في الايام والاسابيع الاولى التي اعقبت احتلال صدام حسين للكويت جرت على صفحات الجرائد الامريكية مناقشات واسعة حول ما ينبغي ان تفعله الادارة الامريكية في العراق فقد كان البعض يدعو الى الاقتصار على تحرير الكويت واستبدال صدام حسين بحاكم اخر وكان البعض الاخر يدعو الى ضرورة تحطيم البنية التحتية الاقتصادية والسياسية والعسكرية للعراق بحيث ان اي حكم يخلف حكم صدام حسين لن يستطيع موضوعيا ان يجعل من العراق قوة سياسة او عسكرية او اقتصادية قد تهدد المصالح الاستراتجية الامريكية وعلى راسها المصالح النفطية واسرائيل
استهداف العراق كدولة وليس كحكم
وكما هو واضح لكل متتبع لمجرى الامور منذ احتلال الكويت فان الولايات المتحدة قد اختارت طريق تدمير العراق وتكبيله بالديون والقيود عن طريق قرارات الامم المتحدة قبل وبعد حرب الخليج ولم تكن الحرب ذاتها و الحصار والعقوبات ومناطق الحضر الجوي الا فصولا من فصول هذا التدمير.
لا شك ان سياسات الحكم التي تمثلت في صراعه مع كل شرائح المجتمع ومكوناته وقواه الوطنية وفي صراعه الدموي مع اغلبية الدول المجاورة قد ساعدت الولايات المتحدة في تنفيذ مخططاتها اللاحقة لاحتلال الكويت فبينما كان الحكم منشغلا بكيفية بقائه في الحكم وذلك بتعظيم احكامه على حياة وارادة المواطنين وزيادة اضهاده للذين يطالبون اويعملون على تغيير الاوضاع كانت الولايات المتحدة ومن ورائها حلفائها تعمل منذ ذلك الحين على اضعاف وانهيار، لا حكم صدام حسين، وانما انهيار الدولة والمجتمع: اقتصاديا بواسطة الحصار والتعويضات عسكريا بواسطة قرارات الامم المتحدة ومناطق الحضر الجوي وسياسيا بتشجيعها لكل التيارات العنصرية والطائفية التي تمنع الان وفي المستقبل تكون وحدة وطنية عراقية.ويخطئ من يظن ان الولايات المتحدة لم تنجح في اسقاط الحكم العراقي منذ احتلاله للكويت لصعوبات تكنيكية فالحقيقة التي اتضحت الان للجميع هي ان الولايات المتحدة لم تكن ترغب في اسقاط الحكم اذ بدون بقاء صدام حسين في الحكم لم يكن يمكن للحصار والعقوبات ان تنخر في جسم المجتمع والدولة خلال كل هذه الفترة الطويلة
واليوم تعلن الولايات المتحدة عزمها على اسقاط الحكم العراقي عن طريق غزو العراق.ورغم اعتقادنا انه لم تعد هناك قوة عراقية لا تريد تغيير النظام وسياساته ورحيل اشخاصه ورغم اعتقادنا ان شعب العراق لقادر علىهذا التغيير ان تركته الولايات المتحدة يقرر امره بنفسه فاننا نعتقد ان حربا جديدة ضد العراق هي ليست فقط جريمة جديدة واضحة لانها ستلحق اضرارا هائلة بشعب العراق وانما هي كذلك جريمة لا نفع او مبرر لها سوى الحاق اذى اكير بالعراق فالولايات المتحدة تعرف ان العراق لم يعد يملك اية قوى عسكرية او اقتصادية اوسياسية قادرة على تهديد مصالح الولايات المتحدة او حلفائها كما ان الولايات المتحدة تعرف ان هذا الحكم او اي حكم اخر مضطر لزيادة انتاج النفط وبيعه في السوق الراسمالية العالمية التي تسيطر عليها الشركات النفطية الامريكية وهي لن تكسب شيئا مضافا من هذه الحرب سوى منع العراقيين من تغيير الحكم بانفسهم والسيطرة على مستقبلهم وثرواتهم بواسطة القوة العسكرية.
ان هذه الحرب التي تعارضها كل دول الجوار واكثرية دول العالم شعوبا وحكومات ستكون نوعا من الانتحار الاخلاقي والسياسي سيعصف بسمعة الولايات المتحدة ذلك لان هذه الحرب ببساطة هي حرب لاانسانية ولا عقلانية ولاتملك اية صفة شرعية من قبل مجلس الامن والامم المتحدة واذا ما نفذت الولايات المتحدة مشاريعها المعلنة فانها لا شك ستذكر في التاريخ كما تذكرقنبلة هيروشيما وسيظل يذكر الذين يعاونونها من العراقيين كما ظلت حقارة ابو رغال وامثاله تذكر من قبل العرب والمسلمين.انها في نظرنا حرب لا انسانية ولا فائدة منها سوى زيادة عذابات شعب العراق بحيث اننا لا نصدق ان الولايات المتحدة ستقدم على ذلك وهي الدولة التي تؤكد منذ قرن على انها تشجع كل افكار وحركات التحرر من الاستعمار وحركات حقوق الانسان وقيم التقدم والرفاهية فهل كانت هذه القيم مجرد خداع وتمويه؟
ولن تنفع محاولة تجميل هذه الحرب تراكض بعض الباحثين عن التسلط على شعب العراق لتاييدها ولن تنفع محاولات تصوير هذه الحرب بانها حربا من اجل الديموقراطية من بشاعة حرب ضد شعب منهك وضعيف تتحكم بحياته وارادته ديكتاتورية ساعدتها الولايات المتحدة نفسها باشكال مختلفة ولوقت طويل . فالديموقراطية تقوم على اقامة دولة للمواطنين يعبرون من خلالها عن سيادتهم على ارضهم وعن ادارة شؤونهم بانفسهم بحرية ودون قهر داخلي او اجنبي بعيدا عن مهرجان مجموعة الستة التي تتصارع لتقاسم المنافع الذاتية والتي تعلن بوضوح ان مستقبل العراق ومستقبل شعب العراق لا يهمها بقدر اهتمامها بالمنافع التي تحصل عليها هذه المجموعة اوتلك
ليس هناك ديموقراطية بدون سيادة وطنية ووحدة وطنية
اننا نعتقد بضرورة اطلاق الحريات الدينية والمذهبية لكل المواطنين وعلى ضرورة حصول المواطنين على حقوقهم الثقافية القومية في ظل دولة العراق الوطنية فسكان العراق متعددي القوميات والثقافات والانتماءات ومن واجب الدولة احترام الثقافات والتطلعات والخصوصيات القومية لكل المكونات الوطنية من عرب واكراد وتركمان واشوريين بل وان ذلك شرطا من شروط تعبير الدولة عن احترامها لمواطنيها واساسا من اسس العيش المشترك خصوصا وان ذلك لا يتناقض مع حقوق المواطنة التي لا يمكن ان تقوم على اساس اثني او ديني او مذهبي اوسياسي كما لا يتناقض مع انتماء العراق العربي الاسلامي الذي هو انتماء حضاري وحقيقة جيوبوليتيكية لا يمكن الغائهما
ولكن ليس هناك ديموقراطية بدون سيادة وطنية ولن تكون هناك دولة ديموقراطية دون اقرار الجميع بضرورة العيش المشترك واحترام قواعده التي تقوم على المساواة بين المواطنين رجالا ونساء دون اي تمييز والمتتبع لسلوك واطروحات وسياسات مجطوعة الستة فرادى اومجتمعين لابد ان يشك في قدرة ورغبة هذه المجموعة على اقامة دولة ديموقراطية في العراق فاية ديموقراطية تلك التي تقوم على اقتسام الحكم من قبل المجلس الاعلى في الجنوب والحزبين الكرديين في الشمال؟ واية ديموقراطية تلك التي تقوم على استبدال القائد الضرورة بالمرجع الديني المقدس؟ واية ديموقراطية تلك التي تقوم على تغييب التيارات السياسية الاساسية القومية والاسلامية واليسارية التي يرتبط بتاريخها ونضالاتها تاريخ العراق؟واية ديموقراطية تلك التي تقوم على تغييب عشرات الالوف من الكوادر العلمية والفنية والادارية وكوادر المجتمع المدني في داخل وخارج العراق من المشاركة في تقرير مستقبل بلدهم ؟ واية ديموقراطية تلك التي يريد احد قادتها اقامة محمية في الشمال ويريد الاخر اقامة محمية في الجنوب ويريد اخر منح امتيازات لدول اجنبية دون استشارة برلمان منتخب بحرية؟ واية ديموقراطية تلك التي تقوم على تهديم اجهزة الدولة المدنية والعسكرية واستبدالها بمليشيات الاحزاب؟ واية ديموقراطية تلك التي تريد محو هوية ابناء العراق العربية الاسلامية؟واية ديموقراطية تلك التي تقوم على تهديد العرب والتركمان والاشوريين في كركوك حتي قبل اسقاط الديكتاتورية؟ واية ديموقراطية تلك التي تقوم على التوقيع على صك ابيض للاميركان حتى قبل ان يحتلوا العراق؟ اليست هذه الطريقة في التعامل مع شعب العراق ومستقبله هي نفس ديكتاتورية صدام حسين ونظامه؟
امام هذه التساؤلات نحن نعجب ان البعض يدعي ان الولايات المتحدة تريد تحويل العراق الى مثال ديموقراطي للشعوب العربية والاسلامية فمن هوذلك الشعب العربي او الاسلامي الذي سيقبل تحطيم بلده مثلما حصل في العراق لتنصيب اشخاص في الحكم من قبل الامريكان ؟
ان من هم اقرب الى الادارة الامريكية انفسهم يدركون هذه المعضلة ولهذا فانهم يقترحون على الادارة الامريكية احتلال العراق من قبل الجيش الامريكي مباشرة كاشفين بوضوح عن حقيقة كلامهم عن الديموقراطية
اننا مع كل جهد وطرف يريد تحقيق الديموقراطية ولكن الديموقراطية لن يبنيها الا مجموع ابناء العراق عن طريق خضوع الحكومة وسياساتها الى برلمان منتخب بشكل دوري بحرية ونزاهة وما غير ذلك هو خداع للناس
واجبات وشرعية الحكومة الانتقالية
لقد سئم شعب العراق الحروب والثورات والعنف وهو غير مستعد للسيرمع هولاء الذين يريدون استخدامه كوقود لحروب جديدة وهو يعرف جيدا ان الحرب القادمة لا علاقة لها بمصالحه.ومع شعب العراق فان الوطنيين العراقيين في مختلف التيارات القومية والاسلامية واليسارية والليبرالية الذين لا صوت لهم في الداخل بسبب الديكتاتورية ولا صوت لهم في الخارج بسبب صعوبات الغربة يعلنون بانهم لن يدعموا حربا من الخارج ضد بلدهم لانها حربا لا انسانية ولا تتمتع باية شرعية دولية كما يعلنون ان املهم هو تغيير الحكم القائم من داخل العراق لتحل محله حكومة انتقالية تمثل كل شرائح المجتمع العراقي وتقتصرمهمتها وشرعيتها على اطلاق الحريات الديموقراطية وعلى تثبيت دعائم السلام مع الدول المجاورة ودول العالم وهم يعلنون ان هذه الحكومة الانتقالية لن تملك الشرعية في اي اجراء في داخل العراق وخارجه الا الاجراءات التي تتعلق باطلاق الحريات المدنية والسياسية للوصول الى قيام انتخابات حرة ومجلس تاسيسي يقرر شكل وسياسات نظام الحكم الديموقراطي في العراق
ويمكننا منذ الان حصر وظيفة الحكومة الانتقالية بما يلي
بناء دولة مواطنين ،لا دولة احزاب وقوميات وطوائف، يتمتع فيها المواطنون بدون تمييز بالحريات المنصوص عليها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان
اطلاق حرية التفكير والتعبير والنشر وعدم اخضاعها لسلطة الدولة او المال
اطلاق حرية تكوين الاحزاب والجمعيات والنقابات
اطلاق حرية العقيدة وعدم التدخل في شؤون المؤسسات الدينية ومنع الاكراه في الدين
منع التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين واطلاق الحريات المدنية
تحرير جهاز الدولة من سيطرة الاجهزة الامنية والحزبية وتوجيهه لا لخدمة مصالح الحكام وانما لصالح كل المواطنين
حماية الموظفين من تعسف الحكومة واستخدامها الحكم لمصالحها الخاصة بمنحهم حق تكوين النقابات وحق الاضراب واخضاع التوظيف والترفيع والنقل لشروط الكفاءة وخدمة الصالح العام
تشجيع المهاجرين على العودة الى العراق وتامين حقوقهم المسلوبة
اجراء انتخابات للادارات المحلية ومنحها السلطة والمال لادارة شؤون المدن والقرى الخاصة
ان الولايات المتحدة رغم انها قد قطعت شوطا كبيرا في تدمير العراق فان شيئا واحدا لم ولن تستطيع تدميره الا وهو وعي ابناء العراق وحبهم لوطنهم واعتزازهم بهويتهم وبارادتهم المستقلة.فالكل يعرف ان السيطرة على العراق هي امر سهل على الورق ولكن تنفيذ هذه السيطرة واستمرارها هي امر اخر فلا الولايات المتحدة ولا الذين يريدون لعب دور الديكور لقواتها يستطيعون تغيير هوية شعب العراق فالعراق هو مهد الحضارة العربية الاسلامية وسيظل بلدا عربيا اسلاميا وتطلعه الى الحرية والديموقراطية والتقدم لن تحجبه الجيوش الغازية.والتاريخ يشهد
عبدالاله البياتي
7/12/02 فرنسا