|
1984: لاهوت السلطة
محمد رجب سيد
الحوار المتمدن-العدد: 4583 - 2014 / 9 / 23 - 10:35
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تأخرت كثيراً جدًا في قراءة رواية 1984 لجورج أورويل. ولكن ربما كان لهذا التأخير فائدةُ ما. ربما قرائتي الآن لهذه الرواية وأنا في سبيلي لكتابة بحث الماجستير في علم الكلام الإسلامي جعلني أرى أن الأمر لا يقتصر على مجرد سلطة ديكتاتورية، بل إن هذه السلطة تحاول أن تؤسس لنفسها دينًا جديدًا. قد تقول أن هذا واضح، فالسيد أوبراين قال هذا بوضوح في صفحات الرواية أن "الإله هو السلطة". ربما تعد هذه مقولةً كاشفة، لكن أركان هذه العقيدة تتضح لك رويدًا رويدًا في الجزء الخاص بتعذيب السيد وينستون في الرواية. هنا نجد تلك المقولة التي تقول أن الإله هو السلطة. يفصح أوبراين عن هذا أكثر فأكثر عندما يقول إن السلطة ليست وسيلةً بل هي غاية في ذاتها. السلطة إذن هي المطلق التي يجب الحفاظ عليه تحت أي ظرف من الظروف. الحزب هنا هو السلطة وهو الإله، هذا الإله له أيقونة أيضًا، وهي الأخ الأكبر. صورته الموجودة في كل مكان تنظر إليك قائلة "الأخ الأكبر يراقبك". هذا الوجود المستمر لأيقونة الحزب-الإله في كل مكان لا يجعل للمرء سبيلًا للفرار منه الإيمان به والتصديق بأنه يراقبك فعلًا. ولكنه لا يكتفي بذلك، بل يزرع شاشة رصد في منزلك تحصي حركاتك وسكناتك. وهذا حتى لا يكون هذا الشعار مجرد كلمات لا معنى لها، بل إن لها واقعًا محددًا يجعل الفكاك منه أمرًا مستحيلًا. هل يكتفي الحزب-الإله بذلك؟ لا، بل يجعل من الناس جواسيسًا على بعضهم، حتى الأطفال يتجسسون على آبائهم، حتى لا تمر اللحظات الخاصة أو لحظات النوم دون رصد من الحزب-الإله. كل هذا يساعد على جعل أيقونة الأخ الأكبر الذي يراقبك واقعًا حياً في كل آن وحين بخلاف هذا لا يجوز أن يتصف الإله بأي نقيصة. ولكن أين يمكن أن تُرى نقائص الحزب؟ إما في السجلات أو في العقول البشرية. أما السجلات فيتكفل الحزب بها بأن يغير فيها دائمًا ما قد يشير إلى خطأ في تقديرات الحزب وخططه. هذا التغيير الدائم والمستمر كفيل بأن يصفي صورة الحزب-الإله من أي نقيصة أو خطأ. ولكن ماذا نفعل بالعقول البشرية؟ هنا يأتي دور ما قد أسميه بأهم عقائد هذا الدين؛ ألا وهي التفكير المزدوج. يقول أوبراين -الذي يصف نفسه بأنه من كهنة هذا الدين- أنه لا يمكن الحفاظ على السلطة إلا بالتوفيق بين المتناقضات. وهذا يؤكد ما قلته من أنه يرى السلطة مطلقًا لابد أن يكون مبرءًا من كل نقص. لذا نجد دور التفكير المزدوج بأن يعتقد الناس بالشيء ونقيضه في آنٍ واحد دون أن يجدوا غضاضةً في ذلك. لقد كنا في حالة حرب مع تلك الدولة أبد الدهر. ولكن عندما تتغير الأحوال ويأتي الدور على دولةٍ أخرى لنكون في حالة حرب معها، سيعتقد المؤمن المخلص بأننا كنا في حرب مع الدول الأخرى أبد الدهر. سيعتقد المؤمن بأن الديمقراطية أمر مستحيل ولكن الحزب هو حامي حمى الديمقراطية. إن جوهر التفكير المزدوج هو معرفة الحقيقة والنطق بالأكاذيب دون الشعور بأي تناقض بينها من أي نوع كان. هو استخدام المنطق لدحض المنطق. عبر الإيمان بعقيدة التفكير المزدوج يؤمن المرء بأن الحزب بريء من كل نقص أو عيب، يرى فيه صورة الحزب الإله كما ينبغي أن يكون. إحدى العقائد الأخرى لهذا الدين هي الحوسلة. تحويل كل شيء قد يحمل معنى المتعة والمرح إلى مجرد وسيلة، فالجنس ليس إلا وسيلة للحفاظ على النوع لا غير، ولكي نعزز من هذه الحوسلة، لابد من إخضاعه لإجراءاتٍ معقدةٍ يفقد المرء الأمل في اجتيازها. عندها لا يعود لمشاعر الحب أي معنى في هذا العالم المحوسل بالكامل والذي ليس للمرء دور فيه سوى أن يكون ترسًا في الآلة. هل رأي الحزب-الإله أن هذا كافٍ؟ لا، لم يكتف الحزب بهذا. لقد أدرك الحزب أهم وسيلة من وسائل قتل أي فرصة للتمرد، حتى أدنى وسائل التمرد، الكلام. فالحزب يؤسس للغة جديدة تحاول التقليل شيءًا فشيءًا من إمكانيات اللغة البشرية للتعبيروحصرها أكثر فأكثر. إن المجاز والمشترك اللفظي لا مكان له في اللغة الجديدة، الكلمة لها معنى واحد يحدده الحزب ولا أحد غيره. ولكنهم لم يكتفوا بذلك، إنهم يقتلون الكلمات قتلًا حتى لا يعود لها وجود في عقول البشر، يقتلون العلامة ليقتلوا الدال والمدلول معًا، حتى لا يقف أي عائق أمام العقيدة الأهم والأكبر، التفكير المزدوج. الحزب-الإله يخلق أيضًا نقيضه، يخلق جولدشتاين، إبليس هذا الدين. هذا اللذي يغوي غير المؤمنين بإخبارهم بحقائق يعرفونها هم بأنفسهم ولكنهم يرونها مرتبةً في كتابه. لن يقرأ كتاب جولدشتاين إلا من وقع بالفعل في المحظور وكفر بالتفكير المزودج وآمن أن هناك سبيلًا آخر غير ما يقره الحزب. نكتشف في النهاية أن من خط سطور هذا الكتاب هو أوبراين -كاهن دين السلطة- ليتخذ منه مصيدةً يصيد بها أولئك الكفار والمهرطقين ليبدأ الحساب. الحساب هنا ليس عقابًا بالمعنى المفهوم، ولكنه أيضًا خدمة لعقيدة التفكير المزدوج. كتاب جولدشتاين هو المصيدة التي يقع فيها أولئك الكفار حتى يأتوا إلى وزاة الحب. عقيدة الحزب-الإله لا تحتمل وجود كفار أو مهرطقين يحكى عنهم أنهم قد تركوا الإيمان به وعاشوا بعدها. لكن الحزب-الإله لا يقتلهم، بل توجب عليهم التوبة والعودة، ليس ظاهريًا بل عن حق وإعتقاد. لن يرتكب الحزب-الإله أخطاء الديكتاتوريات السابقة ويسمح بوجود شهداء سقطوا ضحايا لكفرهم بالحزب-الإله. يجب أن تعود لتؤمن بأن 2+2= 5 دون أن تحس بأي غضاضة في نفسك. كيف يجري هذا؟ يجري هذا بمزج الألم بالتلاعب بعقل هذا المهرطق مزيجًا عجيبًا لا يجعل أمامه إلا أن يعود لإيمانه بالحزب-الإله. الألم والعذاب الذي يؤدي إلى إفناء معنى الإنسان نفسه. يرى أوبراين أن هذا الجنس المسمى بالإنسان قد انقرض، إنه ببساطة غير موجود. ولكي يثبت هذا بدعوة وينستون ليرى نفسه في المرآة بعد أن ناله من العذاب ما جعل منظره جديرًا بمسخٍ ضعيف واهن يقارب الموت ليقول له إن كنت إنسانًا كما تدعي فهذا هو حال الإنسانية. ربما ليس هذا بكافٍ، لذا هناك دائمًا الغرفة 101، حيث يواجه المرء أصعب مخاوفه. ليس الخوف هو الهدف هنا بل الهدف هو قتل آخر ما تبقى من مشاعر الإنسانية داخل هذا الكافر المهرطق، في حالة وينستون كان هذا هو الحب. جلبوا له أفظع مخاوفه، فأرًا ضخمًا سياكل ما تبقى من وجهه، وهنا يصرخ وينستون بألا يعرضوه لهذا العذاب، فليفعلو هذا بجوليا -محبوبته السابقة- حتى ينجو هو. هنا تتم التوبة من الكفر والهرطقة ويعود بوسعه أن يؤمن –لا أن ينطق فقط- بأن حاصل جمع اثنان زائد اثنان هو خمسة طالما قرر الحزب ذلك. إن أقصى درجات الإيمان بالتفكير المزدوج تتبدى بعد خروج وينستون من وزارة الحب ليجلس في المقهى، يعرف وينستون أنها مسألة وقت فقط قبل أن يعود إلى وزارة الحب ليقتل –لاحظ أنهم رفضوا قتله قبل توبته- ولكنه مع ذلك ينظر إلى صورة الأخ الكبير ليرى أنه كان يكابر ويعاند دون أي داع، فهو في النهاية يحب الأخ الأكبر، أيقونة الحزب-الإله. لقد تطهر وينستون من درن ذنوبه وعاد ليحاج المنطق بالمنطق ويكذب واعيًا مصدقًا للكذبة مع معرفته بالحقيقة. يتنظر الحزب-الإله المتحدي التالي لسلطته المطلقة، الغرفة 101-الجحيم في هذا الدين- تنتظر المتحدي التالي. إن لاهوت السلطة ليس إلا تصعيدًا لفكرة الديكتاتورية إلى حدها الأقصى. عندما تعبر الديكتاورية الخط الفاصل بين قهر الناس لتصل إلى حوسلتهم بالكامل، عندما تحول السلطة إلى الغاية القصوى التي ليس من ورائها غاية، إلى المطلق الوحيد الفرد الذي لا يسمح بحالٍ من الأحوال بمخالفته أو تحديه. إنها قتل روح الإنسان وقتل للإنسانية ذاتها، يفنى كل شيء ويذوب في الحزب-الإله، الحقيقة العليا وصاحب الحق في تحديد كل الحقائق. السلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما يقولون، فكيف لو تحولت السلطة ذاتها إلى مطلق؟
#محمد_رجب_سيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منظمة الصحة: خروج مستشفى كمال عدوان -آخر مرفق صحي بشمال غزة
...
-
مايوت تواصل جهود التعافي بعد أسبوعين من إعصار تشيدو
-
-تلغراف-: ترامب قد يتلقى دعوة ثانية من العائلة الملكية لزيار
...
-
قناة عبرية: أنقرة طلبت من تل أبيب إنشاء آلية تنسيق مع الجيش
...
-
سيناتور أمريكي: أوكرانيا أصبحت رمزا عالميا لغسل الأموال
-
تسريب بيانات شركة تابعة لـ-فولكسفاغن- يؤثر على 800 ألف سيارة
...
-
بايدن يعتزم تقديم مساعدات عسكرية لكييف بأكثر من مليار دولار
...
-
قانون جديد في كوريا الشمالية.. الطلاق يؤدي إلى السجن في معسك
...
-
سوريا.. محافظ دمشق الجديد ينفي دعوته للسلام مع إسرائيل
-
معلومات استخباراتية أميركية تفيد بإسقاط روسيا طائرة أذربيجان
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|