مدخل : السجن، تحديد الحرية، سلب الإرادة
السجن في الأصل هو تحديد لحرية شخص مدان بجريمة تحتويها نصوص القانون، بعد محاكمته محاكمة نزيهة تتوفر فيها شروط العدالة ويتوفر للمتهم فيها حق الدفاع عن نفسه . وبقدر ما في السجن من تحديد لحرية الشخص، فإن ذلك ينبغي أن يوازيه حفاظٌ على ذلك الشخص جسدياً ومعنوياً، بل وتطوير له بإكسابه مهارات ومهن وتعليم لم تكن متوفرة له أو لم توفر له الظروف أن يكتسبها .
إن انتهاك السجين مادياً ومعنوياً هي مسألة لا تدخل أصلاً في مفهوم "تحديد الحرية"، ناهيك عن تناقضها الكامل مع فكرة "الإصلاح والتأهيل" التي تطلقها السجون على نفسها في الأردن(1)، وهي تأتي في سياق أعمق وأخطر هو سلب الإرادة، وهي طبعاً مسألة مختلفة تماماً عن تحديد الحرية.
إن أول جملة توجه إليك من شاويش المهجع(2) عند استقباله لك في غرفة السجن هي:"أنت الآن في وضع جديد، أنت في السجن، وفي السجن أنت مسلوب الإرادة". وباستطاعتي أن أجزم، بناءا على تجربتي الشخصية، أن الفكرة التي يقوم عليها سجن الجويدة [على الأقل]، في تعامله مع سجناء الرأي والسجناء السياسيين(3) [على الأقل]، هي فكرة سلب الإرادة لا تحديد الحرية .
تحديد الحرية هي مسألة موضوعية، تتمثل مادياً بحرمان السجين خارجياً من تعبيرات الحرية: الحرمان من حرية التنقل خارج حدود السجن، الحرمان من حرية التواصل مع العالم الخارجي (بفرض نظام صارم للزيارات)، الحرمان من حرية اللباس (بفرض زي موحد على الموقوفين)، الحرمان من حرية اختيار الطعام (بفرض نظام وجبات إجباري). وهذه كلها مسائل لا تتعلق بذات السجين أو الموقوف، أي: قيمة الفكرية، معتقداته الدينية، تقاليده الاجتماعية، تركيبته السيكولوجية، مظهره الجسدي، معنوياته، شرفه (بالمفهوم الاجتماعي)، وكرامته (بالمفهوم الإنساني) .
سلب الإرادة هي مسألة أخرى تماماً، تتعلق بذات الموقوف أو السجين بالتحديد، وتتمثل مادياً بالاعتداء على الفرد (أو المجتمع) من خلال خلخلة نواظمه وآلياته الاجتماعية/التاريخية/الفكرية/النفسية، مما يجعلها انتهاكاً صارخاً لإنسانية ذلك الفرد (أو المجتمع)، وتدخل في إطار تحطيمه تمهيداً لإخضاعه الكامل لمنظومة علاقات استلابية يتحول فيها الفرد/المجتمع من "إنسان ذو إرادة" إلى "عبد مطيع" أو "أداة مبرمجة".
وهكذا، فإن "الإصلاح والتأهيل" المزعومين، يتحولان في إطار الانتهاك وسلب الإرادة إلى "إفساد وتدمير": إفساد للنمط التقليدي و/أو المتعارف عليه من قيم وأخلاق ناظمة للفرد/المجتمع، وتدمير للبنى السيكولوجية/الاجتماعية التي بدونها لا يغدو الإنسان إنساناً، بل يصبح كائناً بيولوجياً محايداً (بدون كرامة، بدون إرادة).
إن هذه الآليات هي ما استعملته وتستعمله الإمبرياليات في اختراق وتدمير دول ومجتمعات الأطراف في سياق إلحاقها الكامل بالرأسمالية الإمبريالية في طورها العولمي، سواءاً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال أدواتها التنفيذية الضاربة (أي المنظمات الممولة أجنبياً). كما يستعمل الكيان الصهيوني هذه الآليات في اختراق وتفتيت المحيط العربي في سياق تحويله إلى مجال حيوي مفرغٍ له عن طريق الإخضاع الاقتصادي/الاجتماعي (مناطق صناعية مؤهلة، منافذ سلعية، خلق قطاعات عمالية واسعة تعتمد اقتصاديا على الكيان… الخ). كما تستعمله الأنظمة القمعية العالمثالثية (ومن ضمنها العربية) في سياق إعادة إنتاج القمع والاستلاب محلياً على مستويات مختلفة يتناظر فيها القامع والمقموع في تبادلية عجيبة للأدوار بحسب العلاقة أعلى/أدنى (القامع للأدنى منه مقموع من الأعلى منه وهكذا...).
وتأسيساً على ما سبق، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفهم آليات عمل سجن الجويدة الاستلابية، من دون أن نفهم القانون العام لحركة الإمبريالية وآلياتها في وقتنا الحالي، ودون أن نفهم البيئة التي هيئتها الحكومة الأردنية لكي تدخل هذه الآليات إلى حيز التنفيذ عبر إقرارها لقوانين سالبة للحريات والإرادة معاً(4)، ولا أتحدث عن القوانين التي تتعلق بالحريات العامة فقط، وإنما أيضاً عن حزمة القوانين الاقتصادية التي زادت من الضرائب والرسوم، ورفعت الأسعار، وحولت الأردن إلى مجموعة من البانتوستانات التي تتمتع بحكم ذاتي تحت مسمى: "مناطق اقتصادية خاصة".
عودة إلى سجن الجويدة.
لا بد من توضيح بداية أن سجن الجويدة هذا هو سجن للموقوفين وليس للمحكومين، أي أن نزلاء هذا السجن ليسوا بأي حال من الأحوال "مجرمين مدانين" أو مذنبين ثبتت عليهم "الخطيئة" أمام محكمة نظامية عادلة. فهؤلاء النزلاء هم إما موقوفون إداريون بأمر من المحافظ الذي يملك سلطات إيقاف واسعة في العديد من القضايا، وإما موقوفون على ذمة قضايا ما تزال مدار بحث ونظر أمام المحاكم .
كما أود أن أشير أن هذا البحث يدور تحديداً حول ظروف اعتقال موقوفي رأي، اعتقلوا بناءاً على مشاركتهم في أنشطة داعمة للانتفاضة( مسيرات، مظاهرات… الخ)، أو الاشتباه بمشاركتهم في هكذا أنشطة.
وبناءاً على ما سبق (انعدام الإدانة، والطبيعة السياسية لسبب الإيقاف)، فيفترض أن يكتسب التعامل مع هؤلاء (أخلاقياً وسيكولوجياً على الأقل) وضعاً مخففاً وأكثر إنسانية. ولكن في عالمٍ يمتطيه دبليو بوش ويسوقه كقطيع من البقر، وتتحول فيه الأنظمة إلى مجرد أدوات تنفيذية للإرادة الإلهية الأمريكية، فهيهات أن توجد اعتبارات إنسانية.
فمنذ أن يدخل النزيل السياسي ضمن الفئة المشار إليها أعلاه، والى أن يخرج، يتعرض لسلسلة من الانتهاكات التي تستهدف ذاته مباشرة، في محاولة لسلب إرادته وتالياً إنسانيته، في سياق تحويله إلى أداة طيعة في يد سجانيه بعد أن يصبح "عارياً" تماماً أمامهم (والعري هنا هو العري/الاجتماعي/السيكولوجي)، بحيث يصبح هدفاً سهلاً للابتزاز النفسي الذي لا يتوقف.
وتالياً تفصيل لهذه السلسلة الانتهاكية.
الانتهاك الأول: انتهاك الكرامة الإنسانية بالتعري العلني الجماعي
للجسد قداسة نفسية على الأقل، هذه مسألة بديهية تتعلق بوعي الإنسان لنفسه ووجوده، وانتهاك الجسد في العرف الاجتماعي العربي على أقل تقدير يدخل في باب"العار" الذي لا يغسل إلا بالدم، والذي يستوجب الانتقام بأشد ما يمكن من الوسائل .
وانتهاك الجسد في حالة العجز والخضوع وانعدام سبل المقاومة يأتي من باب"كسر العين" والإخضاع النفسي، وكثيراً ما نسمع الزوج الشوفيني العربي يتبجح بأنه "كسر عين زوجته" عبر إخضاعها لانتهاكات جنسية/جسدية، لا تعود بعدها قادرة عن النظر"في عين" زوجها الصنديد.
إن أول ما يخضع له النزيل في الجويدة هو طقس يقع في هذا السياق.
يدخل كل ثلاثة إلى غرفة صغيرة ويؤمروا بخلع ملابسهم بشكل كامل فيما عدا "الكلسون" الذي يجب أن يُنزل إلى مستوى الركبتين، ويتم ذلك أمام أحد السجانين، وأمام بعضهم البعض. كما لا يوجد أي مانع من أن يدخل الشرطي المرافق لسيارة السجن إلى هذه الغرفة وأن ينظر إلى كرنفال العري هذا الذي يكتمل باستعراض شبه راقص: اليدان مشبوكتان فوق الرأس، النزول والصعود بشكل عمودي بثني الركبتين ومدهما.
في هذا الطقس الإنتهاكي، لم أستغرب أن يرتفع الشبق السادي بالحارس وهو"يكسر عين" هؤلاء الذين قابلهم للتو بكشف عوراتهم جماعياً، إلى الدرجة التي يقوم فيها بضرب أحد الموقوفين الذين كانوا في الغرفة بقدمه عدة "شلاليط"، بل تمادى إلى الحد الذي أمره فيه بالركوع عارياً وتقبيل الأرض "من أجل جلالة الملك"، وهي حيلة نفسية ذكية من قبل الحارس نأى بنفسه فيها عن التحول إلى هدف عميق لكراهية الشاب التي أحالها إلى "مراجع عليا"، وهي آلية تستعمل على أكثر من صعيد وبأكثر من شكل في الحياة السياسية الأردنية.
هذا العري سيتكرر مرة أخرى (بصورة أخف وألطف) عند تسليم الملابس العادية وأخذ ملابس السجن، حيث سيضطر الجميع (وليس ثلاثة فقط) إلى خلع الملابس فيما عدا الملابس الداخلية أمام بعضهم البعض، وأمام عدد كبير من السجانين، وتسليمها لأحدهم، والبحث عن بنطلون أزرق و"بلوزة" شبيهة في كومة من الملابس الممزقة الوسخة المرمية على الأرض.
الانتهاك الثاني: انتهاك الكرامة الإنسانية بالشتائم المقذعة
للأم والأخت خصوصية سيكولوجية لا تبارى في التكوين السيكولوجي للفرد العربي. وعامل "الشرف" و"الغيرة على العرض" متأصلة بشكل كبير إلى الحد الذي يجعل من تحطيم هذه الخصوصية وهتكها مدخلاً للإخضاع والكسر النفسي"للعين".
وهكذا، تعاجلك شتائم من طراز: "كذا أمك..."، "كذا أختك..."، وشتائم أخرى مبتكرة تربط بين كسر الإشارات الضوئية والمبلغ الذي تحصله أم الموقوف من أعمال البغاء...الخ، بل إن مساعد مدير السجن في إحدى زياراته، لم يجد غضاضة من السؤال عن الشخص "الذي كانت أمه بتردح أثناء الزيارة"، بعد أن تبينت المسكينة من خلال الثقوب الصغيرة لشبك الزيارة ملامح ابنها المشوهة من فرط التعذيب، وهو سؤال أذكر أن أحداً لم ينبس ببنت شفة في مواجهته، بينما لو ذكر في موقف آخر لكان قد استدعى عراكاً عنيفاً على الأقل...
طبعاً يضطر الجميع إلى "ابتلاع" الشتائم بمرارة شديدة، وربما سيتحولون بمرور الوقت إلى"مْطَعّمين" (تلفظ بتسكين الميم، فتح الطاء وتشديد العين وفتحها)! و"مطعمين" هذه هي لفظة متداولة في أوساط الزعران مفادها أن الشخص المعني تسبّ أمه وأخته بأقذع الألفاظ دون أن يرف له جفن، بل يعتبر عاراً في مجتمع الزعران أن يكون الفرد غير "مطعّم" (أي أن يستاء من هذه الألفاظ التي تمس الشرف).
وعليه، فإن المطلوب في السجن هو إنتاج أفرادٍ "مطعمين"، لا على مستوى الشرف والعرض فحسب، بل على المستوى الاجتماعي/الاقتصادي كذلك. هؤلاء "المطعمين" الذين سيصبحون متحللين بشكل أو بآخر من عبء "الشرف" و"العرض" بالمفهوم الاجتماعي، وسيتحولون إلى "مطعمين" سياسياً ووطنياً من نفس الباب.
الانتهاك الثالث: انتهاك الكرامة الإنسانية بحلق الشعر
ليس شمشون وحده هو من يفقد قوته عندما يحلق شعره، والرمزية التي يحملها فعل حلق الشعر تتجاوز ظاهر الفعل إلى باطنٍ أعمق .
حلق الشعر هو انتهاك جسدي/نفسي صارخ، من ناحية أنها تعرية للرأس تماماً، وهو فعل فاحش إذا ما استندنا إلى الموروث الاجتماعي العربي الذي يعتبر الرأس السافر عيباً سواءاً للرجل أو المرأة، فالمرأة تضع "العصبة" والرجل يلبس "الشماغ" أو الطربوش، فنرى في هذا السياق إحدى شخصيات رواية "سلطانة" لغالب هلسا تنتقد أبناء القرية الذين اصبحوا موظفين في عمان بأن الله "سخطهم، ماشيين في أسواق عمان مفاريع [أي برأس مكشوف] من غير حطة وعقال، وراس الواحد مثل راس الحمار"(5).
والحلق هو فعل إهانة وإخضاع، وبالإمكان الاستدلال على الإهانة المتأتية من موضوع الحلق إذا ما نظرنا إلى العبارة المتداولة: "احلق"، التي تستعمل في سياق طرد شخص ما غير مرغوب فيه بطريقة مهينة، و"احلق له" التي تحمل معاني الاستبعاد والإقصاء والفوقية.
من جهة أخرى يعتبر الحلق (قص الشعر) ختاناً رمزياً لإدخال الفرد إلى قمعية المجتمع الجديد، وهو هنا السجن. والختان طقس يهودي في الأصل، يستدعي قص لحم الغرلة من أجل الدخول/التماهي الرمزي في المنظومة الاجتماعية الجمعية والخضوع لتقاليدها من خلال تقديم قربان دموي رمزي للرب "ففي الميثاق أو العهد بين يهوه وبين أبرام [إبراهيم]، طلب يهوه من أبرام أن يختتن وكل الذكور في بيته إشارة لذلك العهد. وهذا شرطه ليكون إلها لابرام…إن دم الاختتان هو الذي يمهر العهد او الميثاق بين يهوه وبين بني إسرائيل، لأن قطع العهد في العصور القديمة كان يتطلب إسالة الدم.."(6). هذا القص يتكرر هنا رمزياً لإخضاع السجين وإفقاده إحدى أهم خصوصياته الجسدية الظاهرة.
وحلاقة الشعر في الجويدة ليست لها علاقة بالنظافة على الإطلاق، حيث تتم الحلاقة جماعياً وبآلة لا تنظف ولا تعقم بين واحد وآخر، وتتم بصورة عشوائية غير منتظمة وهو أمر يجعل من الرأس"مرقعاً" بكتل مختلفة الطول من الشعر الغير متناسق إمعاناً في الإهانة. وما يزيد من تأكيد قصدية الإهانة هو أن الموقوف/السجين يسمح له بعد فترة بالذهاب إلى الحلاق لتشذيب الخريطة المرسومة على رأسه، ويسمح له فيما بعد بإطالة شعره، وإذا ما فعل ما يستدعي العقاب من السجانين، فإنهم يقومون بحلق شعره مرة أخرى وبالطريقة ذاتها كإحدى العقوبات العديدة التي عادة ما تصل إلى حدود "الشبح" و"التعليق على السياج" مع الجلد لفترات طويلة.
الانتهاك الرابع : انتهاك الكرامة الإنسانية بالضرب والتعذيب الجسدي
تحرم مواثيق حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة الضرب والتعذيب، وتعتبره أقصى ما يمكن أن يتعرض له الإنسان من امتهان وابتذال، وكثيرة هي الأبحاث والدراسات التي تناولت الأبعاد النفسية والاجتماعية لممارسي هذه النذالة، ولأولئك الممارسة عليهم(7).
التعذيب أشد من القتل. فالعنف المتأتي من إيقاع الأذى المبرمج بإنسان آخر بقصد إيلامه وإهانته لمدة طويلة لا شك يختلف عن العنف المتأتي عن إنهاء حياة إنسان آخر. العنف الأول هو عنف يتقصد الإيلام والأذى الجسدي النفسي، وهو عنف طويل المدى، وذو آثار لا تنتهي بالنسبة للضحية، فيما العنف الثاني (القتل) هو عنف يتقصد إزهاق الحياة، وهو قصير المدى، وتنتهي آثاره بسرعة بالنسبة للضحية.
في الجويدة، هناك مستويات متعددة من التعذيب الجسدي المباشر، وهي مستويات مبرمجة لتحطيم إنسانية الموقوفين على دفعات متقاربة أشبه ما يكون بصدمات كهربائية متتالية تزداد شدة .
فمن "شلاليط" العسكري المسؤول عن تعرية الموقوفين، ينتقل الموقوف إلى جلد بالكيبل الكهربائي على اليدين والقدمين داخل غرفة استلام ملابس السجن، وهو جلد شبيه بالضرب التقليدي لأستاذ المدرسة، وإمعاناً في الإهانة يكون الضرب أمام الجميع، وواحداً وراء الثاني (لزيادة الأثر النفسي لجرعة التعذيب)، وبالملابس الداخلية.
الجرعة الثالثة تكون في الساحة الخارجية (أي أمام جميع السجن)، وهذه المرة بحضور طبيب السجن الذي يجلس مستمتعاً بالتعذيب القائم به هذه المرة ضابط برتبة ملازم أول وباستعمال عصا ينهال بها على الموقوفين وهو يكيل إليهم في ذات الوقت شتائم مقذعة.
الجولة الرابعة في الطريق إلى الغرفة، حيث مارس ثلاثة من السجانين مهاراتهم القتالية على الموقوفين لمدة عشر دقائق، وأخيراً داخل غرفة السجن (أي أمام زملاء المهجع)، وهذه ربما تكون أهم فقرة وأكثرها تأثيراً حيث يصف الموقوفون ويتلقون ما تيسر من الصفعات.
والصفعة بحد ذاتها تحمل من الإهانة ما لا تحمله طرق الضرب الأخرى، وهي عندما تمارس أمام زملاء المهجع، فالقصد منها شيئان:
الأول: الإهدار العلني والنهائي لكرامة الفرد أمام زملائه من المنتهكين، إعلاناً بتكريسه رسمياً كمنتهك وعلى رؤوس الأشهاد.
الثاني: تذكير الآخرين (نزلاء الغرفة) باستمرار بأنهم هم أنفسهم منتهكون، وبأن ذاكرتهم لا ينبغي لها التوقف عن استرجاع"انتهاكهم" السابق كحدث متواصل، وتحضيرهم للخضوع لانتهاكات قادمة.
نمط آخر من التعذيب هو ذلك الذي يستبطن"كسر العين" الذي تحدثت عنه سابقاً، ويتعلق بـ"التعليم" على الخصم في لغة الزعران الدارجة، أي أن يقوم أحدهم بإيذاء آخر بصورة تترك أثراً واضحاً لا يمحى (يعلّم عليه لفترة طويلة وقد تبقى أبد العمر). وهذه الطريقة تحمل إذلالاً يقصد به الاستمرارية والثبات، ومن هذا الباب يدخل قيام أحد أفراد الشرطة بإدخال سن حزام شاب في راحة يده مما أحدث ثقباً فيها وعلامة لن تزول، ويدخل أيضاً قيام أحد أفراد الشرطة بالوقوف فوق وجه أحد الموقوفين لمدة نصف ساعة كما قدرها هذا الأخير مما ترك علامة بسطار واضحة على وجهه، ويدخل أيضا الجلد باستعمال الكوابل الكهربائية والبرابيش، حيث تترك علامات طولية مميزة على جلد المعتدى عليه، وقد لا تذهب أبداً(8) .
الانتهاك الخامس : انتهاك الكرامة الإنسانية بالتعذيب النفسي
في الغالب يتبنى المقموع سيكولوجية مازوخية تجاه القامع، وهذه السيكولوجية يجب أن تبقى متحفزة على الدوام ومستنفرة وحاضرة مباشرةً في "الشعور" -لا مستبطنة في"اللاشعور"-، لأن الاستهداف المنظم لـ"اللاشعور" هو آلية تعنى بقمع الجماعات على المدى الطويل، ولا تكون مؤثرة في حالات الإخضاع المستعجل للأفراد.
في هذا الباب، يكون ضرب أي موقوف جديد، وباستعمال "الكفوف" تحديداً كما أشرت سابقاً، هو أحد آليات الإخضاع النفسي لبقية الموقوفين، ويكون التهديد المستمر بإقامة "حفلة ليلية" (الركض ليلاً في الساحة لمدة ساعتين مع الضرب) حاضراً -حتى وان لم يهدد أحد به ذلك اليوم- عن طريق الدعاء المستمر بعدم إقامة "حفلة"، والسؤال الحثيث عن السجانين المناوبين تلك الليلة(9)، والصراخ بأعلى صوت باللازمة المقررة عند دخول أي سجان: "كيف المعنوية؟ عالية! نار تقدح في الميدان، أبو حسين نور العين، عاش عاش أبو حسين"(10)، والانصياع بوعي كامل لأوامر وكيل كان يقفز عند دخوله فوق الأسرة "الطابق الثاني" وهو يحمل بربيشاً مطاطياً، ويطلب من نزلاء الغرفة غناء: "يا شارة المرور، يا درب السلامة" وهو يبتسم بسخرية، في حين يقوم نزلاء الغرفة (وبينهم طبيب، ومهندسان، وثلاثة مبرمجي كمبيوتر، ومدرسين، وطلاب جامعات، وطلبة ثانوية عامة، ورجال فوق الأربعين من العمر) بترديد أغنية رياض الأطفال هذه.
وليس من قبيل الصدفة أن يقوم مساعد مدير سجن الجويدة بالسؤال عن "من تعرض للضرب" من الموقوفين في سجن الجويدة بطريقة أقرب ما تكون إلى العطف الأبوي، ليصدق أحد الأغرار سؤاله ويجيبه: "أنا"، وهو ما استدعى ضربه عدة صفعات متتالية(11) لإيصال رسالة مفادها: إن التعذيب الجسدي/النفسي هذا هو تعذيب مبرمج ومقصود، وعلى أعلى المستويات، وإن مجرد الاعتقاد بحصانة الالتجاء إلى مراجع أعلى للتظلم عندها هو محض وهم قاتل، يماثله في الأثر المعنوي الإيهام بعبثية اللجوء إلى منظمات حقوق الإنسان التي كان يستهزأ بها مساعد مدير السجن أمام النزلاء إمعاناً في التدمير النفسي.
يجب أن يكون الخوف هو سيد الموقف تماماً في الجويدة، وهو خوف لا ينبع من آلية حماية ذاتية نفسية، بل مبرمج من أجل الإخضاع والتعذيب، خوف يحوّل "وكيل" يحمل بربيشاً إلى إلهٍ لا رادّ لأوامره. هذا الإرهاب النفسي والخوف لا بد وأن ينعكس فزيولوجياً بسبب قلة الراحة و"التحفيز" المبالغ فيه والمستمر للجهاز العصبي، فأقل جلبة خارج غرفة السجن كانت تستدعي الوقوف في وضعية التفتيش على جوانب الأسرة، واصغر إشاعة عن مسيرة أو مظاهرة كانت تستدعي توتراً لا مثيل له في الغرفة انتظاراً لجولة ضرب وإهانات.
إن عبارة كرمويل الشهيرة: "تسعة مواطنين من أصل عشرة يكرهونني، ولكن ما أهمية ذلك إن كان العاشر وحده مسلحا" تستعاد في الجويدة بشكل دائم، فالعاشر المسلح هذا لن يصمد ثلاث دقائق أمام تسعة مهاجمين، ولكن الخوف والإرهاب النفسي هو ما سيجعل أولئك التسعة "مضبوعين" وتحت الأوامر. كل هذا كان لابد أن يؤدي بأحد الصبية من نزلاء الغرفة إلى أن يقع مغشياً عليه بمجرد أن اعتلى الوكيل/الإله أحد الأسرة حاملاً بربيشه الرعدي وهو يطلب أغنيته المفضلة من كورس المقموعين.
خاتمة واستنتاج: الجويدة مختبر صغير لإنتاج آليات القمع على نطاق المجتمع
حين تطالعك عبارة"مركز إصلاح وتأهيل الجويدة وأنت خارج كمفرج عنه من ذلك المبنى المحصن الواقع جنوب العاصمة عمان، ستتأكد أن الأمر لا يعدو كونه نكته سمجة أو سخرية من طراز رفيع، لأن العبارة المذكورة هذه لا تصح فيها إلى كلمتها الأخيرة (أي: الجويدة!)، أما فيما يتعلق بـ"مركز" و"إصلاح" و"تأهيل"، فهذه أشبه بالإحالة إلى وضع سوريالي يبز مخيلة سلفادور دالي نفسه.
إن سجن الجويدة هو المختبر الصغير بامتياز لدراسة وتطبيق آليات انتهاك الأفراد والجماعات على المستوى الاجتماعي/الاقتصادي/السياسي العام، وهو يمثل تكثيفاً كمياً ونوعياً للتطويع والاستلاب وآليات تقييد وتحريك الكتل البشرية، وتحويلهم إلى مجرد كائنات بيولوجية محايدة ومطواعة، وهو ما يدخلنا في سياق أوسع هو سياق إخضاع المجتمع والوطن للكيان الصهيوني ومشروعه "الشرق أوسطي" في المنطقة العربية، والتبعية والارتهان المنظمين للإمبريالية في مشروع هيمنتها الذي لا يزال يأخذ أشكالاً أكثر وحشية وعسفاً مع مرور الزمن، وليس آخره "الحرب ضد الإرهاب".
لا شك بأن الجويدة تتكرر بدرجات سوء متفاوتة في أرجاء الوطن العربي، وهو ما يحول السجن بهذا المفهوم إلى أداة سياسية في يد السلطة: أداة تحطيم للوعي وللمفاهيم باتجاه الإفراغ الكامل والتبعية المطلقة.
والحديث عن إصلاح هنا هو حديث عبثي غير ذات معنى. المطلوب هو تفكيك السجن، وهو تفكيك لا يتأتى إلا بتفكيك النظام الرسمي العربي وخيوط ارتباطه بالصهيونية والإمبريالية، وإنجاز الثورة العربية الديمقراطية الاشتراكية بكافة أبعادها وتداعياتها في إطار الوحدة البينية، والتواصل الأممي مع كافة قوى التغيير الحية في العالم. وهو مشروع لا شك مضن وطويل، ولكن على الأقل، علينا أن نتبين العلل لنتبين الحلول، ف "التحرر…عملية لا تنتهي، وتتضمن بالضرورة لا تغيير الظروف المادية للقهر وحدها، ولكن الظروف السيكولوجية كذلك. وعلينا أن نفهم ذلك الكلام لا على أساس المفهوم الفردي للتحرر السيكولوجي، ولكن من واقع التعرف على الأمراض الاجتماعية التي تنتج أشكالاً من البنية التي تسمح بالاضطهاد الجماعي"(12)، وبالتالي يكون تجاوز الهزيمة السيكولوجية الفردية/الجماعية، وأشكال سلب الإرادة المختلفة التي تمارسها السلطة، والعمل باتجاه إعادة إحياء روح المقاومة الداخلية العربية، هو الأولوية الأولى باتجاه تهديم البنى الاضطهادية، والنهوض بالمشروع النقيض على ركامها، ولو بعد حين.
(1)يسمى السجن في الأردن: "مركز إصلاح وتأهيل"، ويسمى قانون السجون بـ"قانون مراكز الإصلاح والتأهيل".
(2)سجين مسؤول عن بقية السجناء في غرفة السجن.
(3)هم المعتقلون على خلفية المسيرات والمظاهرات التي عمت الأردن أثر أحداث مخيم جنين والمجزرة الصهيونية هناك، وكان الكاتب قد أعتقل لنشاطه في مجال الحريات العامة ومقاومة التطبيع وأوقف لمدة ستة أيام في سجن الجويدة مع معتقلي المسيرات، وبالإمكان الرجوع إلى تفاصيل تجربة الاعتقال هذه في مقال داخل الجحيم: خمسة أيام في سجن الجويدة، انظر ملحق 1 أو على الروابط التالية:
بالعربية:
http://www.watan.com/Kalam32.htm
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?date_id=1&code=arabic&cid=142&aid=1621
بالانجليزية:
http://www.bluegreenearth.com/archive/eye_archive/bustani1.html
بالاسبانية:
http://www.nodo50.org/csca/miscelanea/jordania-bustani_24-04-02.html.
(4)بعد حل مجلس النواب 6/2001، لم يدع لإنتخابات، ولم ينتخب برلمان أردني حتى الآن، حيث قامت الحكومة الأردنية في ظل هذا الفراغ التشريعي/الرقابي، بإصدار ما يزيد عن 100 قانون مؤقت غير دستوري .
(5)غالب هلسا، سلطانة، بيروت: دار الحقائق، 1987، ص57. وهو أمر كان دارجاً حتى في أوروبا حيث يلبس الرجال والنساء القبعات.
(6) جورجي كنعان، تاريخ يهوه، بيروت: الدار العربية للعلوم، 1994، ط2، ص158.
(7) انظر إحدى أهم التعبيرات الممسرحة حول هذه المسألة في: سعد الله ونوس، الاغتصاب، بيروت: دار الآداب، 1990.
(8)أحد الموقوفين (لتهمة غير سياسية) أراني آثار جلد بأسلاك نحاسية على بطنه خلفت ندوباً ليفية لا تزول مع الزمن.
(9)بعض السجانين أفضل من البعض الآخر، بحيث يمتنع البعض الأول عن الضرب أو إقامة الحفلات الليلية .
(10) كان السجانون يهددون بجولة من الضرب أو "حفلة ليلية" إن لم يكن صوت الموقوفين عاليا جدا وهم يرددون هذه اللازمة.
(11)الأب الأوديبي حاضر بقوة هنا، ولكن معكوساً! فبدلا من أن يقتل اوديب أباه، يستدرج الاب بعطف ابنه ليقتله.
(12) سمية رمضان، باولو فيريري: راوي الأمل، القاهرة: أدب ونقد، العدد 146، أكتوبر 1997، ص15.