النفط دورا كبيرا في تخفيض حجم المساعدات المالية التي كانت تقدم من الدول العربية النفطية لسوريا, وفي تخفيض عائدات الصادرات السورية. مما ادى الى تراجع في ايرادات الخزينة العامة. امّا الظروف الداخلية فقد اتسمت بتنامي البيروقراطية الحكومية وانتشار الرشوة والفساد, مما كبد الموازنة العامة للدولة خسائر فادحة. الشيء الذي ادى الى تراجع في معدلات النمو الاقتصادي وتزايد في عجز الموازنة العامة للدولة وتدهور وضع ميزان المدفوعات وتزايد المديونية العامه وتراجع في حجم الاحتياطي من النقد الاجنبي وعجز في الميزان التجاري وارتفاع معدلات التضخم والبطالة في البلد. فقد انخفض معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي من 11.9% عام 1980 الى -4.95% عام 1986.
فتوجهت الحكومة السورية من جديد نحو تشجيع القطاع الخاص بهدف دعم الاقتصاد السوري ولتخفيف وطأة الازمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. فقامت الحكومة بفسح المجال بشكل اكبر للقطاع الخاص للمساهمة في السياحة والزراعة والتجارة الخارجية, وتخلت الحكومة عن بعض احتكاراتها للقطاع الخاص. كما انه بعد اكتشاف النفط الخفيف عام 1984 في محافظة دير الزور شرق سوريا, زادت صادرات النفط السورية بدءاً من عام 1988, ايضا تزايدت صادرات القطاع الخاص بعد فتح الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية اسواقها امام منتجاته. بين عامي 1978 و 1992 ارتفعت نسبة صادرات القطاع الخاص من اجمالي حجم الصادرات السورية الغير نفطية لتشكل الثلثين بعد ان كانت نسبتها لا تزيد عن الربع. في نهاية عام 1990 كانت حصة القطاع الخاص في مختلف النشاطات الاقتصادية في سوريا كالتالي : 98% في الزراعة, 72% في النقل, 62% في التجارة, 59% في القطاع المالي, 50% في البناء, 37% في الصناعات التحويلية, وذلك حسب غرفة تجارة دمشق. لقد ساهمت سياسة الحكومة المشجعة للقطاع الخاص في الوصول الى تحقيق تحسن كبير في الوضع الاقتصادي في نهاية هذا العقد, فارتفع معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي ليصل الى 7.9% عام 1990.
تسعينيات القرن العشرين 1991 - 2000:
مع بداية تسعينيات القرن العشرين, شهد العالم تغيرات كبيرة, فقد انهار الاتحاد السوفيتي وظهرت الولايات المتحدة الامريكية كقوة وحيدة في العالم. وبانهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل النظام الاشتراكي في العالم, سيطر نموذج اقتصاد السوق على الاقتصاد العالمي, مما دفع بالعديد من الدول الاشتراكية (مثل دول اوروبا الشرقية) لتتحول باقتصادها الى نظام اقتصاد السوق. اما على الصعيد الإقليمي, فبعد انتهاء حرب الخليج الاولى ما بين العراق وإيران, قام صدام حسين (رئيس العراق السابق) بغزو الكويت عام 1990 لتدخل المنطقة في حالة صراع من جديد. اذ تم تشكيل حلف دولي لإنهاء الغزو العراقي للكويت. وكانت سوريا من بين دول هذا التحالف. الّا انه في ظل هذا الوضع العالمي والإقليمي الجديد, حاولت سوريا التأقلم والتعامل مع هذه التحولات بما يخدم مصالحها. فاستطاعت ان تحسن علاقتها مع اوروبا والولايات المتحدة الامريكية, وحصلت على مساعدات مالية من الدول العربية, وأعادت دول الخليج العربي فتح اسواقها امام العمالة السورية من جديد. ايضا بدأت مفاوضات السلام مع اسرائيل بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991, مما شجع على زيادة الاستثمار المحلي والأجنبي في سوريا. ايضا كان لإصدار قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 الدور الهام في تجديد دور القطاع الخاص وإعطاءه المجال الاكبر ليلعب دورا اكثر فاعلية في تنمية وتطوير الاقتصاد السوري, فقد تم تقديم مزايا وإعفاءات عديدة للقطاع الخاص. كما زادت الحكومة من حجم الانفاق العام لتحسين البنية التحتية وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والرعاية الاجتماعية والتي كانت تقدم للمواطنين بشكل مجاني او شبه مجاني, ايضا استمرت الحكومة في سياسة دعم السلع والخدمات الضرورية لحياة المواطن بهدف تحسين المستوى المعيشي للمواطنين.
أدت هذه الظروف الاقتصادية والسياسية الجديدة التي عاشتها سوريا الى خلق مناخ جاذب للاستثمار ومشجع للمستثمرين السورين والأجانب للاستثمار في سوريا. فارتفعت معدلات الاستثمار في النصف الاول من التسعينيات. ايضا, كان لانفراج الازمة الاقتصادية التي عاشتها سورية في الثمانينيات, وزيادة صادرات النفط الخام الذي زاد إنتاجة في تلك الفترة من 194 ألف برميل يومياً في عام 1986 إلى نحو 600 ألف برميل يومياً في عام 1996 خصص منها حوالي 250 ألف برميل يومياً للاستهلاك المحلي والباقي للتصدير، بالإضافة إلى اكتشاف كميات كبيرة من الغاز واستخدام قسم كبير منها في محطات توليد الطاقة الكهربائية وبعض معامل الصناعات التحويلية, بالاضافة الى عودة المساعدات المالية من الدول النفطية بعد حرب الخليج الثانية, وفتح دول الخليج العربي أسواقها أمام العمالة السورية, ونجاح السياسة التي اتبعتها الحكومة في تحسن الانتاج الزراعي وتحسن أداء القطاع الخاص, وخلق فرص عمل أكبر وإعادة شركات القطاع العام لإنتاج السلع والخدمات بعد أن توقفت في الثمانينات, قد ساهم في تزايد موارد الخزينة العامة وتحسن الوضع الاقتصادي بشكل عام. فوصل متوسط معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي خلال النصف الاول من التسعينيات (1991-1995) الى 7.99%. الّا ان هذا التحسن في الوضع الاقتصادي والزيادة الحاصلة على موارد الخزينة جعل الدولة تشعر بأنها اقل حاجة للإصلاح الاقتصادي والى الابقاء على القطاع الخاص في الحدود التي اعتبرتها كافية. اضف الى ذلك, عدم التوصل الى اتفاق سلام مع اسرائيل قد زاد من ميل الدولة للإبقاء على قبضتها قوية على الاقتصاد والمجتمع. كما اكتفت الحكومة بإصدار قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 ولم تتخذ اي خطوات اصلاحية تكميلية لجذب الاستثمارات. اضافة الى ذلك, انخفاض اسعار النفط عام 1998 ومواسم الجفاف التي تعرضت لها البلاد في بعض السنوات انعكس سلبا على الاقتصاد السوري في النصف الثاني من هذا العقد. فانخفض متوسط معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي خلال النصف الثاني من التسعينيات (1996-2000) الى 2.35%. كما تراجع حجم الاستثمار وازدادت معدلات البطالة وهربت رؤوس الاموال الى الخارج. كما شهد الاقتصاد السوري حالة من الركود خلال تلك الفترة. اما سياسة الانفاق العام خلال النصف الاخير من هذا العقد فكانت غير ايجابية وأدت الى تعميق حالة الركود الاقتصادي في كثير من الأحيان, اذ تراجعت نسبة الانفاق الحكومي الى الناتج المحلي الاجمالي من 25% عام 1995 الى 21.6% عام 2000.
العقد الأول من القرن الحادي والعشرين 2001-2010:
كان هناك تحولا واضحا في سياسة الحكومة السورية نحو اقتصاد السوق منذ بداية العقد الاول من القرن الحادي والعشرين, لكن هذا التحول كان يتم بشكل تدريجي بما يلائم عملية التنمية وبما يحقق مصلحه الاقتصاد الوطني ويرتقي به نحو الافضل. الّا ان الدولة لم تعلن توجهها نحو اقتصاد السوق بشكل صريح حتى تم تبني سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي في مؤتمر حزب البعث العربي الاشتراكي عام 2005, ومن بعد ذلك تم تبني مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي بشكل واضح وصريح في الخطة الخمسية العاشرة (2006-2010). وبهدف نقل الاقتصاد السوري من اقتصاد يعتمد على التخطيط المركزي الى اقتصاد السوق الاجتماعي, عملت الحكومة على تطوير قطاعات المال والتعليم والإعلام, وفتحت المجال بشكل اوسع امام القطاع الخاص والاستثمارات الاجنبية في سوريا. فتم فتح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في العديد من الصناعات التي كانت حكراً على القطاع العام مثل صناعة الاسمنت والسكر. كما تراجع تدخل الدولة في التجارة الخارجية, وتم تخليها عن احتكار استيراد العديد من السلع والخدمات وتركها للقطاع الخاص. اضافة الى ذلك, تم السماح بإنشاء المصارف الخاصة, حتى وصل عدد المصارف في سوريا الى 14 مصرف خاص و6 مصارف حكومية عام 2010. ايضا, تم السماح بإقامة مؤسسات مصرفية اجتماعية للتمويل الصغير وتم فتح قطاع التأمين امام القطاع الخاص, كما تم احداث هيئة الاستثمار السورية وإحداث سوق دمشق للأوراق المالية التي فتحت أبوابها في آذار 2009, كما تم الترخيص لشركات الخدمات والوساطة المالية, وتم فتح التعليم بكافة مراحله أمام القطاع الخاص من خلال السماح له بالاستثمار في مجال التعليم العالي. ايضا تم السماح بإصدار المجلات والصحف الخاصة وإقامة الإذاعات التجارية. ايضا, تم تخفيض ضريبة الدخل وتوحيد سعر الصرف والعمل على تقليل البيروقراطية والعقبات الادارية وتحرير التجارة الخارجية, كما عملت الحكومة على تطوير النظام المصرفي والتركيز على التنمية الاجتماعية وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين. اضافة الى ذلك, تم العمل على خلق بنية تحتية ملائمة لتطوير القطاع الصناعي وتحسين كفائتة الاقتصادية, فتم انشاء المدن الصناعية التي بلغ عددها 4 مدن حتى عام 2009, وقد ساهمت هذه المدن في تشجيع القطاع الخاص (المحلي والأجنبي) على اقامة مشاريع صناعية ضخمة في البلد. كما عملت الحكومة على إصلاح القطاع العام الصناعي واعتمدت استراتيجية تقوم على تخفيض الاعتماد على القطاع النفطي والانتقال بالاقتصاد السوري من اقتصاد يعتمد على النفط والزراعة إلى اقتصاد صناعي متطور. الّا ان قطاع الزراعة يبقى من القطاعات الرئيسية في الاقتصاد السوري لما يلعبه من دور هام في توفير الغذاء ودعم الناتج الوطني وتعزيز التجارة الخارجية وتوفير فرص عمل لسكان الريف. لكن مواسم الجفاف وارتفاع اسعار الوقود والسماد ادى الى تراجع في حجم الانتاج الزراعي خلال النصف الاخير من هذا العقد, مما دفع بالحكومة الى وضع مشاريع لتحفيز الاستثمار الزراعي وتقديم الدعم المباشر والغير مباشر لهذا القطاع, كما تم انشاء صندوق الدعم الزراعي في عام 2008. اعتمادا على ما سبق, يمكن القول بان هذا العقد شهد انجازات اقتصادية هامة ساهمت في تحسين وتطوير الاقتصاد السوري, فانخفض معدل التذبذب في معدلات نمو الناتج المحلي الاجمالي خلال هذه الفترة, مقارنة معه خلال الفترات السابقة, كما ان متوسط معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي خلال هذه الفترة (2001-2010) وصل الى 4.3%.
خلال الازمة التي تعيشها سوريا 2011-2014:
كثيرا من الامور تغيرت مع بداية عام 2011, فعاشت سوريا واحدة من اشد الكوارث التنموية والبشرية في التاريخ الحديث, حيث دمّر الاقتصاد, وتضرر راس المال البشري والثقافي والاجتماعي, اضافة الى التخلخل الذي لحق بالهوية الوطنية.
فعلى الصعيد الاقتصادي, حملت الازمة الكثير من الضرار للقطاع الصناعي, فتم اغلاق وافلاس الكثير من المشاريع الصناعية, ناهيك عن هروب رؤوس الاموال الى الخارج وتدمير العديد من المصانع ونهب وسلب للاصول الثابتة من الات ومكنات وما الى ذلك. اذ بلغت اجمالي الخسائر الاقتصادية نتيجة الازمة حوالي 143.8 مليار دولار امريكي حتى نهاية عام 2013, ما يعادل حوالي 276% من الناتج المحلي الاجمالي لعام 2010 بالاسعار الثابتة. اما اجمالي خسائر الناتج المحلي الاجمالي منذ بداية الازمة وحتى نهاية عام 2013 وصلت الى 70.88 بليون دولار امريكي. ايضا نتيجة ظروف الحرب التي تعيشها سوريا في هذه الازمة كان هناك تراجع كبير في حجم الاستثمارات العامة والخاصة, وازدادت الديون العامة لتشكل نسبة 126% من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي في نهاية عام 2013. اما الاستهلاك الخاص والذي يعكس رفاه الاسرة, فقد انخفض بشكل كبير نتيجة انخفاض الدخل وارتفاع الاسعار بشكل جنوني. فارتفع معدل التضخم منذ بداية الازمة ليصل الى 178% في نهاية عام 2013 مما انعكس سلبا على الوضع المعيشي للمواطن السوري. اذ ارتفعت اسعار السلع الاساسية مثل الالبان والاجبان والبيض بمعدل 360% كما ارتفعت اسعار مجمل السلع الغذائيه حوالي 275%, اما اسعار التدفئة ووقود الطهي فارتفعت بمعدل 300%. ايضا تم تدمير وتخريب العديد من المرافق العامة المتمثلة بمؤسسات الدولة والبنية التحتية في البلد, وازداد العجز في الميزان التجاري وانخفض سعر صرف الليرة السورية بشكل كبير حتى انه قارب في بعض الاحيان الـ 200 ليرة سورية مقابل الدولار الامريكي الواحد بعد ان كان سعر صرف الليرة السورية ثابت بحدود 50 ليرة سورية مقابل الدولار قبل الازمة. ايضا, تم السيطرة على العديد من الحقول والابار النفطية من قبل المسلحين والجماعات الارهابية. اضف الى ذلك, ازدادت نسبة الفقر وارتفعت معدلات البطالة لتصل الى 54.3%, كما ان مستوى التنمية البشرية في سوريا تراجع اربعة عقود الى الوراء خلال الازمة, فاصبحت سوريا من ضمن مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المنخفضة بعد ان كانت من مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة قبل الازمة, مما يعكس التدهور الكبير الذي لحق بالتعليم والصحة ومستوى الدخل خلال فترة الازمة. فوصلت نسبة الاطفال الغير ملتحقين بالتعليم الاساسي من اجمالي عدد اطفال سوريا في هذه الفئة العمرية حوالي 51.8%, وبلغ عدد المدارس التي تضررت من ظروف الحرب وخرجت من الخدمة حوالي 4000 مدرسة في نهاية عام 2013. ايضا, كان لقطاع الصحة نصيبة من الدمار مثله مثل باقي القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية في البلاد, فانهارت الصناعات الدوائية ودمرت العديد من المنشأت الصحية وتم تخريب البنية التحتية لهذا القطاع. اذ تضرر حوالي 71 مشفى عام (45% منها خرج كليا من الخدمة), كما لحق الضرر بـ 53 مشفى خاص. الّا ان خسارة الارواح البشرية تبقى المأساة الاكبر نتيجة الحرب الدائرة في سوريا, والتي تعمل العديد من القوى الغربية والعربية على جعل هذه الحرب تستمر لاطول وقت ممكن, بهدف تدمير سوريا الدولة والمواطن والوطن.
عادل شكيب محسن
2014
#عادل_شكيب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟