|
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (10)
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4589 - 2014 / 9 / 30 - 22:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(10) فاوست . جوته .
كثيرون هم الأدباء الذين استلهموا أعمالا أدبية من نصوص دينية وأسطورية ، ومن أهمهم على الإطلاق دانتي في الكوميديا الإلهية . وقد تكون قصة أيوب إحدى أهم القصص التي أوحت لأدباء كثيرين بأعمال أدبية .كما أفرزت في الخيال الشعبي العالمي قصصا كثيرة ، عدا المقولات المأثورة عن صبر أيوب كما في الخيال الإسلامي الذي لا يجد من يصاب بمحنة غير تمثل صبر أيوب ! اعتقادا منه أن أيوب كان صابرا على بلواه ، حتى أن صبره دخل الأغنية العربية حين راحت تردد : صبر أيوب صبرت عليك يا محبوب !! انطلاقا من القصة إياها استلهم جوتة ملحمته المسرحية " فاوست " متخذا من رهان الله والشيطان أساسا ليبني عليه ملحمته ، ومتخذا من شخصية تاريخية ذات جذور شعبية اسطورية بطلا لها. غير أن جوته ، عكس الحال التي قامت عليها قصة أيوب ، فجعل من فاوست الأستاذ الجامعي والفيلسوف، غير راض عن حياته وغير مقتنع بها ، فهو لم يحظ بأية ثروة ، أو حتى مكانة اجتماعية مرموقة تخرجه من حياة " لا يرضاها حتى الكلب "وغير قادر على تحقيق ما يبهجه في الحياة ، ولم ير أي جدوى من العلوم التي درسها لإصلاح الناس عما هم عليه ، والرقي بمستوى حياته ، حتى أنه حاول الإنتحار بالسم ، وحين عدل عن الإنتحار فكر في الإتجاه إلى السحر والطلاسم وتحضير الأرواح وقراءة الكف والسيمياء واكتشاف حجر الفلاسفة الذي من شأنه أن يحول المعادن الخسيسة إلى ذهب وفضة . ( للإستفاضة يمكن العودة إلى : فاوست . ترجمة وتقديم عبد الرحمن بدوي . منشورات وزارة الإعلام – الكويت . سلسلة المسرح العالمي . 1989 والرهان هنا بين الله والشيطان على إمكانية أن يتخلى فاوست عن الهدى ويتبع اللهو والمتعة والرفاهية إذا ما قاده الشيطان في طريقه . وكما في أيوب تبدأ مسرحية فاوست من السماء والملائكة ( بنو الله ) ! وهم : رفائيل ، وجبريل ، وميكائيل بصحبة مفستوفيلس ( الشيطان ) في حضرة الله . ) في بحثنا عن أيوب لم نهتم لهذا التأويل الملائكي .) الشيطان ) مفستوفيلس ) هو الذي يبدأ بالسخرية من الإنسان وينعته بأنه يشبه " الجدجد ذا الرجل الطويلة الذي يطير دائما متواثبا ، يحسب نفسه إلها صغيرا .. موظفا العقل الذي وهبه إياه الله ليصير أكثر حيوانية من الدواب " يوبخ الله الشيطان لأنه لا هم له إلا تحقير الناس والإنتقاص من المخلوقات ولا يرى في العالم إلا ما هو قبيح . ويسأله عما إذا كان يعرف فاوست فيجيبه الشيطان " بأنه يعرفه ويعرف أنه يعبد الله على نحو شاذ وغريب ، وأن رأسه يختمر بالمطامع الشاردة ، وهو لا يكاد يعرف نه مجنون ، فهو يطلب من السماء أجمل النجوم ومن الأرض أعلى الملذات ، ولا شيء يرضي قلبه شديد الإضطراب " المصدر السابق بتصرف . "يجيب الله بأنه سيقود فاوست إلى نور الهداية حين يشاء ، فيرد الشيطان بأن الله سيضيع فاوست ويقترح عليه الرهان : بم تراهن ؟ لو أذنت لي باقتياده برفق في طريقي؟" " ولا يمانع الله في أن يحاول الشيطان هذه المحاولة ، طالما كان فاوست على قيد الحياة ، ويعلن بأن الإنسان يخطىء طالما هو يسعى " وهكذا يتيح الله للشيطان أن يقتاد فاوست إلى الهاوية ، لكن إن بقي فاوست على طريق الهدى رغم تقلبه في سبل الضلال فإن على الشيطان أن يعترف بالخسارة " كل ما هو بين أقواس صغيرة من المصدر نفسه ، بتصرف . ويهمني أن أنوه أن " ابن حلال " استعار الجزء الأول من فاوست من مكتبتي منذ أكثر من عشرين عاما ، ولم يعده حتى الآن ولن يعيده ، لذلك أعتمد على تقديم عبد الرحمن بدوي وخاصة في الجزء الأول . يلاحظ هنا الفرق الهائل بين فهم جوته لله وفهم كتبة التوراة ، فالله هنا يوبخ الشيطان لأنه ينتقص من المخلوقات ، ويرى أن " الإنسان يخطىء طالما هو يسعى " واختار جوته انسانا مثقفا وغير ثري ليقوده الشيطان في طريق الثراء والرفاهية لإمكانية أن يضله عن الهدى . بينما في أيوب اختار الكتبة انسانا ثريا ليبلوه بالفقر والأمراض . فكم هو شاسع الفرق بين التجربتين الإلهيتين ، هنا نعيم ولهو ، وهناك جحيم ! ويشير عبد الرحمن بدوي إلى معاصرة جوته لعمانوئيل كانت الذي كان قد كتب رسالة " عن الكفاح بين مبدأ الخير ومبدأ الشر من أجل السيطرة على الإنسان وفيها عرض للفكرة نفسها " ومن الجدير بالذكر أن فكرة النور والظلمة والخير والشر في مبدأ الخلق لم تتوضح وتتبلور إلا في الديانة الزرادشتية حوالي 700 إلى 600 ق. م. حسب ما يذكر فراس السواح في أبحاثه . حيث جسدت في إلهين رئيسين أهورا مازدا ( الخير ) وأهريمان أو أهيرمان ( الشر ) ويتبع كل واحد منهما مجموعة آلهة . والصراع سيظل قائما بينهما على حقب مديدة إلى أن ينتصر الخير في النهاية ويذهب الشر إلى الجحيم ليبقى خالدا فيها أبدا !!! كما أن حضور الشيطان في أيوب حضور باهت . ينزل ضرباته بأيوب ويختفي ولا يعود إلى الظهور ، بينما في فاوست يكون له حضور طاغ ودور فعال . يصف بدوي الشيطانين قائلا : " إن الشيطان في سفر أيوب باهت جدا ، شرير جدا ، بينما مفستوفيلس لامع جدا ، قليل الشرور ، بارع الحيلة ، ذكي ، يجيد تحليل الأمور " المصدر نفسه بتصرف . في ملحمتينا " الملك لقمان " و"غوايات شيطانية " صورنا الشيطان ملاكا نبيلا في العملين . بل وجعلناه خالقا للإنسان في " الملك لقمان " في محاولة منه لمساعدة الله في عملية الخلق " يتولى مفستوفيلس الظهور لفاوست. يظهر له في شكل كلب في البداية لا يلبث أن يتحول إلى شكل انساني متخذا هيئة طالب جوال ، فيسأله فاوست عن حقيقة أمره فيجيب : " أنا الروح التي تنكر دائما ! وهذا عن حق ، لأن كل ما ينشأ يستحق الفناء ، ومن هنا كان من الأفضل ألا ينشأ شيء ، وهكذا فإن كل ما تسمونه " خطيئة " دمار ، وبالجملة شر ، هو العنصر الخاص بي " إنها فلسفة الشيطان الذي من الواضح أنه غير راض عن عملية الخلق كلها . يدرك فاوست أن مهمة الشيطان هي " تدمير ما يقدر عليه من الأمور الصغيرة بعد أن عجز عن تدمير الكون في جملته " فيطلب إليه أن لا يغامر معه وأن ينصرف ويتركه وشأنه . لكن الشيطان " لا يرضى من الغنيمة بالإياب " بل يؤجل المحاولة إلى فرصة قادمة ويلتمس الذهاب . يستغرب فاوست الإستئذان فيجيب الشيطان أن ثمة " عقبة صغيرة تمنعه من الخروج وهي علامة النجمة المخمسة على الباب " وبعد حوار حول النجمة السحرية يعجب فاوست بحديث الشيطان ويطلب إليه البقاء ، شريطة أن يشغل وقته بألاعيبه السحرية . يستحضر الشيطان جماعة من الأرواح تشرع في إلقاء الأناشيد " وعلى هدهدة النشيد يستولي النعاس على فاوست فينام . ينتهز الشيطان الفرصة فيأمر الفئران بالخروج من جحورها لقرض علامة النجمة المخمسة ليتمكن من الخروج . ويخرج وهو يتمنى لفاوست الإستمرار في أحلامه حتى يلتقيا مرة أخرى " المصدر نفسه .118 يعود الشيطان لزيارة فاوست "مرتديا ثوبا أحمر مطرزا بالذهب ، وعليه معطف من الحرير المتجعد ويلبس على رأسه قبعة فيها ريشة ديك ومعه سيف طويل مدبب ، وينصح فاوست بأن يتخذ نفس الزي ، كيما يتعرف على الحياة وهو حر خال من كل وهم " المصدر نفسه . 121 وحين يشرع فاوست في التذمر من الحياة الكريهة التي لم تأته إلا بالهموم ، ليصبح الوجود عبئا ثقيلا عليه ، وليتمنى الموت عليها ، يرد عليه الشيطان متهكما مذكرا إياه بمحاولة تناول السم والإنتحار " ما دام الأمر كذلك فلماذا لم يتجرع بعضهم الشراب الأسود تلك الليلة ؟!" "يعتذر فاوست بأن ما بقي فيه من تقوى صبيانية هو الذي صرفه عن ذلك ، ويأخذ في صب اللعنات على حسن ظن العقل بنفسه وعلى الأوهام التي تفرض نفسها على حواسنا ،وعلى خداع المجد والشهرة ، وعلى الخيرات الدنيوية ، والزوجة والأولاد ، والأرض والبيت ، وعلى الثروة والأموال ... بل ويلعن الخمر ولذة الحب الكبرى ، والأمل والإيمان ، ويلعن الصبر على وجه التخصيص " المصدر نفسه . 122. " وهنا تسمع جوقة أرواح غير مرئية تدعو فاوست إلى بدء حياة جديدة . وينبهه الشيطان إلى قبول هذه الدعوة التي تتغنى بها الأرواح ، ويتعهد بأن يكون خادما له وتابعا " يدرك فاوست أن ما في هذه الدعوة من خداع شيطانية ليست لوجه الهك ، فيسأل الشيطان عما يريده بوضوح ، فيجيب أنه يتعهد بخدمة فاوست في هذه الدنيا مقابل أن يخدمه فاوست في الاخرة . لا يحفل فاوست بجواب الشيطان لأنه لا يحفل بالآخرة كلها ، بل في الدنيا التي تكمن فيها مسراته . فلتتحقق المسرات وليكن بعد ذلك ما يكون . من الملاحظ أن فاوست في نظر الله والشيطان لم يخرج عن الهدى والإيمان رغم أنه لا يحفل بالآخرة ، فالدنيا هي غايته . وفي هذه الحال قد تكون نتيجة الرهان شبه مؤكدة لصالح فاوست ، فالله حسب فهم جوته لا يأبه بالأمور الدنيوية الصغيرة مهما كانت .المشكلة أن فاوست يرتكب ما قد يكون أكبر مما هو صغير . يوافق الشيطان ، ويكتبان تعهدا ، يشترط الشيطان أن يوقعه فاوست بقطرة من دمه . وهذا ما تم . وتبدأ الرحلة مع الشيطان التي سنتوقف مع أهم محطاتها . ****** يتبع
(11) فاوست في صحبة الشيطان !
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (9)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (8)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (7)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (6)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (5)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (4)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (3)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (2)
-
أيوب التوراتي وفاوست جوته ( دراسة مقارنة ) (1)
-
الألوهة الواحدة رغم تعدد المفاهيم والمظاهر .
-
وحدة الوجود في المفهوم الحديث المعاصر حسب محمود شاهين ( أنا
...
-
النص الكامل لقصة - أبناء الشيطان - كما صدرت في حلتها الأخيرة
...
-
بعد شهر من اشتراكي في الحوار المتمدن !!
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (9) وأخيرة
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (8)
-
أنا واحد كذاب !!
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (7)
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (6)
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (5)
-
قراءة في قصة الخلق التوراتية (4)
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|