عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4596 - 2014 / 10 / 7 - 09:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن إكتشاف العيوب التي رافقت هذه التجربة وما واجهها من انتقادات على الخط الأخلاقي الذي إختطته التجربة تبلور موقف بحثي أخر أكثر إنسانية ينصب على أخر نقطة من الملاحظات الانتقادية التي سقناها في نقدنا للبحث ,فبرزت تجربة بحثية أخرى تهتم بهذا الجانب من مؤثرات السلوك وقدمته على ما سواه وأعطت للتفاعل قيمة تأثيرية كبرى في صناعة السلوك سميت المدرسة التفاعلية التي تقوم على الفهم التالي(يكتشف أن التفاعل بجماعة متسامحة ومشجعة يساعدا على إطلاق الطاقات الخلاقة بصورة ملحوظة),.
التفاعل يكون فعالا في مجالات الإبداع في السلوك بشرط أن تكون هذه الجماعة التي تتعاط السلوك أن تكون متسامحة, ويستطرد الباحث في شرح دراسته فيقول((ولا يؤثر ا لموقف الاجتماعي في الأشخاص فحسب بل أن الأشخاص يؤثرون أيضا في الخصائص العامة للموقف. فقد تبين أن الأشخاص المتوافقين والمنبسطين يميلون إلى تيسير العلاقات الودية في داخل الجماعة ويساعدون على خلق جو مريح وبناء في المواقف الاجتماعية المختلفة. أما الأشخاص المنسحبون من ذوي النمط الفصامي فيخلقون جوا اجتماعيا متوترا.
وهناك فضلا عن هذا وذاك أشخاص ذوو فاعلية أكثر من الأشخاص الآخرين فيكون لهم لهذا تأثير أقوى على التغيير من الموقف واتجاه ضغوطه) .إن تأشير الدور التفاعلي للجماعة البشرية وإن كان له نتائج عملية وله مبررات باعتبار إن الإنسان ابن البيئة وابن المجتمع وهذا الى حد كبير صحيح فالدراسة تشير الى مجتمع محدد بخاصية التسامح أو أعطت لهذه الجماعة المتفاعلة خصيصة أخرجتها من العمومية التي تتصف بها النظرية العملية والتجريد العلمي الى وصف مجموعة خاصة قد تكون استثنائية لا يمكن إن نطلق عليها صيغة مجتمع بشري عام بالتمثيل والعموم الكلي لكل الجماعة الإنسانية .
هذا الفهم قد أشار إليه النص القرآني من قبل كنموذج إرشادي في محل القدوة ولم يقل أنه يمثل كل المسلمين وإن كانت غاية النصوص نقل التجربة وتعميمها وهذا ما لم يحصل لحد الآن {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }الفتح29,فهل لنا بالإمكان أن نطلق هذا السلوك بعموميته على أنه سلوك عام للمسلمين.
إن التفاعل بين الفرد والمجتمع الذي تقول به الدراسة هو الذي يحكم قوانينه ومعاييره على الفرد والجماعة ويختلف نوع التأثير والتأثر تبعا للقوة والاستجابة لهذه القوة سواء أللفرد أو للجماعة ففي الفرض الأول نجد إن كثيرا من الأفراد هم أصحاب القوة الفارضة لمعايرها على الجماعة فتستجيب الجماعة لهذه القهرية وبهذه الكيفية فتسايرها بالنحو الذي يريد الفرد {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى }طه79, {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }القصص4, { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }غافر29,هذا الفرد المتمتع بأسباب القهر هو الذي قاد مجتمعه نحو الهلاك والضلال وأثر في مجريات التاريخ بالنسبة الى مجتمعه وبالحقيقة إن فرعون لم يكن ممثلا لنفسه ونوازعها فقط بل كان نائبا عن الشيطان في قومه بما مكنته السلطة المادية والقوة العسكرية والجبروت المنفلت من تحكمات القوة النفسية الناطقة والكلية .
فهو إذن ليس إلا مثال لما تفعله القوة الحسية الحيوانية الخارجة عن الضبط لذلك سمى النص القدسي فرعون بأنه من المسرفين والإسراف في شروحنا السابقة هو الخروج المبالغ فيه عن منحنى السلوك الاعتيادي النموذجي {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ }الدخان31, {وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ }الحاقة9, {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }النازعات17,فالإسراف والخطيئة والطغيان هي مما تتصف به النفس الحيوانية وتتعلق فيما تتعلق قواها الحسية التي في ذاتيتها قابلية الانفلات وقابلية الضبط وفق قوانين النفس اللاحقة لها النفس الناطقة التي تتحدد أولا بالفكر وتنتهي بالذكاء .
ففي قصة فرعون التي سقناها مثلا يتبين لنا إن فرعون بالرغم مما أمتلك من قوة سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى السحرية لم يكن بالذكاء والفكرية المؤهلة له بالنجاة هو وقومه من الامتحان الذي وضعه فيه موسى,ولم يسخر مجموع القوى إلا لتغليب الأنانية على الأدلة الفكرية والعقلية والعلمية التي تدفعه للاستفادة من المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام,لقد جمد كل القوى الذهنية الخمس من النفس الثالثة واستثار كل القوى الحسية الحيوانية في صراعه مع موسى فعجز عن المجارات ليس بالقدر المحتم كما يظن البعض ولكن لان القوى الحسية بالغ ما بلغت من قوة لا تصمد أمام الحقائق العلمية والفكرية والذهنية الفاعلة في النفس الناطقة عدا تنشيط النفس الرابعة التي تسمو في الإنسان نحو العمل السلوكي وفق الحقائق الربانية التي لا تهزم أبدا أمام أي قوى دنيوية وإن اشتدت {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً }الكهف43.
السلوك الفرعوني استند الى قوى النفس الحسية بقوله {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }القصص 38,فإرادة فرعون كانت تنحصر في الاطلاع الحسي المادي لإله موسى ليجعل الصراع بينه وبين الإله طبعا وفق تصوره الحسي وليس وفق التصور العقلي الذي قاده الى هذه النتيجة ومن قبله المقدمة اللازمة التي مكنته من هذا الطلب {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ }الشعراء23.
فهو ينكر الربوبية لغيره ويقيسها وفق قياساته الحسية لذلك رفض التسليم الفكري والعقلي بوجود منازع له {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى }طه60,ليشهد هزيمته المادية الساحقة فلم يتبين أسباب الهزيمة بل ضل على غباءه الفكري والعلمي يتخبط سلوكيا فمرة يرفض ما أفترضه أولا {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }الأعراف123,ومرة يقر قتل موسى والتخلص منه بعد أن عجز أن يدرك اله موسى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }غافر26.
لم يفلح بذلك القتل الذي هو من تصرف القوى الحسية من النفس الحيوانية التي تتشبه بالسباع لفصل الأمور وإنهاء الصراع,فيقر بعد أن أعيته الحيلة عن قتل موسى أن يثير المجتمع عليه فيسلب من موسى القاعدة الجماهيرية الداعمة {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ }الشعراء65,كل ذلك لا يمنع من أن يرتدع فرعون ويعود الى رشده ويضبط قواه الحسية حتى أدركه الغرق وتخلى عنه قواه الحسية فكان أمام ذاته معزولا من كل قوة ومن كل حول فيكتشف أنه كان غبيا وأنه كان ضالا وأنه كان خاطئا فعلية العودة الى إنسانيته ويتخلى عن الجبروت الربوبي الزائف الذي كان يدعيه,لقد كانت لحظة مصارحة بين فرعون ونفسه أكتشف فيها حقيقة الذات عنده وهزيمة الجبروت الإلهي المصطنع فأعلن وبكل قوة حقيقته المكتشفة بمواجهة الموت والإغراق وهزيمة نفسه الحيوانية أمام حقيقة الله العالية الكلية الناطقة التي أنطقته {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }يونس90.
إن هذا السرد الطويل هدفه بيات تأثير الفرد بالمجتمع من جهة وحقيقة هذا التأثير وأسبابه وثانيا بيان عمق الفهم القرآني للنفس البشرية واليات عملها والبواعث والنتائج التي تتمخض عن السلوكيات المتأتاة عن هذه النفي فنظهر بذلك حقيقة قد تكون غائبة عن الأذهان عند الكثيرين الذين يوجهون سهام النقد الى الدين باعتباره عاجزا عن مجارات العلم الوضعي الحديث في فهم ودراسة المشكلات الحياتية المعاصرة.
ولو قارنا بين تصور القرآن للأثر والتأثير بين الفرد والجماعة مقارنة بالدراسة التي نتكلم عنها نجد عمق الهوة بين الفهمين وسطحية الأخيرة مقابل العمق الواعي والعلمية التي يتعامل بها النص القرآني ففي التجربة البحثية تركز على معيار مادي هو الانصياع سواء أكان فرديا تجاه الجماعة أو جماعيا تجاه الفرد هذا المعيار يتغير بمستويات عمودية وأفقية تبعا لعوامل خارجية يجملها البحث بما يلي(تلعب سماتنا الشخصية ومفاهيمنا الخاصة عن الآخرين دورا كبيرا في ازدياد قدرتنا على الانصياع أو انخفاضها. فالأشخاص الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس والإحساس بالأمان غالبا ما ينصاعون للضغوط أكثر من غيرهم ممن يتميزون بقدر من ارتفاع الثقة بالنفس والمركز الاجتماعي) .
وهذا المعيار وان كان غالبا ما يصدق في ظروف القهر ومواجهة الظلم ولكنه ليس حاكما دائما في بيان الانصياع كما يسميه البحث والقرآن يسميه الاستجابة ففي النص {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }هود27,هذا هو قول الكافرين أما المعيار الحقيقي في القرآن فلن ولم يكن ماديا أبدا انه الانشراح الصدري الذي يعني وعي النفس الثالثة لحقيقتها والتخلي عن سيطرة القوى النفسية الدونية (الحيوانية والنباتية) والدونية بمعنى الأدنى منها في الترتيب {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }الأنعام125.
وانشراح الصدر في الحقيقة هو رفع الغطاء عنه وإزالة الأكدار والأغلاف عنه ليرى بنور البصيرة التي هي الفكر والذكر والعلم {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }الأنعام 36,إذن الاستجابة مربوطة بالإيمان الذي هو كما قلنا علم وذكر وفكر واليها يتوجه الخطاب المطلوب الاستجابة إليه {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }الشورى26, فالحجة والمحاجة تدور على التعقل والتفكر والتذكر وكما شرحنا في الباب الأول {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟