رام الله ـ فلسطين المحتلة
سياسة الجسور المفتوحة كانت في البدء كما في النصف والخاتمة سياسة إسرائيلية أردنية أو قل إسرائيلية عربية لم يتم استشارة الفلسطيني بخصوصها. ولا نعرف على وجه الدقة ماهية رد الفلسطيني على سؤال من نوع: هل ترغب في رؤية جسور مفتوحة على عالم المنفيين والجيران والأصدقاء والأعداء؟ لا نزعم الجواب اليقين، لكننا نرجح أنهم في تلك الأيام الحزينة البعيدة _جد بعيدة_، ما كان أحد يرغب في أي شيء. لكنهم شجعونا شيئاً فشيئاً. وبغض النظر عما قادنا إليه الأمر في نهاية المطاف _ مغادرة بضع مئات من الآلاف بما يتلاءم مع استراتيجية الحركة الصهيونية وأرض بلا شعب_ أقول بغض النظر عن ذلك كله فقد طبعونا على تقبل الرحلة عبر الجسور بوصفها أسلوب حياة تشمل كل شيء: الزيارات والتعليم والتجارة والعلاج، ونقل الأموال دعماً للصمود أو تدميراً له. وقد وافق الاحتلال على كل شيء، ومرت كل الأمور من تحت يديه مباشرة، وتقريباً برضاه التام.
إذن بعد قليل أصبحنا لا نعيش بدون جسور فقد ارتبطت حياتنا بألف طريقة وطريقة بعمان بلداً ومنشآت واخوة وأقارب..الخ لقد أصبحت عمان رئة نتنفس منها هواء السفر الذي أصبح حلماً للمواطن العادي وال في.آي.بي على السواء. ولهذا السبب فعندما قرر الأردن أن هناك مخاطر ـ أو هذا ما يقوله الإعلام الأردني ـ من هجرة تبيتها قيادة الليكود المتربعة على سدة السلطة في إسرائيل، بدا أن الناس تختنق في معازل الجوع الممتدة من جنين حتى الخليل، دون أن نذكر جيتو غزة المريع. وفي خضم ذلك انتشرت حمى غريبة لتأمين السفر بأي طريقة، بما في ذلك شراء وضعية المسافر المهم الذي يحمل براءة اختراع مشتركة إسرائيلية أردنية وفلسطينية تقاسمت فيما يبدو على مدار شهرين أو يزيد مبالغ تتراوح بين مائة وثلاثمائة دولار من الشخص الواحد لقاء أن يتم انتخابه ليسافر متجاوزاً الدور الوهمي الذي لم يكن نصيبه من كوتا المسافرين أكثر من عشرين في المائة حسب بعض التقديرات. عانى الناس الويلات وإذلال الأهل والإخوان والأعداء جميعا. وفي حر أريحا والاستراحة الرهيب قضى البعض أياماً طويلة في انتظار الرحلة الموعودة. وعندما حل الشتاء أخيراً تنفس الناس الصعداء لأن الأزمة تزول بشكل عادي مع الشتاء بالنظر إلى أن الفلسطيني عكس الطيور لا يهاجر من موطنه في الشتاء وإنما في الصيف. إلا أن الأزمة لم تتراجع، ويعود السبب إلى تشديد الحكومة الأردنية متطلبات السفر إلى درجة منعه على وجه التقريب. وقد عانى الفلسطيني دائماً من هذه المشكلة التي لا تنتهي: ونعني بها ارتهان حياته اليومية في نظر الحكومات العربية الشقيقة لاعتبارات سياسية، كأن تمنع بعض الدول العربية دخول المواطن الفلسطيني الذي يحمل جواز سفر طبعة أسلو بينما تستقبل ذات الدولة ـ الدول موظفي السلطة الفلسطينية الكبار ممن صاغوا اتفاق أوسلو نفسه. كأن المقصود معاقبة المواطن العادي المغلوب على أمره على قرار لم يستشره فيه أحد، وربما أنه لم يوافق عليه من قبل ولا من بعد.
غني عن البيان أن قلة من العرب أو الفلسطينيين يمكن أن تصدق مزاعم الحكومات حول رغبتها في تعزيز صمود الفلسطيني وما إلى ذلك من كليشهات، خصوصاً أن المعاملة العادية للفلسطيني بوصف كائناً إنسانياً تختفي في مواسم تعزيز الصمود المشار إليها وتحل محلها معاملة تقصد إهانة الفلسطيني بوصفه فرداً وشعبا. وتبرز نغمة غريبة تشتم الفلسطيني لأنه باع أرضه أو لأنه وسخ أو لأنه يهرب من بلده ..الخ وفي سياق ذلك يتم ترويج حملات تؤدي في المحصلة إلى تعميق الشروخ ليس بين الحكومات ـ التي لم يكن بينها عامر في بلادنا العربية في أي يوم مضى ـ ولكن على مستوى الشعوب المسكينة التي يحمل بعضها بعضاً مسؤولية ما يقع، كأن المواطن العربي في أي قطر يمتلك حرية قراره: كأن المواطن العراقي أو المصري أو السوري أو الأردني أكثر حرية من الفلسطيني في أي مظهر من مظاهر حياته اللهم اتصالها الجغرافي في معظم الوقت بالمقارنة مع تفكيك إسرائيل أوصال مناطق السلطة. وحتى في نواحي مثل منع التجول فإن الجيران ليسوا أسعد حالاً منا، وقد شهدنا منذ وقت وجيز خضوع مدينة معان في أقصى الجنوب لمنع تجول مطول رافقته حملة اعتقالات واسعة على ما تقول بعض وسائل الإعلام.
على المسافر اليوم أن يحوز أسباباً أكثر من وجيهة، مع وجود شخص أو أشخاص في عداد متفرغين لكي ينجزوا معاملة عدم الممانعة للسفر أو أن عليه أن يبحث عن واسطات في مستوى وزير فما فوق شرقي النهر وغربه، لكي يؤمن المطلوب العزيز. ولكن ذلك بالطبع لا يضمن له عدم التعرض لأذى الأشقاء والأعداء بعد كل ما كان ويكون. وفي الأيام الأخيرة كان المعتمرون وهم من فئات عمرية معروفة، وغاياتهم يصعب إخطاؤها في وضعية النوم على الجسور بغض النظر عن ظروف البرد. ويبدو أن الناس قد ناموا في الحافلات بعد مسارهم غير القصير من السعودية.
لا يظنن أحد أننا نكتب من أجل التنوير، فالتنوير لا يفيد. وقد قامت الفضائيات العربية الأهم بعرض الموضوع عدة مرات خلال الأشهر القليلة الأخيرة، ودون أن يؤثر ذلك في الوضع على الأرض قيد أنملة. إننا نتوهم أن ما هو مطلب في هذا الموضع يشبه بقية المواضيع العربية ـ العربية ونعني تجاوز دور الحكومات إلى دور الشعوب التي يمكن أن تكون دائماً رافعة التغيير لأية مظاهر سلبية غير مسوغة ولا تفيد في شيء، ولا يزعم أحد غير الحكومات أية فوائد من ورائها.
التضامن الشعبي العربي هو البديل لأية أفكار عن استجداء الحكومات مشاعر لا تمتلكها، وأفعال لا تقدر على اجتراحها لأسباب ليس هنا مجال الخوض فيها. لكن إذا كان التحرك الشعبي العربي هو استراتيجية في حاجة إلى البناء، فإن العاجل يتلخص في رأينا في ممارسة ما يمكن تسميته بإضراب المستهلكين: فإذا كان أصحاب أو منتجو سلعة ما يصرون على رفع سعرها دون سبب واضح، فقد يكون أسلوب مقاطعتها هو الطريقة النموذجية لإعادتها من عليائها إلى أرض الواقع. ونحن نتوهم أن السفر هو سلعة كباقي السلع باعتبار أن الإنجاز الأعظم للرأسمالية هو تسليع كل مظاهر الحياة الإنسانية وربطها بمعادل واحد ووحيد هو المال أو النقد بكافة أشكاله. إذن ربما يجدر بنا أن نفكر في مقاطعة السفر عبر الجسور نهائيا، أو على الأقل مؤقتاً: شكلاً من أشكال الإضراب المدعومة بمطالب تتمثل في أولا، عدم دفع ضرائب علنية وسرية من أجل السفر. ثانياً، عدم تعريض المواطن لزيارة أجهزة الأمن في كل معبر ومعبر. ثالثاً، عدم التعرض للمواطن المسافر بالإهانات بسبب أو بدون سبب؛ فالإنسان لم يخلق لتلقي الشتائم حتى وإن كان ـ كما هو حال البشر ـ يخطئ في بعض الأحيان "ويستثير" أعصاب الموظفين الذين يكشرون جميعاً ويقطبون وجوههم بوصفها عملة الاتحاد العربي في مواجهة المسافرين العرب على وجه التحديد. رابعا:... خامساً:.. الخ والحقيقة أن هناك قائمة لا تنتهي، لكي تصبح رحلة العذاب عبر الجسور سفرة عادية فيما عدا جزئها الإسرائيلي الذي يسمح له بالبقاء في إطار خطة العذاب الإسرائيلية الشاملة بحق الفلسطينيين جميعاً. ربما بانتظار ذلك يجدر بنا أن نفكر بل وننقل التفكير إلى حيز التطبيق انسجاماً مع شعار قد يكون ضرورياً الآن: قاطعوا رحلة العذاب عبر الجسور.