|
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (12)
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4589 - 2014 / 9 / 30 - 23:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(12) الجزء الثاني من فاوست ، وموت فاوست ! كان لا بد لفاوست الخروج من الكآبة وتأنيب الضمير اللذين خلفهما مصير جرتشن . فنجده في المشهد الأول من الجزء الثاني مضطجعا على مرج محفوف بالورود تحلق في فضائه أرواح مرحة ، فيما الروح الهوائية المحبة ( آريل) تغني لتقود جوقة العفاريت في فضاء الفرح والمحبة حيث تتساقط الأزهار وتهرع أرواح العفاريت الصغار لتشفق على الإنسان بارا كان أو شريرا : حينما تتساقط الأزهار كمطر الربيع وهي تحلق فوق جميع الأشياء وحينما ترف البركة الخضراء للحقول على كل أبناء الأرض فإن جماعة الأرواح من العفاريت الصغار تهرع إلى حيث تستطيع أن تساعد وتشفق على الإنسان البائس بارا كان أو شريرا . (فاوست ج3 نص مسرحي 2 ص9) يتبع هذا المشهد ظهور في قاعة العرش ضمن قصر امبراطور، حيث ينعقد مجلس الدولة برئاسة الامبراطور . ويتوالى حضور رجال الدولة . ويحضر الشيطان وفاوست .ويشرع رجال الدولة في الشكوى من أوضاع البلاد حيث تزداد الجرائم وينجو مرتكبوها من العقاب ، وقائد الجيش يشكو من مؤامرات الفرسان . يجري حوار فلسفي طريف بين الشيطان والأمبراطور يتطرق إليه عبد الرحمن بدوي شارحا : " " إن مفستو فيلس قد وجد حل مشكلات العالم في الإعتقاد بالوحدة ، أو الهوية بين الطبيعة والعقل ، وهذا هو أساس فلسفة الهوية التي بدأ بها شلنج واستعان بها هيجل في وضع مذهبة . وكانت الفلسفتان ( فلسفة شلنج وفلسفة هيجل ) قد انتشرتا ولقيتا استقبالا حارا في ألمانيا في نفس الفترة التي كان فيها جوته يؤلف " فاوست " الثاني . أعني الفترة الممتدة من سنة 1824 حتى 1831 ، وكان جوته من المعجبين والمتأثرين بهما " المصدر نفسه 180 " وحين يهاجم الشيطان آراء المستشار ، ينعته بأنه مادي واقعي لا يدرك إلا ما يلمسه بيديه ، فيقول : " ما لا تلمسه بيديك يبقى بعيدا عنك .. وما لا تمسكه فهو غير موجود أبدا .... " م. نفسه . 181 يطول الحديث عن فساد الأمبراطورية وحاجتها إلى المال . يقول بدوي : " إن جوته جعل فاوست والشيطان يمثلان أمام امبراطور شاب ضعيف الإرادة ناهب للذات ، ليست لديه رغبة ولا قدرة على إدارة الإمبراطورية وقد شاع فيها الفساد وساءت أحوالها المالية ، وكثر فيها تمرد الجماهير والولاة والنبلاء . وعم النقص في كل شيء " م. نفسه . 181 وقد أتى مفستو فيلس بفاوست إلى هذا الأمبراطور كي يولد في نفسه الطمع في السلطان . والأبهة .. وحياة البذخ . غير أن ما جرى هو العكس . فقد ازدرى فاوست الأمبراطورية والأمبراطور والحكم . و ربما كان على الشيطان أن يصحبه إلى امبراطور أقوى . تحدث كرنفالات ومهرجانات ومواكب ويستحضر الشيطان الأساطير اليونانية وأرواح الموتى .. ويشن حروبا من أجل الأمبراطور.. ومن أهم المستحضرين هيلين الطروادية ( هيلانه ) رمز الجمال ومثل فاوست الأعلى للجمال ، حيث يقيم فاوست علاقة معها وينجب منها ابنا ، لكنه يهرب من فاوست إلى العالم الأسفل لتلحق به أمه مرغمة تاركة فاوست للشيطان ،وللهم الذي راح يتمثل له في روح شبحي يصب عليه بلواه ، فنفث في وجهه نفثة أفقدته البصر. وها هو يحاول أخيرا أن يتمسك بلحظة سعادة بعد ان دمر كل اللحظات الجميلة التي عاشها . فنراه أمام قصره على شاطىء بحري طويل يضج بالحياة ، حيث تمخره السفن وتكثر على شواطئه السدود والمتنزهات والمستجمون والعمال . وكل هذا الثراء له وحده . لكن فاوست قد شارف المائة من عمره ولم يعد يرى ببصره وإن راح يرى ببصيرته . ولا شك أن في العمى الذي ابتلي به فاوست حكمة ، المراد منها فقدان جمالية الحياة ومتعتها للتندر عليها والندم على الأيام الجميلة فيها التي لم تعش كما ينبغي أن تعاش . فقد كان فاوست لا يأبه بشيء ، إلى أن وجد نفسه وهو في سن المائة ، يحاول إيقاف عجلة الزمن والتمسك بلحظة السعادة وهو أعمى ، وهذا ما كان ، فقد خر ميتا في لحظة غير متوقعة كان فيها واقفا ويتلفظ بما صار كلماته الأخيرة ( حكمته ): " لا يستحق الحرية والحياة إلا من يسعى كل يوم للظفر بهما ! وهكذا يمضي الطفل والرجل والشيخ العجوز هنا أعمارهم في بلاء حسن محاطين بالأخطار . بودي أن أشاهد مثل هذا الزحام في أرض حرة بين قوم أحرار ! في هذه اللحظة سيكون من حقي أن أقول : توقفي إذن فأنت في غاية الجمال " ! إن أثر أيامي على الأرض لا يمكن أن يغيب في الدهور . وفي استشعار سابق بمثل هذه السعادة فإني أستمتع الآن بأسمى اللحظات " يتهاوى فاوست لتتلقفه أيدي أشباح الموتى ( الليمورات ) وترقده على الأرض. فيما مفستوفيلس ( الشيطان ) يهتف : " لا تشبعه شهوة ، ولا يقنع بأية سعادة ، واستمر يشتاق إلى أشكال متعددة ، واللحظة الأخيرة الأليمة الفارغة ، يريد هذا المسكين أن يوقفها ، وهذا الذي قاومني بكل قوة ، ها هو ذا الزمان قد تغلب عليه . هذا الشيخ يرقد هنا الآن على الرمل . والساعة قد توقفت " أخذ فاوست في أيامه الأخيرة يحب الحياة والعمل ويحلم بوطن حر وشعب حر دون تمييز طبقي وحاول قدر الإمكان أن يطبق هذا الفكر على شاطيء البحر ، وكان ضميره يؤنبه ، لأنه هدم كوخ لعجوزين على الشاطيء لأنه كان يشوه جماله حسب ما يريد أن يبنيه . ثمة عبارة أخيرة لم يتوقف عندها الباحثون والنقاد وكذلك عبد الرحمن بدوي ، ترد على لسان الشيطان في مشهد موت فاوست ، فقد انصبت آراء الباحثين على معرفة من كسب الرهان فاوست أم الشيطان ، مع أن الرهان كان بين الله والشيطان في الأصل ، أما مع فاوست فكانت خدمة في الدنيا من الشيطان مقابل خدمة في الآخرة من فاوست . هذه العبارة تلخص فكر جوته الوجودي المؤمن بوحدة الوجود ، وقدرة الطبيعة العظيمة على الخلق التي تتجلى في أكثر من مشهد في فاوست . العبارة فلسفية غامضة وتحتمل أكثر من تأويل وربما احتار الباحثون فيها ولم يشرحوها لغموضها أو أن بدوي لم يورد شرحهم : بعد أن تهتف الجوقة : " صمتت ( الساعة ) مثل منتصف الليل ، والعقرب سقط " يهتف مفستو فيلس : " إنه سقط وقضي الأمر " وتكرر الجوقة : " لقد مضى " ويعود مفستو فيلس ليهتف : " مضى ؟ يا لها من كلمة حمقاء ؟ لماذا مضى ؟ "مضى " والعدم المحض ، هما شيء واحد ! أي معنى إذن في هذا الخلق الأبدي ؟! ما يخلق مآله إلى العدم ! إن الشيطان يتساءل باحثا عن معنى للخلق ، ولايقتنع بالعدم المحض ، ويكرر تساؤله : " ها هو ذا مضى "! ماذا ينبغي أن يقرأ في هذه العبارة ؟ وما يلبث أن يجيب بعبارته الفلسفية الصوفية : " إنه كما لم يكن قد وجد " !!!!! " ومع ذلك فهو يدور دورته كما لو كان موجودا " !!!!! ويكمل الشيطان خلاصة رؤيته الوجودية قائلا : " من أجل هذا أحببت الخلاء الأبدي " وينتهي مشهد الموت . ليليه مشهد الدفن . ما الذي يريده جوته بهذه العبارات الفلسفية الغامضة على لسان الشيطان . وما الذي يقصده الشيطان بمحبته للخلاء الأبدي ؟! حين نعلم أن جوته عاش 83 عاما منها 51 عاما في القرن الثامن عشر و32 في القرن التاسع عشر . في هذه الفترة كانت أوروبا تعج بالصراعات والتطلعات التحررية وكان صراع الفلسفات على أشده والتصوف الشرقي في أوجه وقد وصل إلى الغرب في أعمق تجلياته بمذهب وحدة الوجود عند ابن عربي . ولا شك أن جوته قد اطلع على هذا الفكر في سنيه الأخيرة ، ومن الجدير بالذكرأن جوته أعجب بشخصية محمد واهتم بالتصوف الإسلامي واعتبر فاطمة الزهراء من أهم نساء التاريخ ،إلى جانب مريم العذراء وهيلين الطروادية ، وكتب ديوانه الشرقي الذي حاكى فيه حكمة الشرق بشكل عام .. وما العبارات التي يرددها الشيطان إلا خلاصة هذه الفلسفة : أجل إن فاوست لم يكن موجودا قبل خلقه ، أي ظهوره المجسد في الوجود ، وإذا استعرنا شرح ابن عربي ، نقول : وجوده الصوري المتخيل في العماء االبدئي، لكننا لا نجزم بأن جوته يريد ذلك ، فقد يقصد وجوده المادي قبل أن يخلق " كما لم يكن " ولكن " قد وجد " خلق .. وهو الآن يعود إلى وجوده الأول في المادة أو العماء البدئي ليدور دورته من جديد . وهذا العماء البدئي الأبدي ، أو المادة الأولى الأبدية ، هي في مفهوم الشيطان :" الخلاء الأبدي " الذي يحبه ، وهي في مفهومنا : المطلق الأزلي . وإن شئتم المادة ، وإن شئتم الهيولى البدئية ، وإن شئتم الطبيعة ، وإن شئتم الأول والآخر، وإن شئتم مفهوما معاصرا : الطاقة ، وإن شئتم مفهوما دينيا : الخالق ، وإن شئتم الله!!!!! ففاوست يذهب الآن إلى الخالق الأبدي - الذي يحبه الشيطان – ليعيد خلقه من جديد . وهو المصير نفسه الذي سيلاقيه الشيطان . يتبع ( 13) دفن فاوست ، والملائكة تشيعه في السماء !!
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (11)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (10)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (9)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (8)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (7)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (6)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (5)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (4)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (3)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (2)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (1)
-
الألوهة الواحدة رغم تعدد المفاهيم والمظاهر .
-
وحدة الوجود في المفهوم الحديث المعاصر حسب محمود شاهين ( أنا
...
-
النص الكامل لقصة - أبناء الشيطان - كما صدرت في حلتها الأخيرة
...
-
بعد شهر من اشتراكي في الحوار المتمدن !!
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (9) وأخيرة
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (8)
-
أنا واحد كذاب !!
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (7)
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (6)
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|