أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - شريف يونس - الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينات عن كتاب -المبتسرون- لأروى صالح















المزيد.....



الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينات عن كتاب -المبتسرون- لأروى صالح


شريف يونس

الحوار المتمدن-العدد: 337 - 2002 / 12 / 14 - 04:17
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    



هذا كتاب يستحق تحية خاصة ، تقديرا لعناء وشجاعة هذا الفعل المتمرد فى حيز الكتابة المحاط بالأسوار والأسلاك الشائكة .. حيث قواعد التحريم التى تفصل بين الداخل والخارج ، فليس كل ما يُعرف يقال ، وليس كل ما يُقال يكتب .. وهذا وحده سبب كاف للتعاطف مع هذا الكتاب الجرىء الذى عانى كثيرا حتى ظهر إلى النور ، ومازال مهددا بالحصار والتعتيم وسوء الفهم المتعمد ، لمجرد أنه كتب ما لا يجوز قوله إلاَّ فى الحجرات المغلقة .
أيضا فإن هذا العناء الذى لقيه الكتاب إنما يصلح بحد ذاته مبررا وكاشفا للواقع الثقيل الكامن وراء المرارة التى تخترقه ، وطعناته الوحشية للمنظر الرسمى المدعى الوقار للحركة الماركسية الطلابية المصرية فى السبعينات ، بادعاءاته البروليتارية وقداساته التى أدمن رسمها لنفسه ، وما رافق ذلك من ممارسات سياسية وتنظيمية هشة ، امتلأ طريقها بجثث الضحايا الذين ورثوا أمراض الحركة وادعاءاتها .
ومع ذلك ليس فى نيتى الاستسلام لمرارة الكتاب ، ولا إلغاؤها .. فسأحاول بالمقابل تحليلها كخبرة واقعية تاريخية تملك آلياتها الخاصة ، عن طريق فك عدد من الثنائيات (التضايفات) التى توجه منطق الكتاب بأكمله .. من قبيل : الحلم/ الواقع ؛ الحياة/ المعرفة والمثقف ؛ الأنانية/ التضحية؛ الأخلاقية/ اللاأخلاقية ؛ التواصل/ انعدام التواصل؛ وأخيرا: الكيتش/ البراز (حسب تعبير رواية كونديرا الشهيرة: كائن لا تحتمل خفته) .. الذى تقدمه الكاتبة فى مقدمتها للكتاب كمفتاح أساسى للعمل بأكمله .
سأقوم بذلك متصورا أن الكشف عن المنطق الكامن فى هذه الثنائيات إنما يستكمل رسالة الكتاب فى الكشف عما يكمن فى أساس الآليات التى حكمت الحركة الطلابية الماركسية ، والتى ربما ظلت كامنة فى ذات النقد الذى يقدمه للحركة ؛ فقد انتقلت تلك الثنائيات فى تقديرى مع الكاتبة من عالمها الماضى الذى عاشته داخل الحركة الطلابية الماركسية إلى عالمها الجديد الذى تحاول أن تعيشه . فالماضى لا يموت ، ولا يلقيه المرء وراء ظهره ويمضى .. والنقطة التى وصلنا إليها فى رحلتنا تظل دوما تحمل آثار الطريق الذى قطعناه إليها . وهو ما يختلف إلى حد كبير عن منطق القطيعة والخلاص الكاملين الذى يطرحه الكتاب .
تقدم لنا أروى النقطة التى ترى منها عالميها فى عبارة دقيقة موجزة : "أنا لسة يادوب بابتدى أتعرف على الدنيا" (ص 104) .. فما سبق ليس من "الدنيا" ، والدنيا الجديدة لم نعرفها بعد . وهكذا انتقلت أروى من موقف النظر والحركة فى العالم الذى كان من المفترض أننا نعرفه .. إلى موقف النظر إلى "الموقع - فى - العالم" . أولهما موقف ينطلق من القناعات التى كانت ثابتة فى زمن مضى ، حين كان العالم واضحا ومرتبا وقابلا للنظر ، وثانيهما العالم - السديم ، الذى نفتش عن موقع فيه ، تسميه أروى - ربما مؤقتا - موقع "المثقف الهامشى" .
ومن فوق هذه الحافة الفاصلة بين عالمين تقدم أروى تجربة عالمها القديم للجيل الجديد ، ليس كنموذج يحتذى ، أو كمثل أعلى ، ولكن كتراث "يجب أن يجحدوه" (ص22) . تحمل أروى معها خبرة "الخروج - من - العالم" ؛ ذلك العالم الذى اكتشفنا زيفه وانحطاطه .. لنبحث عن عالم "حقيقى" غير مزيف : لقد كنا نعيش فى مدينة محاصرة موبوءة أو ندور فى دوامة نحسبها عالما ، ونظن أن البحر كله على شاكلتها ، أو بالأدق أنه يجب ، ويمكن ، بل ومن المؤكد أنه سيكون كذلك .
فمن قبل.. حين كنا فى دوامتنا .. لم نكن نراها دوامة ، بل ولم نكن أصلا نتكلم عنها ، لأننا اكتسبنا خصائصها وتمثلناها . كنَّا- بالعكس - نتكلم عن "دورها - فى - العالم" ، ذلك العالم (بألف لام التعريف) الذى كانت دوامتنا تزودنا بخريطة واضحة للحركة داخله لتحقيق هذا الدور. كنَّا نتكلم عن الطبقات الاجتماعية ، عن "طبيعة السلطة" : كلمات ترسم العالم كطوبوجرافيا سياسية ، كمجال لحركة الدوامة وتحققها ، وتحققنا بالتالى . فنحن - الدوامة - على وجه اليقين حقيقة هذا العالم وأمله ومستقبله ، وسوف يأتى حتما اليوم الذى تعرف فيه الأمواج الشاردة أن دوامتنا هى حقيقتها : فنحن نمثل المصالح العليا للبروليتاريا ، والبروليتاريا تمثل حقيقة التاريخ وأمله فى هذه اللحظة . التاريخ إذن بزخمه معنا .. ونحن لسنا سوى رأس حربته الماضية حتما إلى هدفها ، كالحجر المنقض من أعلى الجبل .
ولكن التاريخ لن يتحرك إلى هدفه إلاَّ بنا ، فانتصاره الآن يتوقف على إخلاصنا وذكائنا. ومن هنا نحن لسنا جزءا متعينا من العالم ، بل نحن مفهومه المجرد .. حقيقته التاريخية . ربما لهذا لن نستطيع أن نرصد حركتنا نحن رصدا موضوعيا .. لأن ذلك يفترض أصلا أن ننجح فى تصور أنفسنا كجزء من العالم ، كأثر من آثاره ، كقطرة فى بحره اللانهائى ليس مطروحا عليها أن تحتويه بكامله أو تدعى القدرة على تمثيل لا نهائيته تمثيلا "موضوعيا" .. وما أبعدنا آنذاك عن هذا . كان علينا إذن أن نكتفى بمحاكمة حركتنا من الداخل بمعايير التكتيك ، معايير الخطأ والصواب ، فالاستراتيجية أمرها محسوم .. ملخصها أننا لسنا سوى الأدوات العظمى للتاريخ .. أنظارنا دوما متجهة نحو العالم ، نحو تحليله "الموضوعى" لنتبين طريقنا .. ولكن وجودنا الموضوعى ذاته ليس مطروحا أن يكون محلا للتحليل ، فتحليل العالم هو الذى يمدنا بأسس لمشروعية حركتنا ، وإدارة خلافاتنا .. وخلافاتنا لا تكون مشروعة إلا إذا اتخذت إطارها من مسلماتنا المشتركة عن العالم. نحن إذن استراتيجية خالصة ، متعالية .. نحن إذن لسنا جزءا من العالم ، وإنما نحن نقطة البداية لعالم جديد .. لم يولد بعد .
هذا عالم قد مضى ، بدوامته وبحره المرتب الواضح ، أما الآن .. فقد فقدنا دوامتنا ، وصار البحر خليطا أو سديما متشابها ، ولن ينفعنا كثيرا التمسك بمصطلحات الزمن الماضى : الطبقات ، السلطة ، البرجوازية ، لأنه بغير الدوامة الواقعية لم تعد المصطلحات تدل على خطة للحركة ، كما فقدت وظيفتها فى منح المشروعية ، ولذا يغرق التمييز الذى تقيمه وسط عشرات التمييزات الأخرى ، ومن ثم أصبح مقدرا علينا الآن أن نكشف عن "كيتش المسيرة الكبرى" اليسارى وندمره ، آملين أن نكتشف خلف أنقاضه معالم طريق جديد . نهدم الكيتش إذن، فتتمايز الدوامة الموحدة القديمة إلى عشرات المواقف والأحكام ، أو آلافها ، وننظر إلى رفاق "المسيرة الكبرى" من خارج المظلة التى جمعتنا بهم ، فنجد بينهم من الاختلافات ما يجدر معه إعادة تصنيفهم وتقييمهم من جديد . لم يعودوا رفاقا .. ولم نعد ندور معا حول نفس البؤرة المركزية . ثم ننظر كرَّة أخرى ، فيتاح لنا أن نرى للمرة الأولى موقع دوامتنا فى العالم ، كيف تشكلت ، كيف أنتجها العالم، وكيف كانت بالتالى إحدى حقائقه ، وجزءا من نسيجه .. جزءا من خريطة وأيديولوجية الناصرية التى تمردت الدوامة عليها .. وتصبح النظرة الموضوعية إلى دوامتنا ذاتها ممكنة للمرة الأولى .. ونكتشف أننا لم نكن أصلا نقطة بداية عالم جديد .
ذلك ما اكتشفته أروى وهى تمر مع زملائها بتجربة "الخروج - من - العالم" . ولكن هذا الاكتشاف - ما دمنا قد أصبحنا الآن موضوعيين - إنما توصلنا إليه بسبب ضغوط قاسية .. ضغوط الفشل . فالدوامة لم تفشل فقط فى اجتذاب الأمواج الهائمة لتدور فى فلكها ، بل فشلت أيضا ، ولهذا السبب بالذات ، فى إيجاد طريقة لمجرد الحفاظ على نفسها . كنا فى الدوامة .. ولكن الدوامة انفجرت ، تحت الضغط الشديد ، وتناثرنا ذرات ، تنطلق بقوة دفع وجودنا المحض نحو المجهول/ العالم "الحقيقى" ، لنحمل له معنا خبرتنا الوحيدة : خبرة التناثر : ذلك الكيتش كاذب ، هذه الدوامة ليست من البحر . نأتى إلى "العالم - السديم" .. "الحقيقى" أيضا .. لنروى روايتنا عن الكهف الذى عشنا فيه سنينا . وأثناء ذلك يحدث التحول الأهم : فنحن الآن نكلم العالم ، بعدما كنا نتكلم عنه . كنا نتكلم داخل الدوامة عن ذلك العالم الذى كنا قد نظمناه فكريا لنتحرك داخله ، أما الآن فنحن نكلم العالم - السديم ليقبلنا داخله ، نقدم إليه خبرة هى بالضرورة "تراث يجب أن يجحدوه" ...
تلك هى شجاعة هذا الكتاب ..
تروى أروى تجربتها ، تخاطب الجيل الجديد ، تشرح له القضية الوطنية ، وتشرح أيضا ذلك التراث من النفاق والازدواج والشر داخل الحركة الطلابية الماركسية وتنظيماتها ، فتكتشف أن هذا الجيل الذى تخاطبه لم يكتف بجحد ذلك التراث ، وإنما توصل إلى تجاهله أصلا ! جيل لا تعنيه دقائق القضية الوطنية فى كثير أو قليل .. وبالتالى لا تعنيه خبرة أروى إلا من حيث هى خبرة إنسانية خاصة، لا تحدد معنى العالم ، سواء فيما مضى أو فى المستقبل . جيل يعيش حياته فى عالم مختلف ، ذابت فيه الفواصل القاطعة بين الدوامات التى تنازعت عالمنا الماضى ، بل وليس فى نيته أيضا مواصلة النضال من أجل القضية الوطنية .. ولذلك فآخر ما يهمه هو تحديد المسئولية عن "الأخطاء" و "الجرائم" التى تشكل بؤرة المرارة فى الكتاب . مرارة اكتشاف أبعاد الهوة السحيقة بين الحلم وواقعه .
ثمة هوة عميقة إذن بين المرسل والمستقبل بصدد معنى الرسالة .. وهو ما يكشف عن وجه آخر من أوجه هذا الكتاب .. فالموقف المعروض هنا ليس موقف من عبروا بالدوامة سريعا ونفضوا عن أنفسهم غبارها ، وتعينوا فى العالم من جديد، فى معسكر آخر أو خارج كل المعسكرات .. وإنما موقف من تشكلت حياتهم بعمق داخل هذا العالم . فأروى على خلاف الجيل الذى تخاطبه لازالت تحمل معها - رغم تخليها مؤخرا عن القضية الوطنية - الحلم بالعدل ، بالانتماء الواضح لعالم مرتب جيدا . إن ذلك الكتاب يقدم لنا شخصية مؤمنة بطبيعتها، ولكنها صارت بغير إله .. شخصية تظل تحمِّل نفسها مسئولية العالم والحقيقة فى عالم قيد التشكل يراجع مبدأ إمكانية وجود هذا النمط من المسئولية من الأساس .. وتلك هى الهوة الضخمة .. وذلك هو الجحيم.
وذلك أيضا هو الخلاف مع الجيل الجديد . لذلك تجد أروى نفسها مضطرة ، برغم المرارات ، لأن تلتفت إلى الجيل الجديد لتؤكد له أن حياة جيلها كانت برغم كل شىء أكثر غنى ، لأنه جيل عاش وذاق لحظة حرية ، لحظة كان كل فرد - حتى أسوأهم - على استعداد لأن يموت من أجلها .. جيل عاش الحلم الكبير ، وخاض تجربة عميقة أدرك فيها شرور القيم البرجوازية التى لا يدركها هذا الجيل الجديد . ووفقا لهذا المعيار يعيش الجيل الحالى حياة أكثر قسوة بكثير ، لأنه يفتقر إلى الحلم القديم أو ما يعادله .. جيل موصوم بالضياع فى اللامعنى ، وإذا كنا نتعاطف معه فإن هذا التعاطف نابع من هذا الضياع بالذات .
تقبل أروى إذن مسئولية العالم والحقيقة كما ورثتها من خبرتها القديمة ، وترفض فى ذات الوقت ما شهدته فى خبرتها السابقة من تحول هذه المسئولية إلى "شر وجنون" و"عدم تسامح" و"رفض للاختلاف" والتعالى ، الخ . ماذا يبقى إذن؟ تبقى "إمكانية الحلم ذاتها" ( ص 118) ، نوع معين من الأحلام ، ربما كان - كما سنرى - لا يختلف كثيرا عن نوع الأحلام الذى ميَّز الحركة الطلابية .. أو .. الدوامة القديمة .
لا تشهر أروى حلمها فى مواجهة الجيل الجديد "الضائع" من المثقفين فحسب .. ولكن فى مواجهة "العالم الجديد" كله ؛ كانت أروى قد رفضت فيما مضى تعالى الطليعة عمن أسمتهم الطليعة "الناس العادية" ، ولكنها حين خرجت من الطليعة تبحث عن هؤلاء الناس وجدت عالمهم قبيحا . وكلما اقتربت منه وجدته أكثر قبحا ، ففسرت ذلك بأن القبح "قد سبقها إليه" . وبصرف النظر عما ينطوى عليه ذلك من افتراض "جمال العالم" قبل ذلك .. فإن هذا الحكم بالقبح كان طريقا مَلَكيا لعودة المرء إلى تاريخه العريق ، المحفور فى جسده .. ليعيد تشكيل الكيتش الضائع معدلا .. فالآن سيتشكل الحلم متحولا إلى مثل أعلى أخلاقى موضوع صراحة أمام الواقع ، وتعلن أروى عن نفسها - بالتالى - مثقفا هامشيا .
حين يعلن موقف المثقف الهامشى عن نفسه فإنه يفترض بالضرورة "وجود" مركز يقف هو خارجه .. فالهامش لا يوجد إلا قياسا إلى مركز ما . فالمثقف الهامشى يظل يحمل فى داخله الحلم ، غير أنه حلم مجرد ؛ حلم توقف عن التبشير بطريق جديد نحو عالم جديد ، فهو كيتش بالقوة فحسب ، برغم أنه لا يخلو من دلالات محددة على نحو ما سنرى . وهو أيضا موقف انتظار ، لأنه لا يعلن نفسه مركزا بديلا ، ولو فى حالة جنينية .
من خلال هذا الموقف الهامشى سوف نستبقى برغم كل شىء تلك الرؤية النورانية .. ذلك الحلم .. أو الأمل فى حلم الخلاص الشامل ، باعتباره المعنى الوحيد للوجود ، والمبرر الأساسى لوجودنا نحن بالذات ، حتى إذا كنا قد فقدنا الآن الطريق . لذلك فنحن لا نستطيع أصلا أن نرى فى رفض الجيل الجديد لمبدأ الحلم إلا علامة مؤكدة على ضياعه .. فلا هو يشارك أروى فى هذا الموقف الهامشى ، ولا هو يمثل الطرف الشرير الذى نقاتل ضده . ومن ثم يصبح موقفه بالضرورة موقفا غير قابل للرؤية ولا للتفسير من وجهة نظر "الحلم" - بألف لام التعريف - إلا كسلبية محضة ، كـ "لا - وجود" .. أو - بشكل أبسط - كضياع يستحق الرثاء .
إذا كان الجيل الجديد قد أسقط قضية الوطنية ، ومشكلة المسئولية عن الجرائم ، فإن جيل الحركة الطلابية الماركسية وقادته من الجيل الأسبق قد انتبه بعنف لهذه الرسالة ، واستعد بالسلاح ليخوض معركته المقدسة ضد الكتاب ، حتى بغير قراءته . ذلك أن الرهان هنا ليس على الأفكار ، ولكن على القداسة . لقد كانت الرسالة التى وصلت إلى جميع المهتمين ، بغير قراءة ، هى أننا بصدد انتهاك لقداسة الدوامة التى هى رأس حربة التاريخ ومبرر وجودنا .. وفى هذا لم يخنهم حدسهم ؛ فالكتاب فى المقام الأول إعلان للحرب .. وإذا كانت أروى تقر فى مقدمتها المتأخرة للكتاب بأنها اكتشفت عند لقائها بالجيل الجديد أنها لم تكن قد تركت مواقعها وأفكارها القديمة فيما يخص القضية الوطنية ومركزيتها .. فإن الرابطة المستمرة بالماضى فى عمومه تنسحب فى رأيى على مجمل النص .. من حيث هو نص يصفى الحساب على نحو بالغ الحدة مع رموز الحركة ومقدساتها .. ذلك أن تصفية الحساب ليست قطيعة بقدر ما هى رابطة قوية سنتناولها لاحقا .. هى رابطة الثأر . نحن إذن أمام معركة تُشن من داخل الصفوف .. "خيانة" - كما لعلهم يقولون - ومن هنا ذلك الاحتشاد المسبق ضد الكتاب ...
لماذا كل هذه الجرائم والآلام ؟ تحاول أروى أن تقدم تفسيرا لجيلها : أنتم جيل قد خضع لجيل سابق "انتهكه" عهد عبد الناصر حين حذفه إلى الهامش ، وأصبح لا يرضيه أقل من الزعامة تعويضا ، فمارسها باستهتار على الحركة الطلابية الصاعدة فى أوائل السبعينات بهدف تلصيم صورة نضالية لذاته ، بغير أى شعور بالمسئولية تجاه مأساة الشعب وتجاه الجيل الجديد ، إلى حد عدم التورع عن استثمار الحركة فى تصفية الخلافات التى تراكمت بين أفراد هذا الجيل السابق فى زمن الانتهاك الناصرى .
تستدير أروى لتدين قادة جيلها أيضا .. هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم على رأس الحركة الطلابية دون أن يكونوا قادرين فعلا ، لا على القيادة ، ولا على شجاعة الاعتراف بالعجز . فما كان منهم إلاَّ أن سلموا أنفسهم للجيل السابق ، مقابل الحصول منه على الثقة والأطر والدوجمات والمرجعيات الكفيلة بتثبيت أوهام الانتصار الحتمى فى نفوسهم ، فى مواجهة كل الحقائق التى كانت تؤكد انحسار الحركة . هنا نصل إلى بيت القصيد من هذا التحليل .. وهم مجموعة الأتباع/ الضحايا ، الذين دفعوا ثمن رغبة هذه الذوات المريضة من أبناء الجيلين فى تعويض الهزائم والجهل والعجز عن الاعتراف بالعجز .
غير أن المسألة أعقد من هذا التقسيم البسيط إلى خادعين ومخدوعين .. فمن أسهل الأمور مد هذا التحليل الذى تقدمه أروى على استقامته ليصل إلى الأتباع وأتباع الأتباع ... إلى نهاية الصف .. فكل منهم سلَّم رقبته بالفعل لمن يليه ارتفاعا وردد مقولاته .. ربما حتى بشكل أكثر سطحية وتبسيطا ويقينية ، إشباعا لاحتياج نفسى ما .. بل وربما أيضا لنفس السبب : عدم القدرة على الاعتراف بالعجز . وأيا كانت آليات الاستعباد/ الخضوع ، فإنها ، فى ظاهرة بهذا الحجم والامتداد الزمنى ، لا يمكن أن تُعزى إلى مجموعة ظروف فردية أو تُلقى مسئوليتها على أفراد بعينهم .. وكفى اللـه المؤمنين شر القتال !
فبصرف النظر عن الحساب الشخصى ، ودون إنكار لوجود بشاعات فردية خاصة ، فإن "التعيين فى رتبة الطليعة" - الذى تعتبره أروى "أول خطوة فى سكة الانفصال عن الناس وفى صنع علاقة بهم أساسها الغربة" (ص 55) - يولِّد بحد ذاته مجموعة من الخصائص الأخلاقية تفسر الكثير مما تشير إليه أروى (وغيره مما لم تشر إليه) من الخصائص التى ميزت محنة من أسمتهم بـ"المبتسرين" . فالتنظيم - الطليعة هو بالتأكيد فى نظر نفسه "النفى المطلق للبراز" - بتعبير كونديرا الذى تقتبسه أروى ، ويعنى تقريبا التشبث بالكمال الخالص ورفض كل ما يخرج عنه - فهو مجمع حكمة وتاريخ ونضال البروليتاريا المحلية ، المرتبطة بالبروليتاريا العالمية ، التى تحمل على كاهلها مهمة تطهير العالم من كل "براز" . ومن هنا تتسلل النتائج: فلماذا لا تتعبد الحركة فى "محراب التجربة السوفيتية" - كما تلاحظ أروى - مادام هذا ضروريا لتقوية "إيمان" الطلبة بدورهم التاريخى فى مواجهة حقائق واقعهم ذاته ؛ ولماذا لا يجرى تقديس الكتابة والتنظير والمناقشات على حساب العناصر الموهوبة فى أمور التنظيم ، إذا كنا أمام حركة ضعيفة من حيث نفوذها الفعلى فى الأوساط العمالية التى تدَّعى الحركة التعبير عنها ؟ ألا تصبح العقيدة فى هذه الحالة الأساس الجوهرى الفاعل فى إبقاء الرابطة التنظيمية ، غير الفاعلة موضوعيا من وجهة نظر أهدافها المعلنة ؟ ومن ثم الحفاظ على "طليعية الطليعة" - إن جاز التعبير ؟ ومن الطبيعى أيضا تقسيم الناس إلى صفوة وأتباع ، لأن فكرة الطليعة تتضمن بحد ذاتها فكرة طليعة الطليعة ، ثم طليعة طليعة الطليعة ... وهكذا ، وهو ما يتعزز بفعل النظام الهرمى ، حيث تتجمع عناصر الصورة - حقيقية كانت أو وهمية - فى المستوى الأعلى دائما . ألا يرتبط هذا كله بالنظرية اللينينية القائلة بأن الوعى - بألف لام التعريف - يأتى للطبقة العاملة من الخارج بالضرورة ، من المثقفين ؟ أليس التفاؤل الكاذب المزيف الذى اكتشفته أروى ونددت به يشكل التتمة الضرورية ، ليس لهذا الوضع المتردى فحسب ، ولكن أيضا لذات الإطار النظرى الذى يقيم ركائز النضال على الوعى الطبقى الذى يحمله التنظيم ، بوصفه المعبر الذى لا يخطئ عن المصالح التاريخية للطبقة العاملة ، بل وعن التاريخ ذاته ؟ ألا يُعتبر التشاؤم فى ظل هذا الوضع خيانة وتخاذلا، بل وعمالة لأعداء البروليتاريا أيضا ؟
لهذا كله أعتقد أنه من المشروع تماما افتراض أن اختزال الصراع الطبقى فى الوعى الطبقى ، تمهيدا لاختزال الأخير فى التنظيم اللينينى - بكل ما يحمله هذا الاختزال من تحويل التنظيم إلى "الممثل الشرعى والوحيد" للطبقة العاملة والتاريخ، أى إلى طليعة - يعنى ببساطة أن التنظيم يكرس نفسه بنفسه بهذه الأيديولوجية ، بصرف النظر عن واقع حركته الموضوعى الذى يصبح فى وعيه "مجرد" مسألة تكتيك وظروف وقمع ... الخ .. لا تنال من هويته وحقيقته المقدسة ، أو حتى تلقى بظلال الشكوك حولها . ولا يخفى على أحد أيضا واقع أن الحركة الطلابية الماركسية الوطنية إنما كانت ترتكز فى الواقع - وليس فى النظرية - على الإنتليجنسيا المدينية الحديثة ، أى طلبة الجامعة وخريجيها من الموظفين والمهندسين والمحاسبين والأطباء ... الخ ، إذ كان صراعها مع السلطة ومع التيار الإسلامى منصبا بعمق على التواجد الفعال داخل هذه الفئة ، بل وشهد تاريخ الحركة فى حالات كثيرة "نجلسة" Intelligentsization - إن جاز التعبير - عديد من الكوادر العمالية نجحت الجهود فى ضمها للحركة ، "ليغتربوا" بدورهم عن الطبقةالتى ينتمون إليها حتى يصبحوا جديرين بلقب "الطليعة" .
وفى ظل منطق "التمثيل الشرعى والوحيد" كان لابد أيضا من إيجاد قضايا نظرية لإدارة وتبرير خلافات التجمعات المختلفة ، سواء الخلافات بين المنظمات أو بين التكتلات داخل كل منظمة على حدة ، نظرا للاتفاق على أن الحقيقة هى فى أصلها واحدة ، وعلى أنه لا يوجد أصلا سوى تأريخ واحد صحيح للعالم ومصالح تاريخية وحيدة مشروعة . ومن هنا أهمية المناقشات الفقهية المستمرة التى كانت ترمى جميعها إلى إثبات الأحقية المطلقة لكل طرف فى احتكار تمثيل هذه الحقيقة الواحدة والمصالح المشروعة الوحيدة . وفى ظل الركود الحركى والتنظيمى ليس من المستغرب أن يصل ابتذال المناقشات سعيا إلى إضفاء المشروعية على الاختلافات التنظيمية وإدارة الصراع حولها إلى حد النزاع العقائدى حول موضوع "نمط الإنتاج الآسيوى" ، مثلا ، وإن كانت قد دارت فى معظم الحالات حول قضية "طبيعة السلطة" ، التى لعبت نفس الدور الذى لعبته "أنماط التكفير" فى إدارة خلافات التيار الإسلامى - كما أوضحت فى دراسة سابقة . ذلك أن هذه القضايا الخلافية قد سمحت لكل طرف من وجهة نظره بالاحتفاظ بادعاء "التمثيل الشرعى والوحيد" فى مواجهة الأطراف الأخرى ، فوق دورها الأساسى، وهو الاحتفاظ بالتماسك التنظيمى ذاته ، بالكيتش ، حيث ينظر كل فرد فى وجه الآخر فيجد فى "تمسكه بالمبدأ" تأكيدا ودعما وتبريرا واقعيا لتمسكه هو أيضا ، وبالتالى الاحتفاظ باللغة الخاصة للطليعة عن طريق تداولها وإعادة تداولها وإنتاجها .
ثم يأتى الوضع المحورى للقضية الوطنية وسط القطاعات الأوسع للحركة الطلابية الماركسية المصرية ليكمل الدائرة .. فالموضوع الوطنى بمفرداته من قبيل الخيانة الوطنية والصعود والهبوط التاريخى للطبقات ...الخ ، إنما رسَّخ ، فى ظل غياب النشاط العمالى ، الطابع السياسى - الأيديولوجى الطليعى ، حيث تظل الطليعة ترنو من خلال هذه المفردات إلى هدف استراتيجى وهمى هو جهاز الدولة، وتصب أطروحاتها على نقد سياساته العامة واليومية فيما يخص القضية الوطنية ، التى هى قضية علاقة خارجية بالأساس ، فتحتفظ الطليعة لنفسها من جراء ذلك بكرامة الجنرالات ، فهم ليسوا من خلال هذا النشاط الكلامى بأقل من دولة بديلة أو حكومة ظل كاملة فى أرقى تجسداتها : تمثيل الوطن .
وأريد أيضا أن أضيف : ولم لا نقول أن ذلك كله مرتبط بمنطق "الحلم" الذى تفخر أروى بجيلها لامتلاكه ؟ ذلك أن الطليعة من خلال هذه الآليات تصبح أعلى .. بالضبط لأنها تمتلك الحلم- فى مواجهة الواقع الذى لا تمتلكه - وتمارسه فى نشاطها ومناظراتها ، وفى معاركها : المعارك الداخلية من أجل احتكار الادعاء بامتلاك الحلم ، والمعارك الخارجية من أجل حلم المسيرة الكبرى : حيث يخرج الكورس : "الجماهير"، ليسير خلف المناضل ، الذى يتحقق بهذه الصورة كـ"طليعة" للناس "العادية" ، ويصبح من جراء ذلك على استعداد طوعى للشهادة التى تساوى البطولة بالمعنى الدينى المسيحى/ الإسلامى . ألا نستطيع إذن أن نقيم تطابقا بين ازدواجية الحلم/ الواقع ، وازدواجية الطليعة/ الجماهير ؟ ألا نستطيع أن نعتبر "الحلم" صيغة رومانتيكية أو عاطفية لمنطق التمثيل - الطليعة ذاته ؟ أو المرادف الأخلاقى لهذا المنطق ؟
لقد كان التعيين فى رتبة الطليعة "أول خطوة فى سكة الانفصال عن الناس وفى صنع علاقة بهم أساسها الغربة" - على حد تعبير أروى . وفى ظل هذا المركب الأيديولوجى كان من شأن الانعزال وضعف التأثير أن يؤدى إلى مزيد من الجمود والصرامة العقائدية ، ليتحول الفرد إلى ممثل مجرد للأيديولوجيا ، بحيث تصبح حياته ، على حد تعبير أروى ، حاضرا عابرا ، ويصبح وضعه الخاص وكذلك علاقاته الاجتماعية مسألة هامشية ، ويتحول التنظيم إلى بديل عن المجتمع أو إلى مجتمع موازٍ . ومن هذه الزاوية لم يكن ثمة فارق نوعى بين الستينيين والسبعينيين ، أو بين القادة والأتباع . فالقادة الستينيين كانوا إما من الذين غنُّوا نصف أغنية - على حد تعبير أروى - فى أحضان الجهاز الناصرى ، حتى تغيرت الأحوال فى عهد السادات وأصبحت نصف الأغنية هذه ذاتها محرَّمة ، تحتاج إلى تنظيم سرى حتى تقال ، وإما كانوا من الذين "تمسكوا بالحلم" ، ورفضوا الغناء المبتسر ، ليعانوا مرارة "هزيمة البروليتاريا" ، ممثلة فى شخوصهم ، على يد الناصرية ، حتى أسعفتهم الهبَّة الطلابية التى حملتها السبعينات ، ليلتحق السبعينيون بالستينيين فى الحفاظ على بقايا الحلم الوطنى فى ظل "الردة الساداتية" - فى أحد التفسيرات - أو "الهبوط الوطنى" - فى تفسير آخر . ومن خلال العزلة كان التفاقم البشع لأمراض الدوامة الأيديولوجية ، إذ لم تجد الدوامة أمامها سوى نفسها لتأكلها ، وهى تغنى أغنية كاملة هذه المرة ، ولكنها سرية ومحاصرة . ومن الطبيعى أن يزداد التشدد ، وتبرز تكتيكات عبادة السلطة والانضباط أكثر فأكثر ، ويصبح الصراع الداخلى هو المتنفس الوحيد لمجموعة من أنصاف الآلهة الذين افتقروا إلى الأتباع . وليس من غير المتوقع فى ظل هذا التركيب أن السبعينيين أنفسهم كانوا سيكررون ذات التجربة مع الأجيال التالية لو كان اللـه قد قيض لهم حركة طلابية قوية فى الثمانينات يعوضون بها مرارات الهزيمة ، التى أصبحت عندهم ، مثلما كانت عند الستينيين ، أكبر من مجرد هزيمة شخصية ؛ إذ هى لا تقل عن هزيمة مؤقتة للتاريخ ذاته . ومن الطبيعى أيضا أن يفرز هذا الجو ما تسميه أروى "الحقد غير الموجه" ، الرافض مسبقا لأى نجاح ، فالنجاح فى ظل هذا الجو لا يمكن تفسيره إلا كنتيجة لخيانة ما ، تنازل ما ، لأنه ببساطة ليس نجاحا "للكيتش - الحقيقة - التاريخ" ، وبالتالى فهو دائما جزء من نجاح الرجعية بشكل أو بآخر .
لقد ارتبط الجميع بـ"الحلم" ارتباطا لا فكاك منه . غير أن الحلم كان بمعنى ما إجباريا .. فالحلم لم يكن سوى أحد مفردات عالم سائد من الأحلام .. عالم الأيديولوجيات الواحدية ، الذى بدأنا نستشعر انهياره فى مصر فى التسعينات فقط . وترصد أروى ذاتها حقيقة أن الحركة الطلابية الوطنية الماركسية كانت بمجملها جزءا من الأيديولوجية الناصرية ، برغم العداءات ؛ فالبرنامج الوطنى كان واحدا ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الأيديولوجيا - الدوامة الناصرية كانت أيضا جزءا من عالم الصراع بين المعسكرين . فكما تلاحظ أروى - على صعيد الحركة الشيوعية - لم تسلم الحركة الشيوعية الأوربية ذاتها من الجمود العقائدى . وإذا دققنا النظر فسوف نشهد عالما أنتجت فيه الأيديولوجيا الرأسمالية الديمقراطية ذاتها نموذجا بشعا للإرهاب الفكرى فى ذلك الحين ، هو المكارثية . وفى كل هذه الصراعات بين مختلف الأيديولوجيات/ الدوامات ، ترسخ المبدأ القائل بأن الفكر يحكم العالم ، وأن المبدأ الصحيح يجب الذود عنه خوفا من "تلويثه" بأى مكونات خارجية ، وأن "التحريفى" أكثر خطورة من "الخائن" الصريح ، العدو المعلن . لقد كان الكيتش الذى تدينه أروى إذن أحد مفردات عصر الحقيقة الوحيدة ، عصر تدور صراعاته كلها على أساس افتراض مبدأ مطلق خيِّر وحيد يدعى كل طرف امتلاكه ، وعليه بالتالى أن يسعى عبر حوار أو صراع يسمى نظريا أو فكريا لتأكيد مشروعية هذا الامتلاك . وفى هذا الإطار تصبح الدوجمائية فريضة ، ويصبح تمييز الأعلام أو الرايات فى حاجة إلى تأكيد دوجمائى لا يكل ، ولا يتورع عن اختلاق ما يناسبه من مبررات "نظرية" . ففى إطار الحركة القومية العربية ، مثلا ، أدار البعث وعبد الناصر صراعاتهما على المستوى الأيديولوجى عن طريق الاختلاف على ترتيب الأولويات بين مقولات "الحرية - الاشتراكية - الوحدة" ، وسالت الأحبار أنهارا لتناقش هذه التفاهة المقززة ، لا لشىء إلا لتبرير واقع وجود معسكرين يستعملان ذات الأيديولوجيا ويتصارعان باسمها على السيادة...
كلا .. لم تكن الحركة الطلابية الماركسية تنفرد بأمراضها.. بل كانت وبحق ابنة عصرها ، حتى ولو كانت بين أخوتها ابنا مبتسرا وهزيلا بعض الشىء !
فى كل هذه الحالات كان دور هذه الأيديولوجيات - الدوامات ، هو بالضبط تبرير الاختلاف ، وإقامة هوية متميزة ، والقمع باسمها : من أجل بناء الدولة الوطنية التدخلية القوية ومد نفوذها فى المجتمع ، فى حالة الناصرية ؛ ومن أجل بناء الدولة الحديثة فى حالة الحركة الوهابية الثالثة بالسعودية ؛ ومن أجل حفظ تماسك البيروقراطية السائدة وتحديث المجتمع على يد الدولة ، فى حالة الاتحاد السوفييتى ؛ ومن أجل الحفاظ على هيمنة الرأسمالية ومواجهة البيروقراطية السوفييتية ، فى حالة المكارثية .
أما الشيوعية المصرية فى الستينات والسبعينات ، فكانت لفترة ما أداة الإنتليجنسيا المدينيَّة المصرية الحديثة - أو بعض قطاعاتها بالأدق ، فى مقاومة هيمنة الإنتليجنسيا العسكرية ، ثم فى مواجهة عجز الدولة المتزايد عن إعالتها ورشوتها بعد ذلك مع اقتراب الخزانة العامة من الإفلاس وانتهاء العصر الذهبى للتعيينات والوظائف . لقد كان البرنامج الوطنى "الديمقراطى" السلطوى للحركة يلعب بالضبط على الفجوة بين الدعاية الناصرية وواقع الدولة كما تراها هذه الإنتليجنسيا. غير أنه لأسباب كثيرة سقطت قيادة الإنتليجنسيا المتمردة فى يد الإنتليجنسيا الحاكمية الأكثر راديكالية ، وصاحبة الأيديولوجية الأكثر تماسكا فى عداء النظام ، حيث تنطلق باسم "المطلق" ذاته ، لتصل إلى إدانة مطلقة لمبدأ الدولة القومية ذاته .. واكتمل سقوط البرنامج المذكور مع انحسار "الخريطة الناصرية" بعدما أدت مهمتها فى خلق الدولة التدخلية الحديثة ، التى أصبح واجبها الوحيد هو إعادة الاندماج فى الاقتصاد العالمى بشكل أعمق وفقا لتوازناته الحقيقية ، وفى حدود المحصلة التى خلَّفها مجموع الانتصارات والهزائم .
 
غير أن تحليل الحركة الطلابية الوطنية الماركسية من منظور أيديولوجيتها وظروفها لا يمنع ، أو لا يستبعد - بعد كشف الكيتش بالذات - وجود أوسع الاختلافات مدى فى جوانب متعددة من شخصيات أعضاء الحركة . وليس من غير المتصور مثلا وجود أفراد "تحرروا من الوهم" ، وأباحوا لأنفسهم بعد ذلك الاستمرار لمجردالحفاظ على "مهنة" الزعامة أو الطليعة ، أو بسبب العجز عن الحياة خارج الدوامة . ومع ذلك فلا يمكن أن يقال أن هذا النوع من الأفراد أو غيره قد اقتصر وجوده على الحركة الطلابية الماركسية ، أو حتى على الحركات السياسية على وجهالحصر، فضلاَّ عن أنه من غير المتصور أن يلعب هذا النوع من الشخصيات دورا مهما كهذا إلاَّ فى بيئة ومؤسسة تتيح لهم الفرصة والإمكانيات لممارسة مثل هذا النمط من النفوذ . ولا أظن أن حزب لينين مثلا كان أفضل أخلاقيا من جميع النواحى ، برغم امتيازه بأنه لم يكن حزبا طلابيا ، بدليل خضوعه لزعيم على غرار ستالين مثلا . وإذا كان ستالين زعيما عالميا ناجحا فلماذا إذن يُلام قادة الحركة الطلابية الماركسية المصرية على اقتدائهم به ؟ ولماذا يُلامون على "تلصيم صورة نضالية" إذا كانت هذه الصورة معيارا عاما للحركة كلها ؟ ومطلبا كانت الحركة تطالب به بشدة لدرجة السعى لتقليد الزعماء على اختلافهم فى أساليب الحديث والسلوك ، بل فى حركاتهم ؟ ألم تكن العناصر الأكثر إخلاصا ونقاء هى بالضبط الأقل قدرة على التخلص من الكيتش ؟ ألم تشهد هذه الفترة عمل ماكينة الإدانات بأقصى طاقتها على أيديهم ، بالذات لكل من يتخلف عن الركب ويمتنع عن "تلصيم صورة نضالية" ؟ بل لكل من يجرؤ على طرح مبدأ إعادة التفكير فى تفاهات نظريات الحزب على غرار نظرية "طبيعة السلطة" ومهاتراتها النظرية ؟ ثم .. ألا يتطلب "التعيين فى رتبة الطليعة" بالضرورة إنشاء صورة طليعية نضالية والحفاظ عليها ، بنفس الطريقة التى يستصحب بها "التعيين فى رتبة الوزارة" مثلا اتخاذ سمت الوزراء وطقوسهم ؟ ألم يتواطأ الجميع مع مبدأ الحفاظ على قدسية أسرار وفضائح "البيت الواحد" ، فضلا عن عدم جواز مناقشتها فى الداخل أصلا بغير تغطيتها بأسانيد نظرية محترمة ونصوص مناسبة ؟ وأخيرا ألا تُلقى سيرة ستالين وغيره ولو بعض الظلال من الشك حول الفكرة الضمنية القائلة بوجود رابطة قوية بين الفعالية السياسية والأخلاق ؟؟ فقبل وبعد كل شىء بنى ستالين الاتحاد السوفييتى وخاض به حربا عالمية وكسبها برغم كل أخطائه ، ورفع الدولة السوفيتية إلى مستوى قوة عظمى .
لا يمكن إذن أن نستبعد بشكل مطلق إمكانية تحول أسوأ العيوب الشخصية للستينيين أو السبعينيين إلى فضائل فى ظرف معين ، تفيد فى تحقيق "الكيتش النضالى" .. فليس التحطيم المتبادل هو القَدَر الوحيد الذى ينتظر هذه العيوب أيا كانت الملابسات . ولهذا السبب وغيره حرص النظام على تحجيم نشاطات الحركة الطلابية الماركسية وإجهاضها بشكل دورى وعزلها عن التجمعات العمالية ، برغم الفاعلية المحدودة . وبالمقابل لا يعنى نجاح هذه المنظمات الفقيرة الإنتليجنسوية فى التحول فى ظرف ما إلى قيادة ثورية أو حتى استيلاؤها على السلطة أن الكيتش ليس كاذبا ، ولا أن الجزء قد أصبح أخيرا كُلاَّ ، لأن تثوير الحياة الاجتماعية ليس مرهونا بالسلطة السياسية وحدها أصلا ، ولا هو من فعل نخبة متجردة تمثل الجماهير والتاريخ معا .. فالسلطة السياسية ليست هى الحياة ، وإن كانت من أقوى رموزها المعاصرة .
وقد يكون حكم أروى صحيحا ، حين تقول أنه "ليس هناك من هو أخطر من البرجوازى الصغير ، المتعلم ، الخجول ، الشريف ، الأخلاقى إلى حد التطهر .. بالذات لو قرر أن يتدخل ليعدل مسار التاريخ" (ص ص73 - 74) ، ولكن هذا ليس أكثر من حُكم وحيد الجانب ، فبهذا المنطق ذاته لم يكن هناك من هو أخطر من لينين "البرجوازى الصغير ، المتعلم ، الخجول ، الشريف ، الأخلاقى ... الخ" . فالبرجوازى الصغير - أو فرد الإنتليجنسيا بالأدق - ليس موصوما بوصمة أبدية وخالدة ، وإنما هو حامل لقابليات معينة ، تنتج نتائج مختلفة تماما فى ظروف مختلفة، بل وتتعدل وتتحور ضمن فاعليات مختلفة . وبصفة عامة ليس من المرجح إمكان إيجاد صلة مباشرة بين الفعل الأيديولوجى/ الأخلاقى (ناهيك عن الفعل السياسى الأكثر تعقيدا) وبين أخلاق شخصية معينة ، لأن كل فعل يتخلق فى ظلال شبكة من التفاعلات الاجتماعية المعقدة لا بديل لفهمها عن التحليل العينى الملموس لكل حالة على حدة
حاولت أن أبين فى الفقرة السابقة أن كشف منطق الكيتش ، الذى بذلت فيه أروى جهدا عظيما ، والذى أؤيدها فيه تماما ، لا يكشف بأسفله ذرات أخلاقية متصارعة يطحن أسوأها أفضلها أو يستغله ، لأن منطق الكيتش ذاته شديد الارتباط بمنطق الاستغلال وبمنطق القابلية للاستغلال أيضا، كما أوضحت ، وكما سيتضح أكثر فيما بعد ، حيث يستفيد منه المستغَلون كما يستفيد المستغِلون.
وسوف أحاول الآن أن أبين كيف يستند منطق الإدانة الأخلاقى نفسه إلى ذات تصورات الكيتش السابق . وقد سبق ورأينا كيف يعود الكيتش القديم للظهور فى الرثاء الحار للجيل الجديد بوصفه "فاقدا للحلم" ، ولكن هذا يتضح بصورة أبسط وأوضح فى نمط "الحلم الأخلاقى" الضمنى فى هذا الكتاب ، نمط يقوم فى تقديرى على تصور قيام ما يمكن أن أسميه "أخوية كاملة نبيلة" ، وهو تصور مأخوذ مباشرة من التصور الرومانسى للشيوعية ، أولا ، ومسئول إلى حد كبير عن آليات الكيتش ذاته ، ثانيا .
فالأخوية النبيلة الكاملة كانت هى بالفعل المثل الأعلى غير المتحقق للحركة الطلابية الوطنية الماركسية على صعيد الأخلاق ، وبفعل ضغط هذا التصور بالذات لا شك أن كل من اختلف عنه اضطر إلى إعادة تصوير نفسه - لذاته وللآخرين أن كان صادقا وللآخرين فقط إذا كان "نصابا" - كمثال نموذجى بدرجة أو بأخرى لهذا التصور الحاكم ، وبالتالى إنكار وكبت مجمل تراثه الشعورى والأخلاقى ، ثم إعادة إنتاجه معدلا وفقا للتصور الأخلاقى الرسمى ، مع تحديد مناسب نظريا لطمس الفوارق . هذا مع افتراض حسن النوايا . وهو ما ينتج بحد ذاته مختلف الظواهر المرضية التى وصفتها أروى ، وغيرها من المظاهر ، من جراء ما يولِّده ذلك الاصطناع والدعوة إلى الانصباب فى قوالب معدَّة سلفا باسم التربية الثورية من تعقيدات فى العلاقات بين الأفراد ، ثانيا ، وبين الفرد ونفسه ، أولا .
ويتبدى التمسك بذات النموذج فى إدانة الكتاب الضمنية لكل من نجوا بجلودهم من عالم الماركسية الطلابية المصرية وتخلّوا عن خوض معركة تحقيق الكيتش بحذافيره فى صورته المثالية ، ليندمجوا مرة أخرى فى الحياة اليومية : فى البحث عن الرزق ورعاية أسرة وأطفال . فالكتاب يصف هذا التصرف بأنه "تلصيم خروم" ، وهو وصف لا يمكن تصوره إلا انطلاقا بالضبط من موقع نموذج التنظيم الأخوى الذى أصاب ، للأسف ، أعضائه "بخروم" بسبب مشكلاته ذاتها . ففى هذا الموقف سوف تتوقف رؤيتنا لهؤلاء فى اللحظة التى يتركون فيها "الأخوية النبيلة" بسبب الجروح ، ويظلون إلى الأبد محتفظين فى أعيننا بصورتهم وهم يخرجون بجروحهم منه ، ثم يعجز الخيال عن تصور ما هو أبعد من صورة افتراضية لهم وهم يضمدون هذه الجروح .. لأنهم بعد ذلك ببساطة يخرجون من التاريخ .. تاريخ "الأخوية النبيلة" المؤلمة . ولكن من وجهة نظر هؤلاء الأفراد فإن ما بدأ بالنسبة لهم - فرضا - تضميدا لجروح يتحول إلى عالم بأكمله ، بمشكلاته ومسراته ، بلحظاته النورانية والبائسة ، بخيريه وأشراره ، وتختفى مع الزمن الصورة القديمة التى كان مشروع الأسرة فيها نقطة صغيرة لا تزيد عن حجم "البلاستر" الذى نضعه على الجرح . أما من وجهة نظر الطفل الذى تنتجه هذه الأسرة ، فالكيتش بأكمله يختفى تماما .
وفوق ذلك لا أظن أن مثل هذه التحولات تكون خالصة أو قطعية ، فالخبرة الماضية لا تموت بمجرد توقف ممارستها ، والمرء كما أشرت فى بداية المقال لا يستطيع أن يرمى ماضيه خلف ظهره ويمضى ببساطة . وبالقدر الذى تبدو به الأسرة والعمل معوقان "للأخوية النبيلة" ، سوف تبدو الخبرة السياسية الماضية من وجهة نظر الأسرة والعمل مشكلة أحيانا . وأنا هنا أكثر ميلا لموقف آخر لأروى، الموقف الذى - على العكس - لا يضع الحياة اليومية فى مواجهة الرؤية السياسية والتزاماتها ، بل يفترض أن الحياة الاجتماعية العادية هى معمل الخبرة الأساسى للفرد ومحك اختباره ، وهو ما فهمته من رفض أروى لأن يعمل بالسياسة الهامشيون من المراهقين ومن الذين لم تثقل كواهلهم أعباء الحياة ومشكلات الواقع فى حياتهم اليومية ؛ من فقدوا كل رابطة بالعالم سوى الرابطة الوهمية لتمثيله وقيادته .
ولعله مما يؤيد تصورى هذا رصد أروى لأمراض الأسر التى ظلت تحتفظ بلافتة "الأسرة اليسارية" وأصرت على الاحتفاظ ببقايا تصورات طليعية ، جعلتها تدخل مع بعضها البعض فى منازعات ومشاحنات باسم المبادئ ، أو تكوين شلل تجمع الفقراء حول الأسر الغنية تحت زعم استمرار النضال أو الأفكار السابقة بصورة أو بأخرى ، أو حتى بقايا لهما .
كذلك تتجلى العودة إلى الكيتش القديم فى النموذج الضمنى للحب الرومانسى العابر للطبقات والظروف والقائم على المسئولية الكاملة والتضحية اللانهائية فى علاقة قائمة على الكفاح المشترك المجرد ، والذى يقدمه الكتاب فى إطار نقد "المثقف عاشقا" ، بوصفه "برجوازيا صغيرا". وهو نموذج لن يشعر بغرابته أحد من نشطاء الحركة الطلابية الماركسية ، لفرط تداوله بينهم ، لأنه بالضبط يتمم الحلم النخبوى التمثيلى . وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التصور يعود فى جذوره إلى النقد الرومانتيكى الكلاسيكى للمجتمع البرجوازى الحديث ، الذى ربما كان يجد مثله الأعلى فى فردين محبين فى كوخ بسيط ، تجمعهما وحدة سرمدية خارج كل علاقة اجتماعية أخرى ، ويتضامنان فى مواجهة العالم كله .. وهو ذات الجو النفسى الذى أحاط بالحركة الطلابية بوصفها نخبة إنسانية متميزة تنتمى للمستقبل وتنادى بالحرية وترتبط روحيا بعالم آخر ، مثالى من جميع النواحى ، يقف فى مواجهة "العالم - الحاضر - كله" . وفى مواجهة ذلك العالم المثالى يقدم الكتاب نموذج الحب البرجوازى الذى يقوم بالضرورة - فيما يؤكد الكتاب - على الملكية المحضة ، ويهدف أولا وأخيرا للسيطرة بهدف الإشباع الشخصى الذى يتمحور حول الامتلاك ... الخ . وهو نموذج يمتنع فيه ، وفقا للمنطلق الرومانسى ، التفكير فى إمكان وجود تواصل "إنسانى" .. حيث أنه من المفترض أصلا أن الإنسانى هو الرومانسى وأن الرومانسى هو الإنسانى بالضرورة .
على أية حال أسفرت العلاقات التى قامت فعلا فى ظل الكيتش عن شىء لا هو رومانسى ولا هو برجوازى .. وهو فى جميع الأحوال مشكلة كبرى .. لأن هذه العلاقات - زواجا كانت أو غير ذلك - كانت - بسبب عمقها بالذات - الأقل قدرة على التكيف وفق نموذج الكيتش ، وبالتالى شكلت نقطة ضعف قاتلة للوهم . فها هو كل طرف يكتشف أن الرفيق/ الآخر هو أصلا فرد بخصائصه المميِّزة له ، وليس نموذجا أو تجسيدا للنموذج الذى تؤسسه الحركة .. بل هو فوق ذلك آخر ؛ أى ملئ بالعيوب من وجهة نظرنا ، التى هى ما زالت بعد بالنسبة لنا وجهة النظر المثلى المؤسسة جيدا على قيم الأخوية الكاملة النبيلة بعدما نجحنا فى الالتحام بالكيتش وتبرير فرديتنا الخاصة فى إطاره عبر عملية معقدة . والآخر أيضا - وتلك هى الطامة الكبرى - لا يتوانى عن كشف عيوبنا ، وبعد فترة من الاحتكاكات لا بد وأن تواجه الأخلاق الرسمية للكيتش عقبات واقعية متزايدة .. وهذا كله بالنسبة لأفضل العناصر وأكثرها إخلاصا لقيم الكيتش ومثله. فبسبب واقعيتها بالذات تصبح هذه التجربة/ العلاقة هى الأكثر إيلاما .. لتضمنها عناصر غير كيتشوية .. دنيوية "عادية" ، ملحة ومهمة ويومية .. مؤلمة خصوصا لمن كانوا الأكثر اتحادا بقيم الكيتش وادعاءاته .. فهنا بالذات لا تصلح تكتيكات التجاهل واختيار الهامشية التى يتعامل بها المناضل مع عمله ومع علاقات العمل ، ولا العزلة التى يتجنب بها أهله واهتماماتهم .. هنا "الواقع" ... فلتقفز هنا .. وهنا غــرق الكثيرون ممن توحدوا بـ"الحلم
يفترض هذا المقال أن التخلص من كيتش المسيرة الكبرى اليسارى والكيتش الأخلاقى المرتبط به يمكن أن يمنحنا رؤية أبسط وأكثر واقعية للمشكلات الأخلاقية . فبدلا من إدانة الأنانية بمفاهيم النقد الرومانتيكى ، يمكن - على العكس - أن نقرر أن أى تصور أرقى لعلاقات تقوم على المسئولية الشخصية المتبادلة تفترض أصلا تكوين أفراد مسئولين عن علاقتهم بأنفسهم أولا ، أى أنانيين بالمعنى البرجوازى . وبعد ذلك فحسب يمكن أن ننطلق إلى تصور علاقات تقوم على مبدأ الندية ، بمعنى الدعم المتبادل ، ومسئولية كل فرد عن نفسه ، وبالتالى عدم الاعتماد على تصورات مثالية مفترضة لأخلاق جماعية أو فردية ما ، تضمن لنا تلقائيا مسئولية أخلاقية للآخرين عنا . ولا يعنى مبدأ الندية هنا أسطورة التساوى المطلق ، وإنما - على العكس - قبول واقع ميل العلاقة لصالح طرف ما فى ظرف معين ، وللطرف الآخر فى ظرف مختلف ، وفقا لقدرات وتكوين هذين الشخصين .
ومع ذلك ، وأيا كان النموذج الذى نفضله ، فإنه يظل مجرد نموذج ، أى أدوات لمحاكمة الأفراد لبعضهم البعض من خلال افتراض قوالب معينة للسلوك . فى حين أن كل فردية تنطوى بالضرورة على إمكانيات الخداع ؛ خداع الناس ، بل وخداع النفس . ومن هنا فإن المرء الذى لا يسجن نفسه بعزم وإصرار وجهود متواصلة فى عقيدة أخلاقية بعينها سيتاح له من حين لآخر أن يعيد اكتشاف نفسه والآخرين فى ضوء مختلف وفقا لخبرات واقعية ، إذا استطاع أن يحرر خبراته ، ولو جزئيا ، من الأحكام الأخلاقية المسبقة . وأعتقد أن هذا الموقف أكثر إيجابية أخلاقيا من وضع معيار فوقى - رومانسى أو غيره - لمحاكمة الآخرين بمنطق متعالٍ ..
واتساقا مع هذا يمكن النظر لكل فعل أخلاقى على أنه فعل متبادل بالضرورة، بمعنى أن مسئوليته يتحملها طرفاه بشكل أو بآخر . فإذا كان المغفلون يستحقون أن يمتطيهم الأفاقون (بتعبير أروى - ص57) ، فإن المرأة التى تدخل - مثلا - ضمن مسئولية رجل يطوِّر العلاقة حتى حدود الفراش ثم يتخلى عن مشاركتها فى العواقب الاجتماعية المترتبة على ذلك ، كاشفا عن وجه شرقى كان غائبا قبل ذلك .. تشاركه المسئولية بالقبول الضمنى أو حتى بالغفلة أو إيهام نفسها بقدرتها على تغيير الأوضاع بوسائل "سحرية" . وفى مقابل نموذج المثقف الذى يطرى "النصف الأعلى" للمرأة ليصل إلى "نصفها الأسفل" ، يوجد أيضا نموذج المرأة التى تسعى لرفع قيمة "نصفها الأسفل" عن طريق اكتساب مظهر الثقافة أو النضال ، ونموذج المرأة التى تفخر بالارتباط الحر أو غير الحر بالنجوم عوضا عن تطوير قدراتها الذاتية وتحمل مسئولية ذاتها .. وغير ذلك من النماذج الكاشفة لمبدأ المسئولية الشخصية والمتبادلة .
وبصفة عامة فإن كل شخص مسئول عن اختياراته ؛ فالفتاة التى تسلم رأسها وجسمها فى جلسة على كوب شاى مع مناضل - كما تذكر أروى - ليس من المنطقى اعتبارها ضحية لمجرد أنها لم تنل مكاسب مادية ، فبقدر ما أنها كانت مدفوعة بطموح ما ، ونموذج ما ، ومطالب ما ، حتى ولو كانت طموحات الالتحاق بالكيتش والوصول بسرعة للمكانة المرتفعة لمسلماته .. يمكن القول بأنها شاركت باختيارها فى المصير العام الذى اقتسمه أنصار الكيتش .. فليست الثروة هى الإغراء الوحيد فى عالمنا المعاصر .
بل أن المشكلة التى تواجهها الأطروحات الأخلاقية النموذجية أعقد من ذلك .. فملكات البشر عموما متداخلة لا يمكن عزل كل منها على حدة ، كما تطالب التصورات الأخلاقية المتشددة فى تفريقها المتشدد بين ما هو "عالٍ" وما هو "سافل" .. فلا يمكن مثلا عزل "نصفى" المرأة أو الرجل على السواء عن بعضهما البعض ، ولا الحد من تأثيرهما المتبادل والمتآذر على الآخرين . ولا تتوقف مسألة التداخل على هذين النصفين فحسب ، وإنما تمتد أيضا إلى الثروة والمكانة الاجتماعية والحيوية والذكاء الاجتماعى .. الخ .. فلا يوجد حد فاصل بين أى قدرة أو وضع للفرد وبين باقى أوضاعه وقدراته ، اللهم إلا من وجهة نظر تطهرية بالغة الحدة ، ترفع قيمة معينة كمعيار يفوق كل القيم ، وتقيم المحاكمة على أساسها ، وترفض كل تداخل واقعى .
ومن جراء هذا التداخل الواقعى مرتبطا بإهماله ، نظرا لعدم مشروعيته من وجهة نظر النموذج الكيتشوى الأخلاقى ، حدث خلط هائل ونشأت إمكانيات خداع للذات وللآخرين لا تنتهى . وعلى سبيل المثال كثيرا ما أصبحت المرأة مجرد ذيل للمناضل ، وصوت إضافى يعضد موقفه فى التنظيم ، رابطةً صعود نجمها بصعود نجمه ، بكل ما ينطوى عليه ذلك من امتزاج أو التحام الشخصى بالسياسى ؛ فيتحول الوفاق الشخصى إلى وفاق سياسى كما يتحول الخلاف الشخصى إلى خلاف سياسى ... وهو ما يتفق على أى حال مع ما رصدته أروى من تحول الأفراد إلى كيانات أيديولوحية بشكل شبه كامل .
وبصفة عامة ، فإن كل ما هو "إنسانى" - اختلافى ، كل نقص ، كان يضرب بالضرورة فى صميم التصور الرومانسى الخالى من العيوب ، ليصبح بالتالى مدخلا لتفكير نظرى لتبرير "الانحراف" بالخيانة أو الانحطاط ... الخ . فهنا يصبح التسامح مع الفردية مستحيلا ، من الطرف المعتدى والمعتدَى عليه على حد سواء .. ذلك أن الطليعة بأخلاقها ونظرياتها الكيتشوية كانت دائما محكمة للتجريم .. ولا عجب فى ذلك .. فالمرء لا يصبح طليعة أصلا إلا لأنه يرغب منذ البداية فى الانشطار الداخلى إلى حاكم ومحكوم ، وترجمة هذا الانشطار فى الخارج ليتمكن من محاكمة العالم والرفاق جميعا .
ويستصحب هذا التصور القطعى : الأخلاقى/ اللاأخلاقى تصور آخر على صعيد العلاقات الإنسانية : تصور التواصل/ اللاتواصل ؛ فالتواصل بوصفه فعلا أخلاقيا رومانسيا لابد وأن يخلو من كل غرض عدا تحقيق النموذج ، وتفاعل الفرديات يحكمه بصرامة نموذج معين للفرد الأخلاقى الذى يعتبر وحده قادرا على التواصل "الإنسانى" . فالإنسانى = الرومانسى كما أشرت من قبل . ومع ذلك فما يحدث واقعيا أنه يصعب كثيرا الفصل بين فهم الفرد والتحكم فيه ، وبين التعاطف معه وفهمه . كما أن كل سلوك ينطوى بالضرورة على قسر ما ، لمجرد كونه ، كسلوك ، يفرض أمرا واقعا .. ولا يمكن الفصل بين هذه الروابط من أجل نموذج يقوم على الفهم / التعاطف المجرد ، بوصفه هو بالذات " الـ"نموذج الإنسانى، إلا فى الحياة التجريدية "فى ظلال" الكيتش
فى رحلتنا عبر هذا الكتاب كان تحفظنا الأساسى يدور حول إحلال خطاب أخلاقى محل خطاب المسيرة الكبرى ، يظل مع ذلك يحمل العديد من سماته لأنه ينبع منه ، وهو أمر من شأنه أن يلقى الضوء على الكثير من سمات ومقولات كتاب "المبتسرون" .. فموقع المثقف الهامشى يصبح بشكل واضح موقع المثقف الواقف على هامش المركز القديم ، والتراث يجب أن يجحده الجيل الجدبد ، ولكن من خلال تبنى الطبعة الأخلاقية للكيتش ، بغير أفق جديد . الحلم يلح مطالبا بإعادة إنتاجه ، بل وبإعادة إنتاجه بشكل مصفى من الأدران والعيوب الأخلاقية . ومن خلال ذلك يواصل كتاب "المبتسرون" فعل احتشاد جبار فى معركة إدانة أخلاقية لأفراد وتوجهات . ومطلوب من ضحايا جيل السبعينات الاحتفاء به بوصفه عملا يثأر لآلامهم ويعوضهم بإدانة المجرمين فى حقهم . واتسق مع تحقيق هذا الهدف النموذج الفريد للكتابة ، الذى جمع بين التحليل السياسى والفكرى ورسم النماذج ، وزاد من عمقه الشعورى إضافة خطابين شخصيين معبِّرين . ليصبح للعمل ككل مذاقا ثأريا لاذعا ، يريد أن يثبت القدرة على مواصلة الصراع ضد الأشرار والنيل منهم .. من خلال كيل اللطمات للمكانة والسلطة والهيبة القديمة التى أنتجت كل الشرور.
وربما كان من المناسب هنا أن نوضح أن هذا المقال لا يدعى أنه يقدم تناولا شاملا للكتاب ، وإنما يحاول أن يقدم منظورا نقديا لجانب معين من جوانبه وهو ما اصطلحنا على تسميته بالكيتش الأخلاقى ، بوصفه النقد الأساسى اللازم فى رأيى لإكمال رسالة الكتاب الرئيسية والتخلص من بقايا "كيتش المسيرة الكبرى" . وإذا كنا فى هذه الفقرة بصدد منطق الثأر الذى يخترق الكتاب ويميزه من أوله إلى آخره ، فإن ما يعنينا هنا ليس ما هو شخصى أو ثأرى بحت ، وإنما علاقة هذا الموقف بالكيتش الأخلاقى . ذلك أن منطق الثأر من شأنه دائما أن يكرس بطبيعته ذاتها نوعا من التحلل من المسئولية الشخصية . فالثأر موقف نهائى ، انحسمت فيه القضية وتم تصنيف معسكرات الخير والشر ولم يبق سوى خوض المعركة ، ومن شأنه بالتالى أن يعيد ويلح على إعادة إنتاج مبدأ الموقف الصحيح الوحيد الذى تحمله أنتَ .. أما الأخطاء فهى مسئولية الطرف الآخر وحده . فأنتَ فى موقف الثأر لا تستطيع أن تتراجع ولا أن تراجع نفسك ، وأنتَ مضطر لأن تعتبر كل موقف مخالف لموقفك ، ولو أبسط اختلاف ، إما متواطئا مع الأعداء وإما - فى أحسن الأحوال - عدميا ، يقف خارج قضية الحياة والموت التى تكتنفك . وسوف تجد نفسك بالضرورة لا تلتفت إلا لمن يمدك بسلاح أقوى أو لأعدائك الذين تثأر منهم ومن يوالونهم . وباختصار فإنك تجد نفسك فى موقف الثأر هذا مرتبطا أوثق الارتباط بأعدائك هؤلاء ، وبمن يرتبط بهم .. سواء بالوقوف معهم أو ضدهم . أنتَ حين تثأر لا تتجاوز موقفك ، وإنما تتخذ قطبه المضاد ، ولذلك غالبا ما تكون أقرب لعدوك من أصدقائك ، وغالبا ما ستجد نفسك تستخدم نفس معاييره ومقدساته لتحاربه بها .. لأنها هى الكفيلة بأن تحدث فى نفسه أقوى تأثير . ومثلما كانت الحركة الماركسية جزءا من الخريطة الناصرية ، تتأمل فى الفارق بين الأيديولوجيا والواقع .. يقف الكتاب على نفس المسافة القريبة من الحركة الطلابية الماركسية ، ويقلب أيديولوجيتها نحو قطبها الأخلاقى ، ويتأمل المسافة بين شعاراتها وممارسات قياداتها.. وليست المسافة بين الكراهية والحب ببعيدة .
وإذا كانت أروى تعلن نفسها مثقفا هامشيا ، فإن الهامش يجب أن يُفهم هنا قياسا إلى مركز .. هو بالضبط المركز القديم .. مركز الدوامة . ومن هنا لا يعنى كتاب "المبتسرون" بتقديم نقطة انطلاق جديدة ، ولا بتقديم بديل .. فالحلم القديم لم يمت بعد .. وليس بالتالى فى حاجة إلى بديل .. إنه مدفون فى قلب النقد، بل يخترقه اختراقا ، ولكن فى صيغته الأخلاقية : "حلم الأخوية النبيلة" .
لذلك يرى هذا المقال أن استكمال الرسالة الإيجابية للغاية للكتاب إنما يتطلب بالضبط التخلص من الكيتش الأخلاقى أيضا ، الذى هو فى الحقيقة أكثر قسوة ووطأة . وعلى سبيل المثال ، ومع شديد الاعتذار للكاتبة ، لا يسع المرء سوى ملاحظة التشابه الواضح بين رجال الحركة الذين يقول عنهم الكتاب أنهم يضعون نموذجا للمرأة هو نموذج المرأة الإلهة ليحكموا به فى النهاية على المرأة الواقعية بأنها إما زوجة بلهاء أو مومس ، وبين حكم الكاتبة نفسها على من أسمتهم "الذين فشلوا فى تعويضها عن خيباتها" . ففى الحالتين يُنَصِّب النموذج الأخلاقى فردا فى موقع الحكم ، ويضع بين يديه آلية إدانة باترة لا تخفق فى مسعاها أبدا .
لقد ولَّد كيتش "الكمال الأخلاقى" ، بتوحيده بين الفردى والعام ، كل الثنائيات التى تخللت الكتاب . فـ"الكراهية المطلقة للمثقف" والرفض المطلق للصراع نفسيا وأخلاقيا ليسا سوى صورتين قاسيتين للـ"نفى المطلق للبراز" . ذلك أن رفض الصراع هنا لا يقوم على تسامح ، ولا كمقدمة لعمل يرمى إلى إقالة الناس من عثراتهم الأخلاقية ، ولكنه يقوم على تشدد مطلق ، يؤدى واقعيا إلى توسيع لا متناه لنطاق الإدانة .

ولكن .. ما الذى يمكن أن يطرحه هذا المقال إذا رفض الكيتش الأخلاقى والطابع الثأرى المرتبط به ؟ ألن يطرح بالمقابل كيتشا آخر يقوم مثلا على التسامح المسيحى الطابع أو شىء ما من هذا القبيل ؟ هذا بالضبط ما يحاول هذا المقال أن يفلت منه .. مدركا أن الإحاطة بمشكلة بهذا الحجم وبهذا الامتداد التاريخى أسهل كثيرا من تجاوزها . فنحن المثقفون - الذين نعمل فى إنتاج الأيديولوجيات بالتعريف - نقف تاريخيا أسرى الاختيار بين الانخراط فى معارك "الكيتشات" المتصارعة ، متألمين مع ذلك من إدراك حدودها وزيفها ، برغم قوتها الحالَّة فى الميدان بشكل لا يمكن إنكاره ؛ وبين تجاهلها ، مخاطرين بالوقوع تحت عجلاتها الشرسة بغير وعى ، وبالسقوط فى اللاشىء ؛ وأخيرا رفضها بشكل إيجابى ، مخاطرين بتحول رفضنا هذا - فى حالة اكتسابه لقوة ما - إلى كيتش جديد يفوق الجميع فى قسوته بسبب جذريته بالذات .
من بين جميع هذه الخيارات يختار هذا المقال مؤقتا خيارا "شبه مسيحى" ، ربما ، أو تفكيكى ، محاولا تجنب الأضرار الكبرى لأى من المواقف الثلاثة إذا ما اختير بشكل كامل وحاسم .
يستند هذا الموقف المؤقت المقترح إلى مجموعة من الاعتبارات ، منها أن "طريق الحق المستقيم" - إن جاز التعبير - لم يوجد أصلاَّ فى أى يوم من الأيام ، لأنه ليس معروفا مرة واحدة وإلى الأبد ، وإنما يتشكل تاريخيا من خلال مجموعة الانحرافات المستمرة عن الطرق التى ثبت خطأها ، فضلا عن أن رؤية الطريق نفسه تنتج عن موقع خاص للرائى .. ومن شأن السير فى الطريق أن يغير هذا الموقع ، وبالتالى الرؤية . وهذا الموقف ليس فيما أظن عدميا .. إلاَّ إذا كنا نشترط لأى فعل أو حركة ضمانة علوية بالسداد والنجاح .. وقبل ذلك اليقين المطلق بالصواب الكامل .
كذلك ينطلق هذا الموقف من رفض المعايير الأحادية التى تولِّد بطبيعتها ثنائيات شاملة ومطلقة ، على غرار ثنائية الخير والشر النموذجية . فالمعرفة مثلا ليست مقابلا للحياة ولا نقيضها ، ولا أيضا بديلها وجوهرها وتمثيلها .. فهى لا تخرج عن كونها نشاطا بشريا مثل أى نشاط آخر ، وليس - بالتالى - موقف احتقار المثقف أو موقف تمجيده نابعين من أمور جوهرية أو ماهوية تتصل بنشاط الثقافة ذاته .. فهما موقفان ناتجان فى الواقع من تفاعل اجتماعى معقد . ناهيك عن أنه لا يوجد نشاط إنسانى أيا كان يخلو من المعرفة .
أيضا .. لنا أن نرفض الانخراط فى جيتو قديم أو جديد ، ولكننا لا يمكن أن ندين مبدأ الجيتو فى عصره إدانة مطلقة ، خصوصا إذا كان ظاهرة عالمية فى حينه .. بنفس المعنى الذى نرفض به إدانة المجتمع الإقطاعى أو الأسرة الأمومية مثلا ، لأنه أمر لا معنى له ، أولا ، ولأنه سلوك أثبت دائما أنه يخفى وراءه أكثر مما يُظهر، ثانيا .
وبصفة عامة ينطلق موقفنا من افتراض أن كل وضع بشرى له "أساسه الكافى" - بتعبير ليبنيتز - وهو وضع متعدد بطبيعته ذاتها ، ولا يمكن اختزاله بشكل جدِّى إلى معسكر "ما هو إنسانى" ، فى مقابل ما هو حيوانى ، مثلا ، أو منحط .. اللهم إلا من وجهة النظر التسلطية التى يحاول هذا المقال مقاومتها ، والتى تقدم تعريفا لما هو إنسانى لقمع أو تهديد ما لا يتفق معها بمنطق الإدانة والمحاكمة .
وبالمثل لا يوجد هذا التقابل المطلق بين الأنانية والغيرية كما يفترض الكيتش الأخلاقى . فالغيرية نموذج أخلاقى يحقق إشباعا ذاتيا جدا لمن يمارسه ، ويصارع نماذج أخرى ، ويطالب الآخرين بتقديم خدمات جمَّة ، معنوية على الأقل ، للذات. كذلك فإن الأنانية ، كمبدأ عام ، يعترف بحقوق مماثلة للآخرين . وسواء فى هذا النموذج أو ذاك ، فإنه لا يوجد فى هذا العالم فعل واحد بمقدوره أن يحقق للمرء أهدافه بمعزل عن أهداف جميع الآخرين .
وينطبق نفس الأمر على ثنائية القوة والضعف .. فالقوة ليست هى "النفى المطلق للبراز" .. لأن جوانب القوة والضعف متعددة ونسبية ، وكلاهما يتحول إلى الآخر وفقا لظروف متعددة . وعلى سبيل المثال فإن الضعف كمقولة كثيرا ما يستخدم لتحقيق قوة ، باتهام أو ابتزاز الطرف المسمى الأقوى ، وكثيرا ما تُخفى القوة كمقولة ضعفا فادحا فى جوانب متعددة .
يعنى هذا كله أن علينا إذا ما قررنا أن نرفض الكيتش الأخلاقى وغيره أن نقبل الاختلاف ، وهو ما يتطلب أصلا قبول الاختلاف الداخلى ، والكف عن السعى الدائم للم شمل الذات بمختلف جوانبها وتقلباتها فى مقولة واحدة أيا كانت . إن نبذ الكيتش يتطلب قبول "البراز" .. وهو ما يتطلب أولاَّ أن يقر المرء بواقع وجود "برازه" الخاص : وضعه ، اختياراته ، تاريخه ، أخلاقه (بالجمع) ، ليتمكن فعليا من قبول "براز" الآخرين ، الذى يظل دائما نتاجا إنسانيا معقدا .. وبالتالى تجنب الموقف الثأرى .. موقف المثقف الهامشى الذى يرى نفسه واقفا على هامش ما يعتبره المركز - بألف لام التعريف - لصالح موقف المثقف "العادى" جدا ، الذى يقدم كلمته ، ويقبل واقعيا نقدها ، ويعطى ويأخذ ، دون أن يخضع ، ودون أن يطالب غيره بالخضوع ..
أما المثقف "المركزى" .. فليبرز لنا إذا استطاع مفاتيح الحقيقة التى يدعى حملها

 



#شريف_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول كتاب جان ــ فرانسوا ليوتار : الوضع ما بعد الحداثى
- الوداع الأخير للحرس القديم أزمة الإنتلجنسيا المصرية وأيديولو ...
- نحو إعادة بناء لليسار
- لماذا فشل مشروع التنوير ؟؟
- عن الفن والأدب فى ظل الناصرية: دراسة لدور المثقف فى ظل حكم ا ...
- مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية
- مأزق القومية فى الماركسية المصرية


المزيد.....




- بالفيديو.. منصات عبرية تنشر لقطات لاشتباكات طاحنة بين الجيش ...
- Rolls-Royce تخطط لتطوير مفاعلات نووية فضائية صغيرة الحجم
- -القاتل الصامت-.. عوامل الخطر وكيفية الوقاية
- -المغذيات الهوائية-.. مصادر غذائية من نوع آخر!
- إعلام ألماني يكشف عن خرق أمني خطير استهدف حاملة طائرات بريطا ...
- ترامب يدرس تعيين ريتشارد غرينيل مبعوثا أمريكيا خاصا لأوكراني ...
- مقتل مدير مستشفى و6 عاملين في غارة إسرائيلية على بعلبك
- أوستن يتوقع انخراط قوات كورية شمالية في حرب أوكرانيا قريبا
- بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
- بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - شريف يونس - الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى السبعينات عن كتاب -المبتسرون- لأروى صالح