أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ميثم الجنابي - مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9















المزيد.....


مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1287 - 2005 / 8 / 15 - 11:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حاولت في مقالاتي الثمانية السابقة الكشف عن مقدمات ظهور فكرة المرجعية بشكل عام والإسلامية بشكل خاص. وبعد ذلك سعيت لتطبيقها النظري والسياسي على نموذجها الشيعي المجرد والواقعي في العراق. وفيها حاولت البرهنة على أن تحقيق المهمات الكبرى في ما أسميته بالأهمية الروحية والسياسية والفكرية للمرجعية هو الذي يعطي لها في ظروف العراق الحالية أهمية تاريخية بوصفها قوة هائلة في إرساء أسس الاعتدال الاجتماعي والسياسي، وخلية فاعلة كبرى من خلايا المجتمع المدني المحتمل. وهي نتيجة لا تحتوي يحد ذاتها على مفارقة العلاقة المميزة للحرب "المقدسة" بين الدين والدنيا في العراق. فالصراع بينهما هو ليس نتيجة حتمية ملازمة لبناء المجتمع المدني، كما انه ليس ضرورة بحد ذاته. وهي حالة متميزة في عالم الإسلام، كما أن لها طابعها الفريد في التشيع بشكل خاص.
فقد استطاع التشيع في مجرى تاريخه العريق أن يصنع في العراق مرجعيته الخاصة. وهي مرجعية تحولت من حيث شكلها وتقاليدها وإعادة إنتاجها إلى "فاتيكان" العراق. وهو الأمر الذي أعطى لها قدرة خاصة ومتميزة على الفعل الروحي والسياسي والفكري في حياته الاجتماعية والسياسية والروحية. غير أن التجارب التاريخية الحديثة وبالأخص في مجرى العقود الأخيرة، تبرهن أكثر فأكثر على أن إمكانية الارتقاء إلى مصاف "الفاتيكان" العراقي مرتبط بصورة عضوية بمدى قدرة المرجعية، من حيث كونها مؤسسة وفكرة، على الاندماج الواقعي والعقلاني والفعال بالعملية المعقدة لإعادة بناء مقومات الانبعاث الروحي والسياسي والفكري المعاصر للعراق.
وشأن كل محاولة من هذا القبيل، فإنها تضع الفكر بالضرورة أمام الامتحان الأصعب، ألا وهو عرضها على لهيب العقل والوجدان العراقيين من خلال اختبار الشخصية أو الحالة التي تجسد بمعايير الذوق والعرف والواقع نموذجها الأرقى وتجسيدها الشخصي. إذ ليس في الشخصية بحد ذاتها قيمة مرجعية، أيا كان وزن هذه الشخصية في أذواق العوام والخواص. وذلك لان المرجعية من حيث الجوهر هي منظومة من المبادئ النظرية والقيم العملية المتسامية. إلا أنها في الوقت نفسه ليست معزولة عن الأثر المباشر وغير المباشر للشخصيات الفعلية والرمزية، بوصفها حاملة الفكرة المرجعية. وهو حمل عادة ما يرتبط بحالة القلق الديناميكي الذي يرافق مراحل الانعطاف الكبرى والتحولات الراديكالية التي تصنع رجالها ورموزها وشخصياتها الملهمة. على عكس ما هو مميز لمراحل الثبات الديناميكي، التي تضمحل فيها وتتلاشى رمزية وجوهرية "الزعيم" والقائد" و"الإمام" و"المعصوم"، أي كل من يتمتع في ظل مراحل الانعطاف المرتبطة بتفجر الأزمة البنيوية للدولة والمجتمع والثقافة، أي كل ما يصنع النماذج المتنوعة للشخصيات الكاريزمية.
وفيما لو استنطقنا معناها من الأصل اليوناني، فان "الهبة الإلهية" التي تلازم "ظهور" هذا النوع من الشخصيات التي تتطابق فيها وتتماهى "مصائر الأمم" تستجيب إلى المزاج المعجون بحالة الذهول المفاجئ للانقلابات الكبرى في العقل والوجدان الشعبي. فهو المزاج الذي يجد في ظهور هذا النوع من الشخصيات "عروة وثقى" للتمسك بها في مجرى طوفان العالم المحيط. وليس اعتباطا فيما يبدو أن يعطي الأفغاني ومحمد عبده قبل قرن من الزمن لجريدتهما الشهيرة اسم "العروة الوثقى"، كما لو أنهما أرادا أن يقدما عروة" للعقل والوجدان العربي والإسلامي المذهولين من كيفية وحجم التحولات العاصفة بأثر صدمة الانبهار والخضوع أمام الغرب الكولونيالي آنذاك. كما انه الصدى القائم في "غيب" الرؤية الإسلامية التي جعلت السيستاني يكتب قبل سنوات طويلة نسبيا كتابه " شرح العروة الوثقى"، كما لو انه أراد بذلك أيضا تقديم ما يمكنه أن يعصم الإتباع من الغرق المذهول أمام طبيعة التحولات العاصفة التي هزت فلب العراق ووجدانه في مجرى عقود من الحرب والدمار والتخريب. لكنها "عصمة" لا تشبه في شيء ما حاوله الأفغاني وعبده قبل قرن من الزمن، كما أنها لا تشبه في شيء ما تحتويه فكرة "العصمة" الشيعية نفسها من وجدان ميتافيزيقي محكوم بفكرة الزمن المطلق وأدواره المتجددة. إلا أن "ظهور" شخصية السيستاني المفاجئ على حلبة التاريخ السياسي يبدو كما لو انه تيار جارف من بين أنقاض الحطام الخرب في العراق. وهو الأمر الذي أعطى ويعطي له مظهر "الهبة الإلهية" التي استجابت لعقل الجماهير العادي ووجدانهم المعذب بطول الانتظار المقهور من طغيان الصدامية وإرهابها المنظم والشامل.
بعبارة أخرى إننا نقف أمام حالة تتماهى بها الشخصية والمؤسسة، الماضي والمستقبل. وهو تماه يعكس طبيعة التحول العاصف الذي جرى في عراق ما يعد الصدامية، الذي حطم في لحظة واحد "القائد الضرورة" و"البطل القومي" و"فارس العرب" لتنهار معه أمام عقل العوام ووجدانهم كل الصور المصنعة لكاريزما مزيفة في لوحات وجداريات وتماثيل هي اقرب ما تكون إلى أصنام تجسد في أحجارها القاتمة وألوانها الشاحبة والفاقعة وهما يصدم الحس والعقل والوجدان والذوق والحدس. وهو واقع يفرز بالضرورة السؤال حول ما إذا كانت "الكاريزما الجديدة" للسيستاني هي الوجه الأخر للتصنيع المزيف، بوصفها السبيكة الجديدة من عقل اجتماعي منهك ووجدان مشبع بروح "الغيبة" الحزينة والتوقع الفرح "للمنتظر"، الذي يجسد في ذاته انتصار الحق على الباطل. وفيما لو نحينا قليلا حجاب الرؤية الأدبية في هذه العبارة، فإنها سوف تكشف لنا الأبعاد الواقعية لإعادة إنتاج الرموز التاريخية والدينية في الوعي السياسي العراقي الحالي. وهي أبعاد تشير في آن واحد إلى حالة الخراب الفعلي والزمن المرهق لحالة الفساد والطغيان والاستبداد والظلم، وأمل الانتصار الضروري عليها من جانب الحق.
بعبارة أخرى، إن تضافر هذين المكونين هما اللذان يقفان وراء هذا الظهور المفاجئ لشخصية لم تكن حتى الأمس القريب أكثر من "مرجعية" فردية بين مرجعيات عديدة، أي ممثل لمدرسة بين مدارس متنوعة ومختلفة ومتباينة ومتصارعة ومتنازعة. وهي حالة مازالت تتحكم بالخيوط الخفية في بنية تقليدية قوية كالمرجعية وحالة خربة كالعراق في ظروفه الحالية.
وهنا أسمح لنفسي باستطراد شخصي يصب في الاتجاه العام لمنحى المقال، وهو إنني شخصيا لم اسمع ولم اعرف شيئا عن السيستاني. بل لم اسمع حتى اسمه إلا قبل سنوات قليلة، وبالذات عام 2002! وكان ذلك عن طريق الصدفة. إذ كنت في زيارة لقبر الوالد المدفون في مقبرة السيدة زينب. وصادف ذلك أيام عاشوراء. وقد راعني وأعاد ذكريات الطفولة والصبا ما شاهدته بعد انقطاع عقود طويلة. لقد تذكرت في حينها بصورة خاطفة لا تخلو من السخرية تقاليد وعادات تربينا عليها في أحياء الكاظمية والبصرة عندما كنا نلبس السواد ونتدرع بالحماس المفرط في جمع "التبرعات" من اجل المآتم وانتظار الليلة الأخيرة لمقتل الحسين ورؤية جموع الشباب التي تنفس عن أساها وآلامها وحالة القهر والبطالة والجنس المكبوت عبر جلد الظهر والصدر بالأيادي والحديد، وضرب الرؤؤس بالفؤوس (السيوف!). أما بعد مرور هذه المرحلة الوجدانية والطفولة والانقطاع الطويل عن جميع مظاهرها، فقد بدت هذه المظاهر أمرا اقرب إلى الوحشية المقنعة بنفس ما كان يعتمل في صدور الشباب والفتيات قبل عقود. ذلك يعني أن شيئا ما جوهريا لم يتغير في حالة الناس وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. بل أن الأمور أصبحت أكثر تعاسة بما لا يقاس مما مضى. حينذاك سمعت للمرة باسم السيستاني من خالتي التي كانت تحملني على خاصرتها في مدينة النجف عندما كنت طفلا! وعندما مازحتها قائلا:
- لماذا لا تلطمين وتكسرين رأسك بالسيف؟ هل أنت بحاجة لشرائه؟!!
- "لا! هذا لا يصح! السيستاني لا يقول به"! قالتها بابتسامة وصوت رخيم
واعتقدت بأنها نطقت كلمة لم افهم معناها، واستفسرت منها بأنني لم افهم هذه الكلمة التي لفظتها. وأجابت، بأنها ليست كلمة بل اسم المرجع. وعندما قلت لها، بأنني لم اسمع به على الإطلاق، ولم اعرف عنه شيئا، فإنها هزت رأسها قائلة
- السيستاني مرجعيتنا ونعمل بما يقول!
- وهل تنفذين كل ما يقول؟ سألتها مستفسرا ضاحكا
- نعم! قالتها بدون تردد.
- حتى إذا طالبك بقطع رأسك؟ استفسرت أنا مازحا
- انه رجل حكيم وعاقل!
لقد كانت إجابتها مطبوعة بحكمة النساء! وعندما ابتسمت لها بسمة لا تخلو من الغرابة والسخرية الخاليين من الاستهزاء، فإنها ردت أيضا بابتسامة لا تخلو من فرح خفي وقالت: "انك لم تتغير"! وقد كانت على حق، فالتغير هو ليس دليل التطور والتقدم، خصوصا إذا كان في اتجاه لا ينتج إلا همجية مسحوقة بثقل الإرهاب العنيف الذي مارسته التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، ومعجونة بوجدان صادق له تاريخ عريق هو تاريخ الوجدان العراقي نفسه. ولكنه في نهاية المطاف لا يصنع شيئا أكثر من تقليد العوام وانجرارهم الأعمى وراء مقدسات مزيفة.
لم يكن عدم معرفتي بالسيستاني أو حتى سماعي باسمه نتاج جهل بتاريخ التشيع والحركة الشيعية في العراق. فمعرفتي بالتشيع أقرب ما تكون إلى المعرفة الموسوعية، ومتابعتي لنتاج الحركة الشيعية كان وثيق الارتباط بدراستي العلمية لتاريخ الفكر الشيعي الفلسفي والسياسي. وهي موضوعات شكلت احد محاور اهتمامي الفكري في الجامعة أيضا، فكتبت عن دور علماء الشيعة في الحياة السياسية على امتداد التاريخ الإسلامي، وعن المرجعية، وعن تاريخ الفكرة الإصلاحية في التشيع وأخيرا عن الإمام على بن أبي طالب، الذي كان أول كتبي بعد تخرجي من الجامعة، والذي طبع بعنوان (الإمام علي: القوة والمثال). فقد كتبته عندما كنت في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية. إن الاهتمام بالتشيع هو من بين القضايا التي كانت مثيرة بالنسبي لي منذ وقت مبكر عندما كنت تلميذا في المدرسة المتوسطة. فقد كانت كتابات الشهيد محمد باقر الصدر الأكثر إثارة ورواجا من جانب "حزب الدعوة"، أي بعض من زملائنا المغمورين آنذاك. وليس مصادفة أيضا أن يكون الصدر موضوعا لأحد أبواب أطروحتي للدكتوراه قبل عقود، عندما كنت أقارن بين آراءه وآراء الخميني وعلي شريعتي في الموقف من الدولة والثقافة والحضارة والغرب.
لهذا كانت مفاجئة "ظهور" السيستاني لي على لسان خالتي، أو لنقل امرأة من العوام، مثيرة نسبيا. عندها بدأت بتتبع ماهية الرجل، إلا أن المعلومات الشحيحة والانزواء الحوزوي قد حال دون الحصول على معلومات دقيقة متعلقة بإبداعه الفكري. وهو المعيار الجوهري بالنسبة لي لمقياس قيمة الرجال. لاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار إن السيستاني لم يكن "رجل الساعة" ولا "رجل السياسة"، ولم يكتب في حياته، من بين مؤلفاته التي تربو على الأربعين، بحثا سياسيا واحدا أو فلسفيا أو اجتماعيا معاصرا. من هنا اختباءه العميق في عمق التراث وزمن الإسلاف الهادئ، أي كل ما كان يرافق ويزامن ثقافة التقية الشيعية والأسواق العطرة للنجف وقم!
من هنا شحة ظهوره العلني على حلبة الصراع السياسي والاجتماعي بوصفه مقدمة وحاملة الشخصية الفكرية والعملية كما كان الحال بالنسب لمحمد باقر الصدر وأمثاله. إن الشيء الوحيد الذي نعرفه عنه، أنه ولد في التاسع من شهر ربيع الأول عام 1349 هجرية في مدينة مشهد الإيرانية. وتنتسب عائلته إلى البيت العلوي الحسيني حيث كانت تسكن في أصفهان منذ عهد السلاطين الصفويين وقد عين جده الاعلی (السيد محمد) في منصب شيخ الإسلام في سيستان في زمن السلطان حسين الصفوي فانتقل إليها وسكنها هو وذريته من بعده. أما جده الأدنى فقد تتلمذ على يد علي النهاوندي في النجف، وعلى يد الشيرازي في سامراء. ومن ثم فهو من أسرة علمية دينية. أما هو فقد درس في مدينة قم الإيرانية عند حسين الطباطبائي البروجردي والكوهكمري، وكان حضوره عند الأول في الفقه والأصول وعند الثاني في الفقه فقط. وانتقل إلى العراق، بينما كان يزمع السفر والإقامة في مشهد. وكان ذلك عام 1380 هجرية، أي عندما بلغ الحادية والثلاثين من العمر. أما انتقاله إلى العراق فقد كان بطلب من أستاذه الخوئي. وعندما وصل إلي النجف في أوائل عام 1381 هجرية ابتدأ بالتدريس (الفقه ثم الأصول). وبفضله أيضا جرى ترشيحه للمرجعية. وبعد وفاة الخوئي عام 1413 هجرية تصدی للتقليد وشؤون المرجعية وزعامة الحوزة العلمية. حينذاك بدأ ينتشر تقليده في العراق والخليج والهند وأفريقيا وغيرها.
إن هذه الصورة العامة تكشف عن أربعة جوانب وهي
أولا: انه من أصول إيرانية وليست عراقية.
ثانيا: إن شخصيته العامة والخاصة الفكرية والعقائدية والمذهبية والنفسية والثقافية قد تبلورت بصورة شبه تامة في إيران مع ما يترتب عليه من مشاعر الانتماء والتفكير والعمل. وقد يكون من نتائجها غير المحسوسة هو أن جلّ أو حوالي 99% من نشاطه "المادي" في بناء المدن والمستشفيات والمكتبات ومراكز المعلومات في إيران، بينما لا يوجد من توظيف أموال المرجعية في العراق أكثر من 1%!!
ثالثا: انه لم يشترك بنشاط سياسي ملحوظ أو معروف كما كان الحال بالنسبة للخميني أو الصدر. ولعل نشاطه السياسي الوحيد هو ما كان على مثال "مجبورا أخاك لا بطل"، عندما كان يواجه ضغوطا سياسية من جراء محاولات تسفيره لأصوله الإيرانية، والتي اشتدت إثناء الحرب العراقية الإيرانية، لكنه أصر علی البقاء في النجف وواصل التدريس في الحوزة العلمية من منطلقات إيمانية وعقائدية وفكرية، لأنه كان يعتقد بضرورة استقلال الحوزة الدينية عن السلطات والسياسة المباشرة. وتعرض بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 للاعتقال مع غيره من علماء الشيعة، حيث تعرض للضرب والاستجواب القاسي.
رابعا: إن نشاطه الفكري كان منصبا على قضايا الفقه والأصول، بمعنى خلوها من القضايا السياسية والاجتماعية والفلسفية بشكل عام والمعاصرة بشكل خاص. بمعنى إننا لا نعثر في كل كتبه ومقالاته ورسائله على موضوعات تخص الإشكاليات الواقعية والجوهرية والكبرى للعراق والعالم العربي.
إن هذه الصورة الموضوعية لا تقلل من شأن السيستاني ولا تهدف إلى شيء غير محاولة فهم طبيعة "الظهور المفاجئ" على حلبة الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية رجل مبدأه العملي عدم التدخل في الحياة السياسية المباشرة، والالتزام بالتقية والاكتفاء في مجال الاجتهاد بما هو مألوف من قضايا الجسد الشيعي، البشري منه والتقليدي(الحوزوي). وهي مفارقة يمكن تصويرها بعبارة "الصدفة لا تصنع رجالا، لكنها تظهرهم". والسيستاني هو دون شك من بين هؤلاء الرجال الذين ابرزتهم الصدفة الخاطفة في انحلال الدكتاتورية الصدامية وسقوطها. بمعنى أن سقوط الدكتاتورية الصدامية المفاجئ هو سر صعود المرجعية السيستانية المفاجئ. وهي معادلة تشير إلى طبيعة الخلل الذي أحدثته التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية في مجرى العقود الأربعة التي رافقت حياة السيستاني نفسه في العراق. وهي عقود تتماهى في الوعي الإسلامي مع عمر النبوة (الحكمة). وبهذا المعنى يمكن اعتبار سقوط الصدامية هو حكمة أبدية، بينما صعود السيستاني هو نبوة متأخرة!
وفيما لو وضعنا هذه المعادلة ضمن معايير الرؤية الفلسفية، فان الظهور المفاجئ لشخصية السيستاني لا يخلو من مقدمات مرتبطة بطبيعة المؤسسة الدينية الشيعية من جهة، وتقاليد "المرجعية" في الإسلام عموما من جهة أخرى. فالمرجعية الشيعية من حيث كونها مؤسسة، لها نظراءها في العالم العربي والإسلامي. فهي مؤسسة تسعى لتمثيل "الكلّ الشيعي". أنها تتقاسم بهذا المعنى النوازع الخفية والعلنية لكل المؤسسات التاريخية الكبرى التي تدعي تمثيل الكلّ والجماعة والأمة. غير أن هذه المؤسسات خلافا للادعاءات الإيديولوجية للأحزاب السياسية هي التجسيد الأكثر تنظيما وديمومة. وذلك لأنها عادة ما تنشأ من تضافر أسباب عديدة أكثرها جوهرية هي العقائد والوظائف العملية. وفي عالم الإسلام فان أكثرها نموذجية بهذا الصدد هو شيخ الطريقة (الصوفية) ومفتي الديار الإسلامية (السنية) والمرجعية (الشيعية). ولكل منها مقدماته وتاريخه ونماذجه.
ويقترب التصوف والتشيع بهذا الصدد فيما بينهما أكثر مقارنة بمؤسسة مفتي الديار (السنية)، وذلك لانعزالهما أو انفصالهما أو ابتعادهما أو اختلافهما شبه الدائم مع السلطة. كما أن تمثيلهما ليس محكوما بالتقنين والتشريع، بقدر ما انه يتمثل كل جوانب الروح والجسد والقيم والتقاليد.
أما الخلاف الجوهري بين التشيع والتصوف بهذا الصدد، فانه يقوم في أن شيخية التصوف روحية فردية، بينما مرجعية التشيع عقائدية عامة. بمعنى أن التصوف من حيث المنشأ والوسيلة والغاية فردي – فرداني - نموذجه المطلق، بينما التشيع من حيث المنشأ والوسيلة والغاية عام - للعوام - نموذجه أنسنة (أو شخصنة) المطلق (في الإمام). وهو تباين جوهري، جعل من مرجعية التشيع مؤسسة قادرة على الدوام ومستعدة للفعل السياسي، أما قدرة التصوف الجوهرية واستعداده الدائم فهو سياسة الروح، أي ترويضها بمعايير المطلق.
ذلك يعني أن تلازم السياسة والعقائد في المؤسسة الشيعية هو تلازم عضوي له تاريخه ونماذجه وإيديولوجياته المتنوعة، التي تشكل مدارس التشيع بشكل عام والسياسي منه بشكل خاص رصيدها النظري والعملي ومصدر إلهامها الذاتي. إذ لا رصيد حقيقي بالنسبة للتشيع بشكل عام ومرجعياته الفردية والمؤسساتية غير تاريخه الخاص وتقاليد إبداعه الذاتي عن الإمامة والإمام والولي والوصي والغائب والمستور، والشيعي الكامل، ومرجع التقليد، ومختلف نماذج "المجتهدين" من "آية الله"، و"حجة الله". وهو تلازم تجسد للمرة الأولى في العصر الحديث بصورته "النموذجية" و"التامة" في إيران بعد الثورة الإسلامية التي قادها الخميني. وهي تجربة نقلت مضمون هذا الرصيد التاريخي القديم إلى مؤسسة "ولاية الفقيه" و"المرشد الروحي".
أما في العراق، فان صعود السيستاني المفاجئ إلى حلبة الصراع السياسي لم يكن نتاجا لحرب ضروس وتصادم عنيف مع السلطة، ومن ثم ركوبا أو تواكبا مع اندفاعه الجماهير وحماس العوام. بعبارة أخرى، أنها لم تكن نتاج ثورة أو انقلاب، بقدر ما كانت "هبة أمريكية". وهي إحدى المفارقات الغريبة. إذ استطاعت "الهبة الأمريكية" أن تكون هنا للمرة الأولى مانحة "ربانية" لكاريزما بشرية لا تتوافق معها بالتاريخ والفكرة والرؤية والمزاج والعقائد!
إن هذه الصورة العامة تكشف عن خلل فعلي وتاريخي واجتماعي في صعود السيستاني المفاجئ إلى هرم "الروح العراقي"، كما تكشف في الوقت نفسه عمق الانحطاط الهائل في الروح الاجتماعي والسياسي العراقي الحالي. وهي علاقة ومفارقة لا صلة لها على الإطلاق بشخصية السيستاني. فهو يبقى بمنأى عن المؤاخذة فيما يتعلق بروحه وشخصه وأخلاقه. لكنه لا ينأى من حيث كونه "مرجعية"، أي مؤسسة من كل إشكاليات العراق الحالية والجدل حولها والصراع الشائك فيها. ولعل أكثر الإشكاليات في مرجعية السيستاني تقوم لا في صعودها المفاجئ، بل في تمحورها السياسي في ظروف الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. وعلى خلفية التاريخ الشخصي له، ومبادئه المعلنة في الموقف من السياسة والمرجعية، وعدم وجود أية رؤية واضحة المعالم ومحددة حول البدائل المحتملة في العراق، يصبح السيستاني "عباءة" بمعايير الصراع السياسي العنيف، و"عمامة" بمعايير الاحتراب الطائفي. وهي ظاهرة تتضح معالمها بجلاء بعد توظيفه العلني والمستتر قبل الانتخابات وبعدها. وهي حالة مازالت معلقة، بمعنى هل أن موقعه الفعلي في الصراع والأزمة الحالية في العراق فاعل أو مفعول به؟ وهل انه عباءة عراقية أم عمامة مذهبية؟ وهل بإمكانه أن يكون مؤسس فاتيكان شيعي أم عراقي؟ إنها أسئلة لا يمكن الإجابة عليها على المستوى الروحي والسياسي والفكري دون تأسيس ما وضعته في مقالاتي الثلاثة الأخيرة من هذه السلسلة عما أسميته بالمساعي الروحية، والأعمال السياسية، والمساهمات الفكرية. حيث وضعت لكل منها خمس محاور كبرى. فهي الوحيدة القادرة على دمج المرجعية الشيعية في نسيج الوعي الاجتماعي العراقي على مستوى الروح والسياسة والفكر. وفي هذا فقط تكمن امكانية صنع "فاتيكان" عراقي لا طائفي ولا مذهبي. إذ أن سبب سقوط الخمينية بهذا الصدد هو نتاج تحول الشخصية الروحية إلى سلطة، والفكرة السياسية إلى عقيدة، والاجتهاد الفكري إلى أحكام مقدسة. مما أغلق على الروح والسياسة والفكر حرية الاجتهاد الدائم وجعل منها الكابح الأكبر للحرية الفردية والاجتماعية.
طبعا إن السيستاني ليس الخميني. وهما يختلفان في أمور كثيرة، لكنهما يلتقيان في وحدة الانتماء المذهبي. وهو انتماء لا توحد فيه. غير أن جوهر القضية بالنسبة للعراق تقوم في انه ليس بحاجة إلى "سيستانية" مذهبية أو طائفية، كما انه ليس بحاجة إلى مرجعية فردية أيا كان نوعها ومستواها وادعاء تمثيلها. فالشخصية مهما كانت نبيلة النية والغاية لا يمكنها التجرد من نوازع النفس والتربية والانتماء الجزئي والثقافة الخاصة. وليس مصادفة أن تصل الثقافة الإسلامية في إحدى مواقفها العميقة القائلة بضرورة قياس الرجال بالحق وليس الحق بالرجال. بمعنى وضع أولوية الفكرة المجردة على الرجال أيا كان موقعهم الفعلي أو الوهمي في ذاكرة الأمم وعقولها وأمزجتها. فالموقف الأول يحرر العقل من إمكانية التقليد، بينما الثاني لا يصنع يقينا دائما لان سلوك الرجال عرضة للتغير والتبدل. والمواقف العملية قد لا تعكس حقيقة الشخصية أو قد يجري تأويلها بمستويات متباينة أو مختلفة، إضافة إلى تغير مضمونها مع تغير أذواق ونفسية وذهنية الأمم في مجرى تطورها التاريخي. بينما العراق في مرحلة انتقاله العصية والعصيبة إلى الديمقراطية بحاجة إلى "يقين دائم" في مؤسسة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والثقافة العقلانية الحرة. فهو اليقين الوحيد القادر على صنع مرجعية العراق الكبرى، بمعنى مرجعية ارض السواد لا سواد أي كان بما في ذلك سماحة السيستاني.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأهمية الفكرية للمرجعية-8 من 9
- الاهمية السياسية للمرجعية 7 من 9
- الأهمية الروحية للمرجعية 6 من 9
- المرجعية الشيعية ومرجعية التقليد - الواقع والآفاق 5 من 9
- المرجعية الشيعية - الفكرة والتاريخ الفعلي 4 من 9
- فلسفة المرجعيات في التراث العربي الإسلامي3 من 9
- مرجعية الروح المتسامي ومرجعية النفس السيئة 2 من 9
- فلسفة المرجعية والمرجع في العراق1 من 9
- الديمقراطية في العراق - خطوة إلى الأمام
- الفدرالية القومية في العراق - خطوة إلى الوراء
- النخبة السياسية في العراق – الهوية المفقودة
- هل العراق بحاجة إلى مساعدات؟
- جنون الإرهاب الوهابي - خاتم الإرهاب التوتاليتاري 4 من 4
- جنون الإرهاب المقدس – الحنبلية الجديدة 3 من 4
- جنون الإرهاب الأصولي – تحطيم العدل والاعتدال 2 من 4
- جنون الارهاب السلفي – إيمان مشوه وبصيرة حولاء-1 من4
- الجمهورية العراقية الرابعة – الاحتمالات والابعاد المجهولة
- هل العراق بحاجة إلى مرجعيات دينية؟
- الأغلبية المعذبة ومشروع البديل الوطني في العراق
- إشكالية الهوية العربية للعراق – مشكلة الجهل والرذيلة


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح ...
- أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ميثم الجنابي - مرجعية السواد أم مرجعية السيستاني? 9 من 9