يقول فولتير: "أينما وجد الظلم فلكتاب هم المسؤولون عنه" وقد راح جان بول سارتر إلى أبعد من ذلك عندما قال: "المثقف مسؤول عن أية جريمة تحدث حتى وإن لم يكن يعلم بها". تذكرت هاتين المقولتين وأنا أقرأ مقالة الدكتور إدوارد سعيد (معلومات مضللة عن العراق) التي نشرها أولاً، باللغة الإنكليزية في مجلة الأهرام الأسبوعية، العدد الصادر يوم 28/11/2002، ثم عاد ونشرها باللغة العربية في الحياة يوم 3/12/2002. وقد وجدت العنوان مضللاً، لأنه يوحي بأن الكاتب يبحث في الشأن العراقي وخلاصه من محنته، وإذا بها محاولة الكاتب لتصفية حسابات مع المفكر العراقي المعروف الدكتور كنعان مكية، الأستاذ في جامعتي هارفاد وبرنديس في بوسطن/الولايات المتحدة. وكون الدكتور إدوارد سعيد من المثقفين العرب البارزين ويتحملون مسؤولية المثقف الملتزم، أقول، هل أدى واجب المثقف كما أكده فولتير وسارتر؟ وهل انتصر يوماً للشعب العراقي المظلوم وأدان نظامه الجائر؟ ولماذا هذه المحاولة منه ومن بعض المثقفين العرب الأشقاء في شن هذه الحملة التسقيطية ضد المثقفين والسياسيين العراقيين المعارضين لنظام صدام حسين؟
ألا يدعونا ذلك وبكل أسف، بأن الدكتور سعيد لا يختلف عن غيره من المثقفين العرب الذين أصيبوا بالإدمان على نظرية المؤامرة وتعليق غسيلهم وتخلف شعوبهم وهزائم حكوماتهم على شماعة الغرب وأمريكاً بوجه خاص، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتفكير في الأسباب الحقيقية وراء هذا التخلف المريع. إذ ينكر هؤلاء أن هذه الهزائم هي وليدة ذهنية التدمير المهيمنة على العقل العربي واستخدام لغة العنجهية البدوية وأساليب العهود الغابرة في مواجهة مشاكل العصر المعقدة. تلك الذهنية التي أنجبت لنا صدام حسين وبن لادن والتطرف الإسلامي السلفي المتشدد والذي كان من نتائجه فاجعة 11 سبتمبر/أيلول 2002، العملية الإرهابية التي جعلت من الإسلام مرادفاً للإرهاب، والمسلمين إرهابيين وحتى يثبتوا العكس، ليس في الغرب فحسب بل ولدى جميع الشعوب غير الإسلامية في العالم بحيث صار العربي والمسلم يخاف السفر جواً لكي لا يتعرض للإهانة.
حقاً أني أصبت بخيبة أمل بعد قراءتي لمقالة الدكتور سعيد، إذ كنت أتوقع من مثقف موسوعي وكاتب بمثل قامته، أن يكون سباقاً إلى نصرة الشعوب المضطهدة وأن يقف بحزم ضد الظلم والسلطان الجائر. بينما النهج الذي اختاره سعيد هو على الضد من ذلك تماماً، ولم ينتقد النظام في مقالته هذه إلا مرة واحدة فقط وبعبارة خجولة عندما يصفه ب(ديكتاتورية صدام حسين) ليس غير. إلا إنه ركز جل هجومه على المعارضة العراقية عامة والدكتور مكية بشكل خاص، مثيراً الرعب من إسقاط النظام، سواء بالضربة الأمريكية أو إنقلاب داخلي. أليس هذا دفاع مستميت من الدكتور سعيد عن بقاء نظام جائر بز في جوره جميع طغاة التاريخ؟
قبل أسابيع نشر عدد من رجال الدين في المملكة العربية السعودية بياناً حرضوا فيه العالم الإسلامي بالوقوف ضد الإطاحة بالنظام العراقي صارخين بالويل والثبور وعظائم الأمور من عواقب إسقاط النظام، مثيرين المخاوف من الخطة الأمريكية زاعمين أنها لا تتوقف عند الحدود العراقية، بل تهدف إلى تغيير الخريطة الجيو-سياسية للمنطقة العربية بأكملها للسيطرة عليها وعلى ثرواتها النفطية وفرض نظام علماني ديمقراطي عليها ولصالح إسرائيل..الخ. والبيان هذا كان صدىً واضحاً وتكراراً مملاً لما ردده بن لادن وأتباعه من أفكار مفرطة في السلفية في خطاباته النارية التي أذيعت من قناة الجزيرة أيام الحرب التي أطاحت بحكومة طالبان غير المأسوف عليها. ومن يقرأ مقالة الدكتور سعيد يجد فيها ذات الأفكار البنلادنية مع الفارق أنه لم يلجأ إلى الإستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، مع التركيز في صب السم الزعاف على الدكتور مكية.
أليس من باعث الأسف والأسى أن يكون الدكتور إدوارد سعيد المعروف في العالم أن يفشل في مقالته الآنفة الذكر في وضع أصابعه الحساسة على جراح الشعب العراقي التي تنزف دماً. لا شك أنه أستاذ جيد في مجال اختصاصه كأستاذ في الأدب المقارن في جامعة كولومبيا/نيويورك، ولكنه كمعلق سياسي فقد أثبت فشلاً ذريعاً وجهلاً مريعاً وخاصة في مقالته هذه التي تخص القضية العراقية. يبدوا أنه لا يعرف عن المحنة العراقية أي شيء ولكنه يقول عنها كل شيء، إما عن جهل أو عن قصد. لقد قال الكثير ولكن بشكل مشوه ومضلل، فبدلاً من أن ينحاز إلى جانب الشعب المظلوم، عمل على بقاء النظام الجائر محذراً بالكوارث التي ستحصل بعد سقوط صدام كما يزعم. وإذ تحدث سعيد عن العراق ومحنته فإنه كشف نصف الحقيقة أما النصف الثاني فقد اختفى لديه، إذ وضع نفسه "في خندق واحد إلى جانب النظام لا خندقين" مدافعاً عن بقائه بكل ما أوتي من قوة وبلاغة بحجة الدفاع عن عروبة ومستقبل الشعب العراقي.
أود أن أؤكد للدكتور سعيد وغيره من الكتاب العرب الذين يلومون المعارضة العراقية على طلبهم الدعم الأمريكي بأن المعارضة لم تلجأ إلى أمريكا والغرب إلا بعد أن يأسوا من دعم الأشقاء العرب، والذين لم يكتفوا بخذلهم للشعب العراقي فحسب، بل راحوا يعملون على دعم النظام والحيلولة دون زواله بعد أن تعفن وتهرأ دون أن يعيروا أى إهتمام بمعاناة العراقيين طوال أكثر من ثلاثة عقود وكأنهم لم يسمعوا عنها. وللتذكير أود أن استثير ذاكرة الأستاذ سعيد إلى بعض من هذه المظالم:
لقد تسبب نظام صدام حسين منذ مجيئه للحكم عام 1968 في قتل وهلاك ما يقارب المليونين من الضحايا العراقيين في حروبه الداخلية والخارجية والإعدامات والتنكيل والتعذيب، إضافة إلى مئات الآلوف من المعوقين والأرامل واليتامى. صدام هو الدكتاتور الوحيد في التاريخ الذي استخدم اسلحة الدمار الشامل ضد ابناء شعبه، وقتل ما يقارب 5000 إنسان في مدينة حلبجة الكردية في اذار عام 1988، وفيما بعد ضد عرب الاهوار، وبعد ذلك قتل 180 الف كردي في عملية إبادة الجنس سميت بالأنفال. وخاض حربا ضد ايران على مدى 8 سنوات، قتل فيهاا زهاء مليون ايراني. ثم ارتكب جريمة غزو الكويت وعند هزيمته منها أحرق حوالي 700 بئر نفطية هناك، الامر الذي الحق اضرارا لاتقدر بالبيئة في المنطقة. وعندما انتفض الشعب العراقي عام 1991، قتلت قوات النظام الخاصة 300 ألف عراقي. كما قتل صدام افرادا من عائلته باشبع الطرق. وقام بتدمير زهاء 4000 قرية كردية وعدة مدن وقرى عربية ساواها بالأرض مثل مدينة الدجيل وغيرها .
صدام هو الدكتاتور الوحيد في التاريخ الذي هجر حوالي مليون مواطن عراقي الى ايران بذرائع عرقية وطائفية وبحجة التبعية الإيرانية. حرَّم صدام الشعب االعراقي من ثرواته النفطية الهائلة حيث صرفت على الاسلحة بدلاً من رفع المستوى المعيشي. ومن الجدير بالذكر هنا الاشارة الى ان احتياطي العراق في عام 1980، قبل الحرب العراقية- الايرانية ، كان حوالي 100 مليار دولار امريكي، وقد صرف صدام كل هذه االثروة، واستدان فوقها مبالغ كبيرة على شراء الاسلحة ومن ضمنها اسلحة الدمار الشامل وعسكرة المجتمع. وتبلغ ديون العراق الآن عدة مئات من مليارات الدولارات اضافة الى تعويضات الحرب.
وما أن تغرق من جديد (تايتانك عراقي) إلا وتتبعها كارثة أخرى حيث تذيع وكلات الأنباء عن غرق زورق في هذا البحر أو ذاك، يحمل المئات من العراقيين الفارين من جحيم النظام. ويوجد الآن في المهجر ما يقارب أربعة ملايين عراقي. لم نسمع يوماً أي إدانة لهذه الجرائم الفضيعة بحق الشعب العراقي، لا من الدكتور إدوارد سعيد ولا من غيره من المثقفين العرب الذين يفكرون على طريقته؟ بل كلما سمعناه منهم هو إدانتهم للحصار ومطالبتهم برفعه حيث يجيرون ذلك حقيقة للتحفيف عن النظام بحجة الدفاع عن الشعب العراقي.
ثم يستهزئ الكاتب من محاولات إسقاط النظام سواءً بتدخل أمريكي أو بإنقلاب داخلي. ويشكك بنظام ديمقراطي ما بعد صدام ويعتبره مسألة تعيش فقط في مخيلة الدكتور مكية!! وبتفكيره هذا يعكس سعيد بالضبط ما يدور في ذهنية الكتاب القوميين العرب الذين روجوا للفكر القومي في البلاد العربية وربطوه مع الأسف بالإستبداد وعبادة (القائد الضرورة) وجعلوهما وجهان لعملة واحدة. وبذلك فهم أساؤوا للعروبة أولاً، ويتحملون مسئولية كبرى لما آل إليه الوضع في المنطقة العربية وتعطيل التنمية ثانياً. ومن المفيد هنا الإستشهاد بما قدمه مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، التقرير الإستراتيجي العربي عام 1999، القاهرة تقول الدراسة: (إن حركة القومية العربية تتحمل مسؤولية كبرى، بل مسؤولية أولى، عن التدهور الذي آل إليه النظام الإقليمي العربي في نهاية القرن العشرين، فهذا يرتبط بالأساس اللاديمقراطي، بل المعادي للديمقراطية، الذي قامت عليه. نقلاً عن الملف العراقي-العدد 109، كانون الثاني/يناير 2001).
في حقيقة الأمر أن قادة ومنظري الحركة القومية العربية في العراق من أمثال ساطع الحصري وغيره، لم يكتفوا بربطها بالديكتاتورية وعبادة القائد الفرد فحسب بل وربطوها بالطائفية والعرقية. وأصروا على صهر القوميات الأخرى في بوتقة شوفينية القومية الكبرى وحرمان العرب الشيعة من حقوق المواطنة لأسباب طائفية بحتة. فشعرت الأغلبية الساحقة من مكونات الشعب العراقي أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. لاشك أن لعب هذا الموقف دوراً أساسياً في دورات العنف المتكررة في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية ولحد الآن. ألا يحق لمثقف مثل كنعان مكية وبعد كل هذه الكوارث أن يساهم في تصحيح الوضع؟ فهل استخلص الدكتور سعيد وأمثاله درساً من هذه الكوارث أم أنهم لم يكترثوا بالضحايا والخيبات وما زالوا يصرون على سياسة ترشيق القدم ليتناسب مع الحذاء؟
كذلك تؤكد دراسة الأهرام أن من أهم الإنتصارات التي حققتها الشعوب العربية في القرن العشرين هو تكوين دولها الوطنية وليس دولة الوحدة القومية الخيالية من "المحيط الهادر إلى الخليج الثائر". تلك الدول الوطنية التي يحاول القوميون العرب الحط من قيمتها واعتبارها دولاً من صنع الاستعمار!
يتهكم الدكتور سعيد على طروحات الدكتور مكية حول الديمقراطية واللامركزية والفيدرالية في عراق الغد ويعتبرها من نتاج (... طاولته في وزارة الخارجية الاميركية). وبذلك فقد شطب سعيد وبجرة قلم على دور الأحزاب والقوى والجماهير العراقية الفاعلة من مختلف قومياته التي تبنت هذه الأهداف. يبدو أنه لم يسمع عن وجود برلمان في كردستان العراق الذي أقر الفيدرالية بالإجماع في التسعينات. وينكر على الشعب العراقي أن تكون له حكومة ديمقراطية ونظام يلتزم بحكم القانون واحترام حقوق الإنسان. فكل هذه الأمور التي صارت في القرن الحادي والعشرين من أساسيات الحكم، هي فقط موجودة في مخيلة الدكتور مكية (وأنها قلاع رمل كأساس لدولة العراق المقبلة) على حد تعبير سعيد الذي يريد حرمان العراقيين حتى من الأحلام الجميلة!!
يشكك سعيد برغبة أمريكا في إقامة نظام ديمقراطي في العراق بعد صدام. لقد أجبنا على هذه التساؤلات في مناسبات سابقة وقلنا أن أمريكا شاركت في إسقاط أنظمة جائرة مثل النازية الهتلرية والفاشية الإيطالية واليابانية جنباً إلى جنب مع الإتحاد السوفيتي الذي كان قطباً آخر، ونجحت الديمقراطية في تلك البلدان التي تعتبر اليوم من الدول الصناعية الكبرى. فيما قادت أمريكا حرب الخليج الثانية التي حررت الكويت وكذلك دورها في حروب البلقان التي حررت كرواتيا وكوسوفو وبوسنيا. فهل أقامت أمريكا أنظمة ديكتاتورية في هذه البلدان؟ فلماذا تفشل الديمقراطية في العراق وحده دون سواه بعد صدام؟ أليس هذا هو ما يتمناه الدكتور سعيد وغيره من المثقفين العرب فتظهر على شكل افتراضات خيالية لا أساس لها من الصحة، القصد منها تخويف الشعوب العربية من إسقاط صدام ونظامه؟ وهل هناك نظام أسوأ من نظام صدام حسين الذي يفضل الدكتور سعيد بقاءه مسلطاً على رقاب العراقيين خوفاً من احتمالات إفتراضية لا وجود لها إلا في خيال المدافعين عنه؟ إن إصرار هؤلاء على إبقاء النظام الصدامي بحجة الخوف من البديل الأسوأ إختراع يروج له النظام نفسه. فنحن العراقيين أدرى بشؤوننا ولا نعتقد أن هناك أسوأ من هذا نظام وحتى لو تبنينا أسوأ الإحتمالات. أما ادعاء البعض بأن الشعب العراقي لا تصلح معه الديمقراطية وإنما يجب حكمه بالقبضة الحديدية، فنعتبر هذا القول إساءة لذكاء شعبنا وندينه بشدة. فنحن أصحاب حضارة عريقة عمرها ستة آلاف سنة وأصحاب أول شريعة في حقوق الإنسان في مسلة حمورابي.
يركز الكاتب هجومه على الدكتور كنعان مكية ويحاول تجريده من جميع المحاسن بدون وجه حق، ولكنه في الوقت ذاته يصطدم بحقائق هي في صالح مكية ولا يتسطيع نكرانها لأنها باتت معروفة. فهو يحاول أن يوحي للقارئ بأن موقف مكية معاد للعروبة، فيما يعترف سعيد: "عندما عرفته للمرة الاولى في بداية السبعينات, (كان مكية) على صلة وثيقة بالجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين". وهذا يعني أن الدكتور مكية لم يبخل على القضية الفلسطينية. فهل هذا الشخص معاد للعروبة؟ وهل الدفاع عن حقوق الشعب العراقي والعمل على خلاصه من النظام البعثي الجائر عمل ضد عروبة العراق؟ أليس هذا إعتراف وإهانة من الدكتور سعيد نفسه إلى العروبة التي يحاول ربطها بالنظام الجائر وكأنهما صنوان لا ينفصلان أو وجهان لعملة واحدة كما أسلفنا؟ بينما كل ما يعمل من أجله مكية هو إعطاء صبغة إنسانية لعروبة العراق وذلك بتحقيق الديمقراطية والفيدرالية واللامركزية وتمتع كل شريحة من الشعب العراقي بالمساواة في الحقوق والواجبات. فما الضرر من ذلك على العروبة؟ إن إثارة المخاوف والمخاطر على العروبة من الديمقراطية والفيدرالية لها مردود معكوس على العروبة ذاتها.
ومن المؤسف حقاً أن الأستاذ سعيد ومن أجل تشويه سمعة مكية، وعندما لم يجد أي دليل لتحقيق غرضه، يلجأ إلى الإفتراء والتزوير ليقول ما يشاء. فمثلاً يتهم مكية بأنه خدم النظام. وهذا إفتراء نتحداه إذا استطاع إثباته. وهل كل من اشغل وظيفة حكومية أو في شركة خاصة في العراق، يعتبر بعثياً خدم النظام؟ يبدو أن سعيد يعمل وفق ما قاله صدام حسين يوماً أن (كل عراقي بعثي وإن لم ينتمي).
وفي ذكره للأعمال الفكرية للدكتور مكية يذكر كتابه (جمهورية الخوف) الذي صدر تحت إسم مستعار (سمير خليل). وبعد أن يشكك سعيد بما جاء في الكتاب من جرائم النظام بحق الشعب العراقي، يعيب سعيد على مكية استخدامه اسماً مستعاراً. أليس اتخاذ أسم مستعار دليلاً على ظلم ووحشية النظام الذي يجهد سعيد في إيجاد المبررات لإبقاءه على صدور العراقيين؟ ثم تأتي المغالطة الكبرى عندما يلجأ إلى الإدعاء بأن صدام حسين موَّل هذا الكتاب بصورة غير مباشرة. ولا أعرف كيف يموِّل صدام كتاباً ضده بحيث يضطر المؤلف إلى الإختفاء وراء إسم مستعار خوفاً من الاغتيال بكواتم الصوت. تقول الحكمة "حدث العاقل بما لا يليق، فإن صدق فلا عقل له".
ثم يعود سعيد لينفي بنفسه ما قاله أعلاه ضد مكية، فيقول أننا لا نستطيع القول أن مكية كان متعاوناً مع نظام كان يمقته. وهكذا يلاحظ القارئ تناقضات عدة في الفقرة الواحدة. وهذه التناقضات تتكرر في معظم فقرات المقالة تقريباً. فإذا كان هذا حال مثقفنا الكبير الذي قضى معظم حياته في رحاب الجامعات الغربية وبالأجواء الديمقراطية، فماذا نقول عن أنصاف المثقفين في البلدان المبتلاة بالأنظمة الدكتاتورية؟
ثم يعرج الدكتور سعيد على الكتاب الثاني للدكتور مكية (القسوة والصمت) الذي ينتقد المؤلف فيه صمت الكتاب العرب عما جرى من مظالم من قبل الحكومات العربية وخاصة النظام العراقي الذي ارتكب جرائم إبادة الجنس بحق الشعب الكردي، الأنفال وحلبجة وغيرهما. بطبيعة الحال، هذه الجرائم لم تحرك لسعيد جفناً بل يتهجم على مكية لنقده إياه لترويجه للعنف ولمحمود درويش لمدحه صدام بقصيدة. والسؤال هو: هل ما ذكره مكية بهذا الخصوص غير صحيح؟ وهل استطاع الدكتور إدوارد سعيد تفنيده؟ الجواب كلا.
بطبيعة الحال لم يكن مكية وحده الذي انتقد بعض المثقفين العرب على مواقفهم المتخاذلة وسبب تدهور وتخلف شعوبهم. أذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، ما قاله الدكتور فليب سالم المواطن اللبناني الأمريكي في محاضرة له في بيروت نشرتها صحيفة النهار اللبنانية فيقول: (.. جئت لأتكلم معكم عن قضية الإنسان في هذا الشرق العربي. وجئت لأتكلم أيضا عن الأسباب التي أدت إلى فشل جيلنا من المثقفين العرب وخريجي الجامعات في تغيير المجتمع العربي. جئت لأسأل: لماذا لم نتمكن من العبور من "مستنقع الشرق الى الشرق الجديد؟"... لم نتمكن من العبور لأننا لم نلتزم قضايا شعوبنا، ولأننا لم نلتزم قضايا الانسان في بلادنا: قضية الحرية، وقضية حقوق الانسان، وقضية العقل وصناعته، وقضية القيم والاخلاق. وبدل ان نصب اهتماماتنا على صنع عقل عربي جديد ينتج منه وعي عربي جديد لخلق حضارة عربية جديدة، ها قد أضعنا الوقت في التعبير عن الغضب، وفي تبرير فشلنا بلوم الغرب والعداء له. ناهيك باللوم الذي نلقيه بعضنا على بعض وبالحروب الشرسة التي نشنها بعضنا على بعض. راجع النهار اللبنانية الثلاثاء 09 أبريل 2002). ألا ينطبق هذا الكلام على الدكتور إدوارد سعيد شكلاً ومضموناً؟ لعله من حسن حظ فيليب سالم أنه لم يتطرق إلى صدام حسين وإلا لحصل له من سعيد كما حصل لمكية.
ويواصل سعيد حملته ضد مكية فينتقده لأنه يكتب بالإنكليزية ويتمتع بحياة آمنة في أمريكا. تقول الحكمة: (إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس بالحجارة). فبأي لغة ينشر سعيد كتبه؟ ألم ينشر هو معظم كتبه باللغة الإنكليزية؟ ألم يكتب مقالته هذه التي نحن بصددها باللغة الإنكليزية قبل أن ينشرها بالعربية في الحياة بإسبوع؟ وأين يعيش هو الآن، وهل كان بوسع أحد أن يسمع بإدوارد سعيد لو لم يعش في أمريكا ويعمل أستاذاً في جامعة أمريكية؟ لماذا يجوز لسعيد نفسه ما لا يجوز لمكية؟ ولماذا هذه المكابرة والإصرار على الخطأ؟
طبعاً لم يترك كاتبنا الموضوع دون التطرق إلى كتاب مكية الجديد (قبة الصخرة)، الكتاب الذي حقق نجاحاً باهراً في العالم وحاز على إعجاب القراء والنقاد على حد سواء ومن مختلف القوميات والأديان إلا من الدكتور سعيد ولغاية في نفس يعقوب. والكتاب بحث أكاديمي وليس رواية كما يدعي سعيد. والغريب في الأمر أن الكاتب ينتقد المؤلف حتى فيما يخص المصادر العلمية الكثيرة التي حرص المؤلف على ذكرها. وفسر سعيد مسألة إلتزام مكية بذكر المصادر، كمحاولة منه للتباهي في عدد الكتب التي قرأها..!! عجيب أن يصدر مثل هذه التهمة من أستاذ يدرس في جامعة غربية عريقة ضد بحث علمي وأكاديمي رصين بسبب حرص المؤلف إلى ذكر مصادر بحثه. فحتى المحاسن التي لا يختلف عليها إثنان حولها سعيد إلى مساوئ ضد المؤلف.
يوجه سعيد نقداً لاذعاً لمكية على زيارته إلى إسرائيل. ونحن نسأل هل الدكتور مكية هو العربي الوحيد الذي قام بهذه الزيارة؟ ألم يقم فلسطينيون أنفسهم بمثل هذه الزيارات مراراً وتكراراً؟ أليست هناك علاقات دبلوماسية واقتصادية بين إسرائيل والعديد من الدول العربية؟ ألم يحضر عدد من قادة العرب تشييع جنازة إسحاق رابين؟ وهل يعتقد أن الدولة الفلسطينية المرتقبة سوف لا تكون لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل؟ وهل المطلوب من العراقيين أن يكونوا فلسطينيين أكثر من ياسر عرفات نفسه؟ فلماذا تجوز هذه الزيارات للفلسطينيين والعرب الآخرين، ولكن إذا ما قام بها عراقي وبدعوة من جامعة أقاموا الدنيا عليه ولم يقعدوها؟
وكغيره من الأشقاء العرب، يشير سعيد إلى أن غرض أمريكا من إسقاط النظام هو السيطرة على نفط العراق، وهدف استراتيجي بعيد المدى، فنقول الحمد لله أن في العراق شيئاً يغري أمريكا لتحريره من النظام الجائر وهو نفطه وموقعه الجغرافي الإستراتيجي. وما العيب في ذلك؟ وما الخطأ في إستراتيجية أمريكية بعيدة المدى إذا كان من أهدافها تحقيق الديمقراطية للعراق والمنطقة كلها؟ فإلى متى ترضخ الشعوب العربية إلى حكم الطغاة كالأغنام؟ وماذا أفاد العراقيون من نفطهم غير شراء الأسلحة التي يدفعون الآن تكاليف تدميرها وإلى مستقبل غير منظور، والشعب العراقي الآن أفقر شعب في أغنى بلد عائم على بحر من النفط. وهل تريد أمريكا نفطنا بالمجان؟ وهل تأخذه من الدول الخليجية بدون ثمن؟ فأي إنسان عنده معلومات بسيطة في الإقتصاد يعرف أن أسعار النفط لا تقررها أمريكا أو أية دولة أخرى، بل القانون الإقتصادي المعروف (العرض والطلب).
وكغيره من بعض المثقفين العرب، لم الدكتور سعيد من الوهم عندما يدعي أن أمريكا تريد الخلاص من صدام لأنه عدو لإسرائيل. الكل يعرف أن النظام العراقي منذ اغتصابه السلطة بانقلاب عسكري عام 1968 ولحد الآن، عمل على تمزيق التضامن العربي وعطل التنمية في البلاد العربية، وعمل تماماً ضد شعاراته المعلنة (وحدة حرية إشتراكية). ولم يقدم النظام أي دعم حقيقي للنضال الفلسطيني سوى الإدعاءات الفارغة، واختلاق منظمات تابعة له لشق الصف الفلسطيني ودعم المنشقين الفلسطينيين من أمثال (أبو نضال) واستخدامه لإغتيال قيادات فلسطينية مخلصة لقضيتها وشخصيات سياسية عربية معروفة بإخلاصها لقضايانا القومية. وقد ألحق النظام أشد الأضرار بالقضية الفلسطينية، بسبب سياساته الطائشة وحروبه العبثية. فبشنه حرباً على إيران فرط صدام حسين بالقوة العسكرية العراقية والإيرانية ودمر الطاقات البشرية والإقتصادية للبلدين والتي كان من الممكن استخدامها ضد إسرائيل. وعندما أدعى أنه ينوي حرق نصف إسرائيل، غزا الكويت وأحرقها ومعها العراق وتسبب في طرد ما يقارب نصف مليون فلسطيني كانوا يعملون في دول الخليج ويشكلون مصدر القوة وعصب الحياة لحركة التحرير الفلسطينية بدعمها مادياً ومعنوياً. وفي الآونة الأخيرة راح صدام حسين يشجع الأعمال الإنتحارية من قبل الشباب الفلسطينيين لقتل المدنيين الإسرائيليين، تلك العمليات التي ألحقت أفدح الأضرار بسمعة القضية الفلسطينية وقدمت الذرائع لشارون رئيس الحكومة الإسرائيلية لتحقيق أغراضه العدوانية في قتل الفلسطينيين وتدمير منازلهم ومدنهم وكسب العطف العالمي لصالحه وضد الشعب الفلسطيني بإدعائه أنه يحارب الإرهاب. وبعد كل هذا كيف يمكن لصدام أن يكون عدواً لإسرائيل؟
خلاصة القول، يبدو أن إدوارد سعيد مصاب بعقدة اسمها كنعان مكية، حيث جعل كل همه محاربة هذا المفكر الذي كل "جريمته" أنه يسعى لإسقاط النظام البعثي الديكتاتوري الظالم وإقامة البديل الديمقراطي الفيدرالي وخلاص شعبه من معاناته التي دامت لأكثر من ثلاثة عقود وأن يتمتع هذا الشعب كغيره من الشعوب بحقه في نظام ديمقراطي متنعما بالاستقرار في عالم خال من الحروب والسجون، في ظل دولة تلتزم بحكم القانون واحترام حقوق الإنسان. هذا ما يطالب به كنعان مكية ومعه الملايين من العراقيين الآخرين.. مكية الذي يقول عنه إدوارد سعيد أنه يمثل ظاهرة زائلة (كذا)، نؤكد له أن الأشهر القلية القادمة ستؤكد أن الدكتور كنعان مكية وغيره من المثقفين العراقيين يشكلون ظاهرة عراقية فذة تمتد جذورها في عمق العراق إلى سرجون الأكدي وجلجامش وحمورابي، باقية مع بقاء العراق الديمقراطي الفيدرالي. وأن غداً لناظره قريب.